|
الشروط
الأساسية
لنجاح
المقاومة اللاعنفية
الأب
رائد عوض أبو ساحلية
قلنا
مراراً وتكراراً بأن العنف يولِّد العنف، بأن
الدماء تنادي الدماء، بأن الحلقة المفرغة
مستمرة، وبأن الحبل على الجرَّار. وها نحن ذا
نحصد ما زرعنا من دمار ودموع ودماء. يا جماعة!
نحن لا ننادي بالخنوع، لا نطالب بالاستسلام،
ولا حتى بتوقف المقاومة. نحن، بالعكس، نطالب
باستمرارها؛ ولكن بتغيير الاتجاه وتبنِّي
استراتيجية مختلفة تؤدي إلى الهدف النهائي
نفسه بطرق أخرى أكثر فعالية وأقل دموية،
انطلاقاً من مبدأ المثل "هل تريد العنب أم
تريد أن تقاتل الناطور؟!" نحن نريد العنب،
الحرية، الاستقلال، إنهاء الاحتلال، استعادة
الأرض، تحرير الشعب، بناء الدولة... كل هذا
صحيح وشرعي، ولا أحد يعارضه على الإطلاق؛ فهو
جزء من الحق المبني على قواعد الشرعية
الدولية. لقد
تحدثنا مراراً عن "استراتيجية غصن الزيتون"
للمقاومة السلمية لاستمرار الانتفاضة
الحالية؛ وقد حان الوقت الآن لاتخاذ القرار
بتبنِّي هذا النهج الجديد. ولكن ما هي الشروط
الأساسية لنجاح هذه المقاومة السلمية؟ 1.
التربية أو العقلية لا
شك بأن اللاعنف سلاح صعب لأنه يقوم بالأساس
على ضبط النفس أمام العنف والظلم وعلى اتخاذ
الوسائل السلمية للمقاومة استراتيجيةً
مبدئية، انطلاقاً من الإيمان بعدالة القضية
التي يناضل المرء من أجلها وفقاً للشرعية
الدولية. فردُّ الفعل الطبيعي والأولي أن
يقابل الإنسانُ العنفَ بالعنف، انطلاقاً من
مبدأ "ما أُخِذَ بالقوة لا يُسترَدُّ إلا
بالقوة" – رغم يقيننا وإيماننا بقول
المسيح: "أغمد سيفك؛ فكل من يأخذ بالسيف
بالسيف يؤخذ"، بمعنى أن "من يزرع الريح
يحصد العاصفة"؛ أو بمعنى آخر، كما يقول
بولس الرسول: "لا تدع الشر يغلبك بل اغلب
الشر بالخير." ولكن عند اختلال ميزان القوة
العسكرية فإن استخدام قوة أقل يؤدي إلى
استقواء الجانب القوي المتفوق على الضعيف،
وإلى إلحاق أكبر قدر من الخسائر في جانبه،
لإضعافه وتلقينه درساً ليدرك بأنه لا يستطيع
أن يهزم جيشاً جراراً مسلحاً بأحدث التقنيات
الحربية، ارتكازاً على قاعدة "رد الصاع
صاعين". من هنا يجب تحييد القوة العسكرية،
واللجوء إلى قوة من نوع آخر، هي قوة الشعب،
وقوة الحقيقة، وقوة المحبة. وهذه القوى لا
تُهزَم حتى أمام أعتى الجيوش، لأنها ببساطة
تقوم بإصابة القوة المادية بالشلل بقوة أعظم
هي قوة روحية وأخلاقية. ولكن
هذه المبادئ بحاجة إلى تربية وإلى عقلية –
وأعني بذلك تدريباً إيديولوجياً للشعب،
ابتداء من القاعدة صعوداً إلى القمة، انطلاقاً بالصغار
وصولاً إلى الكبار، بحيث
يصبح هذا التفكير نهج حياة، وتُتَّخذ هذه
الطريق خياراً استراتيجياً جذرياً وحيداً
للمقاومة. وقد تلعب في تدعيم هذا الفكر القيمُ
الدينية والأخلاقية الإيجابية في الديانات
السماوية، من جهة، ودراسةُ نماذج مماثلة في
المقاومة استُخدِمَت عبر التاريخ، من جهة
ثانية. بطبيعة الحال، فإن الأمر لا يمكن أن
يحدث بين ليلة وضحاها، ولا يمكن التحول إليه
بسرعة البرق، بل هو بحاجة إلى وقت وتمرين
ومناهج دراسية ومعسكرات تدريب وتعبئة
جماهيرية. ولكن يمكن على الأقل تبنِّيه من حيث
المبدأ، والتوجُّه نحو تحقيق ما يمكن تحقيقه
بالسرعة الممكنة. وهذا، بحدِّ ذاته، إنجاز
عظيم لشعب عرف أن يناضل بالحديد والنار،
وسيعرف أن يكمل النضال بالروح والحق! 2.
القيادة الكارزمائية أو الموهوبة إن
الأشجار الشامخة لا تبدأ من الثمار والأغصان،
بل من البذور والجذور، ثم تنمو وتكبر وتعطي
الثمار. وكذلك الأفكار؛ فهي تبدأ من القاعدة،
ومن الحاجة، طبقاً لمبدأ "الحاجة أم
الاختراع". إن بذرة السلام موجودة في كل
النفوس، وهي بحاجة إلى تنمية وحماية ورعاية.
والحاجة إلى تبنِّي النهج السلمي في المقاومة
في نمو متزايد لأن الجميع يشعر بخيبة الأمل من
الخسائر والدمار في الممتلكات والأرواح مع
تحقيق نتائج ضئيلة؛ حتى إن بعضهم قد يصل إلى
الإحباط وفقدان الأمل والعجز عن العمل، بحيث
يتساءل: هل نحن نتقدم إلى الأمام أم نتأخر
ونتراجع إلى الوراء؟ لذلك
أقول – بصراحة – بأن وجود قيادة كارزمائية،
تجمع حولها ذوي النوايا الحسنة وتعيد تنظيم
الأمور، يمكن أن تنجح في استقطاب الكثيرين،
لا بل في حشد الجماهير. فنحن بحاجة إلى غاندي
فلسطيني، أمثال الزعيم الهندي المهاتما
غاندي، أو الزعيم الأمريكي الأسود القس مارتن
لوثر كينغ، أو الزعيم الجنوب أفريقي نلسون
مانديلا. لقد كان عندنا مبارك عوض، مؤسِّس
المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، وكان
فاعلاً في الانتفاضة الأولى، وزرع بذور حركة
لاعنفية نشطة؛ لكنه أُبعِد إلى أمريكا بعد أن
سُجِن. وكان لدينا الشهيد فيصل الحسيني الذي
تمتع برصيد نضالي يعود إلى جده ووالده وإلى ما
اكتسبه من خبرة وحنكة في النضال الشعبي على
الأرض، لدرجة أنه أصبح عنواناً للقدس؛ وقد
فقدته المدينة وفقدناه، تاركاً فراغاً لا
يُعوَّض. والآن...
نحن ننتظر هذا الزعيم الذي ينبغي أن يتمتع بكل
صفات القيادة التاريخية والذاتية. وبما أنه
لم يظهر بعد مثل هذا الزعيم على الساحة
الفلسطينية، ويمكن أن لا يظهر في المستقبل
القريب، فإني أرى أن تتحول القيادة الحالية،
بزعامة الرئيس ياسر عرفات، وتقوم بهذا
الاختيار التاريخي بتحويل المقاومة إلى
الوسائل السلمية اللاعنفية فقط، حتى
التخلِّي عن السلاح، وحتى الإعلان عن إقامة
دولة فلسطينية منزوعة السلاح من الأساس.
وأسباب هذا الطرح ليست فقط الحاجة والاختراع،
بل توفُّر الرصيد النضالي والتاريخي
والتأييد الشعبي والدولي للرئيس عرفات؛ إذ
إنه حاصل على جائزة نوبل للسلام، مما يمنحه
الأهلية والإمكانية لقيادة الجماهير في طريق
جديدة مختلفة، شريطة إجراء التعديل اللازم
واتخاذ الخطوات الكفيلة بهذه الاستراتيجية
الجديدة. لو كنت مكان القيادة الفلسطينية
الحالية لدعوت السيد نلسون مانديلا وغيره من
الاختصاصيين في مجال اللاعنف لعقد دورات
تدريبية في هذا الفن النضالي الراقي الذي
يفوق كل التدريبات العسكرية والحربية! 3.
الجماهير أو المشاركة الشعبية إن
سرَّ نجاح سلاح اللاعنف هو قوة الشعب وقوة
الجماهير. فهي كالنار الآكلة التي لا تطفئها
مياه الطوفان الغامرة. ومن هنا ضرورة تجنيد
الجميع في هذا الكفاح، صغاراً وكباراً، رجالاً
ونساء، بحيث لا تتحمل عبء الكفاح حفنةٌ من الأطفال الذين كان يرمون
الحجارة،
كما كان الأمر في الانتفاضة الأولى، أو ثلة من
المسلحين الذين يطلقون النار على الدبابات،
كما جرى في الانتفاضة الثانية، بينما تبقى
الجماهير الغفيرة تتفرج وتعاني وتتألم،
وتدفع الثمن في أرواحها وممتلكاتها نتيجة
الانتقام المضاعف من جانب قوات الاحتلال. كما
أن هذا النضال يجب أن لا يقتصر على جماعات
ومنظمات السلام المقتنعة بهذا الأسلوب؛ إذ
إننا نرى بأن جهودها المشكورة تذهب هباء بعد
أية هبة ريح عنف من أي طرف كان. فكم من مظاهرات
حاشدة كانت تسير في شوارع تل أبيب أطفأتْ
حماسَها وقضت على فعاليَّتها عمليةٌ
استشهادية واحدة في الشارع المجاور! إن
قوة الشعب تعني نزول الجميع إلى الشارع،
وانتقال هذه العدوى إلى شارع العدو وصفوفه،
باكتساب الأصدقاء والمناصرين، وتخطِّي
الحدود المجاورة إلى الدول العربية
والإسلامية الشقيقة، لا بل تجاوزها إلى بلدان
العالم الصديقة التي تناصر قضيتنا العادلة.
إن مشاركة الشعب، بكل فئاته واتجاهاته، في
جميع مدنه وقراه ومخيماته، ستُحدِث حالة
إرباك في الجانب الآخر، وتشلُّ حركة قواته
ودباباته، وتجعل من أسلحته ألعاب أطفال غير
قابلة للاستخدام. وإن تجرأ على ذلك سيُلام
ويُدان أمام العالم ويقع في فخ وسائل الإعلام.
وقد سبق لبعض الجنرالات أن حذَّر الحكومة
الإسرائيلية بأن لجوء الجانب الفلسطيني إلى
سلاح اللاعنف الجماهيري سيشل حركة الجيش؛
لذلك يجب منع الفلسطينيين من استخدام هذا
السلاح لسبب بسيط واضح، أن لدينا جيشاً مدرباً للحرب
والقتال، وليس لمواجهة الشعب
الأعزل. من هنا فإن استخدامنا للقوة والعنف
والسلاح يعطي ذريعة للجيش الإسرائيلي لتبرير
اللجوء إلى استخدام أقسى درجات القوة بحجة
الدفاع عن النفس. 4.
الوقت أو الاستمرارية هذا
العنصر ضروري جداً. فلا يكفي القيام بمظاهرة
أو مسيرة أو اعتصام، ثم إعلان الإفلاس وتحديد
موعد آخر بعد شهور؛ بل يجب التعبئة
الجماهيرية، إلى جانب الإصرار على الثبات
والاستمرارية لتحقيق الأهداف المرحلية أو
الاستراتيجية أو النهائية – مع العلم بأن
الأمر قد يستغرق وقتاً ويتطلب صبراً. لذا لا
بدَّ أيضاً من الأفكار الإبداعية التي تعتمد
على الرمزية، وعلى تنويع أساليب النضال
اللاعنفي، وعلى استخدام كافة الأسلحة في ساحة
المعركة. وهنا لا بدَّ من دراسة هذه التقنيات
المعروفة عبر التاريخ، ومن ابتكار أخرى
مناسِبة لواقعنا، تتكيَّف مع المتغيرات
وتتلاءم مع تطورات الأحداث. المهم في الأمر
عدم اليأس ولا فقدان الهمة وإحياء الأمل في
القلب بأن "من سار على الدرب وصل"، وبأنه
"ما ضاع حقٌّ وراءه مُطالب"، وبأن الحق
سينتصر في نهاية المطاف، مهما طال الانتظار.
وأعتقد في هذه المجال أننا أصبحنا خبراء في
الجَلَد والتحمل والصبر والانتظار! فقد
جرَّبنا كل الوسائل منذ أكثر من قرن،
وانتظرنا طويلاً؛ فلماذا لا نجرب الآن هذه
الوسيلة، عالمين وواثقين أنها، إن لم تنفع
عاجلاً في تحقيق الأهداف، فإنه لا بدَّ من
انتصارها آجلاً؛ كما أننا، وإن لم نحقق كل
الأهداف النهائية دفعة واحدة، سنأخذ بالقليل
ونطالب بالكثير، علماً بأننا إن لم نربح كل
شيء فإننا لن نخسر شيئاً: لن نخسر كرامتنا،
ولن ندمِّر بيوتنا، ولن نسفك دماءنا، ولن
نفقد إنسانيتنا؛ لا بل سنرفع رأسنا، ونسترجع
إنسانيَّتنا، ونعيد لعدوِّنا إنسانيَّته،
ونُعيدُه إلى رشده. 5.
وسائل الإعلام أو الصحافة إذا
اعتبرنا أن وسائل الإعلام الحديثة هي القوة
الرابعة في العالم، إن لم تكن الأولى، وإذا
أخذنا بالحسبان أنها وصلت إلى درجة عالية من
الدقة والسرعة والفعالية، بحيث تصل إلى كل
الشعوب، في كل أقطار العالم وفي الجهات
الأربعة من الكرة الأرضية، فإنه يجب
استخدامها بذكاء وحنكة. إن هذا العنصر مهم جداً لأسباب عديدة: إن صورتنا الحالية مشوهة
للأسف الشديد! فعلى الرغم من النضال البطولي
فإننا نوصف بالإرهاب؛ وعلى الرغم من عدالة
قضيتنا فإن العالم لا يفهمها، لا بل لديه فكرة
مغلوطة مقلوبة عنها؛ وعلى الرغم من كثرة
أموال البترول فإن العالم العربي لم يؤسِّس
لقنوات إعلامية عالمية تغطي على و/أو تنافس
القدرات الإعلامية الموجَّهة والمكرَّسة
لخدمة الدعاوة اليهودية؛ وبالتالي فإنها
مجردة من الموضوعية لا بل تمتاز بالتحيُّز
الصارخ. لا
أقول هذا من باب الدعاوة والإعلان، ولا من باب
تجميل الصورة أو تقديمها بطريقة مصطنعة، ولكن
فقط لتقديم الحقيقة كما هي، ومخاطبة العالم
بلغة جديدة يفهمها، بعيداً عن الخطابات
الرنانة والصورة التقليدية. لا بدَّ من خلق
الصورة الجديدة المبتكَرة المبدعة، آخذين
بعين الاعتبار أن الإعلام هو فن الإثارة
والتنويع لتأمين عنصر الجذب. لذا لا بدَّ من
تجنب التكرار والروتين. إن العالم يتعود على
كل شيء – حتى على الحرب والموت – وكل شيء يصير
طبيعياً بالتكرار. فقد ملَّ صور رماة الحجارة،
وملَّ صور مطلقي النار، وبات يمتعض
من العمليات التفجيرية؛ لقد سئم صورة
الجنازات التي، رغم قدسيتها وتضحية أصحابها،
أمست تُقدَّم بطريقة تدل على العنف، مع
الصرخات العالية والقبضات في الهواء وأصوات
طلقات الأسلحة النارية... إن معركتنا معركة
إعلامية بقدر ما هي معركة سياسية؛ فهلا فهمنا
ما للإعلام من أهمية في معركة المقاومة
اللاعنفية؟ – لا بل هي جزء لا يتجزأ من
المعركة بالذات! فلا بد من مكتب إعلامي
وكفاءات متخصِّصة، بالإضافة إلى الأموال
والتقنية الحديثة. هذه
المقومات الضرورية غير متوفرة – للأسف – في
الوقت الحاضر. ولكن من الأفضل أن نبدأ الخطوة
الأولى قبل فوات الأوان، لأن رحلة الألف ميل
تبدأ بخطوة واحدة. ***
*** *** |
|
|