|
فيصل الحسيني
"غاندي
فلسطين"
الأب رائد عوض أبو ساحلية كان
لي شرف المشاركة في جنازة الشهيد فيصل
الحسيني قبل أكثر من أربعين يوماً والاستماع
إلى الكلمات التأبينية التي قيلت فيه في باحة
الحرم الشريف بعد مواراة جثمانه التراب بجانب
والده المناضل الشهيد عبد القادر الحسيني.
كما كان لي شرف المشاركة في الاحتفال
التأبيني الذي أقيم في بيت الشرق بمناسبة
عيد ميلاده الحادي والستين الذي يصادف مرور
أربعين يوماً على رحيله. وقد استمعتُ أيضاً
إلى كل الكلمات التأبينية التي قيلت فيه، كما
طالعت معظم المقالات التي كُتِبَت في الصحف
المحلية، وقرأت الكتاب الذي وُزِّع في
الاحتفال بعنوان فيصل الحسيني: أمير القدس،
وكذلك مجلة عبير، العدد الخاص بفيصل،
وتأثرت كثيراً بكل كلمة سمعتها وقرأتها عنه.
ولكن لفت انتباهي عنوان صدر في صحيفة القدس
يوم الثلاثاء الماضي بعنوان "فيصل الحسيني:
غاندي العرب". ولأني من دعاة اللاعنف ومن
تلاميذ غاندي توقفت عنده ملياً علَّني أرى
كيف تُثبتُ كاتبتُه الكريمة صحة هذا اللقب
الرفيع من خلال حياة الراحل الكبير؛ ولكني لم
أجد البراهين الكافية. لذلك أخذت على عاتقي
إكمال المهمة لقناعتي بذلك، ولاطِّلاعي على
كلٍّ من غاندي وفيصل، ولحاجتنا إلى مثل هذا
النهج في العمل السياسي، وخاصة في هذه الفترة
العصيبة. اللاعنف
لا يعني الضعف بل قوة الحقيقة روى
ابنُه عبد القادر أثناء كلمته التأبينية بأن
والده أجاب ذات مرة جندياً: "رأسي تستطيع أن
تكسره ولكن لا يمكن أن تحنيه." وهذه الجملة
تدلُّ على نهج لاعنفي حقيقي يرفض الخضوع
للظلم ويعتمد على القوة الداخلية. فقد كان
غاندي دائماً يقول: "اللاعنف لا يعني الضعف.
فإني أفضل أن يحمل الهنود السلاح ضد الإنجليز
من أن يقاوموا باللاعنف لأنهم ضعفاء." وقد
اختبر فيصل هذا النهج؛ إذ إنه انضم إلى
المقاومة المسلَّحة في بداية الستينات
وتخرَّج من كلية عسكرية سورية، ثم تحوَّل إلى
النهج اللاعنفي في بداية الثمانينات. اللاعنف
حلم بمستقبل أفضل لطرفي الصراع ذكر
أوري أفنيري في كلمته التأبينية بأن فيصل كان
يحب أن يكرر دائماً بأنه يحلم باليوم الذي
عندما يقول الفلسطيني "قدسنا" يعني قدس
الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء،
وعندما يقول الإسرائيلي "قدسنا" يعني
قدس الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء
أيضاً. وهذا القول يذكِّرنا بمارتن لوثر كينغ
الذي قال في خطابه الشهير "عندي حلم"
بأنه يحلم بأن يجلس أبناء العبيد القدامى
وأبناء أسياد العبيد القدامى على طاولة
الأخوَّة ويلعبون على الروابي الخضراء نفسها
– طبعاً مع الفرق بأننا نرفض على الإطلاق
سياسة التمييز العنصري بين العبيد والأسياد
التي كانت معروفة في أمريكا حتى وقت قريب. اللاعنف
وسيلة سلمية للمطالبة بالحق بكل الوسائل
الممكنة إذا
تصفَّحنا مجلة عبير، العدد المخصص لفيصل،
نجد صوراً عديدة تدل على أنه كان دائماً يتقدم
الصفوف: فها هو يشبك يديه مع رفاقه في مسيرة
سلمية نحو حاجز عسكري؛ أو يقف أمام جرَّافة
إسرائيلية تحاول هدم بيت فلسطيني؛ أو يناقش
مع الجنود ويستنشق غازاتهم أو يتحمل على رأسه
وقع هراواتهم؛ أو تقيَّد يداه بالسلاسل
والقيود ويقبع وراء قضبان الاحتلال؛ يحضر
الاجتماعات الشعبية والجماهيرية ويلقي كلمة
رزينة حكيمة؛ يحاور حركات السلام
الإسرائيلية وينظِّم المسيرات الاحتجاجية
معهم في موقع أرض مصادرة؛ يزور المرضى
والجرحى في المستشفيات ويشارك في جنازات
الشهداء؛ يصافح رجال الدين المسلمين
والمسيحيين بابتسامة متواضعة؛ يحضر
المؤتمرات الدولية ويلتقي بالوفود الأجنبية
ويجتمع مع قناصل الدول الغربية؛ يتضامن مع
الأسرى والمساجين؛ يأكل في خيمة بدوية تضامناً مع أصحابها المهدَّدين
بالتهجير؛
يزور مخيمات اللاجئين في الوطن والشتات؛ يحمل
عالياً غصن زيتون في مسيرة الطوق حول أسوار
مدينة القدس؛ يتوسط جماعة المضربين عن الطعام
في الصليب الأحمر مدة حوالى أسبوعين؛ يلعب
كرة القدم مع حرَّاسه، ويأكل حبة "بوظة"
من بائع متجول؛ ويقف شامخاً قرب جذع زيتونة
معمِّرة وينظر إلى الأفق البعيد بأحلام عريضة؛ يُحمَل على أكتاف مشيِّعي جثمانه
الطاهر ويُزرَع أخيراً حبةَ حنطة في رحاب
الحَرَم القدسي الشريف؛ "وسنبلة قمح تموت
ستملأ الوادي سنابل"... وغيرها كثير من
الصور والمواقف – وكلُّها يشكل استراتيجية
لاعنفية شعبية جسَّدها إنسان في شخصه، فكان،
في حياته ومماته، شبيهاً بأمثاله من
المناضلين، كغاندي ومارتن لوثر كنغ. اللاعنف
محاولة لكسب الأعداء أصدقاء نجد
هذه الصفة اللاعنفية في فيصل من خلال دعائه
الرائع الذي ألَّفه عندما حدثت مجزرة الأقصى
الرهيبة في 8/10/1990، يوم نجا بأعجوبة من رصاصة
مرَّت من أمام رأسه تماماً، فشعر بولادة
جديدة. ورغم أن المكان كان مليئاً بالكراهية
والحقد، بالمخاوف والشكوك، بروح الانتقام
المتعطشة للدم، بالأعاصير التي تعصف بالقيم
الإنسانية التي كان عليه أن يستنشقها مرغماً
مع الغازات التي أطلقتها الشرطة في المكان
المقدس، إلا أنه، وسط هذا الجو الخانق،
الملبَّد بغيوم الموت والمأساة، بدأ يحضِّر
دعاءه لصلاته التي جاء فيها: اللهم
إن الصدر مليء بالمرارة... فلا تحولها إلى حقد. اللهم
إن القلب مليء بالألم... فلا تحوله إلى انتقام. اللهم
إن النفس تملؤها المخاوف... فلا تحولها إلى
كراهية. اللهم
إن الجسد مني ضعيف... فلا تحول ضعفي إلى يأس. اللهم
إني عبدك القابض على الجمر... فأعنِّي على
الثبات والصمود. اللهم
إن الإيمان محبة... اللهم إن الإيمان تسامح...
اللهم إن الإيمان يقين... اللهم
لا تطفئ شعلة الإيمان من صدري. اللهم
إنَّا أردنا الانتفاضة بيضاء فاحْمِها. اللهم
إنَّا أردنا الحرية لشعبنا ولم نود استعباد
الآخرين. اللهم
إنا أردنا بيتاً لشعبنا يلمُّ شتاته، ولم نسعَ لتدمير دول الآخرين ولا لهدم بيوتهم. اللهم
إن شعبنا مجرد من كل شيء إلا من الإيمان
بحقِّه. اللهم
إن شعبنا ضعيف إلا من الإيمان والنصر. اللهم
امنحنا اليقين والرحمة والتسامح في صفوفنا،
ولا تجعلنا حرباً على نفسنا. اللهم
اجعل الدماء التي سالت نوراً يرشدنا ويهدينا
ويشدُّ من عضدنا، ولا
تجعلها وقوداً للكراهية والانتقام. اللهم
أعنَّا على عدوِّنا لنُعينَه على نفسه. اللهم
هذه صلاتي لك ودعائي... فاسمعْها واستجبْ لنا
واهدِنا سواء السبيل. إننا،
ونحن نقرأ هذا الدعاء الرائع، نستذكر قول
السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم وصلُّوا من
أجل مضطهديكم وأحسِنوا إلى مبغضيكم."
ونتذكر صلاة القديس فرنشسكو الأسِّيزي
الشهيرة: "يا ربِّ استخدمني لسلامك، فأضعَ
الحبَّ حيث البغض، والمغفرةَ حيث الإساءة،
والاتفاقَ حيث الخصام، والحقيقةَ حيث الضلال،
والإيمانَ حيث الشك، والرجاءَ حيث اليأس،
والنورَ حيث الظلمة، والفرحَ حيث
الكآبة." وأخيراً نتذكر كلمات الشاعر
الهندي طاغور: "علِّمني حبَّك يا الله: فإذا
أساء إليَّ الناس هبْني شجاعة التسامح؛ وإذا
أسأت أنا إلى الناس هبْني شجاعة الاعتذار." هذه
هي القيم الإنسانية والروحية السامية التي
يدعو إليها ويعيشها الرجال العظام أمثال فيصل
الحسيني الذي يستحق – بحق – لقب "غاندي
فلسطين". فكم نفتقده ونحتاج لأمثاله! *** *** *** عن
القدس، الأحد 22 تموز 2001
|
|
|