|
مفتاح الثيوصوفيا
هيلينا ب. بلافاتسكي
الباب السابع
في مختلف حالات ما بعد الموت
_____ الإنسان الجسماني والإنسان الروحاني
السائل:
يسرُّني سماعُك تعتقد بخلود النفس. الثيوصوفي: ليس
بخلود "النفس"، بل بخلود الروح الإلهية؛ أو بالحري بخلود الأنيَّة العائدة
للتجسُّد. السائل: وما
الفرق؟ الثيوصوفي:
الفرق عظيم جداً في فلسفتنا؛ لكن هذه مسألة أشد استغلاقاً وصعوبة من أن نمرَّ
بها مرور الكرام. علينا أن نحلِّل كلاً منهما على حدة، ثم معاً. ولنبدأ
بالروح. نحن نقول بأن
الروح ("الآب الذي في السر"، بحسب يسوع)، أو أتمن، ليس ملكاً شخصياً
لأي إنسان، بل هو الماهية الإلهية التي لا جسم لها، ولا شكل، ولا تُوزَن
بميزان، اللامرئية غير المنقسمة، غير الموجودة ومع ذلك
الكائنة، كما يقول البوذيون عن الـنيرفانا. وهي تخيِّم وحسب
على الإنسان الفاني ؛ إذ إن ما يدخل فيه ويتخلَّل الجسم ككل هو منها بمثابة
الأشعة أو النور الكلِّي الحضور، المشعِّ عبر بودهي، مركبتِها وفيضِها
المباشر. وهذا هو المعنى السري لآراء كل الفلاسفة القدماء تقريباً عندما
قالوا إن "الجزء العاقل من نفس الإنسان"[1] لا يدخل الإنسان
بكلِّيته، وإنما يخيِّم نوعاً ما عليه وحسب عبر النفس الروحانية غير
العاقلة أو بودهي.[2] السائل:
خُيِّل إلي أن "النفس الحيوانية" وحدها غير عاقلة، وليس النفس الإلهية. الثيوصوفي: عليك
أن تتعلم الفرق بين ما هو "غير عاقل" سلبياً، أو انفعالياً، من حيث
إنه غير متمايز، وبين ما هو غير عاقل من فرط نشاطه وإيجابيَّته.
الإنسان هو تلازُم قدرات روحانية، كما وتلازُم قوى كيميائية وفيزيائية، تؤدي
وظائفها بفضل ما ندعوه "المبادئ". السائل: لقد
قرأت الكثير عن هذا الموضوع، ويبدو لي أن مفاهيم الفلاسفة الأقدمين كان يختلف
اختلافاً كبيراً عن مفاهيم قباليي العصور الوسطى، على اتفاقها معها في بعض
التفاصيل. الثيوصوفي:
الفارق الجوهري الأهم بينهم وبيننا هو الآتي: فعلى حين نعتقد نحن، مع
الأفلاطونيين الجدد والتعاليم الشرقية، أن الروح (أتما) لا تتنزَّل
أقنومياً على الإنسان الحيِّ، بل تُغدِق نوعاً ما إشعاعَها على الإنسان
الباطن (المكوِّن النفساني والروحاني للمبادئ النجمية)، يقول
القباليون بأن الروح الإنسانية، إذ تنفصل عن بحر النور وعن الروح الكلِّي،
تدخل نفسَ الإنسان، حيث تبقى طوال الحياة سجينةَ المحفظة النجمية. وما زال
جميع القباليين المسيحيين يرون ذلك بحذافيره، بما أنهم غير قادرين على التحرر
من أسْر عقائدهم التأنيسية والكتابية. السائل: وما
رأيكم أنتم في ذلك؟ الثيوصوفي: نرى
أن الإنسان لا يطيق إلا حضور إشعاع الروح (أو أتما) في المحفظة
النجمية، وفقط بمقدار ما يتعلق الأمر بهذا الإشعاع
الروحي. ونقول إن على
الإنسان والنفس أن يفوزا بخلودهما بالعروج نحو الوحدة
التي، في حال التوفيق
في ذلك العروج، سيبلغانها أخيراً ويستغرقان
فيها، إذا جاز القول. إن تفرُّد
الإنسان بعد الموت يتوقف على الروح، وليس على نفسه
وجسمه. ومع أن كلمة "شخصية"، بالمعنى المفهوم
الدارج، لا تتصف بالمعقولية إذا ما طُبِّقت حرفياً
على ماهيَّتنا الخالدة فإن هذه الماهية، شأنها شأن أنيَّتنا
الفردية، كيانٌ متفرِّد، خالد وأبدي بحدِّ
ذاته. إن الخيط البرَّاق الذي يربط الروح بالنفس
الشخصية منذ لحظة ولادة الطفل لا يُبتَر بتراً عنيفاً إلا في حالة
المشعوذين السود أو المجرمين الذين تخطوا إمكانية افتدائهم، المجرمين الذين
ظلوا على حالهم هذه إبان سلسلة طويلة من الأعمار، فيُطلَّق الكيان الطليق
من النفس الشخصية التي تفنى بدون أن تخلِّف أدنى انطباع منها
عليه. فإذا لم
تتحقق الوحدة بين مَنَس الأدنى، أو
الشخصي، وبين الأنيَّة الفردية
العائدة للتجسُّد إبان الحياة فإن الأول يُترَك ليشارك الحيوانات الدنيا في
مصيرها، بأن ينحلَّ تدريجياً في الأثير، وينعدم
كشخصية. ولكن حتى عندئذٍ تبقى
الأنيَّة كياناً متميزاً؛ وكل ما يحدث أنها
(الأنيَّة الروحية) تفقد حالة
ديفاخانية واحدة – بعد تلك الحياة الخاصة، وبالفعل غير ذات الجدوى في تلك
الحالة – بوصفها تلك الشخصية
المُؤَمْثَلة، ثم تعود للتجسد آنياً
تقريباً بعد أن تنعم وقتاً قصيراً بحريتها كروح
كوكبية. السائل: جاء
في إيزيس سافر أن مثل هذه الأرواح الكوكبية أو الملائكة –
"آلهة
الوثنيين أو رؤساء ملائكة المسيحيين" – لا تصير بشراً على كوكبنا
أبداً. الثيوصوفي: صحيح
تماماً. ولكن ليس "مثل"، بل بعض رُتَب الأرواح الكوكبية العليا. فهي
لن تكون بشراً أبداً على كوكبنا هذا لأنها أرواح متحررة من عالم سابق، أقدم،
وهي بهذه المثابة لا يمكنها أن تصير بشراً من جديد في عالمنا هذا. ومع ذلك
فإنها جميعاً سوف تحيا من جديد في الـمَهامَـنْـفَـنْـتَـرا[3] التالي والأرقى
بكثير، بعد أن ينقضي هذا "العصر العظيم" والـ"برهما بْـرَلَـيا" (فترة
صغيرة يتألف عددها من 16 رقماً أو نحو ذلك). فلا بدَّ أنك سمعتَ، بالطبع، أن
الفلسفة الشرقية تعلِّم أن النوع البشري هو عبارة عن مثل هذه "الأرواح"
المسجونة في أجسام بشرية، أليس كذلك؟ الفرق بين الحيوانات والبشر هو الآتي:
الحيوانات تتخلَّلها "المبادئ" بالقوة، بينما تتخلَّل البشرَ
بالفعل.[4] هل تفهم الفرق
الآن؟ السائل: نعم،
لكن هذا الاختصاص ظلَّ حجر عثرة الميتافيزيائيين في كل العصور. الثيوصوفي: لقد
كان كذلك فعلاً. إن باطنية الفلسفة البوذية برمَّتها قد تأسَّست على هذا
التعليم السِّراني، الذي لا تفقهه إلا الصفوة، ويسيء بالتالي تمثُّلَه تماماً
العديدُ من أفْقَه الاختصاصيين الحديثين. وحتى الميتافيزيائيون شديدو الميل
إلى الخلط بين النتيجة والسبب. إن أنيَّةً قد فازت بحياتها الخالدة كروح تبقى
الذات الباطنة عينَها عبر ولاداتها الجديدة كلِّها على الأرض؛ لكن هذا لا
يقتضي بالضرورة أنها إما أن تبقى السيد فلان أو السيد علان الذي كانتْه على
الأرض، وإما أن تفقد فرديتها. لذا فإن النفس النجمية والجسم الأرضي للإنسان
قد تتلاشى، في الآخرة المظلمة، في المحيط الكوني للعناصر المتسامية، وتتوقف
عن الشعور بأنيَّتها الشخصية الأخيرة (إذا لم تستحق أن تحلِّق أعلى من
ذلك)، بينما الأنيَّة الإلهية تبقى مع ذلك الكيانَ غير المتغير عينَه،
على الرغم من أن هذه الخبرة الأرضية لذلك الفيض [النفس النجمية] منها [أي من
الأنيَّة الإلهية] تزول تماماً لحظة الانفصال عن المركبة غير اللائقة
بها. السائل: إذا
كان وجود "الروح"، أو القطعة الإلهية من النفس، سابقاً بوصفه كائناً مميَّزاً
منذ الأزل، كما علَّم أوريجينس وسينيسيوس وفلاسفة آخرون نصف مسيحيين نصف
أفلاطونيين، وإذا ظلت هي هي، ولا شيء أكثر من النفس الموضوعية ميتافيزيائياً،
كيف يمكن أن تكون غير أزلية؟ وماذا يهمُّها في حالة كهذه، سواء كان الإنسان
يعيش حياة طاهرة أو حياة حيوانية، إذا لم يكن من الممكن، مهما فعل، أن يفقد
فرديَّته؟ الثيوصوفي: هذه
العقيدة، كما أوردتَها، لا تقل ضرراً من حيث عواقبُها عن عقيدة التكفير
بالنيابة. فلو أن هذه العقيدة الأخيرة، إلى جانب الفكرة المغلوطة بأننا
جميعاً خالدون، قد عُرِضَت للعالم على الوجه الصحيح لكان نشرُها قد حسَّن من
وضع البشرية ككل. دعني أكرِّر لك
مجدداً. لقد اشتقَّ فيثاغوراس وأفلاطون وطيماوس اللوكريسي ومدرسة الإسكندرية
القديمة نفس الإنسان (أو "مبادئه" وصفاته
العليا) من النفس العالمية الكلِّية، حيث هذه
الأخيرة، بحسب تعاليمهم، هي الأثير (باتِر
زِفْس). من هنا،
ما من واحد من هذه "المبادئ" يمكن أن يكون الماهية الخالصة
للـموناس الفيثاغورية، أو أتما–بودهي بحسب
تعاليمنا، لأن
نفس العالم ليست إلا النتيجة، الفيض أو بالحري الإشعاع الذاتي لهذه
الماهية. كلا الروح الإنسانية (أو
الفردية)، أي الأنيَّة الروحانية
العائدة للتجسد، وبودهي، النفس
الروحانية، سابقُ الوجود. ولكن بينما
توجد الأولى ككيان مفرَد، كتفرُّد، توجد النفس كنَفَسٍ سابق
الوجود، كقطعة
غير واعية من الكلِّ العاقل. كلاهما تشكَّل أصلاً من بحر النور
الأزلي؛ ولكن،
كما عبَّر عن ذلك فلاسفة النار – ثيوصوفيو القرون
الوسطى، توجد في النار روح
منظورة كما توجد روح غير منظورة. وقد فرَّقوا بين النفس الخام
والنفس الإلهية. وكان أنباذوقليس يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن لكل البشر
والحيوانات نفسين؛ وبالعودة إلى أرسطو، نجد أنه كان يدعو إحداهما النفس
العاقلة νούς،
ويدعو الثانية النفس الحيوانية ψυχή.
وبحسب هؤلاء الفلاسفة، تصدر
النفس العاقلة من باطن النفس الكلِّية، بينما تصدر الأخرى من
ظاهرها. السائل: هل
يجوز إطلاق تسمية مادة على النفس، أي النفس الإنسانية المفكِّرة، أو على ما
تدعونه أنتم الأنيَّة؟ الثيوصوفي: لا
تجوز تسمية مادة، لكن تسمية جوهر جائزةٌ بكل
تأكيد. كما أننا لا نتجنب
استعمال كلمة "مادة"، على أن نُتبِعَها بصفة أزلية. تلك المادة
الأزلية، كما نذهب، خالدة خلود الروح، وهي ليست مادتنا
المرئية، الملموسة،
والقابلة للانقسام، إنما هي تساميها
الأقصى. الروح الخالص أدنى بدرجة واحدة
فقط من الـلا–روح، أو الكل
المطلق. فما لم تقبل بأن الإنسان قط
تطور عن هذه الروح–المادة الأزلية، ويمثل سُلَّماً منتظماً وتنازلياً من
"المبادئ"، من ما بعد–الروح نزولاً حتى المادة
الأغلظ، كيف نستطيع أن
نتوصل أصلاً إلى اعتبار الإنسان الباطن
خالداً، وكياناً روحياً وبشراً
فانياً في الوقت نفسه؟ السائل:
لماذا، والحالة هذه، لا تؤمنون بالله بوصفه مثل هذا الكيان؟ الثيوصوفي: ذلك
لأن ما هو لانهائي وغير مقيَّد لا يمكن أن يكون ذا
شكل، ولا يمكن أن يكون
كائناً – هذا غير وارد في أية فلسفة شرقية حَرِيَّة بهذا الاسم على كل
حال. "الكيان" خالد، لكنه ليس كذلك إلا من حيث ماهيَّتُه
القصوى، وليس من حيث
شكلُه الفردي. وعندما يبلغ آخر نقطة من دورته فإنه يستغرق في الطبيعة
الأزلية، ويصير روحاً عندما يفقد اسمه
وكيانه. خلوده بوصفه
شكلاً محدودٌ فقط بدورة حياته أو الـمَهامَـنْـفَـنْـتَـرا الذي يصير
بعده واحداً ومتطابقاً مع الروح الكلِّية، ولا يبقى بعدُ كياناً
منفصلاً. أما
بخصوص النفس الشخصية – التي نعني بها شرارة الوعي التي تحمي في
الأنيَّة الروحانية فكرةَ "الأنا" الشخصية للتجسد الأخير – فهذه لا
تدوم،
كذكرى مميزة منفصلة، إلا طوال الفترة
الديفاخانية، فتُضاف بعد انقضاء هذه
الفترة إلى سلسلة تجسدات أخرى للأنيَّة لا عدَّ
لها، كما يحدث عندما نسترجع بذاكرتنا، عند نهاية
عام، يوماً واحداً من سلسلة أيام. فهل تقيِّد اللانهائية
التي تزعمون أن إلهكم يتصف بها بشروط
منتهية؟ وحده خالد ما يلحمه أتما
بحيث لا تُفصَم عراه (بودهي–مَنَس). أما نفس الإنسان
(أي الشخصية)
بحدِّ ذاتها فليست خالدة، ولا أبدية، ولا
إلهية. فكما جاء في سفر
الزاهر: "النفس، إذ تهبط إلى هذه
الأرض، تتقمص ثوباً أرضياً، لتحفظ نفسها
هنا؛ لذا تتلقى في العُلى ثوباً منيراً حتى تتمكن من النظر بدون أن يصيبها
ضررٌ إلى المرآة التي ينبثق نورها من ربِّ
الأنوار."[5] بالإضافة إلى
ذلك،
يعلِّمنا الزاهر أن النفس لا تستطيع إن تبلغ مقام الغبطة قبل أن تتلقى
"القبلة المقدسة"، أو اجتماع النفس مع الجوهر الذي فاضت عنه –
الروح.
النفوس جميعاً مزدوجة، وفي حين أن النفس مبدأ مؤنث فإن الروح مبدأ
مذكر. الإنسان، مسجوناً في الجسم، ثُلاثٌ، ما لم يتسبب فسادُه في طلاقه من
الروح.
ولقد جاء في مقطع من كتاب المفاتيح، وهو مصنَّف
هرمسي: "ويلٌ للنفس
التي تفضل على زوجها الإلهي (الروح) القرانَ الترابي مع بدنها
الأرضي." الويل فعلاً، لأنه لن يبقى شيء من هاتيك الشخصية يدوَّن على ألواح ذاكرة الأنيَّة
التي لا تحول ولا تزول. السائل: ولكن
كيف يمكن لما هو، باعترافك، والإلهيَّ من جوهر واحد – وإن لم ينفخ فيه الله
من روحه ليصنع منه بشراً – أن يُحرَم من الخلود؟ الثيوصوفي: كل
ذرة وهباءة مادة، وليس فقط جوهر، غير فانية من حيث الماهية، ولكن ليس
من حيث وعيُها الفردي. ليس الخلود إلا الوعي غير المنقطع للمرء؛ بينما
يكاد الوعي الشخصي لا يدوم أكثر من الشخصية نفسها، أليس كذلك؟ ومثل
هذا الوعي، كما سبق أن أخبرتك، لا يبقى إلا طوال ديفاخان، فيعاد
امتصاصه بعده، أولاً، في الوعي الفردي، ومن بعدُ في الوعي
الكلِّي. لعله يحسن بكم أن تسألوا لاهوتييكم كيف اتفق لهم أن يضغِّثوا
كتب اليهود إلى هذا الحد المزري. اقرأوا الكتاب، إذا كنتم تطلبون برهاناً
جيداً أن كُتَّاب الأسفار الخمسة، وبخاصة سفر التكوين، لم
يعتبروا قط نِفِش [النفس]، ما ينفخه الله في آدم (التكوين، الإصحاح
2)، نفساً خالدة. وهاكم بعض الأمثلة: "فخلق الله... وكل متحرِّك من كل ذي
نفس حية" (تكو 1: 21)، قاصداً الحيوان؛ وجاء كذلك (تكو 2: 7): "...
فصار الإنسان نفساً حية"، مما يبيِّن أن كلمة نِفِش كانت تصحُّ
دونما تمييز على الإنسان الخالد وعلى البهيمة الفانية. "أما
دماؤكم، أي نفوسكم، فأطلبها، من يد كل وحش أطلبها، ومن يد الإنسان"
(تكو 9: 5)؛ "انجُ بـنفسك" (انجُ بـحياتك، كما تترجَم أحياناً)
– (تكو 19: 17)؛ وقد جاء في الترجمة الإنكليزية: "لا نقتله" (تكو 37: 21)،
بينما النص العبري هو: "لا نقتل نفساً". "نفس بدل نفس"،
كما جاء في سفر اللاويين: "ومن قتل إنساناً يُقتَل قتلاً"، وحرفياً: "من قتل
نفس إنسان" (لا 24: 17)؛ ومن الآية 18 وما بعدها نقرأ: "ومن قتل بهيمة
(نفساً) فليعوِّض عنها، بهيمة بدل بهيمة"، بينما جاء في النص الأصلي:
"نفساً بدل نفس". فكيف يمكن للإنسان أن يقتل ما هو خالد؟[6] وهذا يفسِّر أيضاً
لماذا أنكر الصدُّوقيون[7] خلود النفس، كما أنه
يقدم دليلاً آخر أن اليهود الموسويين – غير المسارَرين منهم على كل حال – لم
يؤمنوا، أغلب الظن، ببقاء النفس مطلقاً. في الثواب والعقاب الأبديين وفي نيرفانا
السائل: يكاد
يكون غير ضروري، على ما أظن، سؤالُك عما إذا كنت تؤمن بعقائد المسيحيين في
الفردوس والجحيم، أو بالثواب والعقاب الآتي، كما تعلِّمها الكنائس
السُنِّية؟ الثيوصوفي: إذا
كنا نرفضها جملة كما هي واردة في كتب تعليمكم الديني، كيف نقبل أبديَّتها
أصلاً؟ لكننا نعتقد اعتقاداً راسخاً بما ندعوه قانون الجزاء، وبالعدل
والحكمة المطلقين اللذين يوجِّهان هذا القانون، أو كرما. من هنا فإننا
نرفض رفضاً جازماً قبول المعتقد القاسي وغير الفلسفي بالثواب الأبدي أو
العقاب الأبدي. إننا نقول مع هوراس: فلتوضَع قواعد لاحتواء غضبنا، ولعقاب الأغلاط بوجع
مناسب؛ ولكن لا تجلدوا الذي لا يستحق إلا ضرباً بالسَّوْط على ما ارتكب
من غلط. هذا قاعدة تسري على البشر قاطبة،
وهي قاعدة عادلة. هل نحن مضطرون أن نؤمن بأن الله، الذي تجعلونه تجسيداً
للحكمة والمحبة والرحمة، أقل من الإنسان الفاني أحقِّية في هذه الصفات؟ السائل: هل
لديكم أسباب أخرى لردِّ هذه العقيدة؟ الثيوصوفي:
سببنا الرائس لردِّه يكمن في واقع العَوْد للتجسد. إننا، كما سبق أن صرَّحت،
نرفض فكرة نفس جديدة مخلوقة من أجل كل طفل مولود. إننا نعتقد بأن كل كائن
إنساني حاملٌ، أو مركبة، لـأنيَّة مجايلة لكل أنيَّة أخرى؛ لأن
كل الأنيَّات من ماهية واحدة وتنتسب إلى الفيض الأول عن
الأنيَّة الكلِّية اللانهائية.[8] وأفلاطون يدعو هذه
الأنيَّة بـالكلمة (أو الإله المتجلِّي الثاني)؛ ونحن ندعوه المبدأ
الإلهي المتجلِّي، الواحد مع العقل الكلِّي أو النفس الكلِّية، وليس الإله
التأنيسي، خارج الكوني، الشخصي الذي يؤمن به الكثير من القائلين
بالألوهية. فالرجاء ألا نخلط بينهما. السائل: ولكن
أين الصعوبة – ما دمتم تقبلون بمبدأ متجلٍّ – في الاعتقاد بأن ذلك المبدأ
يخلق نفسَ كلِّ بشر فانٍ جديد كما خُلِقَت جميع النفوسُ التي
سبقتها؟ الثيوصوفي:
يتعذر علينا هذا الاعتقاد لأن ما هو لاشخصي يكاد يعدم القدرة على
الخلق والتدبير والتفكير على عواهنه. فهذا المبدأ، بما هو قانون كوني،
سرمدي في تجلِّياته الدورية – تلك التي تشعُّ وتُظهِر ماهيَّته عند بدء كل
دورة حياة جديدة – لا يُفترض فيه أن يخلق بشراً، لا لشيء إلا لكي يندم على
خلقهم بعد بضع سنوات. إذا كان لا بدَّ لنا أن نؤمن بمبدأ إلهي أصلاً يحسن بنا
أن يكون إيماننا بمبدأ هو تناغم، ومنطق، وعدل مطلق، بمقدار ما هو محبة،
وحكمة، وعدم تحيُّز مطلق؛ فإن إلهاً يخلق كلَّ نفس مدة عمر أرضي
واحد – بصرف النظر عن كونها ستحيي جسمَ رجل ثري، سعيد، أو جسمَ فقير بائس
سقيم، قُدِّر عليه الشقاء من المهد إلى اللحد، مع أنه لم يفعل ما يستحق عليه
مصيراً بهذه القسوة – مثل هذا الإله أقرب إلى شيطان فاقد الحس منه إلى
إله.[9] لهذا لم يأخذ حتى
الفلاسفة اليهود، المؤمنون بالكتاب الموسوي (باطنياً طبعاً)، بمثل هذه
الفكرة؛ لا بل إنهم، مثلنا، اعتقدوا بالعَوْد للتجسد. السائل: هل
يمكنك أن تعطيني بعض الأمثلة على هذا؟ الثيوصوفي:
قطعاً يمكنني. يقول فيلون اليهودي: "الهواء ممتلئ بها [بالنفوس]؛ الأقرب منها
إلى الأرض، النازلة لتقترن بأبدان فانية παλινδρομούσι
αύθις،
تؤوب إلى أبدانها، راغبة في العيش فيها."[10] وفي الزاهر،
نجد النفس تتوسَّل حريتها أمام الله: "يا ربَّ العالمين! أنا مسرورة في هذا
العالم، ولا رغبة بي في الذهاب إلى عالم آخر، حيث سأكون جارية معرَّضة لكلِّ
ألوان التدنيس."[11] وفي جواب الإله نجد
الإصرار على مذهب الضرورة الحتمية، على القانون الأبدي السرمدي: "رغماً عنك
تصيرين مضغة، ورغماً عنك تولدين."[12] النور لا يُفهَم
بدون الظلمة التي تجعله جلياً بالتبايُن؛ الخير لا يبقى الخير بدون الشر الذي
يبيِّن الطبيعة التي لا تثمَّن للنعمة؛ وكذلك لا يحق للفضيلة الشخصية أن تنسب
لنفسها أي فضل ما لم تكتوِ بنار أتون الغواية. لا شيء أبدياً غير متحوِّل سوى
الإله المستتر. لا شيء منتهياً – سواء لأن له بداية أو يجب أن تكون له نهاية
– يبقى ثابتاً على حاله؛ فإما أن يتقدم وإما أن يتقهقر. والنفس الظامئة إلى
الاجتماع من جديد مع روحها، التي وحدها تهبها الخلود، ينبغي أن تتطهَّر عبر
ارتحالات دورية قُدُماً نحو أرض الغبطة والراحة الأبدية الوحيدة، المسماة في
الزاهر "قصر العشق" היכל אחכת؛
وفي ديانة الهندوس موكشا؛ وبين أهل الغنوص "ملأ النور الأبدي"؛ وعند
البوذيين نيرفانا. وكل هذه الحالات وقتية وليست أبدية. السائل: لكني
لا أجد ذكراً للعَوْد للتجسد في هذا كلِّه. الثيوصوفي: إن
نفساً تتوسل أن يُسمَح لها بالمكوث حيث هي لا بدَّ أن تكون سابقة
الوجود، ولم تُخلَق للمناسبة فقط. لكن في الزاهر برهاناً أفضل
أيضاً. ففي معرض الكلام على الأنيَّات العائدة للتجسد (النفوس
العاقلة)، تلك التي يتعيَّن على شخصيتها الأخيرة أن تتلاشى
بالكلِّية، جاء: "كل النفوس التي انسلخت في السماء عن القدوس – تقدَّس
اسمه – ألقت بنفسها في هاوية عند وجودها نفسه، واستبَقتْ الوقت الذي يتحتَّم
فيه عليها أن تنزل على الأرض مجدداً."[13] "القدوس" هنا يعني،
باطنياً، الـأتمن، أو أتما–بودهي. السائل:
علاوة على ذلك، من المستغرب جداً أن يرد ذكر نيرفانا كشيء مرادف
لملكوت السماء، أو الفردوس، بما أن نيرفانا، بحسب أيِّ مستشرق ذي وزن،
مرادف للاضمحلال! الثيوصوفي:
مأخوذاً على محمل الحرف، وبخصوص الشخصية والمادة المتمايزة، ليس إلا – هذا
صحيح. فقد اعتنق العديد من آباء الكنيسة الأوائل هذه الأفكار عن العَوْد
للتجسد وتثليث الإنسان. غير أن الالتباس الذي تسبب فيه مترجمو العهد الجديد
والمقالات الفلسفية القديمة بين النفس والروح هو الذي ولَّد سوء الفهم
المتكرر. وهذا واحد من الأسباب العديدة التي يعود إليها اتهام البوذا
وأفلوطين ومسارَرين آخرين كثر بالتشوق إلى فناء نفوسهم فناء تاماً – إذ إن
"الاستغراق في الإله"، أو "الاجتماع مع النفس الكلِّية"، يعني "الامِّحاق"
بحسب الأفكار الحديثة. على النفس الشخصية، بالطبع، أن تتحلل إلى جزيئاتها،
قبل أن تتمكن من ربط ماهيَّتها الأنقى إلى الأبد مع الروح الخالدة. لكن
مترجمي كلا أعمال الرسل والرسائل، الذين أرسوا قواعد ملكوت
السماء، كما وشارحي سوترا تأسيس ملكوت البِر البوذي، قد شوَّشوا معنى
رسول المسيحية ومُصلِح الهند العظيمين. الأولون مسخوا كلمة ψυχικός،
بحيث لا يتصور أي قارئ أن لها علاقة مع النفس؛ وبهذا الخلط بين
النفس والروح معاً لا يحصل قراء الكتاب إلا على معنى
محرَّف لكل ما يخص الموضوع. من ناحية أخرى، فشل شارحو بوذا في فهم معنى
وموضوع درجات دهيانا الأربع في البوذية. اسأل الفيثاغوريين: "هل يمكن
لذلك الروح الذي يهب الحياة والحركة ويشترك والنور في طبيعته أن يُختزَل إلى
لاكيان؟" ويلحظ الغيبيون: "هل يمكن حتى لهذه الروح الحساسة في البهائم، التي
تتصف بالذاكرة – واحدة من الملَكات العاقلة – أن تموت وتضمحل؟"
الفناء، في الفلسفة البوذية، يعني فقط تبدداً في المادة، في أي شكلٍ
أو مظهرِ شكلٍ كان؛ إذ إن كلَّ ما يتخذ شكلاً وقتيٌّ، وهو، بالتالي،
وهمٌ حقاً. ففي الأبدية تكون أطول الفترات الزمنية أشبه ما تكون بطرفة العين.
كذلك الأمر فيما يخص الشكل. فقبل أن يتسنى لنا الوقت لإدراك أننا أبصرناه
يكون قد ذهب كومضة برق لحظية ومضى إلى غير رجعة. عندما ينطلق الكيان
الروحي إلى الأبد من عُقالات كلِّ جزيء مادة، أو جوهر، أو شكل، ويصير من جديد
نَفَساً روحياً، إذ ذاك فقط يلج الـنيرفانا الأبدي والسرمدي، فيدوم ما
دامت دورة الحياة دائمة – أي الأبدية حقاً. وعند ذاك يكون ذاك النَّفَس،
الموجود بالروح، لاشيء لأنه الكل؛ فهو كشكل، كمظهر،
كهيئة، قد انمحق تماماً؛ أما كروح مطلق فهو ما زال كائناً، إذ إنه قد
صار الكينونة نفسها. وعبارة "مستغرق في الجوهر الكلِّي" المستعمَلة
نفسها، لدى الكلام على "النفس" بوصفها "الروح"، تعني "الاتحاد مع".
وهي لا يمكن أبداً أن تعني الفناء، من حيث إن هذا يعني الانفصال
الأبدي. السائل: ألا
تعرِّضون أنفسكم لتهمة التبشير بالفناء بالعبارات التي تستعملونها؟ لقد تكلمت
لتوِّك عن نفس الإنسان الراجعة إلى عناصرها الأزلية. الثيوصوفي: لكنك
نسيتَ أني ميَّزت لك الفرق بين المعاني المختلفة لكلمة "نفس"، وبيَّنت
الطريقة الرخوة التي تُرجِمَت بها حتى الساعة كلمةُ "روح". نحن نتكلَّم على
نفس حيوانية، ونفس بشرية، ونفس روحانية، ونميز فيما
بينها. أفلاطون، على سبيل المثال، يدعو "نفساً عاقلة" ما ندعوه نحن
بودهي، لكنْ مضيفين إليها نعتَ "روحانية"؛ لكن ما ندعوه نحن الأنية
العائدة للتجسد، مَنَس، يدعوه هو الروح، نوس، إلخ، بينما نطبق
نحن مصطلح روح، عندما يَرِدُ وحده بدون أية صفة، على أتما
وحده. أما فيثاغوراس فهو على مذهبنا القديم عندما يصرِّح أن الأنيَّة
(نوس) أبديةٌ أبديةَ الإله؛ أن النفس فقط تجتاز مراحل متنوعة لبلوغ
الكمال الإلهي؛ بينما ثيموس [النفس الغضبية] تعود إلى الأرض، وحتى
فْرِنْ [الفكر]، مَنَس الأدنى، يُزال. كذلك فإن أفلاطون يعرِّف
بالـنفس (بودهي) بكونها "الحركة القادرة على تحريك ذاتها".
ويضيف: "النفس هي أقدم الأشياء قاطبة، وبداية الحركة"،[14] مسمياً بذلك
أتما–بودهي "نفساً" ومَنَس "روحاً"، الأمر الذي لا نفعله. "أنشِئَت النفس قبل
البدن، والبدن لاحق وثانوي، إذ تسوسه، بحسب الطبيعة، النفسُ الحاكمة. "والنفس التي تدبِّر
كل ما يتحرك بكل طريقة ممكنة [...] تدبِّر بالمثل السماوات. السائل: ما
زلتُ غير قادر على الإحاطة بالفكرة، وأكون ممتناً لو تفضلتَ بشرحها لي ببعض
الإيضاحات. الثيوصوفي: لا
ريب أنها عصية على الفهم، وبخاصة لمَن نشأ على أفكار الكنيسة النظامية
السُّنية. بيد أني يجب أن أضيف شيئاً هاماً: ما لم تدرس وظائف كلٍّ من
"المبادئ" الإنسانية على حدة وحال كلٍّ منها بعد الموت دراسةً وافية،
لن يتسنى لك أن تفقه من فلسفتنا الشرقية إلا النزر اليسير. في مختلف
"مبادئ" الإنسان
السائل:
سمعتُ الكثير عن بنيان "الإنسان الباطن" هذا، كما تسمُّونه، لكني لم أستطع قط
أن "أفقه منه رأساً أو ذَنَب"، كما يعبِّر عن ذلك غاباليس. الثيوصوفي:
بالطبع، صعبٌ للغاية، وكما تقول، "محيِّرٌ"، أن تفهم المظاهرَ
المتنوعة التي نطلق عليها تسمية "مبادئ" الأنيَّة الحقة وتميِّز فيما
بينها على الوجه الصحيح. ومما يزيد الأمر صعوبة وجودُ فارق ملحوظ في تعداد
تلك المبادئ في مختلف المدارس الشرقية، مع أنها جميعاً مستمَدَّة من أساس
تعليمي واحد مشترك. السائل: هل
تعني الفيدنتيين كمثال؟ ألا يختزلون "مبادئكم" السبعة إلى خمسة فقط؟ الثيوصوفي: بلى،
يفعلون. لكني، مع أني لا أزعم مجادلة علامة فيدنتيٍّ في هذه النقطة، فلي
قطعاً أن أصرح بأن لديهم، بحسب رأيي الشخصي، سبباً وجيهاً لذلك. فبنظرهم،
وحدها تلك الجملة الروحية المركَّبة التي هي عبارة عن مختلف المظاهر الذهنية
يصحُّ أن تدعى إنساناً بالأصل، حيث البدن بنظرهم هو شيء الاحتقار كثير
عليه، وهو مجرَّد وَهْم. كما أن الفيدنتا ليس الفلسفة الوحيدة التي
تعتمد هذه الطريقة: لاو تسه في الـطاو ته كنغ يذكر خمسة مبادئ وحسب
لأنه، مثله كمثل الفيدنتيين، يُغفِل ذكر مبدأين، ألا وهما: الروح
(أتما) والبدن، ويدعو ثانيهما، فضلاً عن ذلك، "الجثة". ثم هناك مدرسة
الـتارَكا راجا يوغا التي لا تقر تعاليمُها بوجود غير ثلاثة "مبادئ"
في الواقع؛ ولكن، في الحقيقة، ما يصطلح أهلُها على تسميته ستهولوبادي،
أو البدن في حالة الصحو الواعية، وسوكشموبادي، الجسم نفسه في حالة
سفابنا، أو حالة الحلم، وكَرَنوبادي، أو "الجسم العِلِّي"، أو
ما يرتحل من تجسُّد لآخر، هي جميعاً ذات مظهرين اثنين، ومجموعها، بالتالي،
ستة. أضف إليها أتما، المبدأ الإلهي اللاشخصي أو العنصر الخالد في
الإنسان، غير المميَّز عن الروح الكلِّي، فتحصل على السبعة نفسها من جديد.[15] إنهم أحرار في
التمسك بتقسيمهم؛ ونحن نتمسك بتقسيمنا. السائل: فهو،
إذن، تقسيم يكاد يبدو مطابقاً للتقسيم الذي وضعه المسيحيون الصوفيون: الجسم
والنفس والروح؟ الثيوصوفي: هو
عينه. بإمكاننا بسهولة أن نجعل من الجسم مركبة "القرين الحيوي"؛ ونجعل من هذا
مركبة الحياة أو برانا؛ ومن كاماروبا، أو النفس (الحيوانية)،
مركبة الذهنين الأعلى والأدنى؛ ونجمع هذه كلها في ستة مبادئ،
ونتوج الكل بالروح الخالدة الواحدة. ففي الغيبيات، كل تغيير كيفي في حالة
وعينا يمنح الإنسان مظهراً جديداً؛ فإذا ساد هذا المظهر وصار جزءاً من
الأنيَّة الحية الفاعلة وَجَبَ أن يُعطى – وهو يُعطى فعلاً – اسماً خاصاً
لتمييز الإنسان في تلك الحالة المعيَّنة من الإنسان الذي يكونه عندما يضع
نفسه في حالة أخرى. السائل: هذا
بالضبط هو ما يصعب فهمه إلى هذا الحد. الثيوصوفي: إنه
يبدو لي، على العكس، سهلاً للغاية حالما تفهم الفكرة الرئيسية، أي أن الإنسان
يعمل على هذه المرتبة من الوعي، أو على مرتبة أخرى، بتوافق صارم مع شرطه
الذهني والروحي. لكن مادية العصر باتت من الفداحة بحيث إننا كلما أمعنَّا
شرحاً لاح أن الناس أقل قدرة على فهم ما نقول. قسِّم الكائن الأرضي المسمى
بالإنسان إلى ثلاثة مظاهر رائسة، إن شئت؛ ولا يمكنك أن تقسمه إلى أقل من ذلك
– ما لم تكن تنوي أن تجعل منه حيواناً صرفاً. دونك جسمه الموضوعي؛
والمبدأ المفكِّر فيه – الذي يكاد لا يعلو كثيراً على العنصر الغريزي
في الحيوان – أو النفس الحيوية الواعية؛ وذاك الذي يُنزِلُه منزلة أبعد وأسمى
بما لا يقاس من منزلة الحيوان – ألا وهو النفس العاقلة أو "الروح".
طيب، إذا أخذنا هذه المجموعات الثلاث أو الكيانات التمثيلية، وأجرينا عليها
تقسيمات تحتية، وفقاً للتعليم الغيبي، على ماذا نحصل؟ أولاً، على الروح
(بمعنى المطلق، وبالتالي، الكل غير المنقسم)، أو أتما. لما
كانت هذه متعذرة التوضيع أو التحديد فلسفياً، كونها ببساطة ما هو
موجود في الأبدية، وما لا يمكن أن يغيب عن أضأل نقطة هندسية أو رياضية
للكون المادي أو الجوهري، لا يجوز، في الحقيقة، أن يُدعى مبدأ "إنسانياً"
أصلاً. إنها، في أحسن الأحوال، ميتافيزيائياً، تلك النقطة في الفضاء التي
تشغلها الموناد الإنسانية ومركبتُها الإنسان لفترة كلِّ أجَل. بيد أن تلك
النقطة لا تقل خيالاً عن الإنسان نفسه، وهي في الواقع وهم، مايا.
لكننا، بنظرنا كما وبنظر أنيَّاتٍ شخصياتٍ أخريات، لسنا واقعاً إلا إبان تلك
اللمحة من الوهم التي ندعوها العمر، وعلينا أن نأخذ أنفسنا بالحسبان – في
هُوامنا على أية حال – إذا لم يفعل ذلك سوانا. وحتى نقرِّب الأمر من تصوُّر
العقل البشري، عندما تتم محاولة لدراسة الغيبيات، ولحلِّ ألفباء سرِّ
الإنسان، تطلق الغيبيات على هذا المبدأ السابع تأليف المبدأ السادس،
وتعطيه النفسَ الروحانية (بودهي) مركبةً. غير أن المبدأ الأخير
ينطوي على سرٍّ، يُضَنُّ به على الجميع، باستثناء الـشيلا [المريدين]
الموثوقين قطعاً، أو أولئك، على أية حال، الذين يمكن الاطمئنان إليهم.
بالطبع، كان اللبس أقل لو كان بالإمكان البوح بهذا السر؛ ولكن، لما كان هذا
يتعلق مباشرة بقدرة المرء على خلع قرينه خلعاً واعياً وإرادياً، ولما كان من
شأن هذه الموهبة، مثلها كمثل "خاتم جيجس"،[16] أن تكون شديدة
الخطر على الإنسان بعامة، وعلى صاحب هذه الملَكة بخاصة، فهناك حرص شديد عليه.
ولكن لنتابع "المبادئ". هذه النفس الإلهية، أو بودهي، هي إذن مركبة
الروح. وهذان، مجتمِعان، كلٌّ واحد، لاشخصي، وعديم الصفات (على هذه المرتبة،
بالطبع)، ويشكِّلان "مبدأين" روحيين. فإذا جئنا إلى النفس البشرية،
مَنَس أو مِنْس [باللاتينية]، يتفق الجميع على القول
بـازدواجية عاقلة الإنسان، في أقل تقدير: صاحب العقل الرفيع يكاد
يتعذر أن يصير صاحب عقل دنيء؛ إذ إن هوة سحيقة تفصل الإنسان صاحب الذهن
العقلي والروحي عن الإنسان صاحب الذهن الغليظ، البليد، المادي، إن لم نقل
الحيواني. السائل: ولكن
لماذا لا يُمثَّل الإنسان بـ"مبدأين" أو، بالحري، بمظهرين وحسب؟ الثيوصوفي: كلُّ
إنسان فيه هذان المبدآن، أحدهما أنشط من الآخر، وفي حالات نادرة، يكون
أحدهما، إذا جاز القول، مقموع النموِّ أو مشلولاً من جراء قوة المظهر
الآخر وهيمنته، في أية جهة كان ذلك. هذان، إذن، هما ما ندعوه مبدأي أو مظهري
مَنَس، الأعلى والأدنى: الأول، مَنَس الأعلى، أو الأنيَّة
المفكِّرة، الواعية، الساعية باتجاه النفس الروحانية (بودهي)؛
والثاني، أو المبدأ الغريزي للأول، المجذوب إلى كاما، مقعد الرغبات
والأهواء الحيوانية في الإنسان. بذلك نكون قد برَّرنا وجود أربعة
"مبادئ". أما الثلاثة الباقية فيه فهي: (1) الـ"قرين" الذي اتفقنا على تسميته
النفس البروتيوسية[17] أو الهيولانية؛
مركبة (2) مبدأ الحياة، و (3) البدن. بالطبع ما مِن عالم فسيولوجي أو
بيولوجي سوف يقبل هذه المبادئ، ولا حتى يفقه منها شيئاً. ولعل هذا، ربما، سبب
عدم فهم أيٍّ منهم كلاً من وظائف الطحال، المركبة الجسمانية للقرين
البروتيوسي، أو وظائف عضو معيَّن على الجنب الأيمن من الإنسان، بؤرة الرغبات
المذكورة أعلاه، ولا هو بعدُ يعلم أيَّ شيء عن الغدة الصنوبرية، التي يصفها
بكونها غدة قرنية يرسب فيها القليل من الرمل، والتي هي في الحقيقة مقرُّ أسمى
وعي في الإنسان وأكثره ألوهية: عقله الكلِّي العلم، الروحي، المحيط بكل شيء.
وهذا يبيِّن لك بنصاعة أكثر أننا لم نخترع هذه المبادئ السبعة، وأنها ليست
بجديدة على عالم الفلسفة، كما نستطيع أن نبرهن على ذلك بسهولة. السائل: ولكن
ما الذي يتجسَّد من جديد باعتقادكم؟ الثيوصوفي: إنها
الأنيَّة الروحية المفكِّرة، المبدأ الدائم في الإنسان، أو المبدأ الذي هو
مقعد مَنَس. الإنسان الفردي، أو الإلهي، ليس
أتما، أو حتى أتما–بودهي، بوصفهما الموناد المزدوجة، بل
مَنَس؛ إذ إن أتمن هو الكل المحيط، ولا يصير الذات
العليا للإنسان إلا بالانضمام إلى بودهي، مركبته التي
تربطـه بالفردية (أو الإنسان الإلهي). ذلك أن الـبودهي–مَنَس
الذي يُدعى الجسم العِلِّي (المبدأين الخامس والسادس مجتمعين) – الذي
هو الوعي – هو الذي يربطها [الفردية] بكل شخصية تقيم على الأرض. لذا،
بما أن النفس مصطلح إجمالي، هناك في البشر ثلاثة مظاهر للنفس:
الأرضية، أو الحيوانية؛ النفس الإنسانية؛ والنفس الروحانية؛ وهذه، إذا توخينا
الدقة، نفس واحدة في ثلاثة مظاهر.[18] بيد أن لا شيء يبقى
من المظهر الأول بعد الموت؛ ومن الثاني (نوس أو مَنَس) وحدها
ماهيَّتُه الإلهية، إذا ظلت طاهرة، تنجو؛ بينما الثالث يصير، بالإضافة
إلى كونه خالداً، إلهياً بصورة واعية، عبر استيعاء الـمَنَس
الأعلى. ولكن لتوضيح الأمر، علينا، قبل كل شيء، أن نقول بضع كلمات في العَوْد
للتجسد. السائل:
حسناً تفعل، حيث إن أعداءكم يشنون أشد الحروب ضراوة ضد هذا المذهب
بالذات. الثيوصوفي:
أتعني الأرواحيين؟ أعلم ذلك. وعديدة هي الاعتراضات غير المعقولة التي
يحيكونها بشقِّ النفس على صفحات النور. وبعضها من الغلاظة والخبث بحيث
يتضح أنهم لا يتورعون عن شيء. لقد وقع أحدهم مؤخراً على تناقض، ناقشه برصانة
في رسالة بعث بها إلى تلك الصحيفة، في تصريحين التقطهما من محاضرات السيد
سينيت. لقد اكتشف ذلك التناقض الخطير في هاتين العبارتين: "قد تكون العودة
السابقة لأوانها إلى حياة الأرض في الحالات التي تحدث فيها راجعةً إلى تعقيدٍ
كَرْميٍّ [نسبة إلى كرما]..."؛ و"ليس ثمة حادث في الفعل الأسمى
للعدل الإلهي الذي يقود التطور". إن مفكِّراً بهذا العمق لا بدَّ أن يرى
تناقضاً في قانون الجاذبية إذا مدَّ رجلٌ يده لمنع حجر ساقط من تهشيم رأس
طفل! *** [1]
كلمة
"عاقل"، بمعناها الإجمالي، تعني شيئاً فائضاً عن الحكمة الخالدة. [2]
غير
عاقلة بمعنى أنها،
بوصفها فيضاً محضاً من العقل الكلِّي، لا يمكنها أن تختص بعاقلة فردية
على صعيد المادة هذا؛ إنما، على غرار القمر الذي يستعير ضوءه من الشمس
وحياتَه من الأرض، تتلقى بودهي نور حكمتها من أتما، وتحصل على
خواصها العاقلة من مَنَس. أما هي، بحدِّ ذاتها، كشيء متجانس، فعديمة
الصفات. [3]
بالسنسكريتية:
Mahamanvantara. جاء
في المعجم الثيوصوفي للسيدة بلافاتسكي في تعريفه: "مدة من التجلِّي،
تقابل بْـرَلَـيَـا (تحلُّل أو راحة)، تنطبق على أدوار متنوعة،
ولاسيما على يوم برهما، 4,320,000,000 سنة شمسية – وعلى مُلك مَنو واحد –
308,448,000. (أنظر المجلد الثاني من العقيدة السرية، ص 68 وما بعدها)
حرفياً، مَـنْـفَـنْــتَـرا – بين مَنو." (ص 206) (م) [4]
راجع العقيدة
السرية، المجلد 2، السُوَر. [5]
المجلد 3، ص 616. [6]
هذه
هي عينها عقيدة الإسلام في القرآن الكريم حيث جاء: "ما تدري نفسٌ ماذا تكسب
غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرض تموت" (لقمان 34) – أي أن النفس خاضعة للموت؛
كذلك: "كلُّ نفس ذائقة الموت ثم إلينا تُرجَعون" (عنكبوت 57)، حيث نجد
تمييزاً واضحاً بين "نفس" الإنسان (شخصيَّته) التي مآلها إلى الموت، و"هو"
(فرديَّته) الذي مآله أن يُرجَع إلى مصدره. (م) [7]
أصحاب
مذهب يهودي ينتسب إلى مؤسِّسه صدُّوق، منافس لمذهب الفريسيين؛ استأثروا
تقريباً بسدانة هيكل أورشليم زمن المسيح، وقالوا بعدم خلود النفس وقيامة
الأموات. (م) [8] لعل
هذا هو المقصود مما جاء في القرآن الكريم: "وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدة
فمستقَرٌّ ومستودع" (الأنعام 98). (م) [9] راجع
أدناه، "في عقاب الأنيَّة". [10]
في
المنامات، ص 455. [11]
الزاهر،
مجلد 2، ص 96. [12]
مشناه،
"أبوت"، مجلد 4، ص 29. [13] مجلد
3، ص 61. [14]
القوانين،
10. [15]
من
أجل شرح أوضح، راجع: العقيدة السرية، مجلد 1، ص 157. [16]
راعٍ شاب من
ليديا كان يملك، على حدِّ ما يُروى، خاتماً ذهبياً يضعه فيصير غير مرئي.
(م) [17] نسبة إلى الإله
البحري الإغريقي بروتيوس الذي كان يستطيع أن يتخذ أيَّ شكل يريد، في أيِّ وقت
يريد. (م) [18]
لعلها تقابل ما
يصطلح الإسلام على تسميته بـ"النفس الأمَّارة" و"النفس اللوَّامة" و"النفس
المطمئنة". (م)
|
|
|