english arabic
previous

العصيان المدني

(2 من 2)

 

 

هنري د. ثورو

 

كلما تحادثت مع أكثر جيراني تحرراً، أدركت أنه أياً كان ما قد يقولون في سعة المسألة وجدِّيتها، ومهما كان مبلغ اعتبارهم للأمان العام، فإن لبَّ المسألة هو أنهم لا يستطيعون أن يستغنوا عن حماية الحكومة الحالية، وهم يخشون عواقب عصيانها على أملاكهم وعائلاتهم. من جانبي لا أحبذ فكرة الاتكال أصلاً على حماية الدولة. لكني إذا تنكَّرت لسلطة الولاية عندما تقدِّم لي كشفها الضريبي فإنها سرعان ما سوف تستولي على أملاكي كلها وتبدِّدها، وبذلك تتحرش بي وبأولادي بغير حد. وهذا يشق عليَّ. إن هذا ما يجعل من المتعذر على المرء أن يحيا حياة شريفة، وفي الوقت نفسه مريحة، من حيث الأمور الخارجية. ولن يكون من المجدي كنز الأملاك، إذ لا بدَّ للأمر من أن يتكرر. ينبغي عليك أن تستأجر أو تستحلَّ مكاناً، ولا تزرع إلا محصولاً قليلاً تأكله سريعاً. ينبغي عليك أن تحيا في دخيلة نفسك، وتتكل على نفسك دوماً، مشمِّراً عن ساعديك، مستعداً للانطلاق، ولا تملك الكثير من الأغراض. بوسع امرئ أن يصير غنياً حتى في تركيا، إذا حرص أن يكون من كلِّ وجهٍ من الرعايا الصالحين للحكومة التركية. لقد قال كونفوشيوس: "إذا حُكِمَت الدولةُ وفق مبادئ العقل فإن الفقر والبؤس يكونان وصمتي عار؛ أما إذا لم تُحكَم الدولةُ وفق مبادئ العقل فإن الثروة والمفاخر يكونان وصمتي عار." أقول لا: فإلى أن أحتاج أن تشملني حماية ماساتشوستس وأنا في ثغر جنوبي بعيد، حيث تتعرض حريتي للخطر، أو إلى أن أصمِّم فقط على تعمير ضيعة لي في موطني بالمساعي السلمية، يجوز لي أن أرفض البيعة لماساتشوستس ولحقِّها على مُلكي وحياتي. وإنه ليكلِّفني أقل من كلِّ الوجوه أن يُنزَل بي عقابُ عصيان الدولة من أن أنصاع. الأحرى بي عند ذاك أن أشعر وكأن قيمتي تضاءلت.

منذ بضع سنوات استدعتْني الدولة لمصلحة الكنيسة وأمرتني بدفع مبلغ معيَّن مقابل إعالة رجل دين كان أبي مواظباً على حضور مواعظه، ولم أكن قط. قالت لي: "ادفع، أو دونك الحبس في السجن." فرفضت أن أدفع. لكن، لسوء الحظ، وجد رجل آخر أن من اللائق أن يدفعه. ما كنت لأفهم لماذا ينبغي على ناظر المدرسة أن يؤدي الضريبة لإعالة الكاهن، وليس العكس؛ ذلك أني لم أكن ناظر مدرسة الدولة، بل كنت أقوم بأودي من الهبات الطوعية. ما كنت لأفهم لماذا لا تقوم المدرسة الثانوية بتقديم كشفها الضريبي وتكلف الدولة بدعم طلبها، وكذلك الكنيسة. غير أني، نزولاً عند طلب اللجنة الناظرة في القضية، تنازلت وصرحت كتابة بما مفاده: "أنا، هنري ثورو، أعلن على رؤوس الأشهاد أنني لا أود أن أُعتبَرَ عضواً في أية هيئة اجتماعية لم أنتسب إليها." وهذا التصريح سلَّمتُه إلى كاتب البلدة، وهو في حوزته. عندئذٍ فإن الدولة، إذ تنامى إليها أنني لم أكن أود اعتباري عضواً في تلك الكنيسة، كفَّتْ منذئذٍ عن مطالبتي بشيء مثل هذا – وإن تكن قالت إنه ينبغي عليها أن تتقيد بإجرائها الأصلي في تلك المرة. ولو كنت أستطيع أن أحصي كافة الجمعيات التي لم أنتسب إليها قط لاستقلتُ منها جميعاً على التفصيل؛ لكني لم أعرف أين كنت أستطيع أن أجد قائمة مستوفية بها.

امتنعتُ عن تأدية ضريبة الخِراج مدة ست سنوات. ولقد أودِعتُ السجن مرة من جراء ذلك مدة ليلة واحدة؛ ثم، وأنا واقف شاخصاً في جدران الحجر الصلب، ذات القدمين أو الثلاثة سماكةً، وباب الخشب والحديد، ذا القدم سماكةً، وقضبان النافذة الحديدية التي كانت تصفِّي الضوء كالمخلاة، لم يسعني إلا أن أنصعق بجنون تلك المؤسَّسة التي كانت تعاملني وكأني مجرد لحم ودم وعظام، لا أصلح إلا للحبس. تفكَّرتُ في أنها قطعاً خَلُصَتْ أخيراً أن هذه أحسن معاملة كان في وسعها أن تخصَّني بها، ولم تفكِّر قط في أن تنتفع بخدماتي في صورة أو في أخرى. تبيَّن لي أنه لئن كان هناك جدار من الحجر بيني وبين سكان بلدتي هناك جدار أشد عصياناً على التسلق أو الاختراق دونهم وبلوغ مقام الحرية الذي أنا فيه. لم أشعر ولا للحظة أنني محتجَز، وبدت لي الجدران مضيعة هائلة للحجر والملاط. شعرت وكأني وحدي من بين سكان بلدتي قد سدَّدتُ ضريبتي. لقد أُسقِط في يدهم صراحةً في كيفية معاملتي، لكنهم تصرفوا كأشخاص سيئي التربية. فكلُّ تهديد وكلُّ إطراء من جانبهم انطوى على حماقة؛ إذ إنهم ظنوا بأني أتحرق رغبة في الوقوف على الجانب الآخر من ذلك الجدار الحجري. لم أملك إلا أن أبتسم لرؤية مبلغ اجتهادهم في إغلاق الباب على تأملاتي، التي كانت تتبعهم من جديد خارجاً بدون عارض أو عائق، وكأن مكمن الخطر كلِّه كان فيها. ولما لم يقدروا على الوصول إليَّ، عزموا على معاقبة جسمي؛ مثل الصبية، إذا لم يتمكنوا من شخص يكيدون له فإنهم يؤذون كلبه. تبيَّن لي أن الدولة معتوهة، وأنها كالمرأة العزباء المتخوفة على ملاعقها الفضية، وأنها لم تكن تميِّز أصدقاءها من أعدائها، وهكذا فقدتْ كلَّ احترام متبقٍّ فيَّ حيالها، فأشفقتُ عليها.

بذلك فإن الدولة لا تواجه أبداً حسَّ المرء، العقلي أو الأخلاقي، بل جسمه وحواسه فحسب. فهي ليست مسلحة بالفطنة وبالصدق الرفيعين، بل بالقوة الجسمانية المتفوقة. لم أولد لكي أُكرَه على شيء. ولسوف أتنفس على سجيتي. ولنرَ من منَّا الأقوى. أية قوة يتصف بها الجمع الغفير؟ وحدهم يستطيعون إكراهي مَن يمتثلون لقانون أعلى من القانون الذي أمتثل له. إنهم يُكرهونني على أن أصير مثلهم. لم أسمع برجال أكرهَهم جمهورُ الناس على اتخاذ هذه الطريق أو تلك. فأي ضرب من الحياة كان هذا سيكون؟ عندما أقابل حكومة تقول لي: "مالك أو حياتك"، لماذا أتعجل الدفع إليها بمالي؟ قد تكون واقعةً في ضائقة عظيمة وليست تعرف ما ينبغي عمله: وهذا لا حيلة لي فيه. فعليها أن تساعد نفسها، فتفعل كما أفعل. والأمر لا يستحق التباكي عليه. لست مسؤولاً عن الدوران الناجح لآلة المجتمع؛ إذ لست من أبناء المهندس. أدرك أنه عندما تسقط بلوطة وكستناءة جنباً إلى جنب فما من واحدة منهما تبقى ساكنة لكي تفسح المجال للأخرى، بل كلتاهما تنصاع لقوانينهما، فتنبتان وتنموان وتزدهران بأحسن ما تستطيعان، إلى أن يتفق لإحداهما أن تلقي بظلها على الأخرى وتدمرها. إذا لم تستطع نبتة أن تحيا بحسب طبيعتها فإنها تموت – وكذلك الإنسان.

كانت الليلة في السجن جديدة وممتعة إلى حدٍّ كبير. كان السجناء في قمصانهم يتمتعون بتجاذب أطراف الحديث وبهواء المساء في المدخل عندما دخلت. غير أن السجان قال: "هيا، يا شباب، حان وقت الإغلاق"؛ وهكذا تفرَّقوا، وسمعت صوت خطواتهم تؤوب إلى مقصوراتهم المجوفة. قدَّم السجانُ لي رفيقَ سكني بوصفه "صاحباً من الدرجة الأولى ورجلاً ذكياً". وعندما أوصِدَ البابُ أرشدني الرجلُ إلى مكان تعليق قبعتي وكيفية تدبُّره الأمورَ هناك. كانت الحجرات تُطلى ببياض الكلس مرة كلَّ شهر؛ وهذه، على الأقل، كانت أشدها بياضاً، مؤثثة على أبسط ما يمكن، ولعلها أنظف مقصورات البلدة وأكثرها ترتيباً. كان بالطبع يريد أن يعرف من أين أتيت وماذا جاء بي إلى هناك؛ وعندما أخبرته سألته بدوري كيف جاء إلى هناك، مفترضاً أنه رجل مستقيم، بالطبع؛ وعلى مرِّ الأيام، أعتقد أنه كان كذلك. قال: "عجباً لهم يتهمونني بإحراق مخزن للتبن – وأنا لم أفعل ذلك قط." لعل أقرب ما استطعت اكتشافه إلى الواقع، أنه، أغلب الظن، ذهب إلى فراشه في المخزن مخموراً، ودخَّن غليونه هناك؛ وهكذا احترق المخزن. لقد ذاع صيتُه كرجل ذكي، وكان ينتظر هناك منذ حوالى ثلاثة أشهر منتظراً أوان محاكمته، وربما كان عليه أن ينتظر مدة أطول بكثير؛ لكنه ألِفَ الحياة هناك ورضي بها تماماً، بما أنه يحصل على الطعام والمأوى مجاناً، ويعتقد بأنهم يُحسِنون معاملته.

خصَّ نفسه بنافذة وخصصت نفسي بالأخرى؛ وقد رأيت أنه لو قُيِّض للمرء أن يمكث هناك طويلاً لوجد أن عمله الرئيسي يقتصر على النظر من النافذة. سرعان ما قرأت كلَّ الكراريس المتروكة هناك، وعاينت المكان الذي فرَّ منه سجناء سابقون، وأين جرى نشر قضبان إحدى النوافذ، واستمعت إلى قصص عن مختلف شاغلي تلك الحجرة؛ إذ إنني وجدت أنه حتى هنا كان ثمة تاريخ وثرثرة لا تسري أبداً خارج جدران السجن. فلعل هذا هو البيت الوحيد في البلدة الذي تُقرَض فيه أبياتُ شعر، لا تلبث فيما بعد أن تُطبَع على شكل تعميم، لكنها لا تُنشَر. ولقد اطلعت على قائمة طويلة فعلاً من الأبيات التي ألَّفها بعض الشبان ممَّن ضُبِطوا في محاولة للفرار، فثأروا لأنفسهم بغنائها.

استخلصتُ من رفيقي السجين كلَّ ما استطعت، مخافة ألا أحظى برؤيته ثانية؛ لكنه أخيراً دلَّني على فراشي وتركني أطفئ المصباح.

كان مبيتُ ليلة هناك أشبه بالسفر في بلاد بعيدة، بلاد ما كنت لأتوقع أبداً أن أشاهدها. لاح لي أنني لم أسمع قط صوت ساعة البلدة تطرق من قبل، ولا أصوات المساء في القرية؛ ذلك أننا نمنا تاركين النوافذ التي كانت داخل القضبان مفتوحة. كان الأمر أشبه برؤية القرية التي شهدتْ مولدي في ضوء العصور الوسطى، فتحول نهر كونكورد فيها إلى مجرى الراين، وتتابعت رؤى الفرسان والحصون أمام ناظري. تلك كان أصوات الأهالي التي كنت أسمعها في الشوارع. كنت رغماً عني مشاهداً ومستمعاً لكل ما كان يحصل ويقال في مطبخ فندق البلدة المجاورة – وتلك كانت تجربة جديدة ونادرة تماماً لي. كانت نظرةً إلى مسقط رأسي أقرب. كنت في داخله نوعاً ما. لم أكن قد رأيت مؤسَّساته من قبل قط. وهذه واحدة من مؤسَّساته غير المألوفة؛ ذلك أنها مركز ناحية. وبدأت أفهم ما كان عليه سكانها.

في الصباح كان إفطارنا يمرَّر لنا من الفتحة في الباب، في صينيات صغيرة مستطيلة مربعة، جُعِلَتْ لتناسب الفتحة، وعليها مكيال من الشوكولاتة، مع خبز أسمر، وملعقة حديدية. وعندما نادوا علينا لاسترداد الأوعية من جديد، كنت غشيماً إلى حدِّ أني أعدت ما تركته من الخبز؛ لكن رفيقي قبض عليه على عجل وقال إنني يجب أن أستبقيه للغداء أو للعشاء. وبعيدئذٍ سُرِّح للعمل في جمع التبن في حقل مجاور، كان يذهب إليه كل يوم ولا يؤوب منه إلا ظهراً؛ لذا فقد تمنى لي يوماً طيباً، قائلاً إنه يشك أنه سيراني من جديد.

عندما خرجت من السجن – ذلك لأن أحدهم تدخل ودفع تلك الضريبة – لم ألحظ تغيرات عظيمة حصلت على العموم،، كالتي يلحظها من يدخل شاباً ثم يخرج رجلاً شابَ شعرُه وترنحت مشيتُه؛ ومع ذلك فإن تغيراً ما طرأ على المشهد في نظري – البلدة، والولاية، والإنسان – أعظم من أيِّ تغيُّر يمكن لمجرَّدِ الزمن أن يُحدِثَه. رأيت الولاية التي أعيش فيها بوضوح أكبر أيضاً. رأيت إلى أيِّ حدٍّ يمكن للناس الذين أحيا بين ظهرانيهم أن يؤتَمَنوا كجيران وأصدقاء طيبين؛ أن صداقتهم تقتصر على فصل الصيف وحسب؛ أنهم لا يبالون كثيراً بعمل الحق؛ أنهم سلالة مختلفة عني بسبب من تحاملاتهم وخرافاتهم، شأنهم شأن الصينيين والملاويين سواء بسواء؛ أنهم في تضحياتهم من أجل الإنسانية لا يخاطرون بشيء، ولا حتى بممتلكاتهم؛ أنهم في المآل ليسوا بهذا النبل، بل يعامِلون السارق كما عاملهم، ويأملون، بفضل تديُّن خارجي وبضع صلوات، وبفضل السير، من حين لآخر، على درب مستقيم معين لكنه عقيم، أن يخلِّصوا نفوسهم. قد يكون في هذا تحاملٌ في الحكم على جيراني؛ فإني أعتقد أن الكثيرين منهم لا يدرون أن لديهم في قريتهم مؤسَّسة كالسجن.

لقد جرت العادة في قريتنا سابقاً، أنه عندما يخرج مدين مسكين من السجن، يقوم معارفه لتحيته، ناظرين من خلال أصابعهم المتقاطعة بما يشبه قضبان نافذة السجن: "كيف حالك؟" غير أن جيراني لم يحيُّوني هكذا، بل نظروا إليَّ أولاً، ثم إلى بعضهم بعضاً، وكأني عدت من رحلة طويلة. لقد أودِعتُ السجن وأنا ذاهب إلى الإسكافي لاسترداد حذاء لي كان يصلحه. وعندما أخلي سبيلي في صباح اليوم التالي، مضيت لإنهاء مأموريتي، ثم، وقد احتذيت حذائي المتعافي، انضممت إلى فريق من جامعي العنَّبية كانوا يتحرقون إلى وضع أنفسهم تحت قيادتي؛ وفي غضون نصف ساعة – ذلك أن الجواد سرعان ما لُجِمَ – وجدت نفسي وسط حقل من العنَّبية، على واحد من أعلى التلال، على مسافة ميلين، وهناك توارت الولاية عن الأنظار.

تلكم هي قصة سجوني برمَّتها.

***

لم أرفض قط دفع ضريبة الطريق العام، لأني لا أقل رغبة أن أكون جاراً طيباً مني أن أكون من الرعايا السيئين؛ أما عن دعم المدارس فإني أؤدي دوري لتربية أبناء وطني الآن. ولست أرفض دفع الكشف الضريبي بسبب بند معين وارد فيه. أود ببساطة رفض البيعة للولاية، وذلك للانسحاب والوقوف منحازاً عنها بالفعل. لا أبالي باقتفاء مسار دولاري، لو استطعت، اللهم إلا عندما يشتري رجلاً أو بارودة يقتل بها رجلاً – والدولار بريء – لكني حريص على اقتفاء آثار بيعتي. والواقع أنني أعلن الحرب بهدوء على الولاية، على طريقتي، على الرغم من أني سأدأب على استعمالها والاستفادة من أية ميزة لها، كما جرت العادة في مثل هذه الحالات.

إذا دفع غيري الضريبة المطلوبة مني، تعاطفاً مع الدولة، فهم يفعلون ما سبق أن فعلوه في حالتهم، أو هم بالحري يحضُّون على الظلم إلى حدٍّ أكبر مما تتطلبه الدولة. أما إذا دفعوا الضريبة اهتماماً في غير محلِّه في الفرد المضروب، حرصاً على ممتلكاته، أو للحيلولة دون ذهابه إلى السجن، فذلك لأنهم لم يتمعَّنوا في حكمةٍ إلى أيِّ حدٍّ يَدَعون مشاعرهم الخاصة تتدخل في الخير العام.

ذلك، إذن، هو موقفي في الحاضر. لكن مهما بلغ حذر المرء في حالة كهذه فهذا لا يكفي، مخافة أن يجنح عملُه من جراء المعاندة أو الاعتبار المفرط لآراء الناس. فليحرص على أن يعمل فقط ما يخصُّه ويخصُّ الساعة.

يخطر ببالي أحياناً – عجباً كيف أن هؤلاء القوم طيبوا النوايا، لكنهم جاهلون وحسب؛ ولكانوا أحسنوا العمل لو أنهم كانوا يعرفون كيف: لماذا تكلف جيرانك مشقة معاملتك بما ليسوا ميالين إليه؟ لكني أعود فأقول: هذا ليس سبباً يجعلني أفعل كما يفعلون، أو أسمح للآخرين أن يكابدوا شقاءً أكبر بكثير، لكنْ من نوع آخر. كذلك، أقول لنفسي أحياناً: عندما يطلب ملايين الناس منك، بدون احتداد، بدون سوء نية، بدون شعور شخصي من أيِّ نوع، بضعة شلنات فقط، بدون أن يستطيعوا – فذلك هو تكوينهم – الرجوعَ عن طلبهم أو تغييره، وبدون أن تستطيع، من جانبك، التماسَ ملايين آخرين، لماذا تعرِّض نفسك لتلك القوة العجماء الجارفة؟ أنت لا تقاوم البرد والجوع، الرياح والأمواج، بهذا العناد، بل تخضع بهدوء لألف ضرورة مشابهة. أنت لا تزج برأسك في النار. ولكن كما أنني نسبياً لا أعتبر هذه القوة قوة عجماء تماماً، بل قوة بشرية جزئياً، وأعتبر أن العلاقات التي تربطني بأولئك الملايين هي علاقات بعدد مماثل من البشر، وليست بأشياء عجماء أو جامدة، أرى أن هذا الالتماس ممكن، أولاً وآنياً، منهم إلى باريهم، وثانياً، منهم إليهم. لكني إذا وضعت رأسي في النار عامداً فلا التماس ممكناً للنار أو لباري النار، ولا أنحو باللائمة إلا على نفسي. فإذا استطعت أن أقنع نفسي بأن لي حقاً ما بأن أرضى بالبشر كما هم، وبأن أعاملهم على هذا الأساس، وليس، من بعض الوجوه، على أساس متطلباتي وتوقعاتي لما يجب أن يكونوا وأكون إياه، إذ ذاك فإني، كالمسلم والجبري الطيب، لا بدَّ أن أسعى إلى الرضى بالأشياء على حالها، وأقول بأنها مشيئة الله. وفوق ذلك كله، هناك هذا الفارق بين مقاومة هذا ومقاومة قوة محض عجماء أو طبيعية، المتمثل في أنني أستطيع أن أقاومه بشيء من الفعالية؛ إنما لا يمكنني أن أتوقع، مثل أورفيوس، تغيير طبيعة الصخور والأشجار والبهائم.

لا أود أن أتخاصم مع أيِّ رجل أو أمَّة. لا أود أن أماحك في الكلام، أن أقيم تمييزات دقيقة، أو أضع نفسي في منزلة أحسن من منزلة جيراني. أفتش بالحري، إذا جاز لي القول، عن عذر حتى للانصياع لقوانين البلاد. لا بل إني أكثر من متأهب للانصياع لها. أجل، عندي ما يبرر لي الشك في نفسي في هذا الصدد؛ وكل عام، عندما يزورني جابي الضرائب، أجدني مستعداً لاستعراض أعمال ومواقف الحكومتين، الحكومة العامة وحكومة الولاية، وروح الناس، حتى أكتشف عذراً للامتثال.

علينا أن نحنَّ على وطننا كما نحنَّ على والدينا،

وإذا اتفق لنا ذات مرة أن نربأ

بحبنا أو بجهدنا أن يكرِّمه،

يجب أن نتحمل النتائج ونعلِّم النفس

أمور الضمير والدين،

وليس الرغبة في الحكم أو المنفعة.

أعتقد أن الولاية سرعان ما ستتمكن من انتزاع عملي النوعي هذا كلَّه من بين يدي، وعندئذٍ لن أكون وطنياً أحسن من أبناء وطني. الدستور، منظوراً إليه من وجهة نظر أدنى، مع مثالبه كلِّها، جيد جداً؛ القانون والمحاكم محترمة جداً؛ وحتى هذه الولاية وهذه الحكومة الأمريكية، من وجوه عديدة، تستحقان الإعجاب، وهما شيئان نادران يستوجبان الامتنان، كما وصفهما عدد كبير من الناس؛ أما منظوراً إليهما من وجهة نظر أعلى قليلاً، فهما على ما وصفتُهما؛ ومن وجهة نظر أعلى، ومن وجهة النظر العليا، مَن ذا يستطيع القول ما هما، أو فيما إذا كانتا تستحقان النظر إليهما أو التفكير فيهما أصلاً؟

غير أن الحكومة لا تهمني كثيراً، ولسوف أخصص لها أقل ما يمكن من الخواطر. فاللحظات التي أحيا فيها تحت لواء حكومة ليست كثيرة، حتى في هذا العالم. فإذا كان المرء حرَّ الفكر، حرَّ المخيِّلة، حرَّ التصور، أي ما لا يبدو أنه ملك له طويلاً قط، فإن الحكَّام أو المصلحين غير الحكماء لا يستطيعون حتماً أن يمنعوه.

أعرف أن غالبية القوم تفكر على غير ما أفكر؛ لكنْ حسبي أولئك الذين حيواتهم منذورة مهنةً لدراسة هذا الموضوعات أو موضوعات أخرى نسيبة مهما قلَّ عددهم. أما رجال الدولة والمشرِّعون الواقفون بكليتهم ضمن المؤسَّسة، فلا يميزون أنفسهم عنها ولا ينظرون إليها على حقيقتها. يتكلمون على تحريك المجتمع، لكنْ ليس لهم مستقر بدونها. قد يكونون رجالاً لديهم شيء من الخبرة والتمييز، ولا ريب في أنهم اخترعوا نظماً مبتكَرة وحتى مفيدة، الأمر الذي نشكرهم عليه خالص الشكر؛ لكن فطنتهم وفائدتهم تكمن ضمن حدودٍ معينة ليست واسعة جداً؛ فدأبهم أن يتناسوا أن العالم غير محكوم بالسياسة وبالذرائع. إن [رجل القانون] وبستر لا يتخلف أبداً عن الحكومة، وبالتالي لا يستطيع أن يتكلم عليها كلام ذي سلطان. كلماتُه حكمةٌ بنظر أولئك المشرِّعين الذي لا يتطلَّعون إلى أيِّ إصلاح في الحكومة الراهنة؛ أما المفكرون، وأولئك الذين يشرِّعون لكلِّ الأزمنة، فإنه لا يكلف خاطره إلقاءَ نظرة واحدة على الموضوع. أعرف أناساً من شأن تفكُّرهم الرصين الحكيم في هذه المسألة أن يكشف سريعاً حدود مداه الذهني وأريحيته. ومع ذلك فإنه، بالمقارنة مع المزاعم الرخيصة لغالبية المصلحين، ومع الحكمة والبلاغة الأرخص أيضاً للسياسيين إجمالاً، فإن كلماته تكاد تكون الكلمات الوحيدة الحساسة والقيَّمة، ونحن نشكر السماء على وجوده. إنه، بالمقارنة، قوي دوماً، أصيل، وفوق كلِّ شيء، عملي. ومع ذلك فإن صفته ليست الحكمة بل الحيطة. إن حقيقة المحامي ليست الحقيقة، بل التماسك أو الذريعة المتماسكة. فالحقيقة متناغمة دوماً مع نفسها، ولا يهمها في المقام الأول الكشف عن العدل الذي يتوافق مع ذلك بارتكاب الشر. إنه يستحق بحق أن يدعى، كما دُعِيَ فعلاً، المدافع عن الدستور. فلا ضربات ثمة يضربها، بل ضربات دفاعية. إنه ليس قائداً، بل تابع. قادتُه هم رجال 1787 [من واضعي الدستور]. يقول: "لم أبذل جهداً قط، ولا أقترح بذل جهد؛ لم أستحسن جهداً، ولا أنوي استحسان أيِّ جهد، من شأنه أن يخلخل الترتيب كما وُضِعَ أصلاً، الذي انضمت وفقاً له الولايات المختلفة إلى الاتحاد." ومفكراً كذلك في التأييد الذي يقدمه الدستور للرقِّ يقول: "بما أنه كان جزءاً من العهد الأصلي – فليبقَ." وعلى الرغم من حدة ذهنه وقدرته الخاصين فإنه لا يقدر أن يستخلص واقعة من علائقها السياسية المجردة وينظر إليها كما لو أنها مطروحة فقط لكي يُعمِل العقلُ فيها النظرَ – ماذا، على سبيل المثال، ينفع المرء أن يفعل هنا في أمريكا اليوم فيما يخص الرق – بل يخاطر أو ينقاد إلى تقديم إجابات مثل الإجابة اليائسة التالية، بينما يتظاهر بالكلام مطلقاً، وكرجل فرد – فأي قانون للواجبات الاجتماعية جديد وفريد يمكن أن يُستنبَط منها؟ يقول: "إن الوسيلة التي ينبغي على حكومات تلك الولايات التي يوجد فيها الرقُّ أن تضبطه بها تعود إلى تقديرها هي، تحت طائلة مسؤوليتها حيال ناخبيها، حيال القوانين العامة للملكية، والإنسانية، والعدالة، وحيال الله. أما الجمعيات التي تشكلت في أماكن أخرى، نابعةً من شعور إنساني، أو من أي سبب آخر، فلا تمت بصلة من أيِّ نوع إلى تلك الوسيلة. لم يسبق لها أن تلقَّتْ أيِّ تشجيع مني، ولن تتلقَّى."

لم يظهر رجل عبقري في التشريع في أمريكا. فهم نادرون في تاريخ العالم. هناك خطباء، سياسيون، ورجال بليغون، بالآلاف؛ لكنْ ما من خطيب فتح فاه متكلماً حتى الآن بقادر على تسوية المشكلات الراهنة الشديدة الإقلاق للراحة. إننا نحب البلاغة من أجل ذاتها، وليس من أجل حقيقة ما قد تنطق بها، أو أية بطولة قد تُلهمُها. لم يتعلَّم مشرِّعونا بعدُ القيمة النسبية للتجارة الحرة والحرية، للاتحاد، وللاستقامة، بالنسبة للأمة. ليست لديهم عبقريةٌ أو موهبةٌ للمسائل المتواضعة نسبياً لفرض الضرائب والتمويل، للتجارة والصناعة والزراعة. ولو تُرِكنا ترشدُنا فطنةُ المشرِّعين المطنبين في الكلام في الكونغرس وحدها، لا تقوِّمها الخبرة التي تأتي في أوانها والشكاوى الفعلية للناس، لما استطاعت أمريكا أن تحافظ طويلاً على منزلتها بين الأمم. منذ ألف وثمانمائة سنة، مع أني ربما لا يحق لي أن أقول ذلك، كُتِبَ العهد الجديد؛ ومع ذلك، أين هو المشرِّع الذي يملك ما يكفي من الحكمة والموهبة العملية لكي ينتفع بالنور الذي يلقيه على العلم أو على التشريع؟

إن سلطة الحكومة، حتى إذا كانت من النوع الذي أنا مستعد للخضوع له – إذ إنني سوف أطيع مبتهجاً أولئك الذين يعلَمون ويمكنوا أن يعملوا أحسن مني، وفي أشياء كثيرة حتى الذين ليسوا يعلَمون وليس بمقدورهم أن يعملوا خيراً مما أعمل – مازالت سلطةً غير طاهرة: فحتى تكون عادلة بالدقة، يجب أن تحوز على إذْنِ المحكومين وموافقتهم. ليس لها أيُّ حقٍّ محضٍ على شخصي أو ملكي إلا ما أنزل لها عنه. إن التقدم من المَلَكية المطلقة إلى المَلَكية المحدودة، ومن هذه إلى الديمقراطية، هو تقدم نحو احترام حقيقي للفرد. وحتى الفيلسوف الصيني كان من الحكمة بحيث اعتبر الفرد أساس الإمبراطورية. فهل الديمقراطية، كالتي نعرفها، آخرُ تحسين ممكن في الحكم؟ أليس من الممكن أن نخطو خطوة إلى الأمام نحو الاعتراف بحقوق الإنسان ونحو تنظيمها؟ لن تكون ثمة دولة حرة ومتنوِّرة حتى تؤول الدولةُ إلى الاعتراف بالفرد كسلطان أعلى مستقل، تُستَمَدُّ منه قدرتُها وسلطانُها، فتعاملَه على هذا الأساس. يلذ لي أن أتخيل دولةً على الأقل تطيق أن تكون عادلة مع البشر قاطبة، وتعامل الفرد باحترام كأنه جار؛ دولة لا تجد حتى أنه من لا يتناقض مع راحة بالها أن يتفق لثلة منهم أن يحيوا بمنأى عنها، لا يخالطونها، ولا تضمُّهم، وقد قاموا بواجباتهم كجيران وكرفاق بشر على التمام. إن دولةً جادت بمثل هذه الثمرة، وتمنَّت عليها أن تسقط حال نضجها، من شأنها أن تعبِّد الطريق لدولة أكمل منها وأمجد – دول تخيَّلتُها هي الأخرى، لكني لم أرها بعدُ في أيِّ مكان.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود