english

arabic

مراحل التأمُّل

 

مقابلة مع كِنْ ولبر

 

لقد توَّج كِنْ ولبر، الذي لعب كتابه الرائد موشور الوعي وهو دراسة شاملة لظاهرة الوعي - دور الوسيط المحرِّض في إقلاع ثورة علم النفس العبرشخصي transpersonal psychology، مؤلَّفاته العديدة بنشر كتابيه الهامين الجنس والإيكولوجيا والروحانية وعلم النفس التكاملي.

يقاسمنا ولبر في هذه المقابلة فهمه للتأمل ومراحله. وهو أيضاً يتطرق لـ"تجربة" التأمل التي يصرح بأنها مضللة، إذ إن حالة التأمل اللاثنوية هي بنظره حالة "لاتجريبية".

*** *** ***

س: نودّ منك أن تصف خبرات المراحل المختلفة للتأمل. ولكن حدِّثنا، أولاً، عن التأمل بحد ذاته الأنماط المختلفة وكيف تعمل.

ج: من الشائع بين الاختصاصيين تقسيم التأمل إلى فئتين عريضتين، يُصطَلَح عليهما بالتأمل "التركيزي" concentrative وبتأمل "الإدراك" awareness أو "البصيرة" insight. أو، في الواقع، بالتأمل "المفتوح" والتأمل "المغلق". لنقل، على سبيل المثال، أنك تنظر إلى جدار رُسِمت عليه مئات النقاط. تراك في التأمل التركيزي، تنظر إلى نقطة واحدة فقط، ويكون إمعانك النظر فيها من الشدة، حتى إنك لا ترى النقاط الأخرى. وهذا ينمِّي قدراتك على التركيز. أما في التدرُّب على الإدراك، أو تأمل البصيرة، فإنك تحاول أن يحيط إدراكك بالنقاط كلِّها بقدر ما تستطيع. وهذا يزيد من حساسيتك، وإدراكك، وحكمتك، بهذا المعنى.

في التأمل التركيزي، تقوم بتثبيت انتباهك على موضوع واحد صخرة، لهب شمعة، تنفسك، منترا mantra، صلاة القلب، إلى ما هنالك. إنك، بالتركيز الشديد على موضوع أوحد، تصير بالتدريج، من حيث أنت ذات، "متواحداً" مع ذلك الموضوع. بذلك تبدأ في اجتثاث ثنوية الذات/الموضوع، التي هي أساس كل شقاء ووهم. وبالتدريج، تصير مراتب وجودية أعلى فأعلى، تفضي نحو البعد الأقصى أو اللاثنوي، بيِّنة بنظرك. وبذلك تفوق ذاتك أو أنيّتك ego العادية، وتجد الأبعاد العليا والألطف للوجود البعد الروحي والبعد الفائق.

بيد أن هذا بلوغ للأبعاد العليا بـ"القوة العاتية"، إذا جاز التعبير. وعلى الرغم من كل ما يقال عن أهمية التأمل التركيزي، فإنه بحدّ ذاته لا يجتث منازعنا الأولية لإيجاد الثنوية في المقام الأول. إنه، في الواقع، يتجاهلها وحسب، يحاول اجتنابها. إنه يتوفر على نقطة واحدة ويتجاهل الأخريات جميعاً. التأمل التركيزي يستطيع قطعاً أن يرينا جانباً من المراتب العليا، لكنه لا يستطيع أن يجعل لنا مقاماً دائماً على تلك المراتب. عليك، من أجل ذلك، أن تنظر إلى النقاط جميعاً. عليك أن تتقصى كل شيء بالخبرة، بتجرّد، بدون إطلاق أحكام، بحِلْم، وببصيرة بلّورية الصفاء.

س: هذا هو تركيز البصيرة، أو تأمل الإدراك.

ج: أجل، هذا صحيح. يصطلح البوذيون على تسمية التأمل التركيزي بـشاماتها shamatha وتأمل الإدراك بـفيباسانا vipassana، أو دهيانا dhyana وبرجنا prajna. الأول يقود إلى سمادهي samadhi، أو التركيز في نقطة واحدة، والثاني إلى ساتوري satori، أو الإدراك الفائق والحكمة.

مهما يكن من أمر هذه الرياضات التأملية وهناك رياضات سواها، مثل التذهُّن visualization، والـكُوان koan، وصلاة المشاهدة، إلى ما هنالك -، فإن المغزى منها هو في كونها تحقق أمرين هامين. الأول، هو أنها تساعد على تسكين الذهن الخطابي discursive، العقلاني-الوجودي، الذهن الذي لايستطيع إلا أن يفكر طوال الوقت، الذهن الذي لايستطيع إلا أن يثرثر لنفسه طوال الوقت ويصوغ كل شيء في ألفاظ. إنها تساعد في تهدئة ذلك "الذهن القرد". وما إن يهدأ الذهن القرد بعض الشيء حتى يتيسّر للأبعاد الألطف والأعلى للإدراك أن تبزغ النفسي psychic أولاً، ثم اللطيف subtle، ثم العِلِّي causal، ومن بعد الأقصى ultimate أو اللاثنوي non-dual. تلك هي ماهية التأمل الحقيقي. إنه ببساطة سبيل إلى مواصلة التطور، مواصلة نموِّنا وتفتُّحنا. إنه، بإيجاز شديد، أرقى أشكال وأعلى مراحل علم نفس علمي تنموي. ذلك هو التأمل.

المستوى النفسي

س: هل لك أن تصف مستويات التأمل، وكيف يتم اختبارها؟ ماذا يحدث فعلياً عند كل شوط؟

ج: عندما تمارس التأمل، فإن من أول الأمور التي تدركها هو أن ذهنك وحياتك، سواء بسواء تسيطر عليها ثرثرة لفظية تحتواعية subconscious في معظمها. إنك تكلِّم نفسك على الدوام. بذلك فإن العديد من الناس، عندما يبتدئون بالتأمل، يصعقهم ذلك الكمّ الهائل من الحثالة التي تبدأ في الجريان من خلال إدراكهم. يتبيَّن لهم إلى أي حدّ تسيطر الخواطر، والصور، والتوهُّمات fantasies، والمفاهيم، والأفكار، والتصورات، على إدراكهم في واقع الأمر. يدركون أن هذه المفاهيم كان لها من التأثير على حياتهم أعمق بكثير مما كان ليخطر لهم في بال. والأنكى هو أن العديد من تلك المفاهيم ببساطة مغلوط.

خبرات التأمل الأولية، على أية حال، أشبه ما تكون بحضور فيلم سينمائي. إنك تجلس وتتفرج على كل هذه التوهُّمات والتصورات تتهادى أمام إدراكك. لكن المغزى من ذلك هو أنك تصير أخيراً مدركاً لها. إنك تنظر إليها بلا تحيُّز وبدون إطلاق أحكام. إنك تتفرج عليها وهي تمضى وحسب، مثلما تتفرج على غيوم تمخر عباب السماء. إنها تأتي، وتذهب. لا أهمية لذلك. لا ثناء، ولا إدانة، ولا حكم "شهود مجرَّد" وحسب. إذا حكمت على خواطرك، إذا وقعت في شراكها، فإنك عندئذٍ لن تستطيع أن تتجاوزها. لن تستطيع أن تتبيَّن أبعاداً أعلى أو ألطف لكيانك. لذا فإنك تجلس متأملاً، وتكتفي ببساطة بـ"شهود" ما يجري في ذهنك. إنك تترك الذهن القرد يفعل ما يحلو له، وتكتفي بالشهود.

وما يحدث هو أنك، لأنك تشهد هذه الخواطر، والتوهُّمات، والمفاهيم، والصور، شهوداً غير متحيِّز، تصير حراً من تأثيرها اللاواعي. إنك تنظر إليها، لكنك لست تستعملها للنظر إلى العالم. لذلك فإنك تصير حراً منها إلى حدٍّ ما. وتصير حراً من حسّ الذات المنفصلة الذي كان متَّكلاً عليها. وبعبارة أخرى، تبدأ بالتحرر من الأنيّة. هذا هو المستوى النفسي، البعد الروحي الأولي، حيث "تموت" الأنيّة الاتفاقية و"تُبعَث" بنى إدراكية جديدة. وبطبيعة الحال يبدأ حسّ هويتك بالتوسُّع ليحيط بالكون، أو بالطبيعة بأسرها. إنك ترقى إلى ما فوق الذهن والجسم المعزولين، مما قد يشتمل على إيجاد هوية أوسع، من نحو التماهي مع الطبيعة أو مع الكون "الوعي الكوني" cosmic consciousness، كما أسماه ر. م. بَكْ. إنها خبرة عيانية جداً لامجال إنكارها.

من نافل القول أن في الأمر ارتياحاً خارقاً! إنه بداية التجاوز، بداية العثور على طريق عودتك إلى البيت. إنك تدرك أنك واحد مع نسيج الكون، أبداً. يبدأ خوفك من الموت بالتراجع، وتبدأ بالفعل بالشعور، على نحو عياني ملموس، بالطبيعة الفائقة لكيانك.

تنبعث فيك مشاعر الامتنان والتخشُّع التخشُّع للروح، على هيئة المسيح، أو البوذا، أو كرشنا؛ أو التخشُّع لمعلِّمك الروحي الفعلي؛ وحتى التخشُّع عموماً، وبالتأكيد التخشُّع لكل الكائنات الحاسَّة الأخرى. ينبعث نذر الـبودهيساتفا bodhisattva، أياً كان شكله، من أعماق كيانك على نحو قوي جداً يكاد يكون كتفجُّر البركان. إنك تدرك أن عليك ببساطة أن تفعل كل ما بوسعك أن تفعل لمساعدة كل الكائنات الحاسَّة، ولسبب دقيق أنك، كما قال شوبنهاور، تدرك أننا جميعاً نشترك في الذات اللاثنوية أو الروح أو العقل المطلق نفسه. كل هذا يبدأ يصير بيِّناً مثله كمثل المطر على السطح على المستوى النفسي. إنه حقيقي وعياني.

المستوى اللطيف

س: وماذا عن المستوى التالي، المستوى اللطيف؟

ج: عندما تبدأ هويتك بتجاوز الجسم-الذهن الفردي المعزول، تبدأ بحدس وجود أساس وجود Ground of Being أو إله حقّ، فيما يتعدى الأنيّة، وفيما يتعدى اللجوء إلى صور الإله الأسطورية أو العلموية العقلانية أو الجسارة الوجودية. وصورة الإله هذه يمكن فعلاً مشاهدتها، والدنوّ منها، أو حدسها. كلما تفتّحتَ فيما يتعدى الجسم-الذهن الوجودي المعزول، ازددتَ تفتّحاً على الروح التي، على المستوى اللطيف، غالباً ما تُختبَر بوصفها صورة الإله Deity Form أو الذات النمطية البدئية archetypal Self. وبذلك أعني، على سبيل المثال، اختبارات عيانية جداً لنور عميق، إما لكيان نوراني، وإما لوضوح أقصى وسطوع للإدراك وحسب.

المغزى من ذلك أنك تعاين شيئاً فيما يتعدى الطبيعة، فيما يتعدى الوجودي، فيما يتعدى النفسي، وحتى فيما يتعدى الهوية الكونية. إنك تبدأ في معاينة البعد الخفي أو الباطني، البعد خارج الكون العادي، البعد الذي يفوق الطبيعة. إنك تعاين النور، وأحياناً يسطع هذا النور حرفياً سطوع نور ألف شمس. إنه يغمرك، يقوّيك، يشحنك بالطاقة، يعيد صنعك، يرويك. هذا ما أسماه الاختصاصيون الطبيعة "القدسية" numinous للروح اللطيفة. مروِّعة ونورانية. هذا، بلا ريب، سبب تصوير القديسين عالمياً بهالات من نور تحفّ برؤوسهم. هذا بالفعل ما يعاينون. النور الإلهي. نصّي المفضل من دانتي:

مثبِّتاً بصري على النور الأبدي

عاينت ضمن أعماقه،

مشدودة بالمحبة معاً في كتلة واحدة،

الأوراق المبعثرة للكون بأسره.

ضمن البقاء النوراني العميق

لذلك النور الأسنى شاهدت ثلاث دوائر

ذات ثلاثة ألوان إنما ذات بعد واحد

ولاحت الثانية منها تعكسها الأولى

كما يعكس قوسُ قزح قوسَ قزح، والثالثة

لاحت ناراً تتنفسها الأخريان على حدّ سواء.

ذلك ليس مجرّد شعر. ذلك يكاد يكون وصفاً رياضياً لنمط معيّن من الخبرة على المستوى اللطيف. ذلك ليس مجرّد فن، ذلك علم. على أية حال، يمكنك أيضاً أن تختبر هذا المستوى كاكتشاف لذاتك العليا، نفسك، الروح القدس. "من عرف نفسه عرف الله"، كما قال القديس كليمنضوس.

س: وماذا عن الخبرة الفعلية نفسها؟

ج: الخبرة الفعلية هي طيب، هي أشبه ما تكون بهذا. هَبْ أنك تسير في مركز المدينة، ناظراً إلى واجهات المحالّ. إنك تنظر إلى بعض البضائع، وبغتة، ترى صورة مبهمة تتراقص أمام عينيك، صورة شخص. ثم تدرك من فورك أنها انعكاسك نفسه على واجهة المحلّ. تتعرّف فجأة إلى نفسك. تتعرّف إلى ذاتك، ذاتك العليا. تتعرف فجأة إلى ذاتك الأصلية أو عقلك الأصلي، وتتعرّف إلى هوّيتك. وهوّيتك شرارة نورانية من الألوهة. لكن في الأمر صدمة التعرُّف "ياه، ذلك أنا!"

إنه إدراك عياني جداً، وهو عادة مجلبة للكثير من الضحك أو للكثير من الدموع. صورة الإله اللطيفة أو النور أو الذات العليا تلك جميعاً مجرد أنماط بدئية لكيانك أنت. إنك تلتقي، عبر التفتُّح التأملي، مع الروح وتبدأ لقاء مباشراً معها، مع ماهيّتك نفسها. لذا فإنها تظهر على هيئة نور، على هيئة كائن من نور، على هيئة نادا nada أو شبدا shabda، على هيئة صفاء، قدسيّة numinosity، إلى ما هنالك. وأحياناً تظهر كمجرّد إدراك بسيط واضح للـموجود what is بسيط جداً، وواضح جداً. المغزى من هذا أنها تصير مدركة لنقاط الجدار كافة. إنها تدرك بوضوح ما يحدث لحظة إثر لحظة، وبذلك تتجاوز اللحظة. إنها تفوق هذا العالم، وتبدأ بالتشبُّه بالألوهة. تصير لديها إطلالة مقدسة، إنما يمكن التعبير عنها. ذلك هو المستوى اللطيف وجه لمواجهة التقديم للألوهة. إنك تشترك في الإله فعلياً، وفي إدراك الإله وحكمته. الأمر عبارة عن ممارسة. يمكن القيام به. لقد تمّ القيام به، مرات عديدة.

المستوى العِلِّي

س: هذا واضح جداً. فماذا عن المستوى التالي، المستوى العِلِّي؟

ج: أنت جالس هناك، تشهد وحسب كل ما يبزغ في ذهنك، أو في خبرتك الراهنة. إنك تحاول أن تشهد، على حدّ سواء، جميع النقاط على جدار إدراكك. إذا أتقنت هذا، فإن النقاط العقلانية والوجودية تتلاشى مع الوقت، وتبدأ النقاط النفسية تصير بؤرة التركيز. ثم، بعد فترة، يتحسن شهودك، فتبدأ موضوعات أو نقاط ألطف بالظهور. وهذه تشمل أنواراً واستنارات مسموعة وصوراً إلهية لطيفة إلى ما هنالك. إذا واصلت الشهود ببساطة الأمر الذي يعينك على الفكاك من تواحدك مع الصور الأدنى والأغلظ، وعلى إدراك الصور الأعلى والألطف فإن الموضوعات أو النقاط اللطيفة حتى تكفُّ عن البزوغ. إنك تلج حالة عميقة من عدم التجلِّي non-manifestation، يتم اختبارها، لنقل، مثل ليلة خريفية بدرها تمام. ثمة في الأمر كلِّه رهبة وقدسية جميلة، لكنها قدسية "صامتة" أو "سوداء". إنك لا تستطيع أن ترى حقاً شيئاً سوى نوع من التمام الفضّي يملأ الفضاء. غير أنك، إذ لا ترى فعلاً أي موضوع معيَّن، فإن الأمر أيضاً نمط من الفراغ الجذري. فكما يقول الزِنْ: "أوقف صوت ذلك الجدول." هذا ما يُعرَف بأسماء متنوعة، من نحو شنياتا shunyata، سحابة عدم المعرفة، الجهل الإلهي، السرّ الجذري، نيرغونا ("بدون صفات") برهمن nirguna Brahman، إلى ما هنالك. إشعاع ساطع، فضي، لا توجد موضوعات تنتقص منه.

لهذا شعور روحي طاغ. يصير من البيِّن تماماً أنك واحد وحدة مطلقة مع هذا الامتلاء، تفوق كل العوالم وكل المراتب وكل الزمن وكل التاريخ. إنك ممتلئ امتلاء كاملاً، وبالتالي أنت فارغاً فراغاً كاملاً. "هو كل الأشياء، وهو لاشيء"، على حد قول الصوفي المسيحي بنْمِن. الرهبة تخلي السبيل لليقين. بالطبع، هذا ما هو أنت، قبل كل تجلٍّ، قبل كل العوالم. إنه يدعى "رؤية وجهك الأصلي"، "الوجه الذي كان لك قبل أن يولد والداك". إنه، بعبارة أخرى، رؤية مَن أو ما أنت أبداً.

ذلك هو المستوى العِلِّي؛ ذلك جنانا سمادهي jnana samadhi، ذلك نيرفيكالبا سمادهي nirvikalpa samadhi، إلى ما هنالك. النفس، أو حسّ الذات المنفصلة، تختفي، والله God، أو الإله المنفصل، يختفي، لأن كلاهما النفس والله ينهار في رأس الله Godhead. كلا النفس والله يتوارى في الهوية العليا. إنك تختبر انعتاقاً عميقاً، تحقق أعلى ذروة يبلغها كيانك، الذي هو واحد جذرياً مع رأس الله. تلك خبرة مباشرة وفذة، خبرة لا مجال فيها بالكلية للارتياب، سواء حصلت في شكل مسيحي، أو بوذي، أو هندوكي، أو أي شكل آخر. لا مجال للارتياب.

المستوى اللاثنوي

س: بذلك لا يبقى إلا المستوى الأخير، المستوى اللاثنوي.

ج: أجل. في المستوى العِلِّي السابق، تكون من الانغماس في البعد غير المتجلِّي بحيث أنك لا تلحظ حتى العالم المتجلِّي. إنك تكتشف الفراغ، وبذلك تتجاهل الشكل. غير أنك في المستوى الأقصى أو اللاثنوي تستدمج الاثنين. يتبيَّن لك أن الفراغ يظهر أو يتجلّى شكلاً، وأن ماهيّة الشكل هي الفراغ. وبعبارة أكثر عيانية، أن ماهيّتك هي كل الأشياء التي تبزغ. التجلِّي كلّه يبزغ، لحظة إثر لحظة، بوصفه لعبة الفراغ. فلئن كان العِلِّي مثل ليلة مشعة يضيئها القمر، هذا مثل نهار خريفي مشعّ.

وبعبارة أخرى، ما يظهر على أنه موضوعات صماء أو صلبة "في الخارج" هو في الحقيقة تجلِّيات شفافة شعشعانية للألوهة. إنها ليست عوائق أمام الله. لذا فإنها فارغة بمعنى أنها ليست رتجاً أو حائلاً. إنها تعبير حرّ عن الألوهة. فكما يقول منقول المهامودرا بإيجاز: "كل شيء هو العقل. العقل فارغ. الفارغ حرّ التجلِّي. حرّ التجلِّي ذاتي التحرر."

الحرية التي وجدتها على المستوى العِلِّي حرية الامتلاء والفراغ تلك الحرية يتبيَّن لك أنها تنسحب على كل الأشياء، حتى على عالم الخطيئة أو سمسارا samsara "الساقط" هذا. لذا فإن كل الأشياء تصبح ذاتية التحرر. وهذه الحرية الفذة، أو غياب الحدود، أو الانعتاق الكامل هذا النهار الخريفي الساطع الصافي هو ما تختبر فعلياً عند هذا الشوط. لكن كلمة "خبرة" هي الكلمة الخاطئة بالكلية. هذا التحقُّق هو فعلياً من طبيعة الروح غير القابلة للاختبار. الخبرات تأتي وتذهب. لكل منها بداية في الزمن ونهاية في الزمن. حتى الخبرات اللطيفة تأتي وتذهب. كلها رائع، مجيد، فذ. وهي تأتي، وهي تذهب.

أما "الحالة" اللاثنوية فليست بحد ذاتها خبرة جديدة. إنها ببساطة الفسحة أو المجال الذي تبزغ فيه وتقع كل الخبرات. إنها السماء الخريفية الساطعة التي تأتي السحب عبرها وتمضي وهي ليست بذاتها سحابة أخرى، خبرة أخرى، موضوعاً آخر، تجلياً آخر. هذا التحقق هو في الواقع تحقق من العقم التام للخبرة، ومن العبثية التامة لمحاولة اختبار الانعتاق أو التحرر. كل الخبرات تلك السحب العابرة تفقد مذاقها بالكلية.

لست أنت مَن يختبر التحرر؛ أنت المجال، الفسحة، الفراغ، الذي تأتي فيه كل خبرة وتذهب، مثل الانعكاسات على المرآة. وأنت المرآة، العقل-المرآة، ولست أي انعكاس مختبَر. لكنك لست معزولاً عن الانعكاسات، لكنك تقف في الخلف مراقباً. بوسعك أن تبتلع الكون برمّته جرعة واحدة، من فرط ما هو صغير، وبإمكانك أن تتذوق السماء كلها بدون أن تتحرك قيد أنملة.

لذلك يقال، في الزِنْ Zen، إنك لا تستطيع أن تلج الـسمادهي العظيم: إنه في الواقع الفسحة أو المجال الحاضر أبداً، الذي فيه تبزغ فيه كل خبرة وكل تجلٍّ لحظة بعد لحظة. يبدو وكأنك "تلج" هذه الحالة، بيد أنك ما إن تكون فيها حتى تدرك أنه لم يكن ثمة زمن لم تكن هذه الحالة كاملة الحضور وكاملة التعرُّف "الباب الذي لا باب له". وبذلك تفهم عميقاً أنك لم تلج هذه الحالة قط؛ وأن البوذاوات، القدماء منهم والمقبلين، لم يلجوا هذه الحالة قط.

هذا، في الدزونغ تشِن Dzong Chen، هو التعرف إلى طبيعة العقل الحقّة. كل الأشياء، في العوالم قاطبة، ذاتية التحرر في بزوغها. مثل كل الأشياء كمثل نور الشمس على صفحة بركة. الكل يلتمع. كل شيء فارغ. كل شيء نور. كل شيء ممتلئ، وكل شيء متحقق.

*** *** ***

مفردات (من إضافة المترجم):

منترا mantra: وسيلة لاستنزال الطاقات اللطيفة تتم بتلاوة "ورد" من أجل بلوغ الطهارة النفسية والذهنية أو سكينة الفكر.

صلاة القلب: نصُّها "يا يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني، أنا الخاطئ". تتم تلاوتها في الطريقة "السكينية" على إيقاع التنفس ثم على إيقاع القلب، بحيث يتم إخلاء الذهن من دفق الصور والخواطر و"إنزالها" في "القلب"، مستقر الروح القدس ومضجع العرس الإلهي.

كُوان koan: في بوذية زن، أحجية يطرحها المرشد كمادة للتفكُّر، تبدو وكأنها خلو من أي منطق أو معقولية، وعلى المريد أن يقدم جوابه المعبِّر ليس عن فهمه الذهني، المتعذَّر بالتعريف، بل عن فهمه العميق النابع من خبرته الروحية.

بودهيساتفا bodhisattwa: الكائن العتيد أن يصبح بوذا وينذر حياته لمساعدة الكائنات جميعاً على بلوغ النيرفانا.

نادا nada: صوت مسموع بالأذن الباطنة، هو الرَّجع النفسي لـ"صوت" الروح. غالباً ما يملي على المرء ما يجب عليه اجتنابه.

شنياتا shunyata: "الفراغ" في العقيدة البوذية.

نيرغونا برهمن nirguna Brahman: برهمن "بلا صفات"، الإله المطلق. يقابله سغونا برهمن saguna Brahman، برهمن "ذو الصفات"، الإله الشخصي.

جنانا سمادهي jnana samadhi أو نيرفيكالبا سمادهي nirvikalpa samadhi: أعلى درجات التأمل، حالة الوعي الفائق المجرَّد من الموضوع.

سمسارا samsara: عجلة الولادة والموت التي يستمر دورانها بالنسبة لأحدهم مادام لم ينعتق من الرغبة في موضوعات الحس.

الدزونغ تشِن Dzong Chen: طريقة باطنية تيبتية.

 

أهم مؤلفات كِنْ ولبر (التاريخ بعد عنوان الكتاب هو تاريخ الطبعة الأولى منه):

Ken Wilber, The Spectrum of Consciousness (1977). Quest Books, Wheaton, Ill., 1996 (2nd ed.).

--------------, No Boundary: Eastern and Western Approaches to Personal Growth (1979) Shambhala Publications, Boston, 1985.

--------------, The Atman Project: A Transpersonal View of Human Development (1980). Quest Books, Wheaton, Ill., 1996.

--------------, Up from Eden: A Transpersonal View of Human Evolution (1981). Quest Books, Wheaton, Ill., 1996.

--------------, The Holographic Paradigm and Other Paradoxes: Exploring the Leading Edge of Science (1982). Shambhala Publications, Boston, 1985.

--------------, A Sociable God: Toward a New Understanding of Religion (1982). Shambhala Publications, Boston, 1984.

--------------, Eye to Eye: The Quest for the New Paradigm (1983). Shambhala Publications, Boston, 1996 (3rd ed.).

--------------, Quantum Questions: Mystical Writings of the World’s Great Physicists (1984). Shambhala Publications, Boston, 1985.

--------------, Jack Engler & Daniel P. Brown, Transformations of Consciousness: Conventional and Contemplative Perspectives on Development (1986). Shambhala Publications, Boston, 1986.

--------------, Dick Anthony & Bruce Ecker (Editors), Spiritual Choices: The Problems of Recognizing Authentic Paths to Inner Transformation (1987). Paragon House, New York, 1987.

--------------, Grace and Grit: Spirituality and Healing in the Life and Death of Treya Killam Wilber (1991). Shambhala Publications, Boston, 1983.

--------------, Sex, Ecology, Spirituality: The Spirit of Evolution (1995). Shambhala Publications, Boston, 1995.

--------------, A Brief History of Everything (1996). Shambhala Publications, Boston, 1996.

--------------, The Eye of Spirit: An Integral Vision for a World Gone Slightly Mad (1997). Shambhala Publications, Boston, 1998.

--------------, The Marriage of Sense and Soul: Integrating Science and Religion (1998). Random House, New York, 1998.

--------------, The Essential Ken Wilber: An Introductory Reader (1998). Shambhala Publications, Boston, 1998.

--------------, One Taste: The Journals of Ken Wilber (1999). Shambhala Publications, Boston, 1999.

--------------, Integral Psychology (2000). Shambhala Publications, Boston, 2000.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود