عولمة الرعب

الرؤيا حين تسبق الحدث

 

محمود شريح

 

حين أصدر د. يوسف الأشقر مؤلَّفه عولمة الرعب، وعَقَدَ فيه فصولاً موثَّقة على ما قد ينجم "عن حملة بربرية مركَّزة يقوم بها بضعة أشخاص" (ص 13)، فتدمِّر اقتصادًا لسنين أو عقود، وما يعقب ذلك من قيام "الآلة الحربية الأمريكية أو الإسرائيلية أن تقهر دولاً وتحرق أوطانًا" (ص 13)، اعتقدنا أنه يمزح؛ وحين أشار إلى أن ذلك قد يتمُّ خلال ساعات أو أيام، خلنا أنه يبالغ؛ وإذ ألمح إلى أن تلك الساعات أو الأيام كانت "ما يستلزم الجيوش الرومانية، في الماضي البعيد، والقوات المسلَّحة الاستعمارية، حتى منتصف القرن العشرين، أعوامًا أو عقودًا" (ص 13)، آمنَّا بأنه ينذرنا بالهول.

 

كان ذلك صوب نهاية العام 2001، مع أن يوسف الأشقر كان دفع بكتابه إلى المطبعة قبل أحداث الحادي عشر من أيلول. ثم رويدًا رويدًا، تكشَّف لنا أن أبا فرات، يوسف، رفيقنا وأخونا، لم يقل إلا الحق ولم يشط عن الصواب – ولاسيما أنه رأى في محاضرة له ألقاها بالفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق (عرَّبتْها نورس ميرزا) في 30/1/1987 أن الجزء الشرقي من المتوسط يتعرَّض حصنُه الإنساني العمراني (الهلال الخصيب) لحملة تستهدف، بدءًا بجبل لبنان، زوالَه الفيزيائي والثقافي والخلقي – فتجددتْ ثقتُنا في رؤيته. فما إن مرَّ عام على طباعة عولمة الرعب وثَبَتَ، ببرهان قاطع، رعبُ العولمة، كان لا بدَّ ثانية من شقِّ صفحات هذا المؤلَّف. فصاحبُه عاين، برويَّة واستقامة، أننا "قد نكون، في هذا القرن، أول من يواجه مفترقًا فاصلاً حقيقيًّا في حياة هذا الكوكب، لاستمراره أو زواله" (ص 12)، فلم يخطئ ولم يقل إلا الصواب.

منطلق الأشقر أن النظام العالمي الجديد، الناهض على قاعدة الإمبريالية–النيوليبرالية، تقوده قوتان جامحتان: "القوة العظمى الأمريكية–الإسرائيلية، وقوة السلطات العظمى المالية الجديدة" (ص 21). وفي حين يرى الأشقر أن هذه عولمة تحكمُها عقيدةٌ متخلفة واعتدائية تعود إلى الإرث الإمبراطوري وقمَّته الرومانية في التاريخ القديم، يلحُّ على أن خلقيَّتها سليلة الإرث الإمبراطوري نفسه حتى "فلاسفة" شركة الهند البريطانية؛ وهي عولمة ينهل مفهومُها الصِّدامي من عصور الحروب الدينية وعقليَّتها الخلقية، وبعضُه يعود إلى قيم الطور القبلي البدائي. إنها، في وضوح، عقيدة سلفية اعتدائية بامتياز. ونحن، من صوبنا، نأمل ألا تكون أكثر من ذلك؛ ولكن يلوح، إلى الآن، أنها كذلك.

ولا يغيب عن بال المؤلِّف أن أسياد هذا النمط من العولمة يزعمون، زورًا، أنها ثمرة إبداعهم الفريد والجديد، وأنها "نهاية التاريخ"، أي خلاصته الأخيرة وقمته. وعليه، فهو يلحُّ على أن هذا الإصرار، من ناحية القوة العظمى الأمريكية–الإسرائيلية، على اعتماد مبادئ ومفاهيم مختلفة وفَرْضِها على العالم هو ما عَوْلَمَ الخطر. هذا هو لبُّ الفصل الأول من عولمة الرعب: "النظام العولمي: ماضٍ متخلِّف أصبح خطرًا" (ص 13-48).

أما في الفصل الثاني – "مكافحة الإرهاب: هرب إلى الأمام" (ص 49-73) – فيُسهِب المؤلِّف في إيضاح أن الردَّ الأمريكي على اعتداءات على أمريكا في ضوء عقيدة "صِدام الحضارات"، وتحت خانة "مكافحة الإرهاب" بالصيغة الإسرائيليةِ الأصلِ التي تعتمدها أمريكا، من شأنه "أن يعمِّم العنف بين الدول ذات المواقف المتباينة من المشروع وذات المصالح المتضاربة بفعل أحكامه (ص 67)؛ أي أن هذه "الدعوى" ضد "الإرهاب" سوف تعمِّم العنف في داخل المجتمعات وفي ما بين الدول ومجتمعاتها، كما قصد إسرائيل منه في الأصل حين أراد فَرْضَه على الدول العربية، وكما اعتمده في فلسطين حتى الساعة – وعينُ المؤلِّف في كلِّ ما يسوقه من حجج على أن الكارثة المحتملة قد تتخطى الكوارث السابقة جميعًا. وها نحن، بعد سنة على هذه الرؤية، تطل الكارثةُ علينا – وإنْ تهويلاً؛ فالحرب أوَّلُها كلام.

أما الفصل الثالث – "الرعب الأمريكي" (ص 79-102) – أي بيت القصيد في هذا المبحث المُحْكَم أصله وفصله، جذره وفرعه، فهو نبوءة ومرثية في آنٍ واحد: نبوءة لما قد يحصل من هجوم بيولوجي على مدينة أمريكية تنفِّذه مجموعة إرهابية؛ ومرثية لما قد ينجم عن ذلك. فإذا النبوءة والمرثية معًا رؤيا يوسف الأشقر؛ وهي – والعياذ بالله – كارثية ومفجعة. فكأنها ما حلَّ بعاد، إرم ذات العماد، دُكَّتْ دكًّا، أو سدوم، دُرِسَتْ درسًا، مُسِخَتْ مسخًا.

كنَّا يوم أصدر د. الأشقر عولمة الرعب بين يدينا، لسنة خلت، نخال إن في الرؤية شططًا سورياليًّا، وصاحبَنا من جماعة ندوة "شعر" في عمدها الذهبي، أو غلوِّ عقيدة، ورفيقنا رأس الحزب القومي، آخر نفس علماني في المشرق، إلى أن تُطبِق السماء على الأرض، عدَّة مرات. لكن يثبت، يومًا عقب يوم، أن خريطة المشرق، بجغرافيتها وتاريخها السياسي، آخذة في التحوُّل، وربما الانزياح، إلى مناحة كبرى، عزَّ نظيرها، قبل أن تنقضي مناحتُنا على فلسطين، تجزع منها الأفئدة وتنخلع لها القلوب، فتكون ميتة غريبة وغضب لا رحمة معه. عندئذٍ نفوس عائشة تحت رحمة القسطل الأمريكي، المنحازة فوهتُه إلى إسرائيل، والمصوَّب على عمق الهلال الخصيب. فما لم يقوَ عليه سايكس–بيكو، يطمح إليه التطرُّف الأمريكي والتصلُّب الإسرائيلي – وها هما اليوم، متَّحدين، يرغبان في اقتحام المنطقة من ساحلها إلى تخوم صحاراها. فاستشرف المؤلِّف العاقبة؛ وكان رأى أن قرار الحرب كان متخَذًا من قبلُ (حين كان الرئيس في الساعات الأولى وفي الخطاب الأول الذي وجَّهه إلى الشعب الأمريكي وإلى العالم بعد العملية "الإرهابية البيولوجية المفترضة"، أعلن قرار الحرب على الذين أعلنوها على أمريكا) (ص 112). على هذا النحو يعلن الأشقر، صائبًا، أن الحرب على الإرهاب هي العقيدة القديمة إياها للحرب الأمريكية الجديدة، "وهي ستصبح عقيدة العلاقة الأمريكية بالعالم الخارجي، أي العقيدة المتقدِّمة في النظام العالمي الجديد" (ص 113).

فيا ما شاء الله إنْ صَدَقَ حدسُ رفيقنا في العقيدة، وأنْعِم وأكْرِم بشرعة حقوق بني آدم، وصلِّ وسلِّم وودِّع! فأبواب الجحيم شُرِّعَتْ، أي حانتْ "عولمةُ الرعب"، مداد الفصل الرابع (ص 103-134)؛ ولترجع النفس المطمئنة إلى ربِّها "راضية مرضية"! فها نحن، من مسقط على الخليج إلى طنجة فوق المحيط، تَفْجأنا الأهوالُ، ويُعطِبُنا الجدب، ولا من نصير إلا الله. فعينه على طرقهم – فالمستكبرون ترفَّعوا قليلاً ثم لم يكونوا.

في الفصل الخامس – "المستقبل: الصراع الحضاري لا صِدام الحضارات" (ص 135-162) – يلحُّ الأشقر على أن المفاهيم الأمنية تصدر عن ثقافة: فإذا كان الانفتاح صفة العالم القديم ودورته التاريخية، كان الانغلاق سمة دورة الإمبراطورية اللاحقة له. ولكن هاتين الثقافتين كانتا قائمتين في كلا الدورتين، وإن طغتْ إحداهُما على الأخرى، إذ عبَّرتا "عن نزعتين قائمتين أبدًا، على تناقضهما، في كل متَّحد إنساني، في المجتمع الواحد، تتقدَّم إحداهما على الأخرى في عصر، وتتراجع، لمصلحة الأخرى، في عصر آخر" (ص 149).

قَصَدَ المؤلِّف من كلِّ تفنيده هنا الوصولَ إلى أن القوة العظمى في القرن الحادي والعشرين تمثِّل "المفهوم الأمني الإمبراطوري"، بكلِّ وجوهه العنفية، السياسية والعسكرية والمالية، ثم الصِّدامية الحضارية، مما خلق عالما متفجرًا، جاء صعودُ الإرهاب في سياقه، "واكتشفتْ القوة العظمى صعودَ الإرهاب وعنفَه الجديد، لكنها لم ترَ الرابط السببي بين عنفها وعنفه، أو هي لم تعترف بذلك" (ص 123).

على هذا النحو يتحوَّل مبحث يوسف الأشقر إلى رصد لفساد الإرث الثقافي الذي يصدر عن "المفهوم الأمني الإمبراطوري"، فيحلِّق رفيقُنا الأشقر عاليًا في كشفه عن ميتافيزيقا العنف الكامنة في إجحاف الرأسمالية المعتدة قائلة: "يا أرض اشتدي!"

وها نحن في زمن الرعب الأمريكي – فعلى الديموقراطية السلام، وفي النفوس الغُصَّة!

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 7 كانون الثاني 2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود