english

 مـا الفـن؟[1]

رابندرانات طاغور

 

إنَّنا لَنقف وجهًا لوجه أمام هذا العالم العظيم، على تعدد في جوانب علاقتنا به. ومن هذه الجوانب ضرورةُ العيش: فنحن مضطرون إلى حراثة الأرض وجمع القوت وحياكة الكساء والحصول على المواد من الطبيعة لصنع أشياء تلبي حاجاتنا. ولما كان لا بدَّ لنا من أن نكدح أبدًا لإشباع هذه الحاجات فقد غدونا على تماسٍ دائم مع الطبيعة. وبهذا فإننا دومًا على تماسٍ مع هذا العالم العظيم من خلال الجوع والعطش وسائر حاجاتنا الطبيعية.

ثم إن لنا ذهنًا أيضًا، وهذا الذهن يبحث عن غذائه الخاص؛ إذ إن له هو أيضًا حاجاتِه. فعليه أن يعثر على معنًى في الأشياء. فهو يواجه جملةً متنوعةً من الوقائع، وهو يحار حين لا يستطيع أن يعثر على مبدأ موحِّد واحد يبسِّط تنوع الأشياء. والإنسان مطبوع على نحو لا يستطيع معه أن يكتفي بالوقائع، بل لا بدَّ له من أن يجد قوانين معينة تخفف عنه عبء العدد والكم المجردين.

وإلى ذلك، فهناك إنسان آخر فيَّ، ليس الإنسان الجسماني، بل الإنسان الشخصي؛ ولهذا الإنسان ما يستحب وما يستكره، وهو يود أن يجد شيئًا يُشبِعُ حاجاتِه إلى الحب. وهذا الإنسان الشخصي ينتمي إلى المجال الذي نكون فيه متحررين من كلِّ ضرورة – فوق حاجات الجسم والذهن كليهما، فوق النافع والمفيد. وهذا الإنسان الشخصي هو أسمى ما في الإنسان؛ وله علاقاته الخاصة، الشخصية، بالعالم الكبير، وهو يأتيه طلبًا لشيء يُشبِعُ الشخصية.

أما عالم العلم الطبيعي فليس بعالم الواقع، وإنما هو عالم القوى المجرد. ونحن نستطيع أن نستفيد منه بمعونة عقلنا، ولكننا لا نستطيع أن ندركه بمعونة شخصيتنا. إنه أشبه ما يكون بسرب من الحرفيين، على كونهم ينتجون أشياء من أجلنا بوصفنا كيانات شخصية، فليسوا إلا مجرد ظلال في نظرنا.

ولكن هناك عالمًا آخر بعدُ هو حقيقي في نظرنا. فنحن نراه، ونشعر به، ونتعامل معه بمشاعرنا كلِّها. إن سرَّ هذا العالم لا نهاية له لأننا لا نستطيع أن نحلِّله ولا أن نقيسه، وإنما نستطيع أن نقول فحسب: "ها أنت ذا هنا!"

وهذا العالم هو الذي يُعرِضُ عنه العلمُ ويتخذ فيه الفن مكانه. وحين يتاح لنا أن نجيب عن سؤال ماهية الفن فسوف نعلم أي عالم عساه أن يكون ذلك العالم الذي يعقد الفن مثل هذه الصلة الوثيقة معه.

على أن هذا ليس بالسؤال الهام في حدِّ ذاته. ذلك لأن الفن ينشأ، كالحياة ذاتها، من دافع خاص به، والإنسان يستمتع به دون أن يستجلي ماهيته استجلاءً دقيقًا. ولعل الأحرى بنا أن ندع المسألةَ هناك، في أغوار الوعي، حيث الأشياء الحية تقتات في الظلام.

ولكننا نعيش في عصر ينقلب فيه عالمنا باطنًا على ظاهر، ويُجَر إلى السطح كل ما كان يكمن خفيًّا في القاع. بل إننا يجب أن نُخضِعَ سيرورة عيشنا نفسها – وهي سيرورة غير واعية – للفحص المعرفي، حتى إذا كان ثمن المعرفة هو قتل موضوع البحث وتحويله إلى عيِّنة متحف!

لقد طُرِحَ سؤالُ "ما الفن؟"، وأجاب عنه أشخاص كُثُر بطرق مختلفة. وقد دأبت مثل هذه المناقشات على أن تُدخِلَ عناصر من القصد الواعي إلى مجال تتسم فيه ملَكاتُ الإبداع والاستمتاع لدينا بالعفوية ولا تكون إلا نصف واعية. وهي ترمي إلى تزويدنا بمقاييس محددة كلَّ التحديد من شأنها أن تقود أحكامنا على الأعمال الفنية. ولهذا فقد سمعنا في الزمان الأخير قضاةً يصدرون حكمًا مبرمًا، بموجب قواعد وضعوها بأنفسهم، بخلع خالدين لم يُشكَّك في تفوقهم إبان قرون عن عروشهم.

وقد بلغ هذا الخللُ المناخي في أجواء نقد الفن، الذي يرجع بأصله إلى الغرب، سواحلنا في البنغال، معكرًا في أعقابه صفو سمائنا بالضباب والسحب. فقد أخذنا نتساءل: هل ينبغي أن يُحكَم على ضروب الإبداع في الفن تبعًا لملاءمتها لأن تغدو مفهومةً عالميًّا، أم تبعًا لتأويلها الفلسفي للحياة، أم تبعًا لفائدتها في حلِّ مشكلات الساعة، أم تبعًا لتعبيرها عن شيء خاصٍّ بعبقرية الشعب الذي ينتمي إليه الفنان؟ وإذًا فحين يكون الناس جادين كلَّ الجِدِّ في وضع معيار القيمة في الفن بمقياس لا صلة له البتة بطبيعته أو، في عبارة أخرى، حين يُحكَم على روعة النهر من وجهة نظر قناة، لا نستطيع أن ندع الأمور تجري على أعنَّتها، بل لا مناص لنا من الاشتراك في المداولات.

فهل يحسن بنا أولاً أن نعرِّف بالفن؟ ولكن تعريف المرء بشيء ذي نموٍّ حيٍّ هو أشبه بتضييقه مجال نظره ليتمكن من الرؤية بوضوح. والوضوح ليس بالجانب الوحيد أو الأهم من جوانب حقيقة ما. إن النظرة التي يتيحها المصباحُ اليدوي نظرةٌ واضحة، لكنها ليست نظرة تامة. إذا أردنا أن نتعرف إلى عجلة متحركة، لا يهمنا ألا نستطيع إحصاء أعداد أشعتها؛ وحين لا يكون مدار المسألة دقة شكل العجلة، بل سرعة حركتها، فلا بدَّ لنا أن نكتفي بتعريف للعجلة ناقص بعض الشيء. ذلك أن للأشياء الحية صلاتٍ بعيدةَ المدى مع بيئتها، بعضها غير مرئيٍّ ويضرب بجذوره عميقًا في الأرض. وقد يتفق لنا، في غمرة حماستنا للتعريف، أن نقتطع من الشجرة أغصانها وجذورها لنحوِّلها إلى حطبة تسهل دحرجتُها من صفٍّ إلى صف، بما يجعلها مناسِبة لكتاب مدرسي. لكن كون الحطبة تتيح رؤيةً مجردةً أوضح عن نفسها لا يجيز لنا القول إنها تعطي رؤيةً أصدق عن الشجرة ككل!

لذا لن أورد تعريفًا بالفن، بل سأتساءل عن علَّة وجوده، وسأحاول أن أجد إنْ كان يدين بأصله لغرض اجتماعيٍّ ما، أو للحاجة إلى تغذية متعتنا الجمالية، أم أنه قد نشأ من دافع ما إلى التعبير، هو دافع كياننا نفسنا.

لقد اختصم الناسُ طويلاً حول مقولة "الفن للفن" التي يبدو أن سمعتها ساءت بين طائفة من النقاد الغربيين. وتلك آية على عودة المثال التنسكي للعصر الطهراني، حين كانت المتعة من حيث هي غاية في حدِّ ذاتها تُعَد من قبيل الإثم. ولكن كلَّ نزعة طهرانية إنما هي ردة فعل؛ وهي لا تمثل للحقيقة في مظهرها السوي. فعندما تفقد المتعةُ تماسها المباشر مع الحياة، فتزداد تطلبًا وغرابةَ أطوار في عالم خاصٍّ بها من الأعراف المعقدة، إذ ذاك تأتي الدعوةُ إلى الزهد التي ترفض السعادة نفسها بوصفها أحبولة للفساد. ليس في نيتي أن أسترسل في تاريخ فنِّكم الحديث، الذي لست مؤهلاً لمناقشته على الإطلاق؛ ومع ذلك، فأنا أستطيع أن أؤكد، كحقيقة عامة، أن الإنسان، حين يحاول أن يقمع دافع المتعة عنده وأن يختزله إلى مجرد رغبته في المعرفة أو في عمل الخير، فلا بدَّ أن يكون السبب في ذلك أن قدرته على الشعور بالبهجة قد فقدت نضارتَها الطبيعية وصحتَها.

على أن البلغاء في الهند القديمة لم يتحرجوا من القول بأن المتعة – المتعة غير الأنانية – هي روح الأدب. ولكن كلمة "متعة" يجب أن تُستعمَل في حذر. فعندما نحلِّلها، يعرض لنا طيفُها سلسلةً لا نهاية لها من الأشعة ذات ألوان وشدات مختلفة تبعًا لاختلاف عوالم نجومها. ذلك أن عالم الفن يتضمن عناصر هي عناصره حصرًا، وهذه تبث أنوارًا ذات أمداء وخواص تتميز بها؛ ومن واجبنا أن نميِّزها وأن نتتبع أصلها ونشأتها.

إن أهم الفروق بين الحيوان والإنسان تتمثل في أن الحيوان يكاد أن يكون حبيس حدود غرائزه؛ إذ إن الجزء الأعظم من نشاطاته يُعَد ضروريًّا للمحافظة على النفس وللمحافظة على النوع. وهو، مثل صاحب متجر للتجزئة، لا يجني ربحًا كبيرًا من تجارته في الحياة؛ إذ إن معظم مدخراته يجب أن ينفَق لتسديد الفائدة لمصرفه. وغالبية موارده تُستعمَل في مجرد السعي في العيش. أما الإنسان فهو، في سوق الحياة، تاجر كبير: إذ إنه يجني أكثر كثيرًا جدًّا مما يضطر إلى إنفاقه بإطلاق. لذلك تمتاز حياةُ الإنسان بفيض هائل من الثروة يمنحه الحرية في التحلل إلى حدٍّ كبير من عبء النفع والمسؤولية. ثمة مجالات واسعة منداحة تطوِّق حاجاته، يحتفظ فيها بأغراض ليست أهدافًا في حدِّ ذاتها.

وتحتاج الحيوانات إلى معلومات محددة تستعملها من أجل أغراض مفيدة لحياتها، ولكنها تكتفي بذلك. فعليها أن تعرف بيئتها لتتمكن من العثور على مأواها ومن التفتيش عن قوتها، وأن تعرف بعض خواص الأشياء لكي تبني لنفسها المساكن، وأن تعرف بعض علائم الفصول المختلفة لكي تتهيأ للتكيف مع التغيرات. كذلك الإنسان يجب أن يعرف لأنه يجب أن يعيش. لكن الإنسان يتمتع بفيض يستطيع به أن يؤكد في فخر أن المعرفة من أجل المعرفة: هناك يتمتع بمعرفته تمتعًا خالصًا، لأن المعرفة هناك حرية. وذخيرة هذا الفائض هي التي يقتات منها علمُه وفلسفتُه.

ثم إن في الحيوان أيضًا قدرًا معينًا من الغيرية: هي غيرية الأبوين، غيرية القطيع وقفير النحل. وهذه الغيرية ضرورية ضرورةً مطلقةً للمحافظة على النوع. ولكن في الإنسان أكثر من هذا بكثير. فمع أن عليه هو الآخر أن يتحلَّى بالخير لأن الخير ضروري من أجل نوعه، لكنه يتجاوز ذلك إلى حدٍّ بعيد. فخيره ليس بالحصة الضئيلة التي تكاد ألا تكفي كفاف حياة معنوية. إن في مستطاعه أن يقول واثقًا إن الخير من أجل الخير. وعلى هذا الغنى بالخير – حيث الصدق لا يقدَّر بوصفه السياسة الفضلى، بل لأن في مستطاعه أن يعارض السياسات كافة – تتأسس أخلاق الإنسان.

كذا ترجع فكرةُ "الفن للفن" هي الأخرى بأصلها إلى نطاق النافل هذا. ولذلك فلنحاول تحديد ماهية النشاط الذي تقود وفرتُه إلى الإبداع الفني.

عند الإنسان، كما عند الحيوانات، ثمة حاجة إلى التعبير عن مشاعر اللذة والاستياء والخوف والغضب والحب. وعند الحيوانات، قلما تتخطى هذه الضروبُ من التعبير الانفعالي حدودَ المنفعة؛ أما عند الإنسان، فمع أنها تضرب بجذورها في أغراضها الأصلية، فهي تمد أغصانها طولاً وعرضًا في السماء اللانهائية، محلقةً فوق ترابها. الإنسان يتمتع بمخزون من الطاقة الانفعالية لا يستعمله كله من أجل المحافظة على الذات. وهذا الفيض يبحث عن متنفَّس له في الإبداع الفني؛ إذ إن حضارة الإنسان تقوم على فيضه هذا.

المقاتل لا يكتفي بالقتال، على ضرورته؛ إذ لا بدَّ له من التعبير عن الوعي المصعَّد للمقاتل فيه بمعونة الموسيقى والزينات، وهو أمر ليس غير ضروري فحسب، بل هو في ظروف معينة انتحاري. والإنسان صاحب الشعور الديني الشديد لا يتعبد لإلهه بكلِّ خشوع وحسب، بل إن شخصيته الدينية تلتمس، تعبيرًا عن نفسها، أبَّهةَ المعبد ووفرةَ شعائر العبادة.

حين يستثار في قلوبنا شعورٌ يفيض إلى حدٍّ بعيد عن المقدار الذي يمكن للموضوع الذي أثاره أن يمتصه، ترتد موجاتُه عائدةً إلينا وتجعلنا واعين بأنفسنا. فحين نكون فقراء، يكون انتباهنا كله موجهًا خارجنا، نحو الأشياء التي لا بدَّ لنا من تحصيلها لإشباع حاجتنا؛ ولكن حين تتخطى ثروتُنا حاجاتِنا بكثير، ينعكس ضوءُها عائدًا إلينا، فننتشي بشعور أننا أشخاص أغنياء. ولهذا قُيِّضَ للإنسان وحده، من بين المخلوقات الأخرى كلها، أن يعرف نفسه لأن دافع المعرفة لديه يعود إليه في فيضه. إنه يشعر بشخصيته شعورًا أشد من شعور المخلوقات الأخرى لأن قدرته على الشعور أكبر من أن تستنفدها موضوعاتُه. وهذا الدفق من وعي شخصيته يتطلب متنفسًّا للتعبير. لذا يكشف الإنسان، في الفن، عن نفسه ذاتها، لا عن أغراضه. أما هذه فمكانها في كتب المعلومات والعلم، حيث لا يكون للمرء بدٌّ من إخفاء ذاته تمامًا.

أعلم أنه لن يجاز لي أن أستعمل كلمة "شخصية"، التي تحمل كل هذه السعة في المعنى، من غير أن تُكال لي التحديات. فمثل هذه الكلمات السائبة يمكن تطويعها بحيث تناسب أفكارًا لا تتباين حجمًا فحسب، بل تتباين شكلاً. فهي، كمعاطف المطر المعلقة في الردهة، يمكن أن يذهب بها الزوارُ الشاردون الذين لا حق لهم في ملكيتها!

والإنسان، بوصفه عارفًا، ليس ذاته تمامًا – إذ إن مجرد معلوماته لا تكشف عنه تمامًا. لكنه، بوصفه شخصًا، هو الإنسان العضوي الذي يتمتع، بطبيعته، بالقدرة على اصطفاء أشياء من محيطه والاستئثار بها. كما أن له قواه الجاذبة والنابذة التي لا يكدس بها الأشياء خارج ذاته فحسب، بل يخلق ذاته أيضًا. على أن أولى قوى الإبداع التي تحول الأشياء إلى بنيتنا الحية إنما هي قوى الشعور. والإنسان، إذا اتفق له أن يكون متدينًا، هو شخص، لكنه ليس كذلك إذا كان مجرد رجل لاهوت. فشعوره بالإلهيِّ شعورٌ خلاق؛ ولكن مجرد معرفته بالإلهيِّ لا يمكن لها أن تندمج في كيانه بسبب افتقاره إلى لهب الشعور.

فلننظر هنا في ماهية محتويات هذه الشخصية وفي كيفية اتصالها بالعالم الخارجي. فهذا العالم يبدو لنا مفردًا، لا كمجرد حزمة من القوى غير المرئية. وهذا ندين به إلى حدٍّ كبير، كما يعلم الجميع، للحواس وللذهن. وإنما العالم الظاهري هذا هو عالم الإنسان. وهو يكتسب ملامحه الخاصة، شكلاً ولونًا وحركة، من نطاق إدراكنا وصفاته الفريدة. وهو هذا الذي اكتسبتْه حدودُ حواسنا وبنتْه وسوَّرتْه لنا على وجه التخصيص. وليست عوامله الفاعلة هي القوى الفيزيائية والكيميائية فحسب، بل هي قوى الإدراك البشري أيضًا، ذلك لأنه عالم الإنسان، وليس عالم فيزياء أو ميتافيزياء مجرَّد.

وهذا العالم، الذي يتخذ شكله في قالب إدراك الإنسان، يبقى مع ذلك عالم حواسه وذهنه الجزئي. هو أشبه بالضيف، لا بالنسيب. وهو لا يصير مُلكنا تمامًا إلا حين يدخل في نطاق انفعالاتنا. وحين يعتمل في هذا العالم حبنا وكراهيتنا، لذتنا وألمنا، خوفنا ودهشتنا، يغدو على الدوام جزءًا من شخصيتنا. فهو ينمو بنمونا ويتغير بتغيراتنا. وإنما نحن كبار أو صغار بحسب سعة هذا التمثل أو ضآلته، بحسب نوعية محصلته. ولو قُيِّضَ لهذا العالم أن يؤخذ منا لفقدت شخصيتُنا مضمونَها كلَّه.

إن انفعالاتنا هي عصارات المعدة التي تحول عالم الظاهر هذا إلى عالم للمشاعر أكثر حميمية. ولهذا العالم الخارجي أيضًا، في المقابل، عصاراته الخاصة التي تتسم بخصائصها المتنوعة التي تثير نشاطاتنا الانفعالية. وهذا يُطلَق عليه في علوم البلاغة السنسكريتية مصطلح راسا، الذي يعني العصارات الخارجية التي تتجاوب معها عصاراتُ انفعالاتنا الباطنة. والقصيدة، تبعًا لذلك، عبارةٌ أو عباراتٌ تتضمن عصاراتٍ من شأنها أن تنبِّه عصاراتِ الانفعال. فهي تتحفنا بأفكار، بثت فيها المشاعرُ حيوية، جاهزةٍ للتحول إلى مادة الحياة في طبيعتنا.

أما مجرد المعلومات عن الوقائع فليست أدبًا، لأنها لا تعطينا إلا الوقائع المستقلة في حدِّ ذاتها. فتكرار الوقائع، كالقول إن الشمس مستديرة والماء سائل والنار حارة، لهو مما لا يطاق. ولكن وصف جمال شروق الشمس ذو أهمية أبدية في نظرنا، ذلك لأن موضوع اهتمامنا الدائم هنا ليس واقعة الشروق، بل علاقته بأنفسنا.

لقد قيل في الأوپنشاد إن "الثروة عزيزة علينا، لا لأننا نرغب في واقعة الثروة بعينها، بل لأننا نرغب في أنفسنا." وهذا يعني أننا نشعر بأنفسنا في ثروتنا، ولهذا نحبها. والأشياء التي تثير انفعالاتنا إنما تثير شعورنا بذواتنا. الأمر أشبه بمساس وتر القيثارة: إذا كان المساس ضعيفًا جدًّا لا نشعر بشيء سوى المساس، لكنه حين يكون قويًّا، يعود إلينا في أنغام ويزيد من حدة وعينا.

وهناك عالم العلوم الطبيعية الذي حُرِصَ على إزالة عناصر الشخصية منه. وهذا لا ينبغي أن نلامسه بمشاعرنا. غير أن هناك العالم الفسيح أيضًا، الذي هو شخصي في نظرنا. وهذا لا ينبغي أن نكتفي بمعرفته، ثم نطرحه جانبًا، بل يجب أن نشعر به، لأننا حين نشعر به نشعر بأنفسنا.

ولكن كيف نستطيع أن نعبِّر عن شخصيتنا التي لا نعرفها إلا عن طريق شعورنا؟ فالعالِم الطبيعي يستطيع أن يذيع ما تعلَّمه بواسطة التحليل والاختبار. أما الفنان فهو لا يستطيع أن يعبِّر عما يريد قوله بمجرد الإعلام والشرح. فلكي أقول ما أعرف عن وردة حسبي أبسط عناصر اللغة؛ ولكن الأمر يختلف كلَّ الاختلاف حين أريد أن أقول ما أشعر به حيال الوردة. فالأمر لا يمت بصلة إلى الوقائع أو إلى القوانين، بل يتعلق بالذوق، ولا يمكن إدراكه إلا بالتذوق. ولذلك يقول بلغاؤنا السنسكريتيون إن الشاعر يجب أن يستعمل كلماتٍ لها مذاق مناسب، لا تنطق فحسب، بل تستحضر صورًا وتغنِّي. إذ إن الصور والأغاني ليست مجرد حقائق، وإنما هي وقائع شخصية؛ وهي ليست هي ذواتها فحسب، بل هي ذواتنا أيضًا. إنها مستعصية على التحليل، كما أن لها مدخلاً مباشرًا إلى قلوبنا.

ولا بدَّ من التسليم بأن الإنسان لا يستطيع إلا أن يكشف عن شخصيته في العالم العملي أيضًا. ولكن التعبير عن النفس هناك ليس غرضه الأول. ففي الحياة اليومية، حيث تتحكم فينا عاداتُنا بالدرجة الأولى، نكون مقتصدين في تعبيرنا؛ فوعينا الروحي يكون إذ ذاك في حالة الجَزْر، ليس له من السعة إلا ما يكفي للانزلاق على مساراته المعتادة. ولكن حين يستيقظ قلبنا يقظةً كاملةً في الحب، أو في أي شعور عظيم آخر، تكون شخصيتنا في إبان مدِّها. عند ذلك يشعر المرء بالشوق إلى التعبير عن ذاته من أجل التعبير وحسب. ثم يأتي الفن، فننسى مقتضيات الضرورة واقتصاد المنفعة – إذ ذاك تحاول أبراجُ معابدنا أن تقبِّل النجوم وأنغامُ موسيقانا أن تسبر أغوار اللامسمَّى.

وإنما تتسم طاقات الإنسان التي تجري في مسارين منفصلين – مسار المنفعة ومسار التعبير الذاتي – بالنزوع إلى التلاقي والتمازج. وعبر الترابط البشري الدائم تتجمع المشاعر حول أغراض استعمالنا وتستدعي معونة الفن للكشف عن أنفسها – كأن نرى كبرياءَ المحارب وحبَّه يتجليان في نصل السيف المزيَّن ورفاقيةَ اللقاءات الاحتفالية تتجلَّى في قدح الخمر.

إن مكتب المحامي لا يتميز، في العادة، بالجمال – وسبب ذلك بيِّن. ولكن في المدينة، حيث يزهو البشرُ بحياتهم المدنية، لا بدَّ للمباني العامة من أن تعبِّر في بنيانها عن حبِّ المدينة هذا. لما نُقِلَت العاصمةُ البريطانية من كلكتا إلى دلهي، تشاور القومُ في الطراز المعماري الذي ينبغي اتباعه في المباني الجديدة، فأيد بعضهم الطراز الهندي للعهد المغولي، وهو الطراز الذي نتج عن اجتماع العبقريتين المغولية والهندية. فالشيء الذي فات القوم أن يروه هو أن كلَّ فنٍّ عظيم متأصل في الشعور. إن دلهي وآغرا المغوليتين تفصحان في مبانيهما عن شخصيتهما الإنسانية. ذلك أن أباطرة المغول كانوا بشرًا، لا مجرد حكام. لقد عاشوا، وماتوا، وأحبوا، وقاتلوا، في الهند. بيد أن تذكارات حكمهم غير باقية في أطلال المعامل والمكاتب، بل في أعمال فنية خالدة – لا في المباني العظيمة فقط، بل في الرسوم والموسيقى والصناعات اليدوية، في الحجر والمعدن، في أنسجة القطن والصوف. أما الحكومة البريطانية في الهند فليست شخصية، بل رسمية، وهي، تاليًّا، تجريد ذهني وليس لها شيء تعبِّر عنه بلغة الفن الأصيلة. ذلك أن القانون والكفاءة والاستغلال ليس في مقدورها أن تنشد نفسها في ملاحم من حجر. وقد حاول اللورد ليتون، الذي كان لسوء الحظ موهوبًا من الخيال أكثر مما هو ضروري لنائب للملك في الهند، أن يقلِّد أحد احتفالات الدولة عند المغول، وهو احتفال الدوربار[2]. ولكن احتفالات الدولة هذه إنما كانت أعمالاً فنية، يرجع أصلها الطبيعي إلى العلاقة الشخصية المتبادلة بين الشعب ومليكه. وحينما تُقلَّد تحمل أماراتِ الانتحال كلَّها.

أما كيف يمكن للمنفعة وللشعور أن يتخذا مسارين مختلفين في التعبير فذلك ما نراه حين نقارن لباس الرجل بلباس المرأة. فالرجل يتجنب عمومًا في لباسه كلَّ زائد عن الحاجة مما يُتخَذ لمجرد الزينة، على حين تختار المرأة بفطرتها ما هو تزييني، لا في لباسها فحسب، بل في تصرفاتها. إذ لا بدَّ أن تكون فاتنةً وموسيقيةً لتكشف عما هي عليه في الحقيقة؛ ذلك لأن المرأة، بحكم مكانتها في هذا العالم، أكثر اتسامًا من الرجل بسمة الملموس والشخصي، ولا ينبغي أن يُحكَم عليها بحسب نفعها، بل بحسب بهجتها. ولذلك فهي تحرص حرصًا بالغًا على التعبير عن شخصيتها، لا عن مهنتها.

"في نحو الخامسة والستين من عمره مال [طاغور] إلى الرسم كذلك، فكانت له فيه محاولاتٌ لا بأس بها. إلا أنه، مهما يكن نصيبه من التوفيق في غير الشعر، سيبقى، قبل كل شيء وبعد كل شيء، ذلك الشاعر الذي عرفناه في البستاني وغيتانجلي وجني الثمار وغيرها من آثاره الشعرية." (ميخائيل نعيمه، في الغربال الجديد، طب 3: بيروت، 1983، ص 27)

ولكن لما كان الهدف الرئيسي للفنِّ هو، كذلك، التعبير عن الشخصية، وليس عما هو مجرد أو تحليلي، فإنه يستخدم بالضرورة لغةَ التصوير والموسيقى. ولقد ساقنا هذا إلى التباس في فكرنا بأن هدف الفن هو إنتاج الجمال؛ في حين أن الجمال في الفن ليس إلا مجرد أداة، وما هو بمغزاه التام والنهائي.

نتيجةً لذلك، كثيرًا ما سمعنا القوم يحاجُّون إن كان الأسلوب، وليس المادة، هو العنصر الجوهري في الفن. في مثل هذه المحاجَّات التي لا تنتهي نكون كمن يصب ماءً في إناء بلا قعر. فهذه المناقشات تعود بأصلها إلى فكرة مؤداها أن الجمال هو هدف الفن؛ ولأن المادة وحدها لا يمكن لها أن تختص بالجمال، فإن مدار السؤال يصير إن كان الأسلوب هو العامل الأساسي في الفن.

لكن المعالجة التحليلية، والحق يقال، لن تعيننا على اكتشاف ماهية النقطة الحيوية في الفن. إذ إن المبدأ الحقيقي للفن هو مبدأ الوحدة. فحين نريد أن نعرف القيمة الغذائية لبعض ما نطعمه فإننا نجدها في مكوناته؛ ولكن قيمتها الذوقية تكمن في وحدتها، وهي عصية على التحليل. إنما المادة، مأخوذةً على حدة، تجريد يمكن للعلم أن يتعامل معه؛ أما الأسلوب، بما هو كذلك، فتجريد يخضع لقوانين البلاغة. ولكن حين يكونان كلاًّ واحدًا لا يقبل الفصل، يجدان قوانين تناغمهما في شخصيتنا التي هي مركَّب عضوي من المادة والأسلوب، من الأفكار والأشياء، ومن الدوافع والأفعال.

لذا نجد أن الأفكار المجردة جميعًا ليست في محلِّها في الفن الحقيقي، حيث، لكي تحصل على الإذن بالدخول، لا بدَّ لها من أن تتنكر في هيئة شخصية. وتلك هي علَّة محاولة الشعر اختيار كلمات ذات صفات حيوية – كلمات لا تفيد في مجرد البيان فحسب، فيهترئ منها الشكل من جراء استعمالها الدائم في السوق، بل تكتسب حق الإقامة في قلوبنا. ومثال ذلك أن كلمة consciousness [وعي] الإنكليزية لم تنمُ بعدُ عن مرحلة التشرنق في عطالتها المدرسية، ولذلك يندر ورودُها في الشعر، في حين أن مرادفتها الهندية تشيتانا كلمة حيوية تُستعمَل دائمًا في الشعر. وفي مقابل ذلك، فإن كلمة feeling [شعور] الإنكليزية كلمة تنبض حياة، لكن مرادفتها البنغالية أنوپهوتي مرفوضة في الشعر لأن لها معنى فقط، وليست لها نكهة. بالمثل، توجد حقائق مصدرها علم الطبيعة والفلسفة اكتسبت لون الحياة ومذاقها، وحقائق أخرى لم تكتسبهما. ومادامت كذلك فإنها، بنظر الفن، كالخضار النيئة، لا تصلح طعامًا في مأدبة. والتاريخ، مادام يستنسخ العلم ويتعامل مع المجردات، سيظل خارج مجال الأدب. لكنه، بوصفه سردًا للوقائع، يقف مع القصيد الملحمي على صعيد واحد، لأن سرد الوقائع التاريخية يضفي على العصر الذي تنتمي إليه نكهةً شخصية. وبذلك فإن تلك الفترات تصطبغ في نظرنا بلون إنساني، بحيث نشعر بنبضاتها.

العالم والإنسان الشخصي يقفان وجهًا لوجه موقف صديقين يستنطق كل منهما صاحبَه ويتبادلان أعمق أسرارهما. أما العالم فيسأل الإنسان الباطن: "أيْ صديقي، أوَتراني؟ أوَتحبني؟ – لا كما تحب مَن يزودك بالقوت والفاكهة، ولا كما تحب مَن اكتشفتَ قوانينه، بل كما تحب كيانًا شخصيًّا، فرديًّا؟"

ويجيب الفنان قائلاً: "أجل، إني لأراك، وإني لأحبك وأعرفك – لا لأن بي حاجةً إليك، ولا لأني أريد أن أستولي عليك وأسخِّر قوانينك من أجل مآربي للسلطان. وإني لأعرف القوى الفاعلة التي تقود إلى السلطان وتفضي إليه، ولكن ليس هذا مبتغاي. وإنما أراك حيثما تكون ما أنا إياه."

ولكن أنَّى لك أن تعرف أن الفنان قد عرف، قد رأى، قد وقف وجهًا لوجه أمام هذه الشخصية؟

إنني حين ألتقي أول مرة امرأً ليس صديقي بعدُ، ألحظ عددًا لا يُحصى من الأشياء غير الجوهرية التي تجتذب الانتباه للوهلة الأولى: وفي بيداء هذا الخليط من الوقائع يضيع الصديقُ الذي كان مقيضًا له أن يكون صديقي.

لما رست سفينتُنا البخارية على ساحل اليابان كان بين المسافرين ياباني عائد من رانغون إلى وطنه، في حين كنا نحن نطأ ذلك الساحل لأول مرة في حياتنا. كان هناك فرق كبير في النظرة. لقد لحظنا كلَّ خصوصية ضئيلة، وشغلت انتباهَنا أشياء تافهة لا عدَّ لها. ولكن المسافر الياباني استغرق من فوره في الشخصية، بل في روح البلاد التي سكنت إليها روحُه. كان يرى من الأشياء أقل مما نرى، وكنا نرى منها أكثر منه، لكن ما كان يراه إنما كان روح اليابان. وهذه لا تقاس بأية كمية أو عدد، بل بشيء غير مرئي وعميق. فلا يصح القول إننا لأننا رأينا تلك الأشياء التي لا عدَّ لها فقد رأينا اليابان رؤيةً أفضل، بل إن العكس هو الأصح.

إذا رغبنا إلى امرئ – غير فنان – أن يرسم شجرة ما معينة، فإنه يحاول أن يؤدي كلَّ تفصيل في دقة لئلا تضيع خصوصيةُ الشجرة، ناسيًا أن الخصوصية ليست هي الشخصية. ولكن حين يأتي الفنان الحق، لا يحفل بالتفاصيل ويتناول الخصوصية الجوهرية.

كذا فإن العقلاني فينا كذلك يسعى إلى تبسيط الأشياء إلى مبدئها الباطن، فيحاول التخلص من التفاصيل والنفاذ إلى جوهر الأشياء، حيث تكون الأشياء واحدة. ولكن الفرق هو الآتي: العالِم يبحث عن مبدأ موحِّد لاشخصي يمكن تطبيقُه على الأشياء كلِّها. فهو يخرب، مثلاً، جسم الإنسان، الذي هو شيء شخصي، للحصول على معلومة فسيولوجية تتسم باللاشخصية وبالعمومية.

ولكن الفنان يكتشف الفريد، الفردي، الذي يكمن مع ذلك في القلب من العالمي الشامل. فهو حين ينظر إلى شجرة، ينظر إلى تلك الشجرة بوصفها فريدة، لا كعالم النبات الذي يعمِّم ويصنف. وإنما مهمة الفنان أن يصور خصوصية تلك الشجرة بعينها. فكيف يفعل ذلك؟ – ليس عبر الخصوصية التي هي نشوز الفريد، بل عبر الشخصية التي هي التناغم. لذا فإن عليه أن يكتشف الانسجام الباطن لذلك الشيء الواحد مع الأشياء الخارجية من حوله كلِّها.

وإنما تتمثل عظمةُ الفن الشرقي وجماله، ولاسيما في اليابان والصين، في أن الفنانين أبصروا روح الأشياء هذه، وهم يؤمنون بها. الغرب قد يؤمن بروح الإنسان، ولكنه لا يؤمن حقًّا بأن للكون روحًا. غير أن هذا هو مذهب الشرق، وكل ما أدى الشرق إلى الإنسانية من إسهام فكريٍّ فهو مشبع بهذه الفكرة. ولذلك لا نحتاج – نحن أهل الشرق – إلى التوغل في التفاصيل والتأكيد عليها، لأن الشيء الأهم عندنا هو الروح الكلِّية التي جلس حكماؤنا مستغرقين في مشاهدتها، وانضم إليهم الفنانون الشرقيون عبر إبداعهم الفني.

لما كان إيماننا في الشرق معقودًا على هذه الروح الكلِّية فنحن نعلم أن الحقيقة والسلطان والجمال إنما تكمن في البساطة: حيث تكون شفافة، حيث لا تعوق الأشياءُ البصيرةَ الداخلية. ولذلك حاول حكماؤنا جميعًا أن يجعلوا حياتهم بسيطةً طاهرة، لأنهم على هذا النحو يتحققون بحقيقة وضعية هي، وإن كانت غير مرئية، أكثر واقعيةً مما يفرض نفسه بالكتلة والعدد.

وعندما نقول بأن الفن لا يتعامل إلا مع تلك الحقائق ذات السمة الشخصية، فإننا لا نستبعد الأفكار الفلسفية التي هي مجردة في الظاهر؛ إذ إنها مألوفة وشائعة تمامًا في أدبنا الهندي بحُكم انتساجها الوثيق في ألياف طبيعتنا الشخصية. ولسوف أقدم هنا مثالاً لبيان رأيي. وفيما يلي ترجمة لقصيدة هندية تتغنى بالحياة وضعتْها شاعرةٌ من العصر الوسيط:

إني أحيي الحياة التي ترفع، كالبذرة المنتشة،
ذراعًا واحدة في الهواء، وتُدلي بالأخرى في التراب؛
الحياة الواحدة في صورتها الخارجية وفي نسغها الداخلي؛
الحياة التي مافتئت تتجلَّى ومافتئت تتوارى.
إني أحيي الحياة التي تُقبِل، والحياة التي تُدبِر؛
إني أحيي الحياة التي تنكشف والتي تحتجب؛
إني أحيي الحياة المعلقة، الواقفة ساكنةً كالطود،
والحياة التي تضطرم كبحر من النيران؛
الحياة الرقيقة كاللوتس، والقاسية كالصاعقة.
أحيي الحياة العقلية، التي أحد جانبيها في الظلمة والجانب الآخر في النور.
أحيي الحياة في البيت والحياة في الخارج التي تضرب في المجهول،
الحياة المترعة فرحًا والحياة المنهكة في أوجاعها،
الحياة المتحركة أبدًا، التي تهدهد العالم حتى يسكن،
الحياة العميقة الصامتة، المتفجرة أمواجًا هادرة.

هذه الفكرة عن الحياة ليست استنباطًا منطقيًّا فحسب، بل هي لا تقل واقعيةً بنظر الشاعرة من واقعية الهواء بنظر الطائر الذي يشعر به مع كلِّ خفقة من جناحيه. لقد أدركت المرأةُ سرَّ الحياة في طفلها إدراكًا أعمق من إدراك الرجل. وهذه الطبيعة الأنثوية في الشاعرة شعرت بزخم الحياة العميق في العالم بأسره. ولقد عرفت أنه لانهائي – لا عن طريق التعقل، بل عبر استنارة شعورها. وبذلك تغدو الفكرةُ ذاتها – وهي التي تظل عند مَن يقتصر حسُّ الواقع لديه على مجال محدود، مجرد تجريد – مضيئةً في حقيقيتها بنظر آخر تتصف حساسيتُه بمدى أوسع. وإنا كثيرًا ما سمعنا النقاد الأوروبيين ينعتون العقل الهندي بالغيبي لأنه على أهبة الاستعداد للتحليق في اللانهائي. ولكن لا بدَّ للمرء أن يأخذ في حسبانه أن اللانهائي بنظر الهند ليس مجرد مسألة للتفكر الفلسفي؛ إذ إنه لا يقل واقعية بنظرها عن ضوء الشمس. لا بدَّ لها من رؤيته، والشعور به، والاستفادة منه في حياتها؛ ولذلك ظهر بكل هذه الوفرة في رموز عبادتها وفي أدبها. يقول شاعر الأوپنشاد:

ما كانت حتى نأمة الحياة المتناهية في الضآلة لتكون ممكنةً لو لم تكن السماءُ مترعةً بالفرح اللانهائي.[3]

هذا الحضور الكلِّي كان عنده معادلاً في واقعيته للأرض الموجودة تحت قدميه، لا، بل كان أكثر واقعية. وإدراك هذا قد تفجر في أغنية لشاعر هندي من القرن الخامس عشر[4]:

هناك ينهال النبضُ الإيقاعي للحياة والموت:
الوجدُ ينبجس، والفضاءُ كله يشع نورًا.
هناك تصدح الموسيقى التي لم تُعزَف بعد؛ إنها موسيقى العشق من عوالم ثلاثة.
هناك تتقد ملايين المصابيح من شموس وأقمار؛
هناك يدق الطبلُ فيرقص العاشقُ لاهيًا.
هناك تصدح أغاني الحب، ويهطل النورُ مدرارًا.

إن أدبنا في الهند ديني في معظمه، لأن الله عندنا ليس بالإله القصي: فهو يقيم في بيوتنا، كما يقيم في معابدنا. ونحن نشعر بقربه منا في علاقاتنا الإنسانية كلِّها القائمة على الحب والمودة، وهو ضيف الشرف الذي نكرِّمه في احتفالاتنا. في فصول الأزهار والثمار، في وابل المطر، في يُنوع الخريف، نرى حاشيةَ إزاره ونسمع وَقْعَ خطواته. ونحن نتعبَّد له هو في موضوعات عبادتنا الحق كلِّها، ونحبه هو حيثما يكون حبنا صادقًا. في المرأة الطيبة نشعر به هو، في الرجل الصادق نتعرف إليه هو، وفي أطفالنا يولد المرة تلو المرة بوصفه الطفل الأبدي. لذا فإن الأناشيد الدينية هي أغاني الحب عندنا، وأحداثنا المنزلية، كميلاد ابن أو عودة ابنة من بيت الزوجية إلى منزل والديها ومغادرتها من جديد، تنتسج في أدبنا كدراما تتموضع صورتُها الأصلية في الإلهي.

وبهذا فقد امتد مجالُ الأدب حتى المنطقة التي تبدو محتجبةً في عمق السر، فجعله إنسانيًّا وأنطقه. وإنه ليسري، مواكبًا الفتحَ الذي تنهض له الشخصيةُ الإنسانيةُ في مجال الحقيقة. وهو لا يسري في التاريخ والعلم والفلسفة فحسب، بل وفي وعينا الاجتماعي بمقدار ما يتمدد تعاطفُنا. فأدب العصور القديمة الكلاسيكي كان حافلاً بالقديسين والملوك والأبطال وحسب، ولم يكن يسلِّط ضوءه على البشر الذين عشقوا وتألموا مغمورين. ولكن مثلما تسلِّط استنارةُ شخصية الإنسان نورَها على مجال أوسع فأوسع، فيتغلغل في الزوايا الخفية، كذلك يتخطَّى الفن أيضًا حدوده ويوسع تخومه لتشمل مناطق غير مستكشَفة بعد. بذلك يبشِّر الفن، عبر رموز جماله، بفتح الإنسان للعالم، منبجسًا في بقاع كانت قاحلة دون أي صوت ولون. وهو يزود الإنسان براياته التي يسير تحتها مقاتلاً ضد الفارغ والعاطل، مبرهنًا على أحقيته في كلِّ مكان من خليقة الله. حتى روح الصحراء فازت بنسبتها إليه، والأهرام المتوحدة تقوم هناك أنصابًا تذكاريةً للقاء صمت الطبيعة الجليل مع صمت روح الإنسان. لقد نزل ظلامُ الكهوف عن سكينته للنفس الإنسانية، ولقاءَ ذلك تُوِّج سرًّا بإكليل الفن[5]. الأجراس تقرع في المعابد وفي القرى والمدن الغاصة بالبشر، معلنةً أن اللانهائي ليس مجرد فراغ بنظر الإنسان. وهذا التمادي لشخصية الإنسان لا حدود له؛ بل إن الأسواق والمعامل في عصرنا الراهن، وحتى المدارس التي يُحبَس فيها أطفالُ الإنسان والسجون التي يُعتقَل فيها المجرمون، سوف تلطِّف منها لمسةُ الفن، فتفقد تميزها بالعداوة اللدودة للحياة – ذلك لأن مجهود شخصية الإنسان الأوحد هو أن يطبع كلَّ ما يمت إليه بصلة بطابع الإنسانية. والفن أشبه بانتشار النبات، بما يبيِّن إلى أيِّ مدًى تمكَّن الإنسانُ من استصلاح الصحراء.

لقد سبق لنا أن قلنا إن الفن يولد حيثما يوجد عنصر نافل في علاقة قلبنا مع العالم. في عبارة أخرى، فإن شخصيتنا تتفتح عن مكنوناتها كلما شعرت بغناها. فما نلتهمه لأنفسنا يُستهلَك تمامًا؛ أما ما يفيض عن حاجتنا فيصير منطوقًا. إن مرحلة الانتفاع المحض أشبه بحالة الحرارة المظلمة؛ أما حين تتفوق على نفسها، فإنها تصير حرارة بيضاء، وإذ ذاك تكون فصيحة.

لنأخذ، على سبيل المثال، سرورنا بالطعام: فهو سرعان ما يُستنفَد، فلا يعطينا أي دليل على اللانهائي؛ ولذلك فإن الفن ينبذه، على الرغم من أنه أوسع امتدادًا وشمولية من أيِّ هوى آخر. إنه أشبه ما يكون بمهاجر قادم إلى هذه السواحل الأطلسية خالي الوفاض.

على أن لنا في حياتنا جانبًا منتهيًا نستنفد فيه أنفسنا مع كلِّ خطوة، كما أن لنا جانبًا آخر لا نهاية فيه لتوقنا ومتعتنا وتضحيتنا. وهذا الجانب اللانهائي من الإنسان يتجلَّى عبر رموز معينة تنطوي على عناصر الخلود. هناك يسعى هذا الجانب إلى الكمال سعيًا طبيعيًّا؛ ولذلك فهو يُعرِضُ عن كلِّ ما هو مهلهل وضعيف ومتضارب، ويشيد لسُكناه فردوسًا لا تُستعمَل فيه إلا تلك المواد التي تسامت عن الفناء الأرضي.

ذلك لأن البشر أبناء النور: كلما حققوا ذواتهم تحقيقًا تامًّا شعروا بخلودهم؛ وهم، بمقدار ما يشعرون به، يبسطون ملكوت مخلَّديهم على كلِّ ناحية من نواحي الحياة البشرية.

كذا فإن بناء عالم الإنسان الحق – العالم الحي للحقيقة والجمال – هو وظيفة الفن.

إنما الإنسان يكون حقانيًّا حيثما يشعر بلانهائيته، وحيثما يكون إلهيًّا؛ وإنما الإلهي هو المبدع فيه. ولذلك فهو يبدع بمجرد بلوغه حقيقته. إذ هو يستطيع أن يحيا حقًّا في إبداعه هو ويتخذ من عالم الله عالمًا خاصًّا به. وهذه في الحقيقة جنته هو، جنة الأفكار المصبوبة في صور كاملة التي يحيط بها نفسه؛ الجنة التي يولد فيها أبناؤه ويتعلمون كيف يعيشون وكيف يموتون، كيف يحبون وكيف يقاتلون، وحيث يعرفون أن الحقيقي ليس ما يُرى ظاهريًّا فحسب وأن الثروة ليست ما يُدَّخر. ولو أتيح فقط للإنسان أن يسمع الصوت المنبعث من صميم إبداعه هو لتناهت إلى مسمعه الرسالةُ ذاتها التي بشَّر بها في الأيام الغابرة الحكيمُ الهندي إذ قال:

أصغوا إلي، يا أبناء الخالد، يا سكان العوالم السماوية، لقد عرفت الشخص الأسمى الذي يأتي نورًا من وراء الظلمات.[6]

أجل، إنه ذاك الشخص الأسمى، الذي كشف عن نفسه للإنسان وأضفى من أجله على هذا الكون صفةَ الشخصية بهذا العمق كلِّه. لذا تقع أماكنُ حجِّنا في الهند هناك حيث، عند مصب النهر في البحر، في الثلج الأبدي على ذروة الجبل، أو في عزلة شاطئ البحر، ينكشف مظهرٌ من مظاهر اللانهائي يتصاعد صوتُه العظيم من قلبنا؛ وهناك خلَّف الإنسان في تصاويره ومعابده، في منقوشاته الحجرية، هذه الكلمات: "أصغوا إلي، فقد عرفت الشخص الأسمى." ونحن لا نلتقي بالشخص في محض مادة هذا العالم وقانونه، بل حيث السماء زرقاء، والعشب أخضر، وحيث تبذل الزهرةُ جمالها والثمرةُ مذاقها، وحيث لا تسود المحافظةُ على النوع فحسب، بل فرحُ الحياة ومحبةُ المخلوقات كلِّها والتعاطفُ والتضحيةُ بالذات. هناك ينكشف لنا الشخصُ اللانهائي. هناك، حيث لا تنهمر على رؤوسنا الوقائع فحسب، بل نشعر برباط آصرة القربى الشخصية يربط قلوبنا بهذا العالم عبر الزمان كلِّه. وهذا هو الحق، وهي الحقيقة التي باتت حقيقتنا: الحقيقة ذات الصلة الأبدية بالشخص الأسمى. وهذا العالم، الذي تبدو روحه وكأنها تتحرق إلى الإفصاح عن ذاتها في إيقاع لانهائي من خطوط وألوان، وموسيقى وحركات، في التلميحات والهمسات، وفي جميع محاولات الإيحاء بما يستعصي على التعبير – هذا العالم يجد تناغمه في التشوق غير المنقطع للقلب البشري إلى الكشف عن الشخص في سائر إبداعاته.

وهذه الرغبة في الكشف عن هذا الشخص تجعلنا أسخياء في مواردنا كلِّها. فمادمنا نجمع الثروة فعلينا أن نؤدي حسابًا عن كلِّ قرش، نحسب في دقة، ونتصرف تصرف الحريص. لكننا نكاد لا نهم بالتعبير عن غنانا حتى يبدو أننا نغض النظر عن خطوط الحدود كلِّها. وفي الواقع، لا أحد فينا من الثراء بما يكفي ليعبِّر تعبيرًا تامًّا عما نعنيه بكلمة "غنى". حين نحاول أن ننجو بحياتنا من غارة عدو، نلزم جانب الحذر في حركاتنا؛ ولكن حين نشعر بوجوب التعبير عن بسالتنا الشخصية، لا نحجم عن ركوب الخطر حتى المجازفة بحياتنا. ونحن نلزم جانب الحرص في إنفاقنا اليومي، لكننا في المناسبات الاحتفالية، حين نعبِّر عن فرحتنا، نبلغ من التبذير حدًّا قد يتجاوز مواردنا. ذلك لأننا حين نعي شخصيتنا وعيًا شديدًا ننحو إلى تجاهُل طغيان الوقائع. نحن معتدلون في تعاملاتنا مع الإنسان الذي لا تربطنا به إلا علاقة حرص؛ لكننا نشعر أننا لا نملك ما يكفي من أجل الذين نحبهم. والشاعر يقول عن محبوبته: "يلوح لي أنني أتملَّى جمالكِ منذ بداية وجودي، أنني ضممتكِ بين ذراعي عصورًا لا تحصى، ومع ذلك فإن هذا كله لم يكفِني." ويقول: "إن الحجارة لتكاد تذوب رقةً حين تمسها نسمةُ إزارك"، ويشعر أن "عينـ[ـيه] تتوقان إلى الطيران كعصفورين لرؤية حبيبـ[ـته]." وهذه إنما تُعَد، من منطلق العقل، مبالغات، ولكنها صحيحة من منطلق القلب المتحرر من محدودية الوقائع.

أوَليس الأمر كذلك في خلق الله؟ فهناك، تكون القوى والمواد مجرد وقائع على حدٍّ سواء: من الممكن أن توزن وتقاس في دقة وأن يحتفَظ بحسابات صارمة عنها. وحده الجمال ليس مجرد واقعة؛ إذ لا يؤدى عنه حساب، ولا يمكن مسحُه ورسم خارطة له. وإنما هو تعبير. الوقائع أشبه ما تكون بكؤوس الخمر التي تحمل هذا الجمال؛ إنه يحجبها ويفيض عنها. والجمال لانهائي في إيحاءاته، كما أنه مسرف في كلماته. إنه شخصي، وبالتالي يتخطى العلم. وهو يغنِّي كما يغني الشاعر: "يلوح لي أنني أتملَّى جمالكِ منذ بداية وجودي، أنني ضممتكِ بين ذراعي عصورًا لا تحصى، ومع ذلك فإن هذا كله لم يكفِني."

هكذا نجد أن عالم التعبير لدينا لا يتطابق مع عالم الوقائع تطابقًا دقيقًا؛ إذ إن الشخصية تتفوق على الوقائع من الجوانب كلِّها. إنها تعي لانهائيتها وتبدع من فيضها. ولما كانت الأشياء في الفن تُختبَر من منطلَق الشخص الخالد، فإن تلك الأشياء التي تتسم بالأهمية في حياة وقائعنا الاعتيادية تفقد واقعيتها بمجرد أن يتم نصبها على قاعدة تمثال الفن. فقد يُحدِثُ تقريرٌ صحفي عن أيِّ حدث عائلي في حياة قطب من أقطاب التجارة ضجةً كبيرة في المجتمع، لكنه يفقد مغزاه كلَّه إذا وُضِعَ في حذاء أعمال فنية عظيمة. ولعلنا نستطيع أن نتخيل كيف سيواري وجهَه خجلاً إذا اتفق له، من جراء مصادفة قاسية، أن يجد نفسه في جوار "قصيدة في جرة رماد إغريقية" لكيتس.

ومع ذلك فربما أمكن للحدث العائلي ذاته، إذا ما عولج في عمق وجُرِّد من سطحيته المعتادة، أن يتبوأ في الفن منزلةً أرقى من منزلة التفاوض على قرض كبير للصين أو من هزيمة الدبلوماسية البريطانية في تركيا. ذلك أن مجرد حدث عائليٍّ عن غيرة زوج على زوجه، كما يصور ذلك شكسپير في إحدى مآسيه [عطيل]، له في دولة الفن قيمة أكبر من لوائح تنظيم الطوائف في شريعة مانو[7] أو من القانون الذي يحرِّم على ساكن إحدى بقاع المعمورة أن يُعامَل في بقعة أخرى معاملةً إنسانية. ذلك لأن الوقائع حين لا يُنظَر إليها إلا كمجرد وقائع، تتخذ سلسلةَ عواقبها في عالم الوقائع، فإن الفن ينبذها.

غير أنه حين يُنظَرُ إلى تشريعاتٍ ولوائح كالتي ذكرتُها آنفًا مطبقةً على إنسان بعينه، بكل ما فيها من جور وإهانة وألم، إذ ذاك فإنها تُرى في حقيقتها التامة وتغدو موضوعات للفن. وقد يكون الإعداد لمعركة كبرى واقعةً هامة، غير أنها غير صالحة للغرض الفني؛ أما ما تتسبب فيه هذه المعركة لجنديٍّ واحد فرد، يُنتزَع من بين أحبائه ويصاب بعاهة مدى حياته، فهذا شيء ذو قيمة حيوية للفن الذي يتعامل مع الواقع.

عالم الإنسان الاجتماعي أشبه بمنظومة مجرات سديمية ما، هي في معظمها عبارة عن ضباب من المجردات، ذات تسميات من نحو "مجتمع"، "دولة"، "أمة"، "تجارة"، "سياسة" و"حرب". وفي غمرة هذا الضباب الكثيف عديم الشكل، يختفي الإنسانُ وتزوغ الحقيقة. ذلك أن فكرة الحرب المبهمة تكفي وحدها لتحجب عن بصرنا حشدًا من ألوان الشقاء وتُظلِمَ علينا إحساسَنا بالواقع. إن فكرة الأمة مسئولة عن جرائم قد تكون مروِّعة لو أمكن للمرء أن يجلو عنها غشاوةَ الضباب لحظة. لقد ولَّدت فكرةُ المجتمع أشكالاً لا حصر لها من العبودية، لا نتحملها إلا لأنها أماتت وعينا بحقيقة الإنسان الشخصي. كذلك باسم الدين، اقتُرِفَتْ أفعالٌ من شأنها استنفاد كلِّ ما في جهنم نفسها من فنون القصاص لأنها، بعقائدها ومذاهبها، خدرتْ مساحةً واسعةً من الشعور بالإنسانية. في كلِّ مكان من عالم الإنسان، يعاني الشخصُ الأسمى من اختناق الواقع الإنساني تحت وطأة التجريد. ففي مدارسنا، تحجب فكرةُ الصف واقعيةَ أطفال المدرسة: يصيرون تلامذة، وليس أفرادًا. لهذا ما عدنا نتأذى من رؤية ما تتعرض له حياةُ الأطفال في صفوفهم من سحق، كالأزهار المضغوطة بين ورقتَي كتاب! أما في الحكومة، فالبيروقراطية تتعامل مع تعميمات، لا مع بشر؛ ولهذا لا يكلفها شيئًا أن تتورط في أعمال قسوة بالجملة. ومادمنا نقر مقولة "علمية" من نحو "البقاء للأصلح" على أنها حقيقة فإنها تحوِّل على الفور عالم الشخصية الإنسانية برمته إلى صحراء رتيبة من التجريد، حيث تغدو الأمورُ بسيطةً إلى حدٍّ مفزع لأنها تُسلَبُ سرَّ الحياة فيها.

وعلى هذه الأصقاع السديمية الواسعة يبدع الفن نجومه – وهي نجوم محددة من حيث أشكالها، لكنها لانهائية من حيث شخصيتها. الفن يدعونا "أبناء الخالد" ويخولنا حق الإقامة في العوالم السماوية.

وما عساه أن يؤكد في الإنسان خلوده على الرغم من واقعة الموت التي لا ريب فيها؟ إنه ليس جسمه المادي، ولا منظومته الذهنية، بل هو تلك الوحدة الأعمق، ذلك السر الأخير فيه، الذي يشع من مركز عالمه إلى محيطه؛ الذي يوجد في جسمه، ومع ذلك يتعدى جسمه؛ الذي يوجد في ذهنه، ومع ذلك يفيض عن ذهنه؛ الذي، من خلال الأشياء المنتمية إليه، يعبِّر عن شيء ليس فيها؛ الذي، إذ يشغل حاضره، يشطح عن ضفاف ماضيه ومستقبله. إنها شخصية الإنسان، واعيةً غزارتها التي لا تنضب. المفارقة فيها أنها أكثر من نفسها: إنها أكثر مما يُرى منها، وما يُعرَف منها، وما يُستعمَل منها. وهذا الوعي باللانهائي في الإنسان الشخصي يكدح أبدًا لجعل تعبيراته خالدةً ولجعل العالم بأسره عالمه. في الفن يبعث الشخصُ فينا إجاباتِه إلى الشخص الأسمى، الذي يكشف عن نفسه لنا في عالم من جمال لا ينتهي يومض في عتمة عالم الوقائع.

*** *** ***

الترجمة عن الألمانية: محمد جديد

المراجعة على الأصل الإنكليزي: ديمتري أفييرينوس

تنضيد: نبيل سلامة


[1] الفصل الأول من كتاب لطاغور بعنوان الشخصية، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها الشاعرُ في أمريكا ونُشِرَتْ للمرة الأولى في العام 1917. (المُراجع)

[2] دوربار (أو "داربار" بالفارسية) استقبال عام يقيمه الأمراءُ المغول. (المترجم)

[3] أوپنشاد تَيتِّرييا، 2، 7، 1. (المترجم)

[4] هذا الشاعر هو كبير (1440-1518)، أحد مؤسِّسي التصوف الهندي الجديد. هو ابن عامل نسيج مسلم فقير من بنارس، تتلمذ على الحكيم الهندوسي راماناندا، ثم بشَّر بدينه القائم على محبة الله الذي كانت تصب فيه تصوراتٌ هندوسية وإسلامية معًا، فاضطهده الفقهاء من كلا المعسكرين على أنه زنديق، حتى نُفِيَ أخيرًا من بنارس. وقد قام كشيتي موهَن سن، الأستاذ في مدرسة طاغور، بجمع أناشيده من الرواية المكتوبة والشفهية، فنُشِرَتْ في أربعة مجلدات. ثم قام الشاعر نفسه بترجمة مختارات منها إلى الإنكليزية (راجع: أناشيد كبير، بترجمة رابندرانات طاغور، لندن، 1915). وقد دأب كبير على التوقيع على أناشيده، إذ يورد اسمَه عند بداية البيت الأخير (انظر ص 89). والموضع المستشهَد به مستقى من الكتاب السابع عشر، ص 62 وما يليها. (المترجم)

[5] إشارة إلى الجدرانيات المكتشَفة في كهوف العصر الحجري، ككهف لاسكو على سبيل المثال. (المُراجع)

[6] ر. طاغور، سادهانا، ص 28 (بداية رِغْ فيدا، 10، 113، 1).

[7] مانوسمريتي هو أقدم الشرائع الهندية، عبارة عن قصيدة تعليمية مشهورة تَرِدُ باسم مانو، الأب الأسطوري للجنس البشري. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود