english

إمكانات القيادة التكاملية على موضعة الفقر ضمن العبرمناهجية٭

 

سو إل. تي. ماك غريغور٭٭

 

بوسع القيادة التكاملية تقدير الآثار المترتبة على اتساع رقعة الفقر وحدَّته على البشرية جمعاء؛ فالفقر كوكبي بطبيعته. ويلحظ زويرِب بفطنة أن الإخفاق في مكافحة الفقر في بقعة من العالم هو إخفاق في كل البقاع؛ فمع الفقر، الكل خاسرون. ولكون البشر جميعًا على ترابط مع بعضهم البعض، فـ"فقرك هو فقري، إن لم يكن هو شغلي الشاغل" (2008، ص 7). والفقر مثال جليٌّ على تعدد الأزمات، وهو المصطلح الذي يستخدمه موران (1999 آ) لتوصيف وضع لا تحتله مشكلة واحدة كبيرة بمفردها، بل سلسلة من المشاكل المتداخلة والمترابطة. ففي هذا الوضع، هناك ارتكاس بَيْني بين مختلف المشاكل والأزمات والتهديدات. فالفقر عملية معقَّدة يتداخل فيها ما هو اجتماعي مع ما هو طبيعي (فان بريدا، 2008). وبما أن تعددية الأزمات هذه من صنع الإنسان، فإنها تقع ضمن نطاق قدرته على معالجتها. بيد أن هذه المعالجة تستلزم طرائق جديدة في التفكير والعمل (مِنشو، 2007).

تُقيم هذه الورقة الحجَّة على أن المشاكل المعقَّدة، لا سيما تلك التي نواجهها في وضع متعدد الأزمات، تقتضي تفكيرًا معقَّدًا على شاكلة التفكير العبرمناهجي. فلإيجاد حلول ناجعة لمشكلة الفقر، يحتاج الناس إلى المعرفة العبرمناهجية المستجدَّة في مختلف الفروع المعرفية وما بينها وما يتعداها في آن معًا (نيكولسكو، 2006 آ، فولكام 2007). وتنشأ هذه المعرفة عن طريق منهجية جديدة تُتمِّم المنهجية العلمية الكلاسيكية التقليدية. وكما هو الحال مع كل منهجية، لابد أن يكون هناك اتفاق حول المسلَّمات والقوانين والمبادئ الأساسية ذات الصلة:

ثلاث ركائز للعبرمناهجية

1.    علم الوجود (ما يُعدُّ حقيقة).

2.    علم المنطق (باعتباره استدلالاً وحجة صارمة).

3.    الإبستيمولوجيا (بما هي معارف).

وانطلاقًا من ذلك، استحدث نيكولسكو ثلاثة مسلَّمات (ركائز) للعبرمناهجية، وهي على التوالي:

1.    مستويات متعددة للواقع مع مستويات مرافِقة من التصوُّرات.

2.    منطق الثالث المشمول.

3.    المعرفة كتعقيد وانبثاق (نيكولسكو، 1985، 2005 ب؛ 2006 آ، ب) (انظر الشكل 1).

وسنناقش الآن كلاً من هذه المسلَّمات بشيء من التفصيل، يلي ذلك تفحُّص لتقرير مشروع المجتمع المدني حول الفقر في مالطا (زويرِب، 2008) من خلال منظور عبرمناهجي. وستكون رؤى القيادة التكاملية بادية للعيان بيسر.

مسلَّمات العبرمناهجية الثلاثة

المسلَّمة 1: تعدد مستويات الواقع

تعتبر العبرمناهجية، أساسًا، أن ليس هناك من واقع واحد أوحد، بل العديد من مستويات الواقع. فالواقع العبرمناهجي هو بنيان معقد من تعددية الواقع، وأبعد ما يكون عن الحكم الثنائي النيوتوني على الواقع: نعم أو لا، حي أو ميت، صحيح أو خطأ، صالح أو طالح. ففي العالم العبرمناهجي، يمكن للأشياء أن تكون في الوقت ذاته حية وميتة، صحيحة وخاطئة، جيدة وسيئة. وواقعيًا، هناك العديد من أشكال الواقع لكل ذات وموضوع، يتوسَّطها الثالث المستتر ويحكمها منطق الثالث المشمول (انظر الشكل 2) (ماكس-نيف 2005؛ نيكولسكو،1985، 2006 ب، 2008). فالعبرمناهجية تُوفِّق بين أشكال رئيسية للواقع: البيئات، الاقتصادات، السياسات، الاجتماعي التاريخي، الفرد والجماعة، الكوكب والكوسموس. وكل مستوى من هذه المستويات موصوف بمتمِّمه؛ بل أن هذه المستويات مجتمعة، في وحدة، تولِّد معرفة جديدة لا محدودة. ويُشار إلى هذه الأشكال المتعددة للواقع كنسيج ضام (مبدأ التواكل الكلِّي القديم ذاته). وتفترض العبرمناهجية أنه

ليس هناك من مستوى للواقع يشكل حيزًا متميزًا يمكن من خلاله فهم كل مستويات الواقع الأخرى؛ وعوضًا عن ذلك، ثمة مستوى للواقع قائم على ما هو عليه، لأن كل المستويات الأخرى متواجدة في نفس الوقت. (نيكولسكو، 2006 ب، ص 147).

شكل 2: مستويات الواقع والثالث المستتر

إن مستويات الواقع المختلفة هي في متناول المعرفة الإنسانية من خلال وجود مستويات إدراك مختلفة. ويجادل ماكس-نيف (2005) بأن مستويات الإدراك هذه تعادل درجات الوعي التي يمكن إيقاظها من خلال الممارسات التي من شأنها تغيير أحوال الوعي لدى الناس. فالبعض أكثر وعيًا من غيرهم لمستويات الواقع المختلفة. ويوضح ماكس-نيف أن

تدفق الوعي الذي يجري بصورة مترابطة منطقيًا عبر مختلف مستويات الإدراك، يجب أن يتوافق مع تدفق المعلومات الجاري بترابط منطقي عبر مستويات الواقع المختلفة. (ص 13، انظر أيضًا نيكولسكو، 2002).

ويغذِّي كلٌّ من التدفقين الآخر؛ ويمكن لهما أن يتموضعا على بعضهما البعض بسبب وجود نوع من النفاذية بين مستويات الواقع المتجاورة. فتدفق المعلومات يتشذَّب من خلال مستويات الواقع، وتدفق الوعي يتشذَّب من خلال مستويات الإدراك (نيكولسكو، 2005 آ). ويمكن للتدفقين أن يتناغما (الوعي والمعلومات) لأنهما يتشاركان في منطقة عدم المقاومة ذاتها.

ويمضي نيكولسكو (2006 ب، 2008) أبعد بافتراضه وجود منطقة تجسير بين مختلف أشكال الواقع التي تحافظ على اختلافاتها في حين تسمح بنشوء معرفة جديدة على أسطحها البينية. ويدعو منطقة عدم المقاومة هذه (X في الشكل 2) المكان الذي تتحرر فيه طاقة الناس من خلال تجاربهم وتمثلاتهم وتصاويرهم وصياغاتهم، وفتح فضاء للوحدة والاتساق. ويمكن لهذه الوحدة أن تحدث بسبب احتواء هذه المنطقة (يدعوها الثالث المستتر، مقابل الذات والموضوع المرئيين في الواقعية الكلاسيكية) على أناس بوسعهم رؤية العالم من خلال العديد من مستويات الإدراك، بالاطلاع بعمق على الثقافات والأديان والروحانيات التي يشير إليها نيكولسكو بالمقدسة. وفي إشارة إلى مبدأ جديد للنسبية، يبين أن رؤية العالم من خلال عدسات مستوى متعدد للواقع تخلق منظورات جديدة بخصوص العالم؛ فعندما تتغير منظورات الناس للعالم، يتغير العالم.

في اختصار، النموذج العبرمناهجي للعالم الذي صاغه نيكولسكو (1985؛ 2006 ب) هو بنيان ثلاثي مكوَّن من:

1.    الذات (مستويات إدراك مختلفة محمولة من قبل شخص ما)،

2.    الموضوع (مستويات مختلفة من الواقع)،

3.    الثالث المستتر (منطقة عدم مقاومة تسمح بتوحيد الذات مع الموضوع، أو الإدراك مع الواقع، مع الحفاظ على تبايناتهم).

والثالث المستتر هو منطقة وسيطة لا تتميز بأي مستوى أو مقاومة أو إدراك. ففي حين أن الواقع الكلاسيكي يفترض أن الموضوع مُلاحَظ من قبل شخص (الذات)، فإنه يفترض أيضًا أنه ما من شيء يتوسط هذه الملاحظة. وتقدِّم العبرمناهجية مفهوم الثالث: التفاعل بين الذات والموضوع. فالناس لا "يُجمِّعون" مستويات مختلفة للواقع، بل يربطون تلك المستويات بتحليل دينامي.

إنهم لا يقطِّعون واقعًا إلى شرائح منفصلة (مما يؤدي إلى فقدان المعلومات)، بل يربطون المستويات المختلفة للعديد من أشكال الواقع للحفاظ على جميع المعلومات معًا. وعلاوة على ذلك، قد يبدو هذا الواقع شواشيًا، لكنه في الحقيقة يأتمر بالركائز أو المسلَّمات الثلاثة للعبرمناهجية (نيكولسكو، 2005 آ؛ فولكام، 2007).

كما تفترض العبرمناهجية أن هناك شدٌّ بين أفكار الناس ورؤاهم للواقع وبين تلك التي تدَّعي تمثيله. ويُشار إلى هذا الشدِّ بوصفه مقاومة. فالواقع يُعرَّف على أنه ذاك الذي يقاوم تصور الناس للحياة الإنسانية. فقد يكون لدى شخص صورة عن الفقر، لكن هذه الصورة تُقابَل بتحدٍ عندما تُواجَه فعليًا بالفقر؛ فالواقع يضغط إلى الخلف. ويؤكد نيكولسكو (2006 ب) أنه إذا كان الواقع مبنيٌّ على أساس اجتماعي محض، على اتفاق جمعي، فلن يكون هناك ما يدعو للمقاومة. وعلى أية حال، عندما اكتشف علماء فيزياء الكم "حقول الطاقة"، لم يعد الناس ملزمين بالقبول بأن الواقع ملموس وعياني؛ فقد أصبح بوسعهم إشادة صور جديدة للواقع بناء على فرضيات مادية وغير مادية على حد سواء، واعتناق فكرة تعدد مستويات الواقع. وتشمل هذه مجموعة من النظم الثابتة في ظل قوانين أو مسلمات معينة. ورغم أن هذه النظم المختلفة قد تعمل في ظل قوانين مختلفة، فإنها يمكن أن تبقى متعايشة جنبًا إلى جنب، وتنتج معرفة دقيقة وحصيفة للعالم فيما يتعلق بمستويات كل منها للواقع. وهذا يعني، على سبيل المثال، أن بوسع الناس الآن استشعار نوع جديد من الإدراك. فالعقل والجسد والروح يمكن أن تبدو كمنظومات مترابطة بدلاً من كونها منفصلة ومتقطعة (القوانين الديكارتية الثنائية، الفهم التحليلي المنطقي) (نيكولسكو، 2005 آ؛ فان بريدا 2007). وبوسع الناس التقدير أن إنشاء القيم يتم في منطقة عدم المقاومة (حيث يتم التواصل بينهم)، وأن المعرفة متجهة صوب التشارك (بدلاً من التسلط والتملك)، وأنهم يجاهدون من أجل الفهم وليس من أجل مراكمة المعلومات فحسب (نيكولسكو، 2005 آ، 206 ب).

الواقع، إذن، هو ما يواجهه الناس ويعاند فهمهم الراهن للعالم أو خبرتهم فيه. وقد يواجهون هذه المقاومة على صعيد البيئة والاقتصاد والكون (العالم الخارجي)، كما يمكن أن يواجهوها في عالمهم الداخلي (تاريخهم المُعاش وروابطهم الاجتماعية وفرديتهم وفلسفتهم) (انظر شكل 2). ومن أجل التوسُّط والمصالحة مع هذه المقاومة يتطلَّب الأمر منهم إغناء الأديان والروحانيات والثقافات/التعبيرات الفنية - المقدس (انظر شكل 3). أيضًا، ومن أجل القدرة على الانتقال من واقع إلى آخر، يحتاج الناس إلى منطق الثالث المشمول الذي يقول إن الأشياء في حالة تدفق وحياة مع تغيرات وتفاعلات مستمرة، حيث تُخلَق معرفة جديدة بينما يتنقَّل الناس عبر المستويات المختلفة للمقاومة. وسنناقش المنطق المشمول تاليًا (المسلمة الثانية).

شكل 3: المستويات

المسلمة 2: منطق الثالث المشمول

يشير نيكولسكو (2006 ب)، ببساطة، إلى هذا المنطق بوصفه "الثالث المشمول" لأن المنطق النيوتوني يفترض أن الفضاء الذي يتوسَّط الموضوع والذات فارغ، لا متغاير، ساكن؛ فجوة لا تستحق الانتباه، وبالتالي فهي مُستثناة من فهم الناس للواقع، بدلاً من أن يتضمنها هذا الفهم. وإدراك هذا الفضاء المتوسط كفراغ يعني أن الكثير من الأفكار تسقط بين الشقوق - الفضاء الفارغ بين المعارف المتباينة والقطاعات الخاصة والعامة والمجتمع المدني (انظر شكل 4).

شكل 4: الثالث المرفوع

تمتاز مسلمة الثالث المشمول بالفاعلية؛ فهذا المنطق الشامل يُمكِّن الناس من تصور أن الفضاء بين الأشياء (خصوصًا بين المجالات وأشكال الواقع المختلفة والمجتمع المدني والأكاديمي) نابض بالحياة ودينامي وفي حالة تدفق، يتحرك ويتغير على الدوام (انظر شكل 5). ففي هذا الفضاء المتوسط الخصب يتجلَّى العبرمناهجي لأنه يتغذى من العمل المعرفي المنضبط، في علاقة تبادلية. كما أن المعرفة العبرمناهجية تستلزم تزاوجًا بين المعارف والمجتمع المدني (مكغريغور، 2004).

شكل 5: الثالث المشمول

في حين تشيد البَيْنمناهجية جسورًا بين فروع المعرفة، وبالتالي يمكن للأفكار أن تعبر جيئة وذهابًا (على افتراض أن هناك حاجة إلى جسر لعبور الهوَّة العميقة بين الحقول المعرفية الصلدة)، يكون في العبرمناهجية مَن يغذُّ السير عبر مناطق عدم المقاومة (الثالث المستتر)، على أرضية الثالث المشمول الخصبة، مما يولِّد فهمًا ومعرفة عبرمناهجية جديدة (مكغريغور، 2004). وباستخدام مجاز "مصباح الحمم" Lava Lamp[1]، توحي مكغريغور (2006) أن أشكال الواقع المستقبلية هي في تدفق مستمر (انظر شكل 6). ويكون السائل اللزج للمصباح في حركة دائمة، مع أشياء جديدة تفيض وتتقهقر على الأرضية المتموِّجة (الثالث المشمول). وتنشأ المعرفة المجسَّدة من الطاقة المتولدة عن الانصهار. وعندما تتلاقى كِسرات المعرفة المنفصلة مع الحاملين لها للرقص معًا في الثالث العبرمناهجي الخصب، فإنهم يتحركون أسرع منكشفين على بعضهم أكثر مما هم عليه منفردين، فيخلقون انصهارًا فكريًا.

شكل 6: مصباح الحمم

يزعم المنطق الأرسطي الكلاسيكي (الثنائيات) أنه ليس هناك من موقع متوسط. ويعني هذا، عمليًا، أن هناك الكثير من الحالات التي لا يستطيع فيها الناس من مشارب معرفية مختلفة التواصل مع بعضهم البعض، وبالتالي لا يمكن أن يوجد تكامل أو توليد لمعارف جديدة (مكليف، 2006). بيد أن منطق الثالث المشمول يرى أن هناك أرضية متوسطة إذا قبل الناس بأن لدى المختلفين عنهم إدراكات مغايرة للأشياء ومن الممكن إيجاد معارف جديدة على أرضية وسطى خصبة عند الإصغاء إلى أفكارهم. فبالنسبة إلى أي شخص، أفكاره هي حقيقته إلى حين المواجهة مع أفكار شخص آخر أو معارفه. فإذا كان بوسع الناس التنقُّل (الرقص) في الأرضية الوسطى، ويكونون على تماس مع بعضهم البعض في تحريض فاعل يولِّد طاقة حاثَّة، فسيُخلَق تعاضدًا، وسيترعرع شعور بالجمعية والانتماء؛ شعور بأنهم جزء من كلٍّ أكبر من أن يشكله أي منهم بمفرده. وفي نفس الوقت، سيكون هناك إدراك بأن كل فرد هو شخص جديد ومختلف في كل علاقة تتشكل في الوسط الخصب. فالطاقات الكامنة التي ستنبثق من هذا الرقص الفكري هي وهبٌ للحياة، وسيعوم الناس أحرارًا في الفضاء الفكري الخارجي بدلاً من التخندق في فضائهم المعرفي التقليدي الآمن أو في أسلوبهم الخاص في معرفة العالم (مكغريغور، 2004، 2007).

حالة العوم الحر هذه تسهِّل الإبحار بين مختلف مستويات الواقع المتلاقية (انظر شكل 2)، خالقة معرفة عبرمناهجية جديدة. وما يبدو أنه تناقضٌ مستفحلٌ في أحد مستويات الواقع سيجد حلاً له إن تم النظر إليه من خلال مستوى آخر للواقع (فان بريدا، 2007). مثلاً، في حين تعارض خبرة الموت الوشيك كليًا مستوى واقع العلوم الطبيعية، فإنها قابلة للفهم تمامًا في المستوى الروحي للواقع. فتخيُّل الأبواب الفكرية التي يمكن أن تُشرَّع إذا افترضنا أن أشكال الواقع المستقلة متواجدة بتزامن، وأنها تتجلى لنا من خلال تفاعلنا معها في الثالث المشمول. وتصوُّر عمق الفهم للعالم إذا تبنينا هذه المنظومة العقلية، وإن كانت النتائج متعارضة مع ما يمليه الحس العام. ونتيجة لذلك، سيتساءل الناس دومًا ويجدِّون في البحث عن حلول بعيدة المدى لمشاكل العالم الملحَّة. فعندما يستعمل الناس منطق الثالث المشمول (خالقين فضاء للتناقضات والانقطاعات في مستويات الواقع) من أجل التنقُّل عبر مختلف مستويات الواقع، فإنهم يولِّدون إمكانية دائمة لتطور المعرفة. فالنظريات، على أي مستو معطى للواقع، تصبح نظريات عابرة، وتكون منفتحة على التغيير عندما تُواجَه بتعارضات من مستويات الواقع الأخرى. وتصبح المعرفة بنيانًا مفتوحًا ومعقدًا بدلاً من كونه نظرية أحادية البعد (ماكس-نيف، 2005).

المسلمة 3: المعرفة: التعقيد والانبثاق

بالإضافة إلى التعايش مع المستويات المتعددة للواقع ومن خلالها، والقدرة على اختراق حجاب عدم المقاومة (بعيدًا عن رؤية أحادية للعالم)، وامتلاك المقدرة على التفاعل والتواصل على الأرضية المتوسطة الخصبة، تسعى العبرمناهجية إلى نوع مختلف من المعرفة (الإبستيمولوجيا) القائم على أساس التلاقح التهجيني والتعقيد والانبثاق. ورغم توافر العديد من التعريفات للتعقيد، فإن نيكولسكو (2006 ب) يجادل بأن التعريف الوحيد الملائم للعبرمناهجية هو ذاك الذي يعرضه إدغار موران (2005). ففكرة موران عن التعقيد تأخذ الناس إلى ما يتخطى كونها بسيطة بالنسبة لمنهج معرفة يراعي لغز الكون. فتعريفه للتعقيد خارج عن إبستيمولوجيا العلوم الكلاسيكية لأنه يرفض الاختزال والحتموية والانفصال (الحقيقة الثنائية). ففكرته عن التعقيد تقتضي أن الناس:

-       يدركون العلاقة بين الكلِّ وأجزائه (holons and holography) – مبدأ التمييز الذي يحفظ العلاقات (بدلاً من الاختزالية). كذلك، قد يكون الكلُّ أقل من مجموع أجزائه. فعندما تنظِّم المنظومة ذاتها، فإنها تفتح الأبواب لكبح الخصائص التي قد تبدَّت.

-       يستشعرون العلاقة بين النظام والفوضى والتنظيم (بدلاً من الحتموية)، مُقدِّرين أن النظام يعني الاستقرار والانتظام والتداور (بالإضافة إلى القوانين التقليدية)، وأن الفوضى تعني الإعاقة والتضارب والشذوذية (بالإضافة إلى التشتت والانحلال).

ضمن العبرمناهجية، "لابد للمعرفة ذات الصلة أن تواجه التعقيد. فالمعقَّد/المركَّب complexus يعني ذاك المنسوج معًا" (موران، 1999 ب، ص 15). وعلى افتراض، إبستيمولوجيًا، وجود نسيج ضام بين المعرفة وسياقها والبشر، يوضح موران أن التعقيد يحمل الناس على الانتقال من معرفة مُقيمة في فروع منفصلة إلى تجميع وتنظيم المعرفة المشتتة في العلوم الطبيعية والاجتماعية والهندسية والطبية والإنسانية. فهذا التجميع يدلُّ على ترابط دائم بين الوحدة والتنوع في كل ما هو إنساني. وما يمكن اعتباره معرفة يجب أن يتوسع نطاقه إلى ما وراء ما يولِّده المنهج العلمي لكي يشمل التركيب المعقد لأشكال الفهم المتراكمة من خلال الشبكات صعبة التحليل للعلاقات بين الناس في المعارف الأكاديمية والقطاعات الخاصة والعامة والمجتمع المدني (مكغريغور، 2004، 2006، 2007).

وفي فكرة أكثر ما تكون إثارة للاهتمام فيما يتعلق بخلق هذه المعرفة العبرمناهجية، يحثُّ موران (2005، ص 13) على "ربط منطقي للمفاهيم التي تتنافر عادة، مثل الوحدة والتنوع... ربط كل هذه الأفكار المفكَّكة"، وبالتالي استشعار التنظيم الحي أو النظام. كما يرى أن هذا التنظيم الذي يعمل على المحافظة على نفسه، يفقد جزءًا من طاقته جراء هذا العمل، مما يستوجب عليه استجرار طاقة من محيطه. فالتنظيم يعتمد على التغذية الارتجاعية السلبية (الحفاظ على الحالة الراهنة) والإيجابية (الانحراف عن المسار) من أجل توليد ذاته. ويسمح تزايد الانحراف بالتحول؛ ولذا تتضمن فكرة موران عن التعقيد ضرورة المزاوجة بين الأفكار المتضادة من أجل توليد انحرافات فكرية. وتحدث هذه المزاوجة على الأرضية الوسطى الخصبة، حيث يتم الإبحار في مختلف مستويات الواقع، في تطابق بين الوعي والمعلومات. فالجوهر المنطقي للتعقيد هو الأزواج المتباينة، المحاورات. والإبقاء على هذه الأفكار متفرقة يفضي إلى تفكيك المعرفة، مما يحول دون ربط الأشياء ووضعها في نصابها؛ فالمعرفة المنتزعة من سياقها تؤدي إلى معضلات عصيَّة على الحل، بما في ذلك الفقر. ولذا، "يتعذَّر فصل العبرمناهجية عن التعقيد" (ص 23).

باختصار: هناك مستويات مختلفة للواقع ومستويات إدراك مُطابِقة (ومنطقة ثالثة مستترة من عدم المقاومة والتوسُّط):

1.    تتواجد العديد من مستويات الواقع المختلفة ومستويات الإدراك المُرافِقة في نفس الوقت – وفي الحقيقة، كل مستوى من مستويات الواقع هو على ما هو عليه، لأن كل المستويات تتواجد في الوقت ذاته؛

2.    يكفل منطق الثالث المشمول المرور من مستوى واقع إلى مستوى آخر (حيث يتدفق الوعي والمعلومات)؛

3.    بنية المعرفة المتولدة من مجمل الحركة بين مستويات الواقع والإدراك هي بنية معرفية معقدة ومكشوفة (نيكولسكو، 2005 آ).

نظرة متفحصة على تقرير مالطا لمكافحة الفقر باستخدام العبرمناهجية

ما علاقة كل ما سبق بالفقر؟ لأن الفقر مشكلة عبرمناهجية.

ما الذي يمكن اعتباره مشكلة عبرمناهجية؟ إنها المشاكل العميقة البعيدة المدى التي تشكل معضلات وسيناريوهات وشروط تشكِّل العالم برمته. إنها تقع ضمن الحقل الإشكالي المرئي على نحو تعددي والتي لا يمكن حلُّها حقًا أو فهمها بعمق إلا عن طريق الاستفادة من المعرفة التي أنشأتها منظورات العالم الحي المتكاملة من الفروع المعرفية والأكاديمية والمؤسسات العامة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. وهذه المشكلات، بطبيعتها، عسيرة الحل والفهم في كلِّيتها. فهي تشمل (موران، 1999 ب؛ اليونسكو، 1998، فان بريدا، 2008):

-       الشروط الإنسانية؛

-       العدوان البشري؛

-       الحرية الإنسانية والعدالة؛

-       التمكين والإمكانات البشرية وحق تقرير المصير؛

-       توزيع الموارد المتكافئ؛

-       التنمية البشرية؛

-       الإنسان والاستدامة البيولوجية؛

-       الإيديولوجيات والنماذج والرؤى العالمية؛

-       علاقات القوى؛

-       قضايا ذات آثار عالمية (مثل الفقر، الأمن الغذائي، التغيرات المناخية، النمو السكاني، الهجرة البشرية، الصحة العامة، العولمة، الإبداعات التكنولوجية).

إن توافرت الشروط اللازمة لتوليد المعرفة العبرمناهجية (مستويات الواقع، منطق الثالث المشمول، التعقيد/الانبثاق)، فسينشأ برنامج من الحوار المرتكز على المعرفة العبرمناهجية. فالفقر مرتبط بالعديد من المشاكل العبرمناهجية الأخرى: الشروط الإنسانية، الإخلال بتدفق الطاقة، الإمكانات البشرية غير المُنجَزة، إعاقة الحرية والعدالة، عدم الاستدامة، عدم التمكين الفردي والمجتمعي، التوزيع اللاعادل للموارد، إساءة استعمال السلطة الشخصية والسياسية من خلال العدوان والتنمية غير المتوازنة. لذا، من أجل خلق معرفة عبرمناهجية لمعالجة الفقر، يتطلب الأمر مزاوجة العلوم البيئية والاقتصادية والسياسية وقوانين العمل وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والصحة والعديد من الفروع المعرفية (الوقائع) الأخرى، جنبًا إلى جنب مع تكامل وتلاقح الرؤى الأكاديمية مع القطاعات الخاصة والعامة والمجتمع المدني.

إذا اقتنع الناس بأن الواقع هو كلٌّ متناسق مؤلف من عدة طبقات، فسيقبلون ضرورة إدراكهم لكل الطبقات حين ينظرون إلى أي مستو معين من الواقع وهو يعالجون مشكلة عبرمناهجية. وسيحول هذا الإدراك دون النظر مرة أخرى إلى مظهر واحد للمشكلة فقط، بما في ذلك الفقر. وسيتوجَّب التفكُّر في دور طبقة القسيمات اللامرئية والطبقة المادية والطبقات البيولوجية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية للفقر. فهناك تحدٍ يتمثَّل في عدم التغاضي عن الكل حين التعامل مع الفقر بوصفه قضية اجتماعية معقدة. ومن هذا المنظور، سيكون من السهل رؤية الضرورة الملحَّة للفروع المعرفية المُستعرِضة والصناعة وقطاعات المجتمع المدني من أجل حل المشاكل في عالم اليوم. وسيتكون فضاء فكري فعال من مجموعة المنظورات المختلفة العابرة للقطاعات والتي شقَّت طريقها للعيش والعمل معًا من أجل خلق معرفة تكاملية مُجسَّدة (إيرتس، 2001؛ مكغريغور، 2004؛ اليونسكو، 1998).

من الهام موضعة الفقر ضمن العبرمناهجية من أجل إعادة التفكير في حالة تعدد الأزمات الراهنة. إنها تساعد على فهم جذري المنظور العلائقي لبنيان الواقع المتعدد الطبقات المعقد والجديد الذي تواجهه الإنسانية. وكما يوضح تقرير مشروع المجتمع المدني حول الفقر 2008 (زويرب، 2008)، ليس بالوسع على الإطلاق القبض على واقع واحد للفقر بسبب وجود مستويات مختلفة لواقع الفقر، وبالتالي مستويات مختلفة من التصورات حوله (نيكولسكو، 2006 ب؛ فان بريدا، 2002008). ففي مقدمة التقرير، يعكس توصيف زويرب (2008) للفقر الفهم العبرمناهجي لهذه المشكلة العسيرة، المختلفة عن المشكلة المعقدة. فالأولى تُشخَّص على أنها عصية على الحل لكونها صعبة ومتشابكة ومتخمة بالعقد. أما المشاكل المعقدة فلها ميزة الانبثاق الإضافية. ويظهر توصيف زويرب للفقر فوضى أكثر تعقيدًا. فهو يُقارب الفقر من ناحية الأمن العالمي والشخصي والحقوق الإنسانية والحقوق العالمية والمسؤوليات الأخلاقية ونظام العدالة، بالإضافة إلى العدالة بين الأجناس. ويحتوي التقرير على مُزخرَفات مؤثرة للحياة المعاشة لأولئك الذين يعانون الفقر في مالطا (وجوه الفقراء). كما يتضمن تفصيلات حول مختلف المبادرات السياسية ومناقشات لمقاربة مبدئية للفقر. إنها قضية شائكة بالتأكيد.

ومع ذلك، فالمشكلة العبرمناهجية المعقدة ليست مجرد مشكلة عسيرة، فهي أيضًا تُبدي انبثاقًا. إنها الفعل الوحيد القادر على فكِّ تشابك خيوط مشكلة عسيرة وإعادة حياكتها بخيوط جديدة، وفي كلٍّ جديد. ويشير الانبثاق إلى نوعيات وخصائص وأنماط وبنى مبتكَرة تظهر من التفاعلات البسيطة نسبيًا والكيفيات التي لم تكن موجودة عندما كانت منعزلة. وتترقَّد هذه الكيفيات في أنساق من التعقيد المتزايد (موران، 2005؛ نيكولسكو، 2008). ويعني الانبثاق أن بوسع الناس الافتراض أن الفقر متغير باستمرار؛ فهو نسيج غني من البنى والوظائف المجتمعية. وتواصل هذه الحياكة الجديدة للفقر (وفهم الناس له) التغيير، لأن بنى ونماذج وخصائص مُتَّسقة جديدة تنبثق نتيجة التفاعلات بين الناس الساعين إلى معالجة الفقر بالعمل ضمن شبكة من العلاقات المتغيرة (على أرضية الثالث المشمول). ويتم التخلي عن تصورات أصلية أو تحويلها مع تشكُّل نسيج جديد. كما تتغير باستمرار الطاقة المتولدة والمعلومات الناتجة والشراكة المتشكلة كلما تغيرت أشكال فهم الفقر – كل شيء في حالة تدفق وتشكُّل. إن القصد من خلق معرفة عبرمناهجية هو التعرُّف على العالم بشكل أفضل عن طريق نسج العديد من الطرق المعرفية من حيث صلتها بالفقر.

وفي عودة إلى تقرير مشروع المجتمع المدني نجد أنه يتضمن مساهمات متفرقة ترسم مجتمعة صورة لتشابك قضية الفقر في مالطا والمحيط الأوروبي. وقد ظهرت الصورة المتشابكة للفقر (بدلاً من الصورة المعقدة) نظرًا لعدم توافر نيَّة لخلق معرفة عبرمناهجية تراعي مستويات الواقع ومنطق الثالث المشمول وطرائق الفهم المعقدة. وقد عمل الـ 21 شخصًا المساهمين على انفراد في مجالاتهم الخاصة والقطاعات المجتمعية والأجهزة الحكومية وقدموا أوراقًا منفصلة تتناول أبعادًا سياسية واقتصادية واجتماعية مُقنِعة لقضية الفقر: الهجرة غير الشرعية والنزوح الحدودي، التجارة الدولية، السياسة الاجتماعية المحلية، سياسات الاتحاد الأوروبي، المواطنة، الثقافة، المبادئ الأخلاقية، العدالة الدولية وحقوق الإنسان. وقد تم جمع هذه الأوراق المتفرقة وتصنيفها في ثلاثة أقسام من قبل المحرر (زويرب، 2008).

وعلى الرغم من غياب التكامل في المنظورات أو الرؤى أو المعرفة الجديدة، سعى المحرر في تمهيده للتقرير (ص 3 - 6) إلى الإيحاء بأن خلق معرفة عبرمناهجية يمكن أن تتدفق من الجهود ذات الصلة في المستقبل. ويدعو زويرب (2008) إلى خلق تآزر بين المجموعات العاملة على قضية الفقر، من أجل مكافحة الإقصاء (المختلف عن الفقر)، ومن أجل التكامل والوحدة في التنوع، ومن أجل مبدأ التكافل. كما يدعو إلى حوار بَيْنثقافي كامل وصريح ومكثَّف، وتطوير "نظام التعقيد". ويرى ضرورة أن يكون المجتمع حارسًا للأجيال القادمة التي لا صوت لها بعد في عالم اليوم. ويدعو أيضًا إلى الانعكاسية والوكالة  الاجتماعية والكرامة والقدرة على ممارسة فرص الحياة وإمكانية الوصول. كما يحثُّ على استنباط جدول أعمال من أجل الصالح العام. وهو يعتقد بإمكانية عبرمناهجية لهذه المبادرة.

إذا كان الأمر كذلك، يمكن للرؤى المعقدة حول الفقر أن تتراكم في مجرى العمليات والحوارات التفاعلية والتواصلية والارتدادية في أوساط المساهمين في هذا التقرير. فمن خلال هذه السيرورة ستتوسَّط تموضعات قيِّمة وتضارب اهتمامات وتتفاوض وتتحوُّل. وسيقدر المساهمون أن الحلول الملحة بشأن الفقر تتطلب، رغم الافتقار إلى معلومات ناجزة، طرائق لتحديد استراتيجيات العمل المُثلى. وسنطَّلع على هذه العملية عن طريق قيمها ومعاييرها بينما يتفاعل الناس ويتواصلون مع بعضهم البعض في الفضاء المتوسط الخصب (كوفر، 2001؛ نيكولسكو، 2006 ب).

وعلى الرغم من توافق رؤية زويرب (2008) في تقرير المشروع مع روح العبرمناهجية، فإن المشروع لم يجرِ إعداده لكي يكون عبرمناهجيًا. وكما أوحى فان بريدا (2007، 2008) فإن قدرات الناس على توليد المعارف والمعلومات لمعالجة مشكلة الفقر تتحسَّن عندما لا يوقف عملهم انقطاعات حدِّية بين مختلف مستويات الواقع. فالناس العاملون انطلاقًا من أشكال الواقع هذه لا يرون العالم بالطريقة ذاتها؛ إذ أن تفكيرهم قد صيغ بشكل مختلف. وعندما يستطيعون فقط الاستغناء عن مقاومتهم في الوصول إلى الحقيقة المُعلَنة من قبل أشكال الواقع الأخرى، يكون بوسعهم ضم أشكال الواقع هذه لتوليد معرفة معقدة من أجل معالجة مشكلة الفقر المتعددة الأزمات.

يوضح الشكل 7 الاختراق المطلوب في النظام من أجل خلق معرفة عبرمناهجية عن طريق مختلف مستويات الواقع المتعلقة ببعضها البعض. فالتعقيد المتزايد لأهم قضايا عصرنا يتطلب مساهمة نشطة من جانب فريق من الخبراء ذوي خلفيات ثقافية متنوعة ومتتامَّة. وفي الحقيقة، الناس بحاجة إلى مفاهيم عبرمناهجية يمكن استخدامها من قبل فرق عبرقطاعية وهم يُكاملون جهودهم لمعالجة المشاكل العالمية المعقدة. فهناك الكثير من المتغيِّرات اللازمة لفهم العالم والتي يصعب إعاقتها بأية صيغة عالمية، تسعى العبرمناهجية إلى تعدُّد البُعديَّة – دمج رؤى المعارف مع مساهمات من مختلف الخلفيات والمدارس الفكرية والثقافات والأجيال (اليونسكو، 1998).

شكل 7: الاختراق الثقافي العبرمناهجي

الأفكار المنبثقة

يمسُّ الفقر، كأية مشكلة معقدة أخرى، جميع الناس بطرق مختلفة لكنها على درجة من التماثل. ولذا يقترح فان بريدا (2008) استخدام مفهوم "أشكال الفقر". فهناك الكثير من الطرق للعيش في الفقر، والكثير من الظروف القاهرة، بحيث يمكن القول إنه ما من توصيف أوحد أو تحليل أوحد ينطبق عليها جميعًا. واستنادًا إلى كتاب ماكس-نيف مقياس التنمية البشرية (الحاجات الإنسانية الأساسية)، يرى فان بريدا أن ميسوري الحال من الناس يواجهون نوعهم الخاص من الفقر، حيث أن الأرض ونطاقها الحيوي يزدادان فقرًا، وأن الكثير من الناس في العالم يعيشون حالات إفقار مُساوِمة للحياة ومُنهية لها. ولأن مشكلة الفقر تمسُّ جميع الناس، والطبيعة كذلك، فمن اللازم تعاضد الجميع وعرض مساهماتهم من أجل فهم هذه المشكلة وإيجاد الحلول لها. ولابد من أخذ قطاع عريض من المجتمع الدولي من أجل التصدي لمشكلة الفقر، فما من بلد واحد يحتكر المقاربات أو الرؤى الفكرية لهذه المشكلة. فهناك ضرورة لتوليد وتوليف معرفة عبرمناهجية إذا ما أمِلْنا هذا الشرط الإنساني الشامل على نحو أخلاقي وبما فيه الكفاية.

لا يمكن خلق هذا النوع الخاص من المعرفة ونقلها إلا عبر وبين وفيما وراء المؤسسات الأكاديمية والحكومية والمجال الصناعي والمجتمع المدني. فهي تستلزم أفكارًا جديدة للواقع ومنطقًا شاملاً وفهمًا جديدًا لما يُعتبَر معرفة (تعقيد منبثق على وجه التحديد).

وتتقبَّل المعرفة العبرمناهجية شتى صنوف الإيديولوجيات والنماذج، مُمكِّنة من تحول في المنطق وطرق معرفية ووجود في العالم. ومن خلال انبثاق الوحدة في ظل التنوع، يتم خلق معرفة عبرمناهجية يمكن أن تكون مؤثرة في المسألة الملحة المتمثلة في الفقر على الصعيد العالمي. فالنظرية العبرمناهجية يتم تطويرها بالكامل، وتتكرس فيها طاقة عالمية الانتشار. لقد آن أوان العمل، والناس مضطرون إلى توسيع حواراتهم وتكثيف طاقاتهم حول العبرمناهجية في حيواتهم الفردية وفي التعليم والميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية (نيكولسكو، 2006 ب).

"تواجهنا تطورات خاصة بعصرنا الكوكبي على نحو أكثر تواترًا، [حتمًا] بتحدٍ للتعقيد" (موران، 1999 ب، ص 15). فالفقر ليس حالة استثنائية، لأن عالميته تتجلى على مستويات عدة – اقتصاديًا، ثقافيًا، اجتماعيًا. وهو يتفاقم من جراء عوامل لا حصر لها: العولمة، التكنولوجيا، السياسة والعلاقات الدولية، التعليم. ومن أجل تحويل الفقر في العالم، هناك ضرورة إلى المعرفة العبرمناهجية بمسلَّماتها الثلاثة عمَّا يعتبر واقعًا ومنطقًا وطرقًا للمعرفة. وبما أن الكيانات المعقدة، مثل البشر والمجتمعات، متعددة الأبعاد، فالمطلوب مقاربات متعددة الأبعاد للتعامل مع تجارب الناس المعاشة. فهناك ضرورة للكفِّ عن تجزيء الأفكار إلى قطاعات ومعارف منفصلة (موران). فلم يعد بوسع الناس فصل أنفسهم عن عالم الحياة أو الاتكال على الاختزال والتفكير المجزَّأ؛ إنهم بحاجة إلى ارتباط جديد وتأويلي وتكاملي مع عالم الحياة، وسيحدث هذا من خلال تفكير ومعرفة عبرمناهجية (فان بريدا، 2007). فبوسع العقول المُشكَّلة من خلال التفكير العبرمناهجي اكتساب القدرة على تأطير المعرفة ودمجها في كياناتها الطبيعية. ومن خلال السيرورات والتبادلات الغنية تتفاعل هذه العقول وتنتج معرفة معقدة تتضمن انعكاسيتها الخاصة. فالمعرفة نابضة بالحياة، لأن المشاكل التي تتناولها المعارف حيَّة ومنبثقة من عالم الحياة – كما هو الحال بالنسبة للفقر. وهذه نظرة منهجية ذات فاعلية بالنسبة لسلوك لقيادة النظري والعملي.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***

المراجع

-        Aerts, D. (2001). Transdisciplinary and integrative sciences: Humanity’s mind and potential. Brussel, Belgium: Vrije Universiteit, Center Leo Apostel. Retrieved August 12, 2008 from http://www.vub.ac.be/CLEA/aerts/publications/2001EncLifeSupSys.pdf

-        Küffer, C. (2001). td-net for transdisciplinarity research. Berne, Switzerland: Swiss Academy of Arts and Sciences. Retrieved August 13, 2008 from http://www.transdisciplinarity.ch/bibliographie/Transdis_e.html

-        MacCleave, A. (2006). Incommensurability in cross-disciplinary research: A call for cultural negotiation. International Journal of Qualitative Methods, 5(2), retrieved August 12, 2008 from http://www.ualberta.ca/~iiqm/backissues/5_2/HTML/maccleave.htm

-        Max-Neef, M. (1991). Human scale development. NY: Apex Press.

-        Max-Neef, M. (2005). Foundations of transdisciplinarity. Ecological Economics, 53, 5-16.

-        McGregor, S.L.T. (2004). Nature of transdisciplinary research and practice. Kappa Omicron Nu Human Sciences Working Paper Series, http://www.kon.org/hswp/archive/transdiscipl.html

-        McGregor, S.L.T. (2006). Transformative practice. East Lansing, MI: Kappa Omicron Nu.

-        McGregor, S.L.T. (2007). Consumer scholarship and transdisciplinarity. International Journal of Consumer Studies, 31(5), 487-495.

-        Menchú, F. R. (Ed.). (2007). Learning indigenous development. Warwickshire, UK: Practical Action Publishing, ETC/Compas. E-Book retrieved August 7, 2008 from http://www.compasnet.org/afbeeldingen/Books/Lendev/lendev.html

-        Morin, E. (1999a). Homeland earth. London: Hampton Press.

-        Morin, E. (1999b). Seven complex lessons in education for the future [Trans, Nidra Poller] (EDP-99/WS/3). Paris, France: UNESCO. Retrieved August 12, 2008 from http://unesdoc.unesco.org/images/0011/001177/117740eo.pdf

-        Morin, E. (2005). Restricted complexity, general complexity. In C. Gershenson. D. Aerts and B. Edmonds (Eds.), Worldviews, science and us: Philosophy and complexity (pp. 5-29). London: World Scientific Publishing. E-chapter retrieved August 12, 2008 from http://www.worldscibooks.com/chaos/etextbook/6372/6372_chap01.pdf

-        Nicolescu, B. (1985). Nous, la particule et le monde [We, the particle and the world]. Paris: Le Mail.

-        Nicolescu, B. (2002). Manifesto of transdisciplinarity [Trans. K-C. Voss]. NY: SUNY.

-        Nicolescu, B. (2005a). Towards transdisciplinary education. TD: The Journal for Transdisciplinary Research in Southern Africa, 1(1), 5-16. Retrieved August 11, 2008 from http://www.td-sa.net/files/article-4-file_2.pdf

-        Nicolescu, B. (2005b). Transdiscipliarity - Theory and practice. Cresskill, NJ: Hampton Press.

-        Nicolescu, B. (2006a). International congresses on transdisciplinarity [Interview given by Basarab Nicolescu to Professor Augusta Thereza de Alvarenga of the Faculty of Public Health, University of São Paulo, Brazil]. Message posted August 12, 2008 to http://www.groups.yahoo.com/group/%20(transdisciplinarity%40yahoogroups.com)

-        Nicolescu, B. (2006b). Transdisciplinarity - past, present and future. In B. Haverkott and C. Reijntjes (Eds.), Moving Worldviews Conference Proceedings (pp. 142-165). Leusden, the Netherlands: ETC/Compas. Retrieved August 7, 2008 from http://www.movingworldviews.net/Downloads/Papers/Nicolescu.pdf

-        Nicolescu, B. (2007). Transdisciplinarity as methodological framework for going beyond the science-religion debate. The Global Spiral, 9(4). Retrieved August 7, 2008 from http://www.metanexus.net/magazine/tabid/68/id/10013/Default.aspx

-        Nicolescu, B. (2008, July 13). The idea of levels of reality and its relevance for non-reduction and personhood. Opening talk at International Congress on Subject, self, and soul: Transdisciplinary approaches to personhood. Madrid, Spain: Universidad Pontificia Comillas. http://www.metanexus.net/magazine/tabid/68/id/10013/Default.aspx

-        UNESCO. (1998). Transdisciplinarity: Stimulating energies, integrating knowledge. Paris: Author, Division of Philosophy and Ethics. Retrieved August 12, 2008 from http://unesdoc.unesco.org/images/0011/001146/114694eo.pdf

-        vanBreda, J. (2007).Towards a transdisciplinary hermeneutics. Paper presented at the Building the Scientific Mind Conference. Vancouver, BC. Emily Carr Institute. Retrieved August 7, 2008 from http://www.learndev.org/dl/BtSM2007/JohnVanBreda.pdf

-        vanBreda, J. (2008). Exploring non-reductionism and levels of reality. The Global Spiral, 9(4), Retrieved August 7, 2008 from http://www.metanexus.net/magazine/tabid/68/id/10532/Default.aspx

-        Volckmann, R. (2007, June). Transdisciplinarity: Basarab Nicolescu talks with Russ Volckmann. Integral Review, 4, 73-90. Retrieved August 11, 2008 from http://integral-review.org/documents/Volckmann,NicolescuInterviewonTransdisciplinarity4,2007.pdf

-        Xuereb, P.G. (Ed.). (2008, June). Civil Society Project Report: The fight against poverty. Msida, Malta: University of Malta, European Documentation and Research Centre.


 

horizontal rule

٭ أُعدَّت هذه الورقة، أصلاً، للإلقاء في جامعة مالطا ومركز البحوث والتوثيق الأوروبي ERDC ومركز جان مونيه الأوروبي ومؤتمر مالطا الدولي لمكافحة الفقر.

٭٭ الدكتورة سو إل. تي. مكغريغور، كندية الأصل، باحثة في مجال الاقتصاد المنزلي، وأستاذة في كلية التربية في جامعة مونت سانت فنسنت، كندا. لها العديد من الكتب والدراسات، منها كتاب: الممارسة التحويلية (2006). يتركز عملها الحالي على التوعية الاستهلاكية والاقتصاد المنزلي، تفكيرًا وتطبيقًا، نحو التحقُّق العبرمناهجي والمقاربات التحويلية (قيادة وتعليمًا) والأولويات الأخلاقية والعلوم الحديثة. وهي كبيرة المستشارين في مجموعة مكغريغور الاستشارية التي تأسست العام 1999.

[1] مصباح الحمم (البركانية) يستخدم  للزينة أكثر منه للإضاءة ، حيث توحي نقاط الشمع المختلفة الأشكال المتساقطة في داخله بمنظر الحمم البركانية. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود