فيسوافا شيمبورسكا: الروزنامة، ميووش، وإيلاّ فيتزجيرالد

فيسوافا شيمبورسكا

 

«قراءة غير ملزمة» هو عنوان عمود صحافي، كان يُفترض أن يكون مُخصصًا لمراجعة الكتب، واظبت الشاعرة البولندية المتفردة فيسوافا شيمبورسكا على كتابته أسبوعيًّا لما يقرب من أربعة عقود. وقد طُبعت مقالاته في عدة أجزاء بالبولندية، ثم تولت كلير كافاناج ترجمة مختارات منها إلى الإنكليزية في كتاب يحمل العنوان نفسه، صدر عن دار «هاركوت» (نيويورك - لندن) عام 2002. تنصح شيمبورسكا القارئ في مقدمتها للطبعة الإنكليزية، بألا يتوقع مراجعات تقليدية للكتب بل اسكتشات أو رسوم تخطيطية؛ وتضيف أن ما ألهمها فكرة هذا العمود في أول الأمر، هو وجود باب في الصحافة الأدبية عنوانه «كتب جرى استلامها»، حيث تجري الإشارة العابرة لهذه الكتب بينما لا ينجح إلا القليل منها في الوصول إلى باب «المراجعات النقدية». لاحظت شيمبورسكا أيضًا أن الكتب التي تجري مراجعتها هي عادة الكتب السياسية والأدبية، وهي نفسها - في رأيها - الكتب التي يغطيها التراب في المكتبات. في الوقت نفسه، لا تلفت القواميس، والكتب العلمية، وتلك التي تتناول التجميل والطبخ والطيور والكلاب واليوغا وتنسيق الحدائق انتباه الصحافة الثقافية مع أنها في الواقع الكتب الأكثر مبيعًا وقراءة وحضورًا في حياة الناس. أرادت شيمبورسكا في البداية أن تقوم بمراجعة هذه الكتب عبر وصف طبيعة الكتاب ووضعه في سياقه الأوسع وتقييمه في ضوء هذا السياق، ولكنها تراجعت عن هذه الفكرة: «اكتشفت بسرعة أنني لا أستطيع كتابة مراجعة نقدية ولا أريد أن أقوم بذلك. ذلك أنني ببساطة أريد أن أظل قارئة هاوية ومعجبة وألا أقع تحت وطأة التقييم المتواصل».

تتمتع هذه القطع النثرية التي كتبتها حاملة «نوبل للآداب» (1996) بحرية سردية كبيرة؛ أحيانًا يكون الكتاب حقًا هو موضوع المقالة، ولكن في معظم الأحيان لا يزيد دوره عن كونه سببًا ومشجعًا للسرد. وفي كل الأحوال تظل شيمبورسكا مدهشة في أرض النثر كما هي دائمًا في أرض الشعر، فيما يلي ترجمة لثلاثة نصوص من عمودها.

إيمان مرسال

***

طاوية الصفحات

ولماذا لا نقول كلمتين عن الروزنامة التي نقطع صفحاتها؟ إنها كتابٌ رغم كل شيء، بل وكتاب ضخم جدًا حيث لا تقلُّ صفحاتها بأي حال عن 365 صفحة. يُباع منها في الأكشاك أكثر من ثلاثة مليارات وثلاثمئة ألف نسخة، وبذلك تكون الروزنامة هي الكتاب الأكثر مبيعًا على الإطلاق.

إنها تتطلب التزام ناشريها الصارم بالمواعيد. لا يمكن تأجيل صدورها عامًا أو عامين. تتطلب أيضًا دقة بالغة من المراجعين، حيث يمكن لخطأ صغير أن يُسبب اضطرابًا في العقول. إن المرء ليرتعد إذا وجد يوميِّ أربعاء في أسبوع واحد أو وجد عيد سانت جورج يحلُّ محل عيد سانت جوزيف. ليست الروزنامة عملاً أكاديميًا، حيث طبقًا للتقاليد تجري إضافة ملحق للأخطاء المطبعية، كما أنها ليست مجلدًا للشعر حيث يجري تلقي أخطاء المحررين كأنها نزوات للإلهام. يُستنتج مما سبق أننا نتعامل مع الروزنامة بحب استطلاع تحريري، لكن الأمر أكبر من هذا.

تقع الروزنامة تحت رحمة تصفية تدريجية كلما جرى اقتطاع ورقة من أوراقها. ستصمد ملايين الكتب بعدنا، لكن عددًا لا بأس به منها سيصبح مضحكًا، عتيقًا، وكتابته رديئة. الروزنامة هي الكتاب الوحيد الذي ليس في نيته أن يبقى بعدنا، هذا لا ينطبق على تلك المعطلة فوق رفوف المكتبات؛ فهي مؤهلة لحياة قصيرة. إنها في تواضعها لا تحلم حتى بقطع ورقة منها، برغم أن صفحاتها مليئة بالنصوص على كل حال. فيها القليل من كل شيء: الذكرى التاريخية لما قد يكون قد حدث في مثل هذا اليوم، القوافي، الأمثال، الطرائف (كل ما هو مثير للضحك في الروزنامة)، البيانات الاحصائيَّة، الألغاز، تحذيرات التدخين، وتلميحات لكيفية التخلص من الحشرات المنزليَّة. إنها التنافرات المروعة التي تنتج من ذلك الخليط من الموضوعات: تتجاور مهابة التاريخ مع التفاهات اليومية، تعاليم الفلاسفة مع التكهن المقفَّى بالأحوال الجوية، سِيَر الأبطال الذاتية بتعاليها جنب نصائح الخالة كليمتناين المنزلية... البعض سوف يفزعه ذلك بالطبع. ولكن من كان منا يسكن في كراكوف (وبالتالي بجوار مقابر الملوك) سيتأثر بغموض الروزنامة، لدرجة أنني وجدت سر التشابه بينها وبين الحكايات العالمية العظيمة، كأن الروزنامة هي منجم الملحمة، إنها ابنة حرام. وعندما أصادف عدة سطور من قصيدة لي تعود إلى تاريخ محدد (تاريخ جيد، إن شاء الله!)، أتقبل هذه الحقيقة باستسلام حزين. قفا الصفحة عليه وصفة لعمل فطيرة الجبن على الطريقة الفينيسيَّة: نصف كيلو من الجبن، ملعقة شاي من مطحون البطاطس، كوب من السكر، ستة ملاعق صغيرة من الزبدة، أربع بيضات، فانيللا، زبيب.

وينتهي الأمر مع هذا الزبيب. أتمنى لقرائي سنة سعيدة.

(«روزنامة حائط لسنة 1973»، وارسو)

***

إيلا فيتزجيرالد

منذ زمن وأنا أريد أن أكتب قصيدة عن الرائعة إيلا فيتزجيرالد. لسبب ما لم تأتِ القصيدة. اتضح، مع ذلك، أن كل ما أردتُ قوله كان قد قيل بالفعل، جرى اختباره، وأعيد تأكيده مرات ومرات. ولكن ما منعني حقًا كان شيء آخر في اللاوعي، والآن أدرك ما هو. أنا عرفت غناء إيلا من التسجيلات فقط، لم أسمعها أبدًا على الطبيعة. لقد فهمت من كتاب ستيوارت نيكلسون أنك إذا لم ترَ أو تسمع إيلا حقيقة وهي تؤدِّي، فلن تكون عندك أي فكرة عنها: أنت لا تعرف ارتجالاتها الشيطانية، دقتها التي لا تُضاهى في الغناء، ولا حريتها المدهشة في التعامل مع الموسيقى.

لا بد أن من كان محظوطًا وسمعها على الطبيعة قد شعر بنفس شعور أوديسيوس وهو مربوط بصاري السفينة، مع فارق واحد: السيرينات اللواتي أغويْن السيد أوديسيوس اتصفن بالسيرة السيئة والنوايا الشريرة، لكن غناء إيلا كان بريئًا. كان في صوتها دائمًا تلك المسحة من البراءة الصبيانية و- ربما يكون هذا هو التعريف الأفضل - حُسن النية تجاه الجمهور. لذلك حتى لو قبلتُ أن التسجيلات لا تحتوي كل شيء، فإنني ما زلت أعرف ما يكفي لأعتزَّ بمشاعري الدافئة تجاه إيلا. صوتها يصالحني على حياتي، يُبهجني. لا أستطيع أن أقول الشيء نفسه عن أي مغنٍّ آخر. بالنسبة إلي هي فقط الأفضل، وأشك أن أي مخلوق بإمكانه تغيير رأيي.

اعتزلت إيلا منذ خمس سنوات أي بعد نصف قرن من الغناء. خلال ذلك الوقت حصلت على كل ما يمكن من الجوائز والتكريم. عملت مع أعظم عازفي الجاز، وما زالت تسجيلاتها تبيع بالملايين. مع ذلك، في لحظة ما من الستينيَّات، بدأ ذوق المستمعين يتغيَّر. بدأ الناس في ملاحظة بعض المحدودية في غناء إيلا. ليس في صوتها الذي يستطيع تخطِّي كل العواقب بسهولة، ولكن في أسلوبها. خُذ، على سبيل المثال، بيلي هوليداي التي تنزف قلبها وروحها وأعضاء أخرى عديدة في أغانيها. إيلا لم يكن لديها ميل إلى التمثيل. لقد حافظت دائمًا على مسافة قصيرة بينها وبين النص؛ لم تحوِّل الأغنية أبداً إلى فقاعة. الحمد لله، أنا أرى في هذا مجدًا يُضاف إلى مجدها.

الغناء التعبيري منحدر زلق، بمجرد أن تعتاده يصبح من الصعب أن تُقلع عنه. لقد وصلنا الآن (أتمنى ذلك) إلى المرحلة النهائية من تلك التعبيرية. لم نعد نستمع إلى الغناء، بل إلى عرض للأصوات العصبية حيث تبدو أي براعة موسيقية بالنسبة لها خالية من المعنى، وحيث يجري تضخيم وحدات الصوت بدلاً عن الموسيقى. قد تكون العواطف في حد ذاتها نبيلة، من قبيل أن على الناس أن يكونوا أخوة، يجب أن نحب الطبيعة، إلى آخره، ولكن هذه العواطف يجري تقديمها بطريقة إرهابيَّة، كما قال وودي آلن في أحد من أفلامه: «دعنا نخرج من هنا. عندما ينتهون من الغناء، سيبدأون في أخذ رهائن».

(إيلا فيتزجيرالد، ستيوارت نيكلسون. ترجمه عن الإنجليزية اندريز شميدت 1995)

***

توتُّر

شعر تشيسواف ميووش في «قراءة غير مُلزِمة؟» بأنَّ قراءته مُلزِمة في كل الأحوال، وخاصة لمن عندهم عادة التفكير بين الحين والآخر – أو هذا ما يجب أن يكون. مع ذلك، لن أتحدث عن شعره هنا. عندي فكرة أكثر سوءًا. سأتحدَّث عن نفسي، أو بمعنى أصح، عن كيف أصبح متوترة في حضرته؛ العمل والمؤلف على حد سواء. بدأ ذلك مبكرًا، في فبراير من سنة 1945، كنتُ قد ذهبت إلى مسرح ستاري في كراكوف، حيث جرى تنظيم أول قراءة شعرية منذ ما قبل الحرب. لم تعنِ أسماء المشاركين شيئًا بالنسبة إلي. كنت إلى حد ما واسعة الاطلاع على الكتابات النثرية، أما الشعر، فمعرفتي به لم تكن تتجاوز الصفر. مع ذلك استمتعت وتأملت. لم تكن قراءات المشاركين بنفس الجودة. بعضهم كان منمقًا بشكل لا يُحتمل، بينما تحشرج صوت بعضهم وارتعشت الأوراق في أياديهم. جاءت لحظة قدموا فيها شخصًا اسمه ميووش. قرأ بهدوء، بدون تمثيل. كأنه كان ببساطة يفكر بصوت عال ويدعونا كي نشاركه أفكاره. قلتُ لنفسي «وجدتُها! هذا هو الشعر الحقيقي، هناك إذن شاعر حقيقي». لم أكن منصفة، لقد كان هناك ما يستحق اهتمامًا خاصًا مما قرأه شاعران أو ثلاثة آخرون، لكن الاستثناء له درجات أيضًا. قادتني غريزتي أن أتابع ميووش.

لم يمض وقت طويل عن هذا الإعجاب حتى وُضعت في اختبار قاسٍ. لأول مرة في حياتي أجد نفسي في مطعم حقيقي بسبب مناسبة خاصة أو شيء من هذا القبيل. نظرتُ حولي وما رأيت إلا ميووش جالسًا مع أصدقائه بالقرب مني وهو يلتهم ضلع خنزير مع مخلل الكرنب. كان ذلك صدمة. كنتُ أعرف نظريًّا أنه حتى الشعراء يأكلون من وقت لآخر، لكن هل عليهم أن يطلبوا طبقًا مبتذلاً مثل هذا؟ تعاملتُ مع اشمئزازي بشكل ما. مررت بتجارب أكثر أهمية، وعلاوة على ذلك، أصبحت قارئة جادة للشعر. صدر لميووش كتاب إنقاذ، كما كنت أجد قصائد جديدة له في الجرائد.

المرة الثانية التي رأيته فيها كانت في باريس في أواخر الخمسينيّات. كان يمر بين موائد المقهى، على موعد مع شخص ما على الأرجح. واتتني الفرصة أن أذهب وأخبره بشيء قد يفرحه سماعه – أن كتبه الممنوعة كانت لا تزال تُقرأ في بولندا، وأن قصائده مجموعة في نسخة واحدة كان قد جرى تهريبها إلى الداخل، وأن بوسع من يحاول بجدية أن يحصل عليها عاجلاً أو آجلاً. لكني لم أذهب إليه ولم أخبره، شلَّني التوتُّر.

لم يستطع ميووش العودة إلى بولندا إلا بعد سنوات عديدة. حجبه ازدحام المصورين والفلاشات والميكروفونات في شارع كروبنيشسا في كراكوف عن النظر، بينما نحن واقفون ننتظر. عندما نفذ بنفسه أخيرًا من بين الصحافيين، مرهقًا، التفَّ حوله حاملو الأوتوغرافات وحاصروه. افتقدتُ شجاعة أن أزعجه مع هذا الحشد، أن أقدم نفسي وربما أن أسأله توقيع أوتوغراف.

حالفني الحظ لأقابله في زيارته التالية لبولندا. أشياء كثيرة تغيَّرت منذ ذلك الوقت، ولكن بشكل ما لا شيء تغيَّر. كما هو معروف، واتتني فرصٌ كثيرة للحديث معه، لأن أقابله مع أصدقائنا المشتركين، لأن أقرأ معه في بعض الفاعليَّات، بل وأن أعاني معه في بعض المناسبات الرسمية. ولكن ليس لديَّ أدنى فكرة حتى الآن كيف أتعامل مع هذا الشاعر العظيم. إنني اضطرب في حضرته كما كنت دائمًا؛ رغم أننا تبادلنا النكات وأنخاب الفودكا الباردة جيدًا في بعض الأحيان. حتى إننا مرة في مطعم، طلبنا الطبق نفسه المكون من أضلع الخنزير ومخلل الكرنب.

(30 حزيران/ يونيو 2001، بمناسبة عيد ميلاد ميووش التسعين)

ترجمة وتقديم: إيمان مرسال

*** *** ***

الأخبار

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني