english arabic

 شبكة الحياة*

 

فريتيوف كابرا

 

مقدمة

في العام 1943 ألقى الفيزيائي النمساوي إرفِن شرودِنْغِر – أحد مؤسِّسي النظرية الكوانتية – ثلاث محاضرات في كلية ترينيتي في دَبْلِن بعنوان "ما هي الحياة؟" وقد غيَّرت هذه المحاضرات مسار علوم الحياة. في تلك المحاضرات، وفي الكتاب الذي أعقبها وحمل العنوان ذاته، طرح شرودنغر فرضيات واضحة ومتماسكة حول البنية الجزيئية للجينات، كان من شأنها أن استحثَّت علماء البيولوجيا للتفكير حول الجينات بطريقة مبتكرة؛ وبهذا الشكل فتح حقلاً علميَّا جديدًا هو البيولوجيا الجزيئية.

إبان العقود التالية، ولَّد هذا الحقل الجديد سلسلة من الاكتشافات الباهرة، تُوِّجت بحلِّ لغز الشيفرة الوراثية. لكن هذه التطورات المذهلة لم تُدْنِ علماء البيولوجيا من الإجابة على السؤال الذي سبق أن طرحه شرودنغر: ما هي الحياة؟ ولا كان بمقدورهم أيضًا أن يجيبوا عن التساؤلات الأخرى المرافقة التي طالما حيَّرت العلماء والفلاسفة مئات من السنين: كيف انبثقت البُنى المعقدة من مجموعة عشوائية من الجزيئات؟ ما هي العلاقة بين العقل والدماغ؟ ما هو الوعي؟

اكتشف علماء البيولوجيا الجزيئية لَبِنات البناء الأساسية للحياة، لكن هذا لم يساعدهم في فهم الأفعال التكاملية الحيوية للمتعضيَّات الحية. ومنذ خمس وعشرين سنة، كتب أحد العلماء القادة في البيولوجيا الجزيئية، سِدْني برينِّر، التعليقات التالية:

يمكنك أن تقول، بطريقة ما، أن البحث البيولوجي الجزيئي والجيني للأعوام الستين الأخيرة يمثِّل فاصلة طويلة... أما وقد اكتمل ذلك البرنامج فقد دخلنا في دائرة مغلقة بالعودة إلى المشكلات التي خلَّفناها وراءنا دون حل. كيف يمكن للمتعضِّية المصابة أن تعيد تجديد البنية نفسها التي كانت لها من قبل؟ كيف تشكِّل البويضة متعضِّية؟... أعتقد أنه في غضون الأعوام الخمسة والعشرين القادمة سوف نضطر إلى تعليم علماء البيولوجيا لغة أخرى... لا أعرف بالضبط ماذا تدعى، ولا أحد يعلم ذلك أيضًا... قد يكون من الخطأ الاعتقاد بأن المنطق بأكمله يتوضع على المستوى الجزيئي. ربما نحتاج إلى المضي إلى ما هو أبعد من آليات الساعة.

منذ أن طرح برينِّر تعليقاته انبثقتْ بالفعل لغةٌ جديدة لفهم تعقيد المنظومات الحيَّة – أي المتعضِّيات والمنظومات الاجتماعية والمنظومات الإيكولوجية. والمفردات أو المفاهيم الأساسية لهذه اللغة الجديدة لفهم المنظومات المعقدة هي: الشواش, الجواذب، الفراكتالات، البُنى المبدِّدة، الانتظام الذاتي، إلخ.

في أوائل الثمانينات، ابتكرتُ أطروحة تؤلِّف بين هذه الاكتشافات الجديدة، نوعًا من الإطار التصوري من أجل فهم علمي للحياة. لقد طوَّرتُ هذا التأليف وعدَّلته على مدى عشر سنوات، وناقشتُه مع عدد كبير من العلماء، وطبعتُه مؤخرًا في كتابي الجديد: شبكة الحياة.

يشكِّل التراث الفكري للتفكير المنظوماتي ونماذج المنظومات الحية التي نشأت خلال العقود المبكرة للقرن العشرين الجذورَ التاريخية والمفهومية للإطار العلمي الجديد الذي طرحتُه. والواقع أن تأليفي، بما يحتويه من نماذج ونظريات راهنة، يمكن النظر إليه كخطوط عريضة لنظرية جديدة في المنظومات الحية آخذة في الظهور تدريجيًّا. إن ما ينبثق الآن في مقدمة العلم هو نظرية علمية متماسكة توفِّر، للمرة الأولى، رؤية موحَّدة للعقل والمادة والحياة.

بما أن الفَصْل الديكارتي بين العقل والمادة قد هيمن على المجتمع الصناعي الحديث الذي ساده الأنموذج الإرشادي الميكانيكي طوال ثلاثمائة عام، فإن هذه الرؤية الجديدة التي تغلَّبت أخيرًا على الفَصْل الديكارتي لن تكون لها نتائج علمية وفلسفية بالغة الأهمية فحسب، بل أيضًا تزخر بمضامين عملية هائلة. إنها ستغير الطريقة التي نرتبط بها بعضنا مع بعض ومع بيئتنا الطبيعية الحية، والطريقة التي نتعامل بها مع شؤوننا الصحية، والطريقة التي نتصور بها مؤسَّساتنا العاملة، ومنظوماتنا التربوية، والكثير من معاهدنا ومؤسَّساتنا السياسية والاجتماعية.

وعلى وجه الخصوص، سوف تساعدنا هذه الرؤية الجديدة للحياة على بناء وتعزيز مجتمعات مستدامة – هذا التحدي العظيم لزماننا – لأنها سوف تساعدنا على فهم كيف أن المنظومات الإيكولوجية – المجتمعات الطبيعية للنباتات والحيوانات والمتعضِّيات المجهرية – نظَّمت ذاتها بطريقة تبلغ باستدامتها الإيكولوجية حدَّها الأقصى. ينبغي أن نتعلَّم الكثير من حكمة الطبيعة هذه؛ ولكي نقوم بهذا ينبغي أن نحصِّل ثقافة إيكولوجية. نحتاج أن نفهم المبادئ الأساسية للإيكولوجيا، لغة الطبيعة. إن الإطار الجديد الذي أقدِّمه في كتابي يبيِّن أن هذه المبادئ الإيكولوجية هي أيضًا المبادئ الأساسية للتنظيم في المنظومات الحية كافة. لذلك فإنني أعتقد أن "شبكة الحياة" تزودنا بأساس مكين للفكر والممارسة الإيكولوجيين.

انبثاق التفكير المنظوماتي

أود أن أبدأ هذه الخلاصة بإطلالة موجزة على تراث التفكير المنظوماتي. لقد انبثق التفكير المنظوماتي خلال عقد العشرينات، بشكل متزامن في ثلاثة ميادين مختلفة: البيولوجيا العضوية، وعلم نفس الغشتالت، والإيكولوجيا. استكشف العلماء في هذه الميادين الثلاثة جميعًا المنظومات الحية، أي الكلِّيات المتكاملة التي لا يمكن اختزال خصائصها إلى خصائص أجزائها الصغيرة. تشمل المنظوماتُ الحية المتعضِّياتِ المفردةَ وأجزاء المتعضِّيات ومجتمعات المتعضِّيات، من نحو المنظومات الاجتماعية والمنظومات الإيكولوجية. تمتدُّ المنظومات الحية على مدى واسع جدًا؛ لذا فإن التفكير المنظوماتي، بطبيعته، مقاربة بينمناهجية أو لنقل بشكل أفضل "عبرمناهجية".

منذ بداية البيولوجيا الحديثة، أدرك العلماء والفلاسفة أن شكل المتعضِّية الحية هو أكثر من هيئة، أو أكثر من توضيع سكوني للعناصر في كلٍّ ما. وقد عبَّر أوائل مفكِّري المنظومات عن هذا الإدراك بالعبارة الشهيرة: "الكلُّ أكثر من مجرد مجموعٍ لأجزائه."

لقد تصارع علماء النفس والبيولوجيا طوال عدة عقود والسؤالَ التالي: بأيِّ معنى بالضبط يكون الكلُّ أكثر من مجرِّد مجموعٍ لأجزائه؟ في ذلك الحين، كان ثمة سِجالٌ عنيف بين مدرستين في التفكير: المذهب الميكانيكي والمذهب الحيوي. يقول مفكِّرو المذهب الميكانيكي: "الكل ليس سوى مجموع أجزائه؛ وكلُّ الظواهر البيولوجية يمكن تفسيرها بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء." لم يوافق مفكِّرو المذهب الحيوي على هذه الدعوى وذهبوا إلى ضرورة إضافة كينونة غير مادية – قوة حيوية أو مجال – إلى قوانين الفيزياء والكيمياء لتفسير الظواهر البيولوجية.

ولدت البيولوجيا العضوية، كطريق ثالث، من رحم هذه المناظرة. عارض علماء البيولوجيا العضوية كلاً من المذهب الحيوي والمذهب الميكانيكي. وقد وافقوا على أنه ينبغي إضافة شيء ما إلى قوانين الفيزياء والكيمياء لكي نفهم الحياة؛ لكن هذا الشيء، وفق نظرتهم، لم يكن كينونة جديدة، بل معرفةٌ لتنظيم المنظومة الحية، أو كما يقولون عادة: "علاقات التنظيم".

قام علماء البيولوجيا العضوية بصياغة الرؤية المنظوماتية للحياة لأول مرة. وقد تبنَّت الرأي القائل بأن خصائص المنظومة الحية هي خصائص الكلِّ التي لا يحوزها أيٌّ من أجزائه. تنبثق هذه الخصائص من التفاعلات والعلاقات بين الأجزاء؛ وتتخرب هذه الخصائص عندما يتم تشريح المنظومة، سواء ماديًّا أم نظريًّا، إلى عناصر معزولة. وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نتبيَّن أجزاء مفردة في أية منظومة فإن هذه الأجزاء ليست معزولة، وطبيعة الكلِّ تكون دومًا مختلفة عن مجرَّد مجموع أجزائه. ولقد استغرق الأمر سنوات كثيرة كي يُصاغ هذا التبصُّر بوضوح؛ وقد طُوِّرَ الكثير من المفاهيم الأساسية إبان هذه الحقبة.

أثرى العلمُ الجديد – الإيكولوجيا – الذي انطلق في العشرينات انبثاق الطريقة المنظوماتية في التفكير بإدخال مفهوم هامٍّ جدًّا هو مفهوم الشبكة. فمنذ بداية الإيكولوجيا نُظِرَ إلى المجتمعات الإيكولوجية باعتبارها مؤلَّفة من متعضِّيات يترابط بعضُها مع بعض بأسلوب شبكي من خلال علاقات التغذية. في البداية، صاغ علماء الإيكولوجيا مفاهيم سلاسل ودورات الغذاء؛ وتوسَّعت هذه المفاهيم سريعًا إلى المفهوم المعاصر حول شبكة الغذاء.

"شبكة الحياة"، بالطبع، فكرةٌ قديمة استخدمها الشعراء والفلاسفة والصوفيون عبر العصور لكي ينقلوا إحساسهم بالتواشُج والتواكُل بين الظواهر كافة. وعندما برز مفهوم الشبكة أكثر فأكثر، بدأ مفكِّرو المنظومات باستخدام نماذج الشبكة على مستويات المنظومات كافة، ناظرين إلى المتعضِّيات كشبكات من الأعضاء والخلايا، تمامًا كما فُهِمَتْ المنظومات الإيكولوجية كشبكات من المتعضِّيات المفردة. لقد قاد هذا إلى التبصُّر الأساسي الذي يقول بأن الشبكة هي نموذج مشترك بين أشكال الحياة كافة: فحيثما تكون الحياة نجد الشبكات.

خصائص التفكير المنظوماتي

سألخص الآن بعض الخصائص الأساسية للتفكير المنظوماتي. المنظومات الحية كلِّيات متكاملة؛ لذا فإن التفكير المنظوماتي يستلزم نقلة في المنظور من الأجزاء إلى الكل. الكلُّ هو أكثر من مجرَّد مجموع أجزائه؛ وهذا الأكثر هو العلاقات. لذا فإن التفكير المنظوماتي هو تفكير بلغة العلاقات. تتطلب النقلة في المنظور من الأجزاء إلى الكل نقلةً في التركيز من الأشياء إلى العلاقات.

ليس من السهل علينا فهم العلاقات لأنه أمرٌ يعاكس المشروع العلمي التقليدي للثقافة الغربية. فلطالما أخبرنا العلمُ أن الأشياء تحتاج إلى القياس والوزن؛ لكن العلاقات لا تُقاس ولا توزَن، بل تحتاج لأن تُخطَّط [تُصوَّر]. لذا فثمة نقلة هنا أيضًا من القياس إلى التخطيط [الخطاطة].

عندما تخطَّط العلاقات نلاحظ أن تشكيلات محدَّدة تتكرَّر. ذلك ما ندعوه النموذج. النماذج تشكيلاتٌ من العلاقات تعاوِد الظهور مرَّة بعد مرَّة. إذن، تقود دراسة العلاقات إلى دراسة النماذج؛ لذلك يقتضي التفكير المنظوماتي نقلة في المنظور من المضامين إلى النماذج.

أكثر من ذلك، ليس تخطيط العلاقات ودراسة النماذج مقاربة كمية بل كيفية. وبالفعل، ففي الرياضيات الجديدة حول التعقيد يُستخدَم الآن "التحليل الكيفي" كمصطلح تقني جديد. لذلك يتضمَّن التفكير المنظوماتي نقلة من الكمية إلى الكيفية.

أخيرًا، تهتم دراسة العلاقات ليس فقط بالعلاقات التي بين مكوِّنات المنظومة فحسب، بل بالعلاقات بين المنظومة ككل والمنظومات الأوسع المحيطة بها. هذه العلاقات بين المنظومة وبيئتها هي ما نعنيه بمصطلح السياق. إن كلمة "سياق" تتضمن فكرة الشبكة، وهي ربما الأكثر ملاءمة لوَسْمِ التفكير المنظوماتي في مجمله. التفكير المنظوماتي "تفكير سياقي".

ثمة جديلة أخرى للتفكير المنظوماتي سأعود إليها لاحقًا: إنها التفكير بلغة السيرورات التي انبثقت لاحقًا نوعًا ما. لذلك، يعني التفكير المنظوماتي تفكيرًا سياقيًّا وسيروريًّا.

نظريات المنظومات الكلاسيكية

نشأت المفاهيم الأساسية للتفكير المنظوماتي خلال عقدي العشرينات والثلاثينات. ثم شهدت الأربعينات صياغة نظريات المنظومات الفعلية. ويعني هذا أن مفاهيم المنظومات تكاملت في أُطُر نظرية متماسكة تصف مبادئ التنظيم في المنظومات الحية. وهذه النظريات، التي أدعوها "نظريات المنظومات الكلاسيكية"، تشمل نظرية المنظومات العامة والسبرانية.

صيغت نظرية المنظومات العامة في الأربعينات على يد لودفِغ فون برتالانفي، عالم البيولوجيا النمساوي، الذي شرع في تبديل الأسس الميكانيكية للعلم وإحلال الرؤية الكلانية مكانها. اعتقد برتالانفي، كغيره من علماء البيولوجيا العضوية، أن الظواهر البيولوجية تتطلب طريقة جديدة في التفكير. وكان هدفه بناء "علم عام للكلانية" كفرع رياضيات شكلاني.

من وجهة نظري، كان الإسهام الأعظم لبرتالانفي هو مفهوم "المنظومة المفتوحة"، كتمييز أساسي بين الظواهر البيولوجية والفيزيائية. فقد تميَّزَ أن المنظومات الحية هي منظومات مفتوحة؛ وهذا يعني أنها تحتاج أن تُلقَّم بدفق مستمر من المادة والطاقة من بيئتها لكي تبقى على قيد الحياة.

تحافظ هذه المنظومات المفتوحة على نفسها في حالة من الاستقرار بعيدة عن التوازن، متَّسمة بالدفق والتغير المستمر. أبدع برتالانفي مصطلح "التوازن الجاري" لكي يصف حالة التوازن الديناميِّ هذه. وقد أقرَّ بأن مثل هذه المنظومات المفتوحة لا يمكن وصفُها بواسطة الترموديناميكا الكلاسية التي كانت آنذاك النظرية المتاحة حول المنظومات المعقَّدة؛ وقد أعلن أن ثمة حاجة إلى ترموديناميكا جديدة تبحث في المنظومات المفتوحة كي يتيسَّر وصفُ المنظومات الحية.

أسَّست هذه المفاهيم للتفكير المنظوماتي كحركة علمية رئيسية. وبالإضافة إلى ذلك فإن تشديده على التدفق وعلى التوازن الجاري قدَّم التفكير المنظوماتي كمظهر جديد وهام للفكر المنظوماتي. لم يكن باستطاعة برتالانفي أن يدوِّن الترموديناميكا الجديدة للمنظومات المفتوحة الذي كان يبحث عنه لأنه افتقر إلى الرياضيات المناسبة لهذا الغرض. وبعد ثلاثين عامًا، سدَّ إيليا بريغوجين هذا الثغرة مستخدِمًا رياضيات التعقيد التي صيغت في غضون ذلك.

صاغت السبرانية – وهي النظرية الأخرى حول المنظومات – مجموعةٌ بينمناهجية تضم عددًا من العلماء، بمن فيهم عالما الرياضيات نوربرت فينر وجون فون نويمان، وعالم الأعصاب وورن ماكالوخ، وعالما الاجتماع غريغوري بيتسون ومارغريت ميد.

وسرعان ما أصبحت السبرانية حركة فكرية قوية، تطورت بشكلٍ مستقلٍّ عن البيولوجيا العضوية ونظرية المنظومات العامة. كان التركيز الأساسي لدى علماء السبرانية مسددًا نحو نماذج التنظيم. وقد اهتموا، بالأخص، بنماذج الاتصال، خاصة في الدارات المغلقة والشبكات. وقد قادتْهم بحوثُهم إلى مفاهيم التغذية الراجعة والضبط الذاتي؛ وبعد ذلك إلى مفهوم الانتظام الذاتي.

يرتبط مفهوم التغذية الراجعة – أحد الإنجازات العظيمة للسبرانية – بشكل صميمي مع نموذج الشبكة. ففي شبكة ما، توجد حلقات ودارات مغلقة؛ وهذه الدارات قد تصبح دارات تغذية راجعة. إن دارة التغذية الراجعة ترتيبٌ دائري لعناصر مترابطة سببيًّا، يقوم فيها سببٌ ابتدائي بالانتقال على طول الدارة، بحيث إن كلَّّ عنصر يؤثر على الذي يليه، إلى أن "يغذِّي عكسيًّا" العنصرُ الأخير العنصرَ الأول في الدائرة.

تُعَدُّ ظاهرة التغذية الراجعة هامة إلى حدٍّ كبير لفهم المنظومات الحية؛ إذ بواسطة التغذية الراجعة تستطيع الشبكات الحية أن تضبط ذواتها وتنتظم. فمجتمع ما، على سبيل المثال، يمكن أن يضبط ذاته؛ إذ يستطيع أن يتعلَّم من أخطائه لأن الأخطاء سوف تنتقل، وتعود من بعدُ بواسطة دارات التغذية الراجعة. لذلك يستطيع المجتمع أن ينظِّم ذاته ويتعلَّم. وبسبب التغذية الراجعة نقول إن للمجتمع فطنته الخاصة وقدرته الخاصة على التعلُّم.

لذا فإن الشبكات والتغذية الراجعة والتنظيم الذاتي هي مفاهيم وثيقة الارتباط. والمنظومات الحية هي شبكات تمتلك خاصية الانتظام الذاتي.

الرياضيات الجديدة للتعقيد

آتي الآن إلى النقطة الأهم في عرضي التاريخي الموجز. هنالك حدٌّ فاصل في التفكير المنظوماتي بين نظريات المنظومات الكلاسية في الأربعينات ونظريات المنظومات الحية التي تطوَّرتْ منذ السبعينات حتى الآن. والمظهر الفارق لهذه النظريات الجديدة هو اللغة الرياضية الجديدة التي سمحت للعلماء، للمرة الأولى، بمعالجة التعقيد الهائل في المنظومات الحية رياضيًّا.

ينبغي أن نعلم أنه حتى أبسط المنظومات الحية، كخلية البكتريا مثلاً، هي شبكة عالية التعقيد تنطوي فعليًّا على آلاف التفاعلات الكيميائية ذات التواكُل المتبادل. وقد انبثقت جملة جديدة من المفاهيم والتقنيات للتعامل مع هذا التعقيد الهائل، وبدأت تشكِّل إطارًا رياضيًّا متماسكًا. إن نظرية الشواش والهندسة الفراكتالية هما فرعان مهمان من فروع رياضيات التعقيد الجديدة هذه.

والخاصية الجوهرية لهذه الرياضيات الجديدة تكمن في أنها رياضيات لاخطية. لقد تعوَّدْنا في العلم، حتى وقت متأخر، أن نتجنب المعادلات الخطية لأنها صعبة جدًّا على الحلِّ. مثلاً، إن الجريان الانسيابي للماء في نهر، حيث لا توجد دوَّامات، يوصف بواسطة معادلة خطية. ولكن عندما توجد صخرة في النهر يبدأ الماء بتشكيل دوامات ويصير مضطربًا. هناك دوامات وكافة أنواع الجَيَشان؛ فتوصف هذه الحركة المعقدة بواسطة معادلات لاخطية. تصبح حركة الماء معقدة إلى درجة تبدو معها شواشية تمامًا.

في عقد السبعينات امتلك العلماء، للمرة الأولى، حواسب قوية عالية السرعة ساعدتْهم في التصدِّي للمعادلات اللاخطية وحلِّها. وبعملهم هذا صمَّموا عددًا من التقنيات, نوعًا جديدًا من اللغة الرياضية، كشفتْ عن نماذج مثيرة جدًّا تستبطن ما يبدو سلوكًا عشوائيًّا للمنظومات اللاخطية، تستبطن النظام فيما يبدو شواشيًّا في الظاهر. وبالفعل فإن نظرية الشواش هي في الحقيقة نظرية عن النظام؛ لكنه نوع جديد من النظام لا يبدو للعين المجردة، بل يمكن كشفُه بواسطة هذه الرياضيات الجديدة.

عندما نقوم بحلِّ معادلة لاخطية بواسطة هذه التقنيات الجديدة لا تكون النتيجة صيغة حسابية بل شكلٌ بصري, نموذجٌ يرسمُه الحاسوب. لذلك فإن الرياضيات الجديدة هي رياضيات النماذج والعلاقات. إن ما يدعى "جواذب" أمثلة على هذه النماذج الرياضية؛ فهي تصوِّر ديناميَّات منظومة ما بواسطة أشكال بصرية مرئية.

في عقد السبعينات, ولَّد الاهتمام الكبير بالظواهر اللاخطية سلسلة كاملة من النظريات الجديدة والقوية التي تصف جوانب متنوعة من المنظومات الحية. وهذه النظريات، التي أناقشها بالتفصيل في كتابي، تؤلف عناصر تأليفي الخاص حول التصور الجديد للحياة.

تأليف جديد

لقد انتهيت إلى الاعتقاد بأن مفتاح نظريات شاملة للمنظومات الحية يكمن في الجمع بين مقاربتين حول فهمنا للطبيعة، طالما تنافستا عبر تاريخنا العلمي: الأولى دراسة النموذج (العلاقات, النظام, الكيف)؛ والأخرى دراسة البنية (المكوِّنات, المادة, الكم).

أصبح مفهوم "نموذج التنظيم" الموضوعَ المركزي للتفكير المنظوماتي. لقد عرَّف مفكِّرو المنظومات الأوائل بالنموذجَ على أنه تشكيل من العلاقات؛ وأقرَّ علماء الإيكولوجيا الشبكة باعتبارها النموذج العام للحياة؛ وقد تعرَّف السبرانيون إلى التغذية الراجعة بوصفها نموذجًا دائريًّا للروابط السببية. والرياضيات الجديدة للتعقيد ما هي إلا رياضيات النماذج البصرية.

لذلك، يبدو فهم النموذج ذا أهمية حاسمة من أجل فهم علمي للحياة. لكن ذلك ليس كافيًا. نحتاج أيضًا إلى فهم بنية المنظومة. ولكي أبين كيف تتكامل المقاربات حول البنية والنموذج سوف أعرِّف بهاتين المقاربتين بدقة أكثر.

إن نموذج التنظيم لأية منظومة، حية أو غير حية، هو تشكيل من العلاقات بين مكوِّنات المنظومة يحدِّد الخصائص الأساسية للمنظومة. بكلمات أخرى، ينبغي أن توجد علاقات محددة في شيء ما لكي يستطاع تمييزُه: مثلاً، كرسي أو دراجة أو شجرة. إن هذا التشكل من العلاقات الذي يمنح المنظومة خصائصها الأساسية هو ما أعني به نموذجَ تنظيمها.

سأعطي مثالاً على منظومة غير حية وهي الدراجة، لأن تطبيق الأمر على المنظومات غير الحية أيسر. إذا أخذتُ أجزاء الدراجة كلَّها – السرج، المقود، الإطار، العجلتين، الدواستين، إلخ – ووضعتُها مكوَّمة أمامك هنا سوف تقول حالاً: هذه ليست دراجة بل أجزاء الدراجة. فكيف أحوِّلها إلى دراجة؟ بوضعها بعضها مع بعض وفق ترتيب معين! هذا النظام، هذا التشكيل من العلاقات بين الأجزاء، هو ما أدعوه نموذج التنظيم.

من أجل وصف نموذج تنظيم الدراجة أستطيع أن أستعمل لغة العلاقات المجردة. ولا حاجة لي إلى إعلامك فيما إذا كان الإطار مصنوعًا من الحديد الثقيل أو الألمنيوم الخفيف، وما هو نوع المطاط الداخل في تصنيع العجلتين، إلخ. بعبارة أخرى، فإن المواد الفيزيائية ليست جزءًا من توصيف نموذج التنظيم؛ إذ هي جزء من توصيف البنية، التي أعرِّف بها بوصفها التجسيد المادي لنموذج تنظيم المنظومة.

وبينما يستلزم توصيف نموذج التنظيم تخطيطًا مجردًا للعلاقات فإن توصيف البنية يقتضي توصيف المكوِّنات المادية الفعلية للمنظومة – أشكالها، تركيبها الكيميائي، إلخ.

طيب، هذا سهل جدًا في حالة الدراجة. يمكننا أن نصوِّر نموذج تنظيمها ونرسم مخططًا له؛ يمكننا أن نحصل على المواد الفعلية ونبني الدراجة وفق مخططنا التصميمي؛ وبعدها ستقف الدراجة أمامنا فحسب، لكنها لن تستطيع أن تفعل شيئًا يُذكَر من تلقاء ذاتها.

أما في المنظومة الحية فتكون الحالة مختلفة تمامًا: إذ تتضمن كلُّ منظومة حية آلاف السيرورات الكيميائية المترابطة؛ ويكون ثمة دفق لا يتوقف من المادة. هناك نشوء ونمو وتطور. ومنذ بدايات البيولوجيا، كان فهم البنية الحية غير منفصل عن فهم السيرورات الاستقلابية وسيرورات النمو.

تقترح هذه الخاصية المثيرة في المنظومات الحية أن تكون السيرورة هي المعيار الثالث من أجل وصف شامل للحياة. إن سيرورة الحياة هي الفعالية المتضمنة في التجسيد المستمر لنموذج تنظيم المنظومة. وبذلك يكون معيار السيرورة هو الرابط بين النموذج والبنية.

يكمِّل معيار السيرورة الإطار المفهومي لتأليفي. والمعايير الثلاثة متواكلة تمامًا. يمكن إدراك نموذج التنظيم فقط عندما يتجسَّد في بنية مادية؛ وهذا التجسيد هو سيرورة مستمرة في المنظومات الحية. يمكن أن نقول إن المعايير الثلاثة – النموذج والبنية والسيرورة – ثلاثة منظورات مختلفة، لكنها غير منفصلة، للنظر إلى ظاهرة الحياة. إنها تشكل الأبعاد المفهومية الثلاثة لتأليفي.

ما يعنيه هذا هو أنه لكي نعرِّف بمنظومة حية، أو بكلمات أخرى، لكي نجيب عن سؤال شرودنغر "ما هي الحياة؟"، ينبغي في الواقع أن نجيب عن ثلاثة أسئلة: ما هي بنية المنظومة الحية؟ ما هو نموذج تنظيمها؟ ما هي سيرورة حياتها؟ وسأقوم الآن بالإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة.

البنى المبدِّدة (بنية المنظومة الحية)

وصف إيليا بريغوجين بالتفصيل بنية المنظومة الحية وذلك في نظريته حول البنى المبدِّدة. ومثله كمثل لودفِغ فون برتالانفي، نظر بريغوجين إلى المنظومات الحية كمنظومات مفتوحة قادرة على حفظ سيروراتها الحياتية ضمن شروط من عدم التوازن. تتميز المتعضِّية الحية بدفق مستمر وتغيُّر في الاستقلاب الذي يتضمن آلاف التفاعلات الكيميائية. ويحدث التوازن الكيميائي والحراري عندما تخمد هذه السيرورات. بكلمات أخرى، فإن المتعضِّية المتوازنة متعضِّية ميتة. تحافظ المتعضِّيات على ذواتها باستمرار في حالة بعيدة عن التوازن؛ وهذه هي حالة الحياة. وعلى الرغم من أن هذه الحالة مختلفة جدًّا عن التوازن إلا أنها مستقرة: إذ يُحافَظ على البنية الإجمالية نفسها على الرغم من الدفق المستمر والتغير في المكوِّنات.

دعا بريغوجين المنظومات المفتوحة التي تصفها هذه المنظومة بـ"البنى المبدِّدة" لكي يشدِّد على التفاعل الوثيق بين البنية، من جهة، والتدفق والتغير (أو التبدُّد)، من جهة ثانية.

ووفقًا لنظرية بريغوجين، لا تحافظ البنى المبدِّدة على ذواتها في حالة مستقرة بعيدًا عن التوازن فحسب، بل يمكنها حتى أن تتطور: فعندما يزداد دفق المادة والطاقة عبرها، قد تجتاز هذه المنظوماتُ نقاطَ اللااستقرار وتحوِّل ذاتها إلى بنى جديدة ذات تعقيد أكبر. وهذه الظاهرة – ظاهرة الانبثاق التلقائي للنظام – تُعرَف أيضًا بـالانتظام الذاتي. إنها أساس النشوء والتعلُّم والتطور.

الصنع الذاتي

سأتحوَّل الآن إلى المنظور الثاني حول طبيعة الحياة – منظور النموذج. إن نموذج التنظيم في منظومة حية هو شبكة العلاقات التي تكون وظيفةُ كلِّ مكوِّنٍ فيها هي تحويل واستبدال المكوِّنات الأخرى في الشبكة. وقد سمَّى هومبرتو ماتورانا وفرانسسكو فاريلا هذا النموذج بـ"الصنع الذاتي". فالشبكة "تصنع ذاتها" باستمرار؛ إنها تُنتَج بواسطة مكوِّناتها وتقوم بدورها بإنتاج مكوِّناتها.

الإدراك - سيرورة الحياة

أتحول الآن إلى البعد الثالث في الإطار المفهومي لتأليفي – أي المظهر السيروري. إن فهم سيرورة الحياة ربما يكون الجانب الأكثر ثورية في النظرية المنبثقة حول المنظومات الحية، بما أنها تستلزم مفهومًا جديدًا للعقل أو الإدراك. اقترح هذا المفهوم غريغوري بيتسون وقام بتوسيعه ماتورانا وفاريلا، وهو يُعرَف الآن بنظرية سانتياغو في الإدراك.

إن التبصُّر المركزي في نظرية سانتياغو هو المطابقة بين الإدراك، أي سيرورة المعرفة، وبين سيرورة الحياة. الإدراك، وفقًا لماتورانا، هو فعالية متضمنة في التنظيم الذاتي والاستمرار الذاتي للشبكات الحية. بكلمات أخرى، الإدراك هو السيرورة الحقيقية للحياة. لقد كتب ماتورانا: "المنظومات الحية هي منظومات إدراكية؛ والحياة كسيرورة هي سيرورة إدراك."

من الواضح أننا نتعامل هنا مع توسيع جذري لمفهوم الإدراك، وضمنيًّا، لمفهوم العقل. في هذه النظرة الجديدة يشتمل الإدراك على السيرورة الإجمالية للحياة، بما فيها الإدراك الحسي والعاطفة، والسلوك – ولا يتطلب بالضرورة دماغًا ومنظومة عصبية. في الميدان البشري، يتضمن الإدراكُ اللغةَ والفكرَ التصوري والوعي الذاتي وسائر صفات الوعي البشري.

أعتقد أن نظرية سانتياغو في الإدراك هي أول نظرية علمية تتغلب على الفصل الديكارتي بين العقل والمادة؛ وبذلك تنطوي على المضامين الأبعد مدى. لن يبدو المادة والعقل بعد الآن وكأنهما ينتميان إلى مقولتين منفصلتين، بل ينبغي النظر إليهما كمظهرين متكاملين يمثلان ظاهرة الحياة: المظهر السيروري والمظهر البنيوي. ففي مستويات الحياة كافة، بدءًا من أبسط خلية، يترابط بإحكام كلٌّ من العقل والمادة، السيرورة والبنية. العقل محايث للمادة الحية كما هي سيرورة الانتظام الذاتي. للمرة الأولى، صارت لدينا نظرية علمية توحِّد العقل والمادة والحياة.

*** *** ***

ترجمة: معين رومية


* في العام 1997 ألقى فريتيوف كابرا هذه المحاضرة بمناسبة الذكرى المئوية لولادة العالم النمساوي إروِن شرودنغر. يلخص كابرا في هذه المحاضرة تأليفه حول المنظومات الحية الذي نشره قبل عام من ذلك في كتابه شبكة الحياة The Web of Life.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود