|
المكان الحرام والزمان
الحرام
والإنسان
الحرام
الأب
رائد عوض أبو ساحلية
أثار
لجوء عدد كبير من المواطنين المدنيين –
وبعضهم مسلَّح – إلى كنيسة المهد في أثناء
الاجتياح الجاري للمدينة ضجةً عالميةً، وفتح
مجالاً للتساؤلات حول قضية الالتجاء إلى
أماكن العبادة طلبًا للحماية. ونحن هنا لا
نريد أن ننجرَّ وراء الأقاويل الإخبارية التي
تبحث فقط عن المثير والغريب لشدِّ انتباه
العالم؛ فإن الموضوع أهم وأعمق مما نتوقع.
لذلك سأحاول فتح الحوار للتفكير حول فكرة ما
فتئت تراودني منذ زمن طويل؛ إذ سأطرح للبحث
قضية "المكان الحرام". وقد أترك مسألة
"الزمان الحرام"؛ لكني أطمع إلى تكريس
فكرة "الإنسان الحرام". عندما
نستعمل كلمة "حرام"، لا نعني ما نردده
عندما نشفق على أحد ونعبِّر عن تحسرنا عليه أو
تعاطفنا معه، ولكن نعني "الحرمة"، أي
الاحترام المفروض التقيُّد به تجاه مكان أو
إنسان لأن له قيمة مميزة، وخاصة إذا تعلق
الأمر بالأهمية والقدسية، إذا ارتبط بالشؤون
الدينية أو الإلهية. ويمكن أن تعني الكلمة
الحماية وعدم التعرض لها أو المساس بها؛ فهي
في الحفظ والصون بالتقدير الخاص والعناية
الفائقة. من هنا نتكلَّم على "الحرم الشريف"،
و"حرمة" الكنيسة والمذبح، و"الحَرَم
الجامعي"، وننعت مناطق الحدود بـ"المناطق
الحرام"، وندعو النساء بـ"الحريم"
والمرأة بـ"الحُرمة". وفي المفهوم الذي
نعالجه فإن الحرمة تعني: "منع حمل السلاح أو
إعلان الحرب أو قتل الإنسان أو سفك الدماء في
مكان ما وزمان ما". وفي الأعراف
الدبلوماسية فإن الحرمة تعني "الحصانة". أما
في الكتاب المقدس فإننا نجد هذا المفهوم في
بعض النصوص التي تتكلَّم على بعض الأماكن
الحرام التي كان يلتجأ إليها القاتل الذي
يرتكب جريمة القتل غير العمد، أو المتهم
البريء طلبًا للحماية؛ وبذلك كانت تُحفَظ
حياتُه ولا يتعرض للأذى. ففي سفر تثنية
الاشتراع يطلب الله من الشعب أن "يُفرِدوا
ثلاث مدن في وسط البلاد فيكون هناك مهرب لكلِّ
قاتل بريء فيلتجئ إليها فيحيا". وقد أقرَّ
الله هذه الشريعة لكي "لا يُسفَك دمٌ بريء
في وسط الأرض ولا يكون دمٌ على الإنسان".
وكانت تسمى هذه المدن "مدن الملجأ" (راجع
الإصحاح 19 تحت عنوان "القاتل البريء ومدن
الملجأ"). كما
نجد في سفر المزامير عدة آيات تعبِّر عن فكرة
الحماية هذه: "الساكن في ستر العليِّ يبيت
في ظلِّ القدير." (مزمور 90) وهذه الآية تدل
على اللجوء إلى المكان المقدس – وهو بيت
الربِّ – حيث يصبح الربُّ سترًا وحماية لمن
يلتجئ إلى هذا المكان. وكذلك الآية: "اللهم
احفظني فإني بك اعتصمت." (مزمور 16) وفعل "اعتصم
بـ" هنا يعني "التجأ إلى". وهكذا نفهم
أيضًا كافة الآيات والأدعية، مثل: "أنت يا
ربُّ ملجأي، أنت حصني وصخرة خلاصي..." كما
نجد الفكرة ذاتها في الآية: "الربُّ هو الله
وقد أنارنا، فرصُّوا المواكب والأغصان في
أيديكم حتى قرون المذبح." (المزمور 118) و"قرن
المذبح" هو المكان الذي كان يمسك به القاتل
غير المتعمِّد أو المتهم البريء، وكان يحصل
على الحماية بمجرد أن يمسك به: فهو بذلك يكون
في حماية الرب. وتذكِّرنا هذه الآية بعادة
بدوية معروفة في البوادي: إذ إن من يطلب
الحماية من إحدى القبائل كان يتوجَّه إلى
خيمة شيخ القبيلة ويمسك بحبلها الذي كان يسمى
"الطنيب". ومن هنا المصطلح الدارج "طنيب
عليك": أي إني أطلب الحماية منك! كلُّ
هذه الآيات يثبت أن هذا المفهوم موجود في
اليهودية. ونحن، كمسيحيين، نقبل به أيضًا
ونتبنَّاه لأننا، بطبيعة الحال، نؤمن بروح
العهد القديم. لا بل إن الإنجيل قد طوَّر هذا
المفهوم وارتقى به كثيرًا، فأحدث نقلة نوعية؛
إذ إنه لم يتحدث فقط عن حرمة المكان، بل أيضًا
عن حرمة الإنسان. فالوصية التي كانت تعلِّم
"لا تقتل" أصبحت في العهد الجديد: "أما
أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم
القضاء، ومن قال لأخيه: "يا أحمق" استوجب
حكم المجلس، ومن قال له: "يا جاهل" استوجب
نار جهنم." (متى 5: 22-23) فإن السيد المسيح لا
يحرِّم القتل فحسب، ولكنه يحرِّم الغضب لأنه
مصدر القتال والحروب. فالإنسان، عندما يغضب،
قد يرتكب حماقة في لحظة جنون. من هنا فإن غضب
الإنسان قد يؤدي إلى القتل، وغضب الشعوب قد
يولِّد الحروب. هنا
أصل إلى بيت القصيد: فأنا أدعو دائمًا إلى
تكريس مفهوم "الإنسان الحرام"، وأعتمد
على مبدأ خلقه "على صورة الله ومثاله".
فأيُّ تعدٍّ على الإنسان هو إهانة لله سبحانه
وتعالى. وأعتقد بأن هذا المبدأ هو القاعدة
الأساسية التي يجب أن ترتكز عليها حقوق
الإنسان كافة. فيا ليت الإنسان يذكر هذا ويرى
في كلِّ إنسان أخًا له، وعندما ينظر إليه يرى
فيه صورة الله؛ وبالتالي لن يرتكب أية حماقة
من هذا القبيل على الإطلاق، لأن الإنسان لا
يمكن أن يفقد إنسانيته ويصل إلى حدِّ التعدي
على الحضرة الإلهية – لا سمح الله! وبهذا
يمكننا الحديث عن أماكن مقدسة يُحرَّم
انتهاكها وعن إنسان مقدس يُحرَّم قتله. أعرف
جيدًا بأن مثل هذه المفاهيم موجود أيضًا في
الإسلام؛ وسأمرُّ بها مرور الكرام، راجيًا أن
يتم تطويرها على يد ذوي الشأن والاختصاص. ففي
الإسلام أماكن مقدسة تتمتع بمثل هذه الحرمة:
فمدينة مكة المشرفة والمدينة المنورة هي
أماكن حرام، أي لا يحق فيها القتال بتاتًا؛
كما أن هناك بعض "الأشهر الحُرُم" التي
يُحرَّم فيها القتال لأن المرء يرتاح فيها
للتفرغ للصلاة والعبادة والحج. أما بالنسبة
لحرمة الإنسان فإن الإسلام يحرِّم قتل النفس
دون سبب لأن "من قَتَلَ نفسًا بغير نفسٍ أو
فساد في الأرض فكأنما قَتَلَ الناس جميعًا"،
كما وَرَدَ في القرآن الكريم (المائدة 32). بهذا
العرض البسيط والسريع نجد حرمة المكان
والزمان والإنسان مجتمعة بصورة رائعة يجب
التركيز عليها لتطوير مفهوم سلامي لاعنفي
إسلامي. وأترك هذه المهمة لإخوتي المسلمين،
وأدعوهم للقيام بهذا الدور عاجلاً؛ فإن مثل
هذا الموقف هو الكفيل بأن يغيِّر صورة
الإسلام الذي يلصق به – بغير حقٍّ – تهمةَ
العنف والإرهاب. بالعودة
إلى مسألة اللجوء إلى كنيسة المهد طلبًا
للحماية فإن موقفنا يصبح واضحًا صريحًا: بما
أن الكنيسة هي بيت عبادة وبيت الله، وبما أن
كنيسة المهد بالذات هي من أقدس الأماكن
المقدسة في المسيحية في الأرض المقدسة لأنها
شُيِّدتْ فوق المغارة التي ولد فيها سيدنا
يسوع المسيح، أمير السلام، فإن كلَّ من يلتجأ
إليها طلبًا للحماية يتمتع بالأمن والسلام –
ولكن وفقًا للمبدأ التالي: بما أنها مكان مقدس
فإنه لا يُطلَق منها النار قطعيًّا، ولا
يُطلَق عليها النار قطعيًّا؛ فهي بهذا تتمتع
بـ"الحرمة" التي تكلَّمنا عليها، لأنها
"مكان حرام" بما أنها مكان مقدس. كما أننا
نعتبر كل إنسان لجأ إليها "إنسانًا حرامًا"،
حياتُه مصونة طوال الزمان الذي يحتمي في
داخلها، مادام لم يرتكب جرمًا شائنًا يستحق
عليه العقاب؛ وحتى لو ارتكب أيَّ جرم فإن له
الحقَّ في محاكمة شريفة عادلة إذا اقتضى
الأمر. وهنا يكمن الخطر لهؤلاء لو لم يلتجئوا
إلى مثل هذا المكان الآمن؛ فإن حياتهم كان
يمكن أن تتعرض للخطر دونما تمييز. إني
أدعو إلى تبنِّي مبدأ "المكان الحرام"
وتطبيقه على الأرض قاطبة، لأنها كلَّها أرضُ
الله الواسعة؛ وإلى تبنِّي مبدأ "الزمان
الحرام" وتطبيقه على الزمان كلِّه، لأن
الله هو سيد التاريخ؛ وإلى تبنِّي مبدأ "الإنسان
الحرام" وتطبيقه على كلِّ إنسان، لأنه
مخلوق على صورة الله ومثاله. *** *** *** عن
القدس، الأحد 7/4/2002
|
|
|