english

ديانة فنان

(2 من 2)

 

رابندرانات طاغور

 

2

يقول المفسِّر الفيداوي الشهير سَيَناتشاريا:

يَجْـنِـهْ هُـتَسِـشْـتَسْيا أودَنَـسْيا سَـرْفَجَغَـتْـكَـرَنَـبْـهوتا

بْـرَهْـمَـبْـهِـدِنا سْـتُـتِهْ كْـرِيَـتِـهْ

"إن تقدمة الطعام المتبقِّية بعد إتمام الطقوس القربانية تُسبَّح لأنها ترمز إلى برَهْما، المنبع الأصلي للكون."

إن برهما، وفقًا لهذا التفسير، غير محدود في فيضه الذي يجد تعبيرَه حتمًا في السيرورة الأبدية للعالم. ههنا لدينا عقيدة مولد الخليقة، وبالتالي عقيدة أصل الفن. فلدى الإنسان، بين سائر المخلوقات الحية في العالم، طاقتُه الحيوية والذهنية، الفائضة بكثير عن حاجته، التي تحضُّه على العمل في مسالك الإبداع المتنوعة لوجه الإبداع وحده. وهو، مثله كمثل برهما نفسه، يفرح بصنع أشياء ليست ضرورية له، وتمثِّل بذلك إسرافه وليس ما يسدُّ رمقه. فالصوت الكافي وحسب بوسعه أن ينطق وأن يصيح في حدود الحاجة اليومية؛ أما الصوت العامر فيغنِّي، وفيه نجد الفرح. والفنُّ يفصح عن غنى الإنسان بالحياة التي تفتش عن حريتها في أشكال من الكمال هي غايات بحدِّ ذاتها.

كلُّ جمادٍ خاملٍ فهو محدودٌ بالواقع المجرِّد للوجود. أما الحياة فخلاقة دومًا لأنها تنطوي في ذاتها على ذلك الفائض الذي يشطح عن حدود الزمان والمكان الآنيين، ويواصل بلا هوادة مغامرةَ التعبير في مختلف أشكال تحقيق الذات. إن لِجسمنا الحيِّ أعضاءه الحيوية الضرورية للحفاظ على كفاءته؛ لكن هذا الجسم ليس مجرد كيس ملائم، الغرضُ منه احتواء المعدة والقلب والرئتين والمخ؛ بل هو صورة – قيمتها العليا في قيامها بالتبليغ عن شخصيتها. إن له لونًا وهيئة وحركة، ينتمي معظمُها إلى الفائض، ليست ضرورية إلا للتعبير عن الذات، وليس للمحافظة على الذات.

هذا الجو الحي من الفائض في الإنسان محكوم بخياله، مثلما أن جوَّ الأرض محكوم بالضوء. وهو يساعدنا على دمج وقائع مفكَّكة في رؤيا للتناغم، ومن بعدُ ترجمتها إلى نشاطاتنا من أجل فرح كمالها نفسه، ويناشد فينا الإنسان الكامل الذي هو الرائي والفاعل في كلِّ الأزمنة والبلدان. وإن وعي الواقع الآني في أنقى صوره، إذ لا يحجبه ظلُّ المصلحة الذاتية، بصرف النظر عن التوصية الخلقية أو النفعية، يهبُنا الفرحَ، مثله في ذلك كمثل شخصيتنا المُفصِحة عن ذاتها. إن ما ندعوه بلغتنا الشائعة جمالاً، يكمن في تناغم الخطوط والألوان والأصوات أو في تناسق الكلمات أو الأفكار، لا يُبهِجُنا إلا لأننا لا نستطيع إلا أن نقرَّ بوجود حقيقة قصوى فيه. "الحبُّ كافٍ"، كما قال الشاعر؛ وهو يحمل تعليله هو، الذي ليس بالوسع التعبير عن فرحه إلا في شكل من أشكال الفنِّ يهدف، هو الآخر، إلى تلك الغاية. تقيم المحبةُ الدليلَ على شيء ما خارجنا إنما هو موجود بشدة، وبذلك يحرِّض الإحساسَ بوجودنا نحن. إنها تفصح بإشراقٍ عن واقعية موضوعاتها، وإن أعوزت هذه الموضوعات خواصٌ نفيسةٌ أو ذات ألق.

إن الأنيَّة [أنا] فيَّ تدرك امتدادها ولانهائيَّتها كلما أدركتْ شيئًا آخر حقَّ إدراكِه. غير أن جانبًا كبيرًا من عالمنا، مع أنه يحيط بنا عن كثب، يقع، لسوء الحظِّ، خارج دائرة انتباهنا من جراء محدوديَّتنا وألف همٍّ وهمٍّ من همومنا: إنه خافت، يمرُّ بنا، قافلةً من الظلال، كمشهد طبيعي نراه ليلاً من نافذة مقصورة قطار مضاءة؛ فالمسافر يعلم أن العالَم الخارجي موجود، وأنه مهم، لكن عربة القطار في الوقت الحاضر أعظم شأنًا في نظره بكثير. فإذا كانت قلة من بين موضوعات هذا العالم التي لا تُحصى تقع تحت استنارة روحنا التامة، وبذلك تتخذ في نظرنا صورة واقعية، فإنها تناشد دومًا عقلَنا المبدعَ تمثيلاً دائمًا. إنها تنتمي إلى ميدان رغبتنا نحن التي تمثل الحنين إلى ديمومة ذاتنا.

لا أقصد من قولي إن للأشياء التي تشدنا إليها برباط المصلحة الذاتية إلهامَ الحقيقة؛ فهذه، على العكس من ذلك، تنكسف بظلِّ ذاتنا. إن الخادم ليس أشد واقعية في نظرنا من المحبوب. والتشديد الضيق على المنفعة يصرفُ انتباهَنا عن الإنسان الكامل إلى الإنسان النافع وحسب. إن بطاقة سعر السوق الغليظة تطمس القيمة القصوى للواقع.

إن حقيقة وجودنا تستمدُّ حقيقتَها من أن كلَّ شيء آخر موجود حقًّا، و"الأنيَّة" فيَّ تتخطَّى محدوديَّتها كلما حقَّقتْ ذاتها بعمق في "الأنتيَّة" [أنت]. وهذا التخطِّي للحدِّ يتفتَّح عن فرحٍ هو الفرح الذي نجده في الجمال، في المحبة، في العَظَمة. وإن نسيان النفس، وبدرجة أعلى التضحية بها، هو إقرارنا باختبارنا هذا للانهاية. وتلكم هي الفلسفة التي تعلِّل فرحَنا بكلِّ الفنون، الفنون التي تعزِّز في إبداعاتها الشعورَ بالوحدة، وحدة الحقيقة التي نحملها في دخيلة أنفسنا. إن الشخصية فيَّ مبدأ واعٍ لذاته خاص بوحدة حية؛ وهي تشمل كلَّ تفاصيل الوقائع التي تخصُّني كفرد، من معرفة، وشعور، رغبة وإرادة، وذاكرة، وأمل، وحب، ونشاطات، إلى كلِّ ما هو لي، وتتعالى عنها في آنٍ واحد. وإن هذه الشخصية التي تتمتع بالإحساس بـالواحد في طبيعتها تحقِّقُه في الأشياء والأفكار والوقائع وقد جُعِلَتْ واحداتٍ. فمبدأ الوحدة الذي تحتويه يشعر بالرضى إلى حدٍّ ما أمام وجه جميل أو لوحة، قصيدة، أغنية، سجيَّة، أو تناغم من الأفكار أو الوقائع المترابطة، فتصبح هذه الأشياء حينئذٍ في منظاره شديدة الواقعية، وبالتالي مُفرِحة. ومعيار واقعيته – الواقعية التي تجد الإفصاح الكامل عن نفسها في كمال من التناغم – يتأذى عندما يكون ثمة وعيٌ للتنافر، لأن التنافر يتعارض والوحدةَ الجوهرية التي في مركزه.

لقد أتتنا كلُّ الوقائع الأخرى عبر المسيرة المتدرِّجة لتجربتنا، ومعرفتُنا بها تكابد مكابدة دائمة تغيراتٍ متناقضة عبر اكتشاف معطيات جديدة. وليس بوسعنا أبدًا أن نستيقن من توصُّلنا إلى معرفة السجيَّة النهائية لأيِّ موجود. غير أن معرفة كهذه أتتنا على الفور مع يقين لا يحتاج إلى حجج لتأييده. وهذا اليقين هو أن جميع نشاطاتي تنبع من شخصيتي هذه التي لا تقبل التعريف، ومع ذلك من الحقيقة التي أوقن بها أكثر من أيِّ شيء آخر في هذا العالم. ولئن كانت كلُّ الأدلة التي يمكن وزنُها وقياسُها تؤكد أن أصابعي وحدها تُحدِث علاماتٍ على الورق، ما من امرئ عاقل يشكُّ في أن هذه الحركات الآلية ليست المصدر الحقيقي لكتاباتي، بل هو كيان لا يمكن أن يُعرَف أبدًا إلا بالتعاطف الوجداني. بهذا نكون قد توصلنا إلى تحقيق مَظْهَرَي النشاطات في شخصنا: أحدهما مظهر القانون المتمثل بالواسطة، وثانيهما مظهر الإرادة المكنون في الشخصية.

محدودية اللامحدود هي الشخصية: فالله شخصي حيث يُبدِع.

إنه يقبل حدود قانونه الخاص وتستمر اللعبة، ألا وهي هذا العالم الذي تكمن حقيقتُه في صلته بـالشخص. الأشياء متميِّزة، لا في جوهرها إنما في مظهرها؛ وبعبارة أخرى، في صلتها بمَن تظهر له. وذلكم هو الفن الذي لا تكمن حقيقتُه في المادة أو في المنطق، لكنْ في التعبير. قد تنتمي الحقيقة المجردة إلى العلم وما وراء الطبيعة، أما عالم الواقع فينتمي إلى الفن.

إنما العالم، بما هو فن، لعبةُ الشخص الأسمى الواجِدِ متعتَه في صنع الصور. إذا حاولتَ أن تعثر على مكوِّنات الصورة فسوف تتملص منك، ولن تفصح لكَ عن السرِّ الأزلي للمظهر. وفي مسعاك إلى اقتناص الحياة كما تتجلِّى في النسيج الحيِّ ستقع على فحمٍ وآزوت وأشياء أخرى عديدة لا تشبه الحياة إطلاقًا، لكنك لن تقع على الحياة أبدًا. فالمظهر لا يقدِّم أيَّ شرح على ذاته من خلال قوامه. ولكَ أن تدعوه مايا [وهمًا] وتدَّعي تكذيبه، لكن الفنان الأعظم، الماياويَّ [صانع الوهم]، لا يتأذَّى من جراء ذلك؛ إذ إن الفنَّ إنما هو مايا، وما له من تفسير سوى أنه يبدو على ما هو. إنه لا يحاول أبدًا أن يستر رَوَغَانَه، ويهزأ حتى بالتعريف به، ويلعب لعبة التخفِّي من خلال طيرانه المتواصل في التغيرات.

بذلك تجد الحياةُ – وهي تفجُّرٌ متواصل للحرية – ميزانَها الشعري في ارتداد مستمر إلى الموت. كلُّ يوم فهو موتٌ، لا بل كلُّ لحظة. ولو لم يكن كذلك لكان ثمة صحراء من الخلود لا شكل لها، خرساء وساكنة أبدًا. الحياة إذن مايا، وهي، كما يحلو لعلماء الأخلاق القول، موجودة وغير موجودة. وكلُّ ما نجد فيها هو الإيقاع الذي تتجلِّى من خلاله. فهل الصخور والمعادن مستثناة من ذلك؟ ألم يبيِّن لنا العلم أن الفرق الحاسم بين عنصرين فرقٌ في الإيقاع ليس إلا؟ فما يميِّز الذهبَ عن الزئبق أساسًا يكمن في فرق الإيقاع في تكوينهما الذري وحسب، مثلما أن ما يميِّز الملكَ عن أحد رعاياه ليس في مكوِّناتهما المختلفة، إنما في الأوزان المختلفة لمقامهما وظرفهما. فهناك، خلف خشبة المسرح، تجد الفنان، ساحر الإيقاع، الذي يُكسِب اللامادي مظهرًا ماديًّا.

ما الإيقاع؟ هو الحركة المتولِّدة عن تقييدٍ متناغم، المعدَّلة به. تلكم هي القوة المبدعة في يد الفنان. فمادامت الكلمات لا تزال في شكل نثري غير موقَّع فإنها لا تمنح أيَّ شعور مستديم بالواقع. وحالما تؤخذ وتوقَّع فإنها ترتعش متألقة. وتلكم حال الوردة. إنك قد تجد في لُباب فليجاتها كلَّ ما أسهم في صنع الوردة، لكن الزهرة التي هي مايا، صورة، تضيع، ونهائيَّتَها الموسومة بسمة اللانهاية تزول. الوردة تبدو لي وكأنها ساكنة، لكن لها، من جراء وزن تكوينها، غنائيةً من الحركة مكنونةً في ذلك السكون، هي عينها الخاصية الحركية لِلَوحةٍ تتمتع بتناغم كامل. فهي تولِّد في وعينا موسيقى بإعطائه دفعةً من الحركة متزامنةً مع حركته. ولو أن اللوحة كانت مؤلَّفة من كتلة غير متناغمة من الألوان والخطوط لكانت ساكنة سكون الموت.

في الإيقاع الكامل يصبح الشكل الفني أشبه بالنجوم التي، في سكونها الظاهري، لا تكلُّ أبدًا، مثل لهب ساكن ليس إلا حركة. اللوحة العظيمة متكلِّمة دائمًا؛ أما الأنباء في جريدة، وإنْ عن حدث مأساوي ما، فتولد ميتة. بعض الأخبار قد يكون عاديًّا تمامًا في غياهب جريدة؛ إنما أعطِه إيقاعًا مناسبًا ولن يكفَّ عن الإشعاع. ذلكم هو الفن. إن في حوزته العصا السحرية التي تمنح كلَّ الأشياء التي تلامسها حقيقةً لا تموت وتربطها بالكائن الشخصي فينا. ونحن نقف أمام إبداعاته قائلين: أعرفكِ كما أعرف نفسي؛ فأنتِ حقيقية.
في أثناء تجوالي مع صديق صيني في شوارع بكين لفتَ الرجلُ انتباهي فجأة بانفعال عظيم إلى حمار. ليس للحمار في العادة أية قوة خاصة من الحقيقة في نظرنا إلا إذا رَفَسَنا أو عندما نحتاج إلى خدمته على مضض. لكن الحقيقة، في حالات كهذه، لا يُشدَّد عليها في الحمار، إنما في غرض ما من الألم الجسماني خارجه. لقد ذكَّرني مسلكُ صديقي الصيني على الفور بالقصائد الصينية التي يكون فيها الإحساسُ البهيج بالواقع إحساسًا شديد العفوية يتم التعبير عنه ببساطة بالغة.

إن هذه الحساسية لِلَمْسَة الأشياء، ومثل هذه البهجة الموفورة في التعرف إليها، يُعوَّق عندما تصير المآرب الملحَّة في مجتمعنا من الكثرة والتعقيد بمكان، عندما تتزاحم المشكلات على دربنا مصطخبةً لتسترعي انتباهنا، وتتعرقل حركة الحياة بالأشياء والأفكار التي يصعب معها استيعابٌ متناغم.

لقد بات هذا كلُّه باديًا للعيان كلَّ يوم في العصر الحديث الذي يصرف وقتًا للحصول على عُدَّة الحياة أكثر مما يصرف للتمتع بها. والواقع أن الحياة نفسها أمست ثانوية بالقياس إلى معداتها، مثلها كمثل حديقة مدفونة تحت الآجر المُعَدِّ لبناء سياجها. إن الهَوَسَ بالآجرِّ وبالملاط، على نحو ما، في ازدياد، ومملكة القمامة تسود، وأيام الربيع تذهب سدى والأزهار لا تأتي أبدًا.

إن ذهننا الحديث، كالسائح العَجول في ركضه وراء المتفرِّقات، ينبش في الأسواق الرخيصة عن غرائب هي غالبًا أضاليل. وهذا يحدث لأن حساسيتَه الطبيعية للمظاهر البسيطة للوجود تتبلَّد بالمشاغل الدائمة التي تصرفه عنها. والأدب الذي ينتجه يبدو دائمًا حاشرًا أنفَه في أماكن منزوية، مفتشًا عن أشياء ومؤثِّرات غير مأنوسة. إنه يُرهِق مواردَه كي يستوقف الأنظار. وهو يكدُّ في صوغ تغييرات قُلَّبة في الأسلوب، كما في صناعة القبعات النسائية الحديثة؛ والمنتوج يوحي بلمعة الفولاذ أكثر مما يوحي بتفتُّح الحياة.

قلَّما تأتي من الأعماق طُّرُزُ الأدب التي سرعان ما تسأم نفسها. إذ إنها تنتمي إلى فورة السطح المزبدة، بجلبتها الصاخبة للاعتراف الآنيِّ بها. إن أدبًا كهذا، بإجهاده نفسه، يستنزف تفتُّحَه الجَوَّانيَّ ويمرُّ سريعًا بتغيرات خارجية مثل أوراق الخريف، إذ ينتج، بمعونة الألوان والأصباغ، حداثةً تُخزِي مظهرَه في اليوم الذي سبقه مباشرة. وتعبيراته غالبًا ما تكون تشميزات، مثلها كمثل صبار الصحراء الذي يعوزُه التواضعُ في تلوِّياته والسلامُ في أشواكه، وتشرأبُّ في موقفه فظاظةٌ عدوانية توحي باعتزاز قسري بالفقر. وكثيرًا ما نقع على نظيره في بعض الكتابات الحديثة التي يصعب تجاهلُها بسبب مفاجآتها الشائكة وتشبيراتها المتناقضة. والحكمة ليست نادرة في هذه الأعمال، لكنها حكمة فقدتْ ثقتَها بكرامتها الوادعة، واعترتْها خشيةٌ من تجاهُل الحشود التي يجذبها المسرفُ والشاذ. ومن المحزن رؤية الحكمة تكافح لتبدو فَطِنَة، شأن نبي متسربل بالجُبَب والنواقيس أمام جمهور مبهوت.

بيد أن الإنسان عبَّر في جميع الفنون العظيمة، أدبية أو غير أدبية، عن مشاعره المألوفة في شكل فريد، لكنه ليس شاذًّا. فعندما وصف ووردزوورث في قصيدته حياةً هَجَرَها الحبُّ التمسَ من أجل فنِّه الشجنَ المألوف المتوقَّع من جميع العقول السوية فيما يتعلق بموضوع كهذا. لكن الصورة التي جَسَّمَ فيها العاطفةَ جاءت غير متوقَّعة،؛ ومع ذلك فإن كلَّ قارئ عاقل يسلِّم بها بفرح حين يتمثَّل صورة

... عُش طائرٍ مهجور مملوء ثلجًا

وسط أجمة نسرين جرداء.

ومن جهة أخرى، قرأتُ بعض الكتابات الحديثة التي يوصَف فيها بزوغُ النجوم في المساء كطَفَحٍ مرضيٍّ مفاجئ على بَدَنِ الظلمة المنتبج. يبدو الكاتب خائفًا من الفوز بشعور من النقاء المنعش في الليل المرصَّع بالنجوم المألوف لئلا يقال عنه إنه عادي. من وجهة نظر الواقعية، قد لا تكون الصورة في غير محلِّها بالكلِّية، وقد تُعتبَر فاحشة الجزالة في فظاظتها المتهوَّرة. لكن هذا ليس بفن؛ إنما هو زعقة مختلجة، أشبه ما تكون بالدعاية المتشنجة للسوق الحديث التي تستغل علم نفس الدهماء ضدَّ سهوها عنها. وإن إغراء خلق وَهْمِ الجزالة عبر تشديد مفرط على الشذوذ لهو علامة تخدير. فتضاؤل زخم الخيال هو الذي يستخدم مهارةً يائسة في فنِّ أيامنا هذه لإنتاج صدمات من أجل أن يسلِّط الأضواء على إحساسٍ بغير المعهود. وحين نجد أن آداب فترة ما تنشط سعيًا وراء جِدَّة زائفة في أسلوبها ومادتها علينا أن نعلم أن هذا عَرَض من أعراض الشيخوخة، من أعراض حساسية غثَّة تسعى إلى تحريض ذوقها السقيم بحَرَافة البذاءة ولمسة الإفراط الواخزة. ولقد فُسِّر لي أن هذه الأعراض هي، في الغالب، نتاج ردَّة فعل ضد أدب القرن الماضي [التاسع عشر] الذي نمَّى تكلُّفًا مسرفَ الحلاوة، مخنَّثًا في ترف زينته وفي رقة تعبيراته المفرطة. ويبدو أنه بلغ حدًّا أقصى في التجويد كاد أن يصنِّف أعرافه، جاعلاً من السهل على المواهب الخجولة بلوغَ مستوى مريح من الوجاهة الأدبية. قد يكون هذا التعليل صحيحًا؛ لكن ردَّات الفعل، لسوء الحظِّ، قلَّما تملك دَعَةَ العفوية، وهي غالبًا ما تمثِّل الوجهَ الآخر للعملة الذي يحاولون نبذه باعتباره مزيَّفًا. إن ردَّة الفعل حيال تكلُّفٍ معيَّن كفيلةٌ بصنع تكلُّفها الخاص على نحوٍ نضاليٍّ، مستخدمةً زينةَ أصباغ الاستعداد للحرب، أسلوبَ الفظاظة البدائية المصنوع عمدًا. فالبستاني، إذ يتبرم من أحواض الزهر المعقدةِ التخطيط، يشرع بعزيمة ضارية في نصب صخور مصنوعة في كلِّ مكان، متحاشيًا الإلهام الطبيعي للإيقاع، امتثالاً لنمط من الاستبداد هو عينه استبداد نمط ما. وتُتَّبَعُ غريزةُ القطيع عينها في عبادةٍ للتمرُّد مثلما اتُّبِعَتْ في عبادة الاتِّباع؛ والتحدِّي، بما هو مجرد فعل مضادٍّ للطاعة، يُظهِر الطاعة أيضًا في لَبوس التحدِّي. إن التعصُّب للرجولة يُنتِجُ تعصُّبًا للرياضة مفتول العضل يصلح للسِّرْك، وليس للفروسية الطبيعية المتواضعة، إنما التي لا تُقهَر، المطالِبة بحقِّها الشرعي في مقعد الشرف في كلِّ الفنون.

كثيرًا ما قال أنصارُ هذا الاستعراضِ لفظِّ الصياحِ ورخيصِ التوهُّجِ في الفنِّ أن له ما يسوِّغه في الإقرار غير المنحاز بالوقائع بما هي كذلك؛ فالواقعية، وفقًا لهم، يجب ألا تُتحاشى، وإنْ كانت مهترئة ومُنذِرَة بالشر. لكنها عندما لا تهم العلمَ، بل الفنونُ، علينا أن نميِّز بين الواقعية والواقع. فالمرضُ، من منظاره الواسع إلى البيئة السوية، واقعٌ ينبغي الاعتراف به في الأدب. أما المرض في المشفى فهو واقعية تُناسِب استخدامَ العلم. إنه تجريد، متى سُمِحَ له بالاستحواذ على الأدب، فقد يتخذ مظهرًا مروِّعًا بسبب عدم واقعيته. فليس لأشباح شاردة كهذه حضور مناسب في محيط سويٍّ؛ وهي تقدِّم تناسُبًا كاذبًا في قَسَمَاتها لأن نِسَبَ بيئتها قد عُبِثَ بها. وإن بَتْرًا كهذا للجوهر ليس بفن، بل هو حيلة تستغل التشوُّه انتصارًا لادِّعاء باطل للواقع. ومن سوء الحظ عدم ندرة مَن يظنون أن ما يروِّعهم قسرًا يسمح لهم برؤية أكثر من مجرد الوقائع المتوازنة والمقيَّدة التي ينبغي لهم أن يتودَّدوا إليها ويفوزوا بها. وأغلب الظن أن أشخاصًا كهؤلاء يزدادون عددًا من جراء نقص أوقات الفراغ، وأن الأقبية المظلمة لعلم النفس الجنسي ومخازنَ العقاقير الخاصة بالخبث الأخلاقي يتم السطو عليها لإمدادهم بالدافع الذي يرغبون في الاعتقاد بأنه دافع الواقع الجمالي.

أعرف جملة بسيطة يغنِّيها في جوارنا قومٌ بدائيون أترجِمها على النحو التالي: "مثل قلبي كمثل مجرى حَصَوي يخبِّئ ساقية حمقاء." قد يصنِّفها المحلِّل النفسي كحالة من حالات الرغبة المكبوتة، وبذلك يحطُّ من شأنها على الفور لتصير مجرد عيِّنة تروِّج لحقيقة مفترَضة، كما تفعل قطعةٌ من الفحم يُشتبَه في أنها هرَّبتْ في ظلمتها الخمرَ المتقدةَ لشمس عصر منسيٍّ. لكنها أدب؛ وأيًّا كان الدافع الأصلي الذي أجْفَلَ هذه الفكرة وصاغها في أغنية فإن الحقيقة ذات المغزى عنها هي أنها اتخذت هيئة صورة، هيئة إبداعٍ ذي طابع شخصي فريد، لكنه مع ذلك شامل. حقائقُ كبت الرغبة مألوفة بكثرة؛ أما هذا التعبير فهو غير مألوف على نحو فريد. وذهن المستمع يتأثر، لا لأنها حقيقة نفسية، بل لأنها قصيدة فردية، تمثل واقعًا شخصيًّا ينتمي إلى كلِّ زمان وكلِّ مكان في العالم الإنساني.

بيد أن هذا ليس كلَّ شيء. فهذه القصيدة تدين بشكلها – ولا شك – إلى لمسة الشخص الذي أخرجَها؛ لكنها، في الوقت نفسه، بحركة من التجرِّد التام، تخطَّتْ قوامها – ألا وهو المزاج العاطفي للمؤلف – ففازت بانعتاقها من كلِّ قيد سِيَريٍّ باتخاذها كمالاً إيقاعيًّا نفيسًا في جدارته الخالصة. هي قصيدة يبوح عنوانُها بنشأتها في مزاج كئيب. وليس لأحدٍ أن يقول إن للإحساس بالقنوط، في نظر ذهن بصير، شيئًا جديرًا بالتذكر على نحو لطيف. ومع ذلك، لا يجوز لهذه الأبيات أن تُنسى لأن قصيدةً تشكَّلتْ تشكُّلاً مباشرًا، متحررةً أبدًا من منشئها، وهي تقلِّص من تاريخها وتشدِّد على استقلالها. فالأسى الذي كان شخصيًّا محضًا لدى إمبراطور تحرَّر فور اتِّخاذه شكلَ أبيات في الحجر [تاج محل] وأصبح نصرًا من التفجُّع، فيضًا من البهجة يستر جلمودَ نشأته الشقية الأسودَ. ويصحُّ الأمرُ عينُه على كلِّ إبداع. فكلُّ قطرة جديدة كلٌّ كاملٌ لا يحمل ذاكرة بَنَوية عن منبته.

عندما أستعمل كلمة إبداع أعني أن تجريدات لا تقاس اتخذت، عبره، وحدةً محسوسةً في علاقتها بنا. وبالوسع تحليل مادَّته، لا هذه الوحدة الماثلة في تقديمه لذاته. والأدب، كفنٍّ، يقدِّم لنا السرَّ المكنون في وحدته.

نقرأ القصيدة:

لا تلتمسِ البوحَ بحبِّك أبدًا

فالحب، لا يباح به، موجود؛

إذ إن الريح اللطيفة تهبُّ

صامتةً، خفية.

 

قد بحتُ بحبي، قد بحتُ بحبي،

قد بحتُ بقلبي كلِّه؛

أوَّاه، لقد غادرتْ

مرتعدة بردًا في مخاوف مفزعة.

 

وحالما رحلتْ عني

دنا مسافرٌ

صامتًا، خفيًّا،

ومضى بها متنهِّدًا.

إن لها نَحْوَها الخاص ومفرداتِها. وحين نقطِّعها إربًا إربًا ونحاول تعذيبها لانتزاع اعتراف منها فإن القصيدة التي هي واحدة تغادر كالريح اللطيفة، صامتة، خفية. وما من أحدٍ يعلم كيف تتعدى كلَّ أجزائها وتتخطَّى كلَّ قوانينها وتتواصل مع الشخص. فالمغزى المكنون في الوحدة عجيبة أبدية.

أما فيما يتعلق بالمعنى المحدد للقصيدة فقد تكون لنا شكوكنا. فلو قيلت نثرًا عاديًّا فلربما عيل صبرنا واندفعنا لمعارضتها، ولكنَّا بالتأكيد التَمَسْنا شرحًا عن هوية المسافر وعن السبب الذي دعاه إلى المضيِّ بالحبِّ بدون أيِّ استفزاز معقول. لكننا في هذه القصيدة لسنا في حاجة إلى السؤال عن تفسير إلا إذا كنَّا من مدمني جمع المعاني الميئوس منهم، الشبيه بهَوَسِ جمع الفراشات الميتة. فالقصيدة، بما هي إبداع – وهو أمر يفوقها بما هي فكرة – تظفر بانتباهنا حتمًا؛ وأي معنى نشعر به في كلماتها هو كالشعور، في وجه جميل، بابتسامة لا يُدرَك كنهُها، لوَّاصة ومُرضِيَة بعمق.

تقدِّم الوحدة كقصيدة نفسَها في لغة موقَّعة في حركةِ سجيَّة. والإيقاع ليس في مزيجٍ موزون من الكلمات وحسب، إنما في مناغمة عميقة للأفكار، في موسيقى للفكر أبْدَعَها مبدأ للتوزيع حاذقٌ، ليس منطقيًّا في المقام الأول إنما قائم على بيِّنة. فالمعنى الذي تنطوي عليه كلمة "سجيَّة" يصعب التعريف به. فهو مبطون في تجميع خاص من المظاهر يعطيه زخمًا لا يقاوَم. والتشكيل الذي يمثِّله قد يكون سَمِجًا، قد يكون غير منتهٍ، غير متَّسق؛ غير أن له في كلِّيته، مع ذلك، قوة زخمية تُطالِب بالاعتراف بها، يتعارض غالبًا مع رغبتنا في موافقة صوابنا. إن للانهيار الثلجي سجية ليست حتى لكومة ثلج أثقل منه؛ وسجيَّتُه في حركته الجسيمة، في إمكاناته التي لا تقاس.

على الفنان أن يذكِّر العالم بأننا بصدقِ تعبيرنا ننمو بالحق. وعندما يكون العالمُ البشريُّ الصنعِ جهازًا آليًّا صُنِعَ لمأربٍ ما من مآرب النفوذ أكثر منه تعبيرًا عن روح الإنسان المبدعة فإنه يتصلب، حاصلاً على المهارة على حساب الإيحائية الحاذقة للنموِّ الحي. فالإنسان في نشاطاته الإبداعية يُفعِم الطبيعة بحياته ومحبته. لكنه بطاقاته النفعية يحارب الطبيعة، ينفيها من عالمه، يشوِّهها ويدنِّسها ببشاعة طموحاته.

إن هذا العالم البشريَّ الصنعِ، بصخبه وخيلائه الناشزين، يَسِمُه بمخطِّط كونٍ خالٍ من لمسة الشخص، وبالتالي مجرَّدٍ من مغزى أسمى. ولا بدَّ أن كلَّ الحضارات العظيمة التي اندثرت قد بلغتْ نهايتَها عبر تعبير خاطئ كهذا عن الإنسانية؛ عبر تطفُّل هائل الحجم ولَّدَه الثراءُ بتشبثِ الإنسان بالاتكال على المصادر المادية؛ عبر الروح الساخرة للإنكار والنفي الجَحِد التي تسلبنا موارد كفافنا على درب الحق.

على الفنان أن يعلن إيمانه بالـنَعَمْ الخالدة – عليه أن يقول: "أومن بأن ثمة مثالاً يرفرف فوق الأرض ويتخلَّلها، مثالَ ذلك الفردوس الذي ليس مجرد نتاج للمخيِّلة، إنما الحقيقة المطلقة التي تسكن إليها كلُّ الأشياء وتتحرك فيها."

أومن بأن رؤيا الفردوس سوف تشاهَد في ضياء الشمس وخضرة الأرض، في جمال محيَّا الإنسان وثراء الحياة البشرية، وحتى في الأشياء التي تبدو في ظاهرها تافهة غير خلابة. فروح الفردوس يقظى وتصدح بصوتها في كلِّ مكان من هذه الأرض. وهو يَبْلغ أذنَنا الباطنة من حيث لا ندري. وهو يوقِّع قيثارة حياتنا التي ترسل توقَنا موسيقى إلى ما يتعدى المنتهي، ليس في الصلوات والآمال وحسب، وإنما في المعابد التي هي شعلات من نار في الحجر، في الصور التي هي أحلام قد خُلِّدَتْ، في الرقص الذي هو التأمل الوَجْديُّ في مركز الحركة الساكن.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود