في أحوال ما بعد الموت

فريتيوف شووُن

 

تتميَّز وجهةُ نظر الأديان ذات المنشأ السامي [نسبة إلى سام بن آدم]، في جملة ما تتميَّز به، بجنوحها إلى نَفْي كلِّ ما لا يهم الإنسان بما هو كذلك: يترتب على ذلك أنها تنفي خلودَ النفس الحيوانية، كما تنفي أيضًا – وهو ما يساوي الأمر نفسه من بعض الوجوه – ارتحالَ النفس عبر وجودات غير بشرية. على كلِّ حال، لا يمكن لنا أن نتكلَّم هنا على النفي إلا على نحو خارجي تمامًا ونسبيٍّ جدًّا؛ ذلك لأن الأخطاء لا وجود لها في وحي الرسالات، ولأن الأمر يتعلق هنا بمفهومٍ، فيه التركيب والتبسيط إلى حدٍّ كبير، عن أحوال ما بعد الموت، التي ترتدُّ في جملتها إلى حالتين "أبديتين"[1]: الجنة والنار.[2] ولئن كنَّا، من خلال هذا المفهوم، ننكر على الحيوان أن تكون له نفسٌ، فلأنه، من حيث هو كائن غير بشري، لا يستطيع أن يسهم مباشرة[3] في أسباب الخلاص [النجاة]، ولا يستطيع – تبعًا لذلك – أن يخلِّص نفسه انطلاقًا من حالته الخاصة. كذلك، كلُّ حالة من أحوال ما بعد الموت لا تنطبق على الحالة البشرية، فإنما تمتصها ضمنًا – إن لم يكن صراحةً – أحوالُ الجحيم أو أحوال "الأعراف" [ما بين الجنة والنار] Limbes، على حسب الأحوال. غنيٌّ عن القول إنه إنْ كانت الأحوالُ غير البشرية – طبعًا نحن هنا لا نتكلَّم على الأحوال الملائكية – يمكن تمثُّلها في الجحيم لأنها لا تحمل أسباب الخلاص، فإن من الممكن، من ناحية أخرى – ولسبب لا يقل عن ذلك – تمثُّل هذه الأحوال نفسها في "الأعراف" لأنها لا تحمل أسباب الهلاك.[4] تبعًا لذلك،عندما يُعْلَن "الوثنيون" و"الهراطقة" [الزنادقة] مستبعَدين من الخلاص – وبمقدار ما هو كذلك – فإن هذا لا يعني، من الناحية الباطنية – وجوب نزولهم منازل الجحيم. من ناحية أخرى، فإن تصوير الأحوال غير البشرية – أو دون البشرية، إن شئتم – في أحوال الجحيم يجد تسويغَه في أن ارتحال النفوس ينطوي على عذاب، أو إن شئنا الدقة، على تناوب أحوال السعادة والشقاء، من حيث إن الكائن لا خلاص له إلا في الفردوس. لكن هذه الحجة يمكن قَلْبُها، ويمكن لها أن تفيدنا أيضًا في البرهنة على أن الارتحال، مادامت الآلامُ التي تنشأ عنه غير دائمة، ليس "جهنميًّا" بالمعنى المطلق الذي تضفيه على هذه الكلمة وجهةُ النظر اللاهوتية.

يبدو لنا أنه لا بدَّ من الإجابة هنا على اعتراض كثيرًا ما يصادفنا، وهو مع ذلك يلقي ضوءًا على ما لدى وجهة النظر اللاهوتية تخصيصًا – بسبب من تشبيهيَّتها بالذات – من إجابة وقتية، وبالتالي ضعيفة: أعني الاعتراض – الذي يستثمره الملاحدةُ على نطاق واسع، ويردُّ عليه أهلُ الظاهر ردًّا غير مقنع – الاعتراض الذي يقول: لا تَناسُب بين فعل، مهما بلغ شرُّه، وبين جزاء لا نهاية له؛ أو بعبارة أخرى، إن سببًا محدودًا لا يصح أن يكون له أثرٌ غير محدود. هذا الاعتراض يقوم على حقيقة لا يمكن نكرانُها، وتبيِّن أنه حتى الجنة والنار لا يمكن لهما أن يكونا "أبديين" بالمعنى الحرفي للكلمة.[5] ومع ذلك، إن كان هذا الاعتراض صحيحًا في حدِّ ذاته، فلا يمكن أن يكون على حساب الغرض الذي وضعه الوحيُ الديني نُصْبَ عينيه، لأنه، فضلاً عن مشروعية القول باللغة البشرية بأن الله "يُثيب" أو "يعاقِب" على فعل، لا على أساس أن هذا الفعل هو المعاقَب عليه، بل على الموقف أو الميل الأساسي الذي لا بُرْءَ منه.[6] إن فعل الإثم هنا لا يمثِّل إلا تبدِّيًا أو رمزًا إلى هذا الموقف أو الميل. بعبارة أخرى، لا يذهب إلى جهنم إلا الذين، إذا أخرجهم اللهُ منها، يفعلون كلَّ شيء لكي يعودوا إليها. فديمومة جهنم، على قسوتها، تظل أقل قسوة من طبيعة الهالكين الذين مأواهم النار. إن الله لا يخضع للزمان، وعنده أن "العقاب" – وكذلك "الثواب" – يَسِمُ جانبًا جوهريًّا من الكائن [البشري] بنفس القدر الذي تبدو فيه الأفعالُ والمواقف، من وجهة نظر بشرية، أنها استدعت الثواب والعقاب. المرء هو ما يجب أن يكون بحسب إمكانيَّته – أي أنه تعبير ضروري عن "الممكن الكلِّي". والإمكانات الخصوصية لا تفسير لها إلا لانهائية "الإمكان" الكوني، ولا يمكن تفسيرُها إلا بالاعتبارات الأخلاقية.

بحسب تعبير هندوسي، "الشرط البشري صعبٌ بلوغُه". وهذا يعني بالنسبة للكائن المرتحل [عبر الأجسام]، أن فُرَصَ الدخول في حالة مركزية، كالحالة البشرية تحديدًا، – أو الاحتفاظ بها، بعد الموت، إن سَبَقَ له أن وُجِدَ ثمة، – أقل بما لا يقاس من فرص السقوط في حالة محيطية، من مثل حالة الحيوان والنبات أو حتى المعادن. إن فقدان التناسب هذا يعبِّر عن نفسه، على أوضح ما يكون التعبير، بالرمزية الهندسية التي استعرنا منها اصطلاحاتنا توًّا: حتى بإحلال نقطة مرئية محلَّ نقطة هندسية، – أي بدائرة مقلَّصة إلى أبعد حدٍّ ممكن، أي إلى حدِّ إمكان رؤيتها، – إن اتساع هذا المركز هو دائمًا دون اتساع محيط الدائرة. لنمثِّلْ هذا بقطعة أرض يرويها المطر ونعلِّم مركزَ هذه الأرض بحصاة. هناك فُرَصٌ لكي تهطل قطراتُ المطر على الأرض أكثر من تهطالها على الحصاة. هذا التشبيه لا يتيح لنا أن نتبيَّن لماذا كان هذا الشرط البشري صعبًا بلوغُه وحسب، وإنما أيضًا لماذا كان هذا الشرط – أو كلُّ عالَم آخر فيه شرطٌ مشابه – يمثل الله "على الأرض"، وأنه، انطلاقًا من هذا الشرط وحده، يستطيع الكائن [البشري] أن يحقِّق الله réaliser Dieu، ويخرج، بالتالي، من الارتحال [عبر الأجسام] (سمسارا). السبب الكافي للحالة البشرية هو قانونُها الوجودي (دهرْما): أن يكون الإنسان جسرًا بين الأرض والسماء، وتبعًا لذلك، أن "يحقق الله" إلى درجة ما[7]؛ أو – وهو ما يساوي الشيء نفسه – الخروج من الكون، على الأقل من الكون الصُّوْري.[8] وهذا ما يفسِّر لنا، فضلاً عن ذلك، لماذا تصر الأخلاقيات الدينية كلُّها على أهمية الإنجاب عبر الزواج ولا ترى فيه غاية أخرى، إذ تتيح للنفوس التائهة في الأحوال المحيطية والسلبية – المشابهة، لكنْ غير المماثلة، للأنواع الحيوانية والنباتية والمعدنية التي نجدها في عالمنا الأرضي – تتيح لها الدخول في حالة مركزية، إيجابية، حرة – هي الحالة البشرية – وبلوغ النجاة أو الخلاص. إذا استطاعت المرأة أن تضمن لأولادها، كما هي الحال في قلب الحضارات النقلية traditionnelles، أسباب الخلاص، فإنما تنجز عملاً من أعمال المحبة التي لا نهاية لها بواسطة وظيفتها الأمومية – وهكذا تكون الأمُّ بابًا مقدسًا يُفضي إلى الخلاص. ما من تناقض بين أن تحضَّ الأخلاقُ المسيحية على الإنجاب وعلى التمسك بالعفة في نفس الوقت؛ إذ تحض على هذه الأخيرة قبل كلِّ شيء لأن هاتين الوظيفتين – الإنجاب والعفة – لا معنى لهما إن لم يكن يُراد بهما وجهُ الله: العفة على وجه مباشر، داخلي، "عمودي"، صوفي؛ الإنجاب على نحو غير مباشر، خارجي، "أفقي"، اجتماعي. بعبارة أخرى، العفة نوعية، والإنجاب كمِّي، بمعنى ما على الأقل. فالعفة، من دون أن تتناقض مع وظيفة الإنجاب، تتفق، إذن، – لا في حدِّ ذاتها، بل بفضل الدور المؤثر الذي تقوم به في الطريق الروحي – تتفق مع السبب الكافي نفسه للحالة البشرية. من دون عفة، يقال، بحسب هذا المنظور، لا معنى للحياة. لكن من دون إنجاب، لا يوجد شخص لكي يكون عفيفًا. إذن، يجب اعتماد وجهة نظر توفِّق بين هاتين الضرورتين: فالإنسان الذي ينجب عليه أن يتحقق بالعفة وفقًا للطرائق المناسبة؛ وكذلك – لكن بالمعنى المعاكس – على الإنسان العفيف أن ينجب وفق الطرائق التي تقتضيها وظيفتُه. الرجل المتزوج يجب أن يكون عفيفًا، أولاً تجاه النساء غير اللواتي يحلِّلهن له الشَّرْعُ الديني؛ ثم إلى حدٍّ معيَّن تجاه امرأته؛ وأخيرًا تجاه نفسه التي يكون وضعُها بالنسبة إلى الروح هو وضع المؤنث. أما الرجل الذي يَنْذر العفة، فعليه أن ينجب بدوره، لكن روحيًّا؛ وهو يفعل ذلك، من جهة، بواسطة تبليغ الحقائق والألطاف [النِّعَم] الروحية، ومن جهة ثانية، بواسطة إشعاع قداسته. إن ما قلناه لتوِّنا ينطوي على أن عفة الجسد لا تشكِّل أبدًا ضرورة مطلقة، مادامت، في حدِّ ذاتها، موقفًا بشريًّا بأضيق المعنى. أما العفة الروحية، التي لا تكون العفة الجسدية منها سوى سَنَدٍ من بين أسناد أخرى ممكنة أيضًا، فإنما تفرض نفسها فرضًا غير شَرطي؛ لأنه، من دونها، لا مخرج لنا من عالم الصور الوهمية. لكن هذه العفة الروحية يمكن لها أن تتخذ أسماء مختلفة بحسب الطُّرُق: فهي في الإسلام تصبح "فَقْرًا"، بحيث يمكن أن تجتمع هنا وظيفتا الإنجاب والعفة حتى على الصعيد الجسدي.

لكن، لنعدْ بعد هذا الاستطراد إلى مسألة الإمكانية التي تقدِّمها الحالة البشرية – والحالات المشابهة في عوالم أخرى – للخروج من العالم الدائري غير المحدود: الإنسان، لكي يستطيع تحقيق هذا التحرر، يتعيَّن عليه أن يمتلك، في طبيعته بالذات، درجة فائقة العلوِّ من الحرية.[9] وهذه الحرية هي حرية الاختيار التي ترفع الإنسان إلى ما فوق الكائنات السلبية كالحيوانات. لكن هذه الحرية أيضًا هي التي تسمح، بسبب من تناقُض مأساوي، – كامن مع ذلك في الخلق بما هو كذلك، – تسمح للإنسان ألا يأخذ بحسبانه قانونَه الوجودي أو المفطور عليه، أو لنقل معنى حياته. في هذه الحالة لا يكون إنسانًا إلا عَرَضًا أو، بنوع ما، بالمصادفة،[10] وليس أبدًا بالضرورة أو بحسب تعريفه الجوهري.[11]

يترتب على ما بيَّناه لتوِّنا أن السبب الكافي في كلِّ صورة من صور الوحي يتوقف على تحقيق ما يكوِّن سببَ وجودنا بالذات، على أوسع نطاق ممكن. نريد أن نقول إن الدين ينبغي أن يتوجَّه إلى جميع الاستعدادات، حتى أكثرها تواضعًا، باستخدامه، كما يفعل الملائكة، مختلفَ اللغات الروحية – لكنْ على أن يظلَّ متفقًا مع الفكرة الأساسية: الدين يزوِّد مَن يستجيب بطبيعته لتعريف "الإنسان" (بما هو إنسان) – يزوِّده بالوسائل التي يحقِّق بها غايته الأخيرة: أن يكون المرء إنسانًا تمامًا هو أن "يصير إلهًا"[12]؛ – ومن جهة أخرى، يزوِّد الذين هم أناس، رغمًا عنهم بنوع ما، بالوسيلة، التي لا تذهب بهم إلى الله في المقام الأول، بل بـإرادة الذهاب إليه، وبالتالي لكي يصيروا، قبل كلِّ شيء، أناسًا بالامتلاء.[13]

*** *** ***

ترجمة: نهاد خياطة

تنضيد: دارين أحمد


[1] "الأبدية" Éternité صفة مطلقة، يشكِّل غيابُها النسبيُّ الزمانَ تحديدًا، ولا يمكن، لهذا السبب، أن تُعزَى لغير الله – اللهم إلا أن تكون لغة رمزية جدًّا.

[2] ألاَّ تعترف الكنيسة الأرثوذكسية والإسلام صراحةً بوجود المَطْهَر Purgatoire، فهذا لا يعني أبدًا أنهما ينكران وجود الأمر، كما يبيِّن ذلك مثلاً هذا التعليم من النبي: "يُدخِل اللهُ أهلَ الجنةِ الجنةَ [...] ويُدخِل أهلَ النارِ النارَ. ثم يقول: انظروا، مَن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه. فيُخرَجون منها حِممًا قد امتحشوا، فيُلقَوْن في نهر الحياة (أي الغبطة التي تتواحد مع الحياة الطَّهور باعتبارها تتعدَّى الألم والموت) أو الحيا (أي المطر الذي يرمز إلى الرحمة)، فينبتون فيه كما تنبت الحبةُ إلى جانب السيل. ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية؟" أقول [أنا المترجم]: رواه مسلم في كتاب الإيمان، "باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحِّدين من النار"، الحديث رقم 184. ورواه البخاري في كتاب الإيمان، "باب تفاضُل أهل الإيمان"، ج 1، ص 11. وفي الرقاق، "صفة الجنة والنار"، ج 7، ص 202.

[3] هذا التحفُّظ يفرض نفسه لأنه، في الطقوس القربانية اليهودية والإسلامية، تستفيد نفسُ الحيوان المقرَّب ذبيحةً، هي أيضًا، من الطقس، ربما في انبعاثه من جديد في حالة مركزية أو حرَّة كحالتنا نحن الآدميين.

[4] لو لم يكن الأمر كذلك، فإن مصير الحيوانات، مثلاً، هو النار. صحيح أن حالة الأنواع الدنيا قد تحملنا غالبًا على الاعتقاد بأن مصيرها النار، خصوصًا وأنه، بحسب كلِّ الظواهر، هو النوع كلُّه الذي يشكِّل هنا فردًا، بحيث لا تبلغ مثل هذه الحالة نهايتها إلا باستنفاد النوع كلِّه – وهو ما يرمز إلى ديمومة النار رمزًا قويًّا. ولعل هذا هو الجانب المزدوج للفرد الذي تلحظه شريعة مانو عندما تتكلَّم على عدد كبير من الولادات المتكررة في جسم حيوان سفلي. يحدث العكس عند الملائكة أو كلِّ "فرد"، إن صحَّ التعبير، يساوي وحده النوعَ برمَّته. يجب ألا يغيب عن بالنا أن "الصفة الكونية" مستقلة، في شيء قليل أو كثير، عن "المرتبة الكونية"؛ من دون ذلك لا يكون ثمة أناس خسيسون، لا حيوانات نبيلة. وهذا يعني أن الحيوان، بالنسبة إلى الإنسان، ليس بالضرورة فردًا سافلاً، بل يمكن أن يكون حتى نقيض ذلك، بحسب الأحوال؛ لكن حالته الكونية ليست أقل خِسَّة بالنسبة إلى الحالة الإنسانية؛ إذ يجب التمييز بين "الفرد" و"الحالة". فيما يتعلق بالملائكة، يجب أن نميِّز، من جهة، الكائنات العليا المحيطية أو السلبية، ومن جهة ثانية، الذين هم مظاهر أو وظائف "الروح"، والذين هم، لهذا السبب، الحالات المركزية والإيجابية بامتياز؛ فهؤلاء يشكِّلون المظاهر "المخلوقة" من "الروح القدس"، وبالتالي من الله؛ وهو ما لا يستطيع اللاهوت العادي أن يقبل به في هذه الصورة. في العقيدة الهندوسية، هذه الملائكة هي ديفا تريمورتي. والعقيدة الإسلامية تعلِّم أيضًا أن الروح (بالسنسكريتية بودِّهي) – الذي تشكِّل مظاهرُه أو وظائفه تحديدًا "الملائكة العُلى" (الملأ الأعلى أو الملائكة الكرام) – هذا الروح لم يكن عليه أن يسجد لآدم مثل سائر الملائكة، وإنه – أي الروح – بحسب رمزية مكانية، يتجاوز بحجمه الملائكة العاديين مجتمعين؛ وهذا يعني، بالإضافة إلى ذلك، أنه في النظام الكلِّي، بفضل قياس مقلوب، يكون المركز "أكبر" من المحيط.

[5] هذه "الأبدية" لا يمكن أن تكون سوى "ديمومة"، وبالتالي مدة غير محدودة. لكن التعبير المسيحي "إلى دهر الداهرين" in sæculas sæculorum، وكذا الكلمات القرآنية، خَلَدَ، خالد، خُلْد (في إشارتها إلى الديمومة والخلود) لا تعني الأبدية. بحسب القديس توما الأكويني، "الجحيم لا يسمَّى أبديًّا إلا بسبب عدم القدرة على قهره[...] ولهذا السبب لا توجد أبدية حقيقية في الجحيم، وإنما زمن بالأحرى [...]". الجنة والنار "أبديتان" لأنهما لا تتحركان نسبيًّا بالإضافة إلى حياتنا الأرضية، وهذا على درجات متفاوتة. – من المهم أن نلفت النظر هنا إلى أن اللاهوت العادي لا يمكن له أن يشكِّل نظامًا مغلقًا حيال الميتافيزياء الصرفة، وأنه لا يستطيع، وهو في مأمن من الزلل، أن يطرح نفسه بهذه الصفة. فهذا يبدو نقيًّا جدًّا في طروحات لاهوتية معينة، أقل ما يقال فيها إنها نتافات ولا تعرف كيف تعوِّض عن تعذُّر فهمها البادي إلا بالتوسل بالرجوع الفضفاض إلى حكمة إلهية "لا يُسبَر غورُها". في ذهننا هنا، على وجه الخصوص، النظرية المتعلقة بـ"الخير الذي لا نهاية له"، و"العدل الذي لا نهاية له"، التي تفسِّر خَلْقَ الإنسان بالخير ودينونته بالعدل، أو أيضًا "العقاب الأبدي" الذي يستحقه المذنب ذنبًا لا نهاية له تقريبًا بحقِّ العزَّة الإلهية؛ وهي فكرة تنطوي على غياب الرحمة لدى المختارين تجاه المذنبين. واضح أن جميع هذه الطروحات لها معنى واحد؛ وهي، تبعًا لذلك، لها ما يبرِّرها، لكن من وجهة نظر ميتافيزيائية فقط، لا من خلال الفكر البشري. وتبعًا لذلك، ينتج عن مذهب أهل الظاهر نفسه أنه لا يمكن له أن يكون تامًّا من دون مذهب أهل الباطن، وأنه – مذهب أهل الظاهر – يبدي، على النقيض، عن فجوات لا يردمها سوى العلم المقدس، الذي من دونه تشيع في مذهب أهل الظاهر الدياجيرُ. الباطنيةُ وحدها تمتلك الأنوار الكافية لمجابهة جميع الاعتراضات الممكنة ولتفسير الدين تفسيرًا إيجابيًّا. لكن هذا يفترض أنه يفسِّر الدين كلَّه دفعة واحدة، وبالتالي كلَّ دين. بكلمة واحدة، إما أن نحافظ، ضد "الحكمة بحسب الجسد"، على الظاهر والباطن في وقت واحد – الصورة والجوهر – وإما ألاَّ نحافظ على شيء أبدًا.

[6] بحسب العقيدة الإسلامية يُرمى بالكفر من يحمل وِزْرَ "رفض الحقيقة" في جوهر ذاته، لا مَن يحمل ذلك في صفاته، من حيث إن هذه الأخيرة أعْراض. – يقول حديث شريف إن رجلاً دخل الجنة لأنه روَّى ظمأ كلب إلى الماء. واضح أن الفعل وحده لا يمكن له أن يكون له، في حدِّ ذاته، مثل هذا الأثر. لكن كلَّ شيء يصبح مفهومًا عندما ننظر إليه باعتباره تجليًا نوعيًّا على وجه الخصوص – كُنْهيًّا بنوع ما – للميل الأساسي، والطيِّب في العمق، للنفس التي نحن في صددها.

[7] يعبِّر الهندوس عن هذه الحقيقة على النحو التالي: كما أن قانون (دهرْما) الماء أن يسيل، وقانون النار أن تحرق، وقانون الطير أن يطير، وقانون السمك أن يسبح، كذلك قانون الإنسان أن يحقق برهمن؛ وتبعًا لذلك، أن يتحرَّر من الـسمسارا. بنفس المعنى أيضًا، يُعَلِّم اللاهوت المسيحي أن الإنسان خُلِقَ لكي يعرف الله ويحبَّه ويعبده، وبذلك ينال الحياة الأبدية. أقول [أنا المترجم]: وفي الإسلام يقول الله تعالى: "وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات 51: 56) – وفي تفسير ابن عباس: "إلا ليعرفون."

[8] الكون الصُّوْري (عالم الصُّوَر) يتكوَّن من المحيط الكوني، باعتبار أن المركز الكوني هو "الفردوس" بالمعنى العادي للكلمة. هذا التحفظ مفيد لأن الفردوس يعني غالبًا، في العقائد الباطنية، ما يمكن تسميتُه (إن لم يكن ثمة مصطلح أفضل) بـ"الحالة الإلهية"، وبالتالي التحقق الإلهي. – فإذا كنا نتكلَّم هنا على الفردوس بصيغة المفرد، فهذا لا يعني، بطبيعة الحال، استبعاد تعددية الفراديس، التي شهدتْ لها جميعُ رسالات الوحي، بل لأن هذه الكلمة يمكن لها أن تُعيِّن في الحقيقة جميع العوالم الفردوسية، أو أيضًا، في الله نفسه، مجموعة أسمائه.

[9] غنيٌّ عن البيان أن الحيوانات والنباتات تعكس، هي أيضًا، الحرية الإلهية، وأنها، لهذا السبب، حرَّة بالضرورة، على الأقل من حيث علاقة معينة، هي تحديدًا مشاركتها في حرية الله. لكن هذه المشاركة هي، إلى درجة واضحة، أقل مباشرةً من مشاركة الإنسان، بحيث يكون أمرًا مشروعًا تمامًا، من وجهة نظر إنسانية، نكرانُ الحرية الحيوانية، مثلما هو أمر مشروع أيضًا، "من وجهة نظر إلهية"، نكرانُ الحرية الإنسانية.

[10] بتدقيق العبارة، ليست هناك من "صُدفة" أبدًا؛ وإذا كنا نستعمل مع ذلك هذه الكلمة هنا، فعلى نحو نسبيٍّ جدًّا ومؤقت، لكي ندل على درجة معينة من غياب الضرورة.

[11] هذا ما تعبِّر عنه اللغة الهندوسية رمزًا بالقول إن الإنسان الكافر بسبب كافٍ من ذاته – بحكم دهرْماه البشري – "منبوذ" أو حتى "خارج الطائفة"، وليس "مولودًا مرتين" (دفيجا)، أي مكرَّس consacré، أو مُسَارَر initié. للمعمودية المسيحية معنى انضمام الكائن البشري، بما هو عَرَض، إلى الحالة الإنسانية، بما هي جوهر. – بمعنى أنها تمنحه بالقوة الحالةَ البدْئية أو العَدَنيَّة (نسبة إلى جنة عَدن). الطائفة caste مؤسَّسة على الوراثة النفسية؛ وهذه حقيقة لا يمكن نكرانُها، على الرغم من أنه توجد هنا، كما في كلِّ مكان من النظام الكوني، "استثناءات تثبت القاعدة": النظام الهندوسي يأخذ ذلك في حسبانه تمامًا، مادام لا يسأل أحدٌ ناسكًا سائحًا (باريورايكا) عن الطبقة التي كان ينتمي إليها سابقًا. الفروق البشرية تنمحي في القداسة، بل وحتى في الحالة الاجتماعية – أو بالأحرى "فوق الاجتماعية" – التي تتطابق معها.

[12] بحسب القديس فاسيليوس، "الإنسان مخلوق تلقَّى الأمر بأن يصير إلهًا"؛ بنفس المعنى يقول القديس كيريلُّس الإسكندري: "إذا كان الله صار إنسانًا، فإن الإنسان صار إلهًا." تقول العقيدة الهندوسية إنه "يجب أن نكون ما نحن" – أي ذاك الذي وحده "هو كائن".

[13] هذه حقائق تريد المادِّية أن تتجاهلها بكلِّ ثمن؛ وهي، بحسب منطق الأشياء، تؤدي إلى المساواة، وبالتالي إلى كلِّ ما هو مضاد للطبيعة البشرية. وفي الحقيقة، إن كنَّا جميعًا متساوين في المادة، أي في الاحتياجات المادية والقوانين الطبيعية، فهذا لا يتفق أبدًا مع صفتنا الإنسانية التي هي علَّة وجودنا. أو بعبارة أخرى، إن صفتنا البشرية هي وحدها التي تميِّزنا من الحيوانات. المادية تختزل الإنسان إلى الحيوان، بل حتى إلى أدنى الحيوانات، مادام هذا هو الأكثر جماعية. وهذا ما يفسِّر كراهية الماديين لكلِّ ما يسمو على الأرضي، لكلِّ ما هو مفارِق، روحي؛ لأن الإنسان لا يكون حيوانًا بالروحي. إن من يتنكَّر للروحي يتنكَّر للإنساني. التمييز الأخلاقي والقانوني بين الإنسان والحيوان يصير حينئذٍ استبداديًّا صرفًا، كما هي الحال في كلِّ استبداد آخر؛ أي أن الإنسان يفقد، بتنازلٍ منه، جميع حقوقه على حياة الحيوانات، التي، هي أيضًا، لها نفس الحقوق التي للإنسان، مادامتْ لها الحاجاتُ المادية نفسها. واضح أنه يمكن إعطاء قيمة لحقِّ القوي؛ لكن عندئذٍ لا يعود ثمة مجال للمساواة، وهذا الحق يفعل فعله فيما بين الناس. أخيرًا، ثمة شيء آخر لا يحسب له الماديون حسابًا، وهو أن الإنسان السويَّ يعاني من وجوده في الجسد: العار الذي يشعر به من جرَّاء وجوده الفسيولوجي مؤشِّر كافٍ على وجوده غريبًا ومُبعَدًا في المادة. فالتحولات المحتمَلة التي تحلُّ بالجسد بفعل الجمال البشري لا تغير شيئًا من القوانين المُذِلَّة للوجود الفيزيائي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود