|
إضاءات
وضعية علمانية أنت مسلم وأنا مسيحي، أنت سني وأنا شيعي أو علوي أو درزي أو اسماعيلي، أنت مؤمن وأنا غير مؤمن، لكن أنت وأنا سوريان أو عراقيان أو مصريان أو لبنانيان...إلخ؛ ما هي شروط قيام علاقة عادلة بيننا كسكان بلد واحد؟ وبالتحديد، ما هي خصائص الدولة التي يمكن أن تضمن لنا مساواة تامة في الحقوق والسيادة والاحترام، وتكفل لنا حريات دينية ومدنية متكافئة؟ وأي وضع للدين لا يمس بالمساواة ضمن هذه الدولة؟ نقترح تعبير وضعية علمانية لتعيين العلاقة القلقة في بلداننا المشرقية بين التعدد الديني والمذهبي ووحدة الدولة والمساواة في الدولة بين متحدرين من أديان ومذاهب مختلفة. هذا لأن العلمانية تقترح ضمان المساواة عبر ترتيب علاقة الدين والدولة على الفصل بينهما كنصابين مستقلين. وهو ما يعني على الفور أن هناك مقرًا واحدًا للسيادة والعمومية الوطنية هو الدولة، فيما يترك للدين أن يعمل بحرية في "المجتمع المدني". ولعل من شأن الانطلاق من الوضعية العلمانية أن يخرج تفكيرنا حول العلمانية من المأزق الذي يتخبط فيه، والذي يتسم بغلبة مقاربات معيارية ومجردة تدافع عن العلمانية وتثبت شرعيتها المبدئية وتقف عند هذا الحد. أو قد تمضي إلى تقرير أن العلمانية هي الحل للمشكلات الطائفية لكن دون تفصيل أو برهان غير دائري (نعرف الطائفية بأنها حصيلة لغياب العلمانية، فيكون حضور العلمانية هو الكفيل بزوال الطائفية).
في فكرنا العربي الحديث ثمة مفاهيم مظلومة، أصابها سوء الفهم فظلمت، أو حسن الفهم فظلمت، أو أصابها عنت معتنقيها أو سذاجتهم فلم تسلم من الظلم. من هذه المفاهيم مفهوم العلمانية، الذي سنحرص على مناقشته وفق مقتضياته الراهنة والمحلية، تجنبًا للضياع في متاهات التأريخ والتعريفات، فما من تعريف جامع مانع، وما من تعريف عابر للزمان والمكان، وخاصة في القضايا الاجتماعية والسياسية والتربوية ومنها العلمانية التي هي كغيرها من المفاهيم، تفقد إيجابياتها وتتحول إلى خلاف ما يريده دعاتها، إذا لم تكتس ألوان البيئة والظرف، أي إذا انطلق رافعو راياتها من المفاهيم المجردة والتعريفات الأكاديمية التي أطلقت عليها حيث ولدت، فأطّرتها في عبارات تجمع بين خصائص المفهوم المجرد والروح الذي أكسبته إياه شروط الزمان والمكان الأوروبيين. ولعل هذا هو أحد مكمني الإشكال في علمانية العرب في العصر الحديث. فثمة مكمن آخر جعل هذا الإشكال يتفاقم، وهو أن العلمانية التي نقلها ودعا إليها المفكرون الليبراليون والقوميون واليساريون العرب منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، نزلت منزلاً غير مؤات لها. فلا العلاقات الاقتصادية والاجتماعية تحتملها، ولا العقلية السائدة - وهي عقلية تفردية وعشائرية - تستطيع استيعابها واستلهام مبادئها وقيمها، ولا حاملوها قادرون على التحلي الحقيقي بهذه القيم والمبادئ وتحقيق المطابقة بين القول والسلوك.
منذ زمن طويل وأنا معجبٌ بهذا "الإمام" الجميل، معجبٌ بشخصيته، معجبٌ بمواقفه. بدأ هذا الإعجاب، الذي نما حتى صار عشقًا كبيرًا، منذ أن درست، وأنا في المرحلة الجامعية، تحفتَه طوق الحمامة في الألفة والألاف، إذ تساءلت في نفسي: كيف يصدر هذا الكلامُ عن إمام "فقيه"؟! يخرج بعيدًا عن طابور المتجهِّمين، الحاقدين، المتوعِّدين، الذين خطفوا الدين واحتكروه وأخذوا يتوعدون الناس به ويخيفونهم. فابن حزم وقف بعيدًا عن هؤلاء، وقف في ركن قصيٍّ من حديقة من حدائق قرطبة الغنَّاء، وراح يصوغ أفكاره على "شريعة" من فوح الأزهار وشدو الأطيار وخرير الجداول! وليس هذا فقط الذي أنتج ذهنية ابن حزم. فحين تتبَّعتُ سيرة هذه الذهنية تبيَّن لي السر، بَرَزَ لي المفتاحُ والتمع أمامي السحر: إنَّها التنشئة، إنَّه خيار الأب الذي أوكل تربية ابنه إلى نساء رائعات، مبلَّلات بالبهجة، مندَّيات بالسرور، متوَّجات بالفتنة، مشتعلات ثقافةً، ملتهبات نبوغًا. تربَّى هذا الطفل في حجر قرطبيات مغايرات، زرعن فيه حبَّ الفن، وحبَّ الموسيقى، وحبَّ الشعر.
كلُّ موعد بين اثنين عقدٌ ثنائي. وحده الموت ينقضُّ علينا دون أن يشاورنا. يسرقنا من هذا الوجود الذي نحبه ما لم يعذِّبنا مرضٌ شديدٌ أو خيباتٌ أحزنتْنا الواحدة تلو الأخرى. هناك مَن رغبوا في الفراق اشتياقًا إلى الله، إذ باتوا متغرِّبين عنه لمَّا كانوا في البشرة. الحقيقة أن خشيتنا النهاية، وما يبدو كذلك، إنما نحياها فقط عندما نحس الحياة تتحرك فينا. ما نرهبه أنْ تنتهي هذه الحركةُ فينا والوجودُ والفرحُ الكبير، وأنْ يحلَّ فينا ملكوتُ الظلام الذي نذوقه فعليًّا على أنه غياب الوعي وغياب الرؤية. وما يسود المؤمنين بالقيامة أنفسهم – ما خلا قلَّة ملتهبة – هو التماسُ الإرجاء للموت. فلسان حالهم إزاء الواقع المتوقَّع هو أن اليوم الموجود أفضل من غدٍ غير موجود، وأن الآتيات حاضنتنا، آجلاً أم عاجلاً، – فلماذا نتسرع في تمنِّيها؟! أنا لم أشاهد أحدًا في حالة الحبور والتشوق الكبير إذا دنا أجلُه! هذا غير حالة الهدوء التي يحياها المؤمنون الصالحون إذا أحسوا بأنهم ينطوون.
مـدخـل نقصد بـ"العالم الإسلامي"، ابتداءً، هذه المنطقة الجغرافية الواسعة التي تقطنها غالبيةٌ من الناس تدين بالإسلام والتي تمتد من المغرب إلى إندونيسيا ومن نيجيريا إلى كازاخستان، وتبلغ مساحتها حوالى 32 مليون كم2، أي ما يقارب ربع مساحة اليابسة البالغة حوالى 149 مليون كم2. وتشير الإحصاءات المتداوَلة إلى أن عدد سكان الدول الإسلامية مجتمعةً (عدد الدول الأعضاء في "منظمة المؤتمر الإسلامي" 57 دولة) يبلغ حوالى 1.3 مليار نسمة؛ أما عدد نفوسهم على الكرة الأرضية فيقارب المليارين: أي أن العالم الإسلامي، من حيث النفوس، يبلغ حوالى ربع سكان العالم الذين تعدادهم حوالى ستة مليارات نسمة. وتتوزع دول العالم الإسلامي على أربع قارات، إلا أنها تتركز أساسًا في قارتي أفريقيا وآسيا، حيث يوجد في الأولى (أفريقيا) حوالى 438 مليون نسمة وفي الثانية (آسيا) حوالى 852 مليون نسمة. ومن الجدير بالذكر أن من بين الدول الأربعين الأكثر سكانًا في العالم عشر دول إسلامية، منها: إندونيسيا في المرتبة الأولى: حوالى 225 مليون نسمة؛ پاكستان في المرتبة السابعة: حوالى 150 مليون نسمة؛ نيجيريا في المرتبة العاشرة: حوالى 121 مليون نسمة.
|
|
|