|
قيم خالدة
أن يبدوَ مشروعُ السلامِ غايةً بعيدة المنال لفئة كبيرة من العقلاء؛ وأن تجده مجموعةٌ أخرى من الناس مدعاةً للسخرية والضحك؛ أو يعتبره صاحب الوقار وحَسَنُ الخُلُق سبيلاً محفوفًا بالمصاعب العملية؛ فذلك أمر طبيعي جدًا. يقولون: "هوذا مجتمعك البائس، ولن يتمخض عنه خير قط. السلام! عمَّ تتحدث؟ نحن جميعًا في حال سلام أصلاً. ولكن إن تعمَّدت أمة إهانتنا أو تجرأت على نهب قوافلنا أو، في أسوأ الأحوال، أوعزت لسفنها بأن ترسو على شواطئنا لتنهب وتسلب وتقتل، فلن تجد بيننا من سيقعد تحت وابل السرقة والذبح؟ إنك بذلك تخلط الأزمنة وتبالغ في تقدير فضائل الرجال. ولعمري أنك تنسى أنَّ المسالم الذي ينام قريرًا في مدينته، ويرقد في مزرعته تاركًا عربته دون حراسة وكوخَه دون قفلٍ، فهو إنما يفعل ذلك متكئًا على مبدأ قبله كافة الرجال: أنِّ بارودَ البندقية وحبلَ المشنقة وقضبانَ السجن ستكون هناك، متأهبةً دومًا وعلى أتم استعداد، لمعاقبة من ستسوِّلُ له نفسه تعكير هذا الصفو. الكلُّ يقرُّ بأن سياسة السلم هي الفضلى، ولكن فقط لو كان العالم بأكمله كنيسة، وكان الرجال فيه جميعًا خيرة الرجال، ولو أذعن سوادهم الأعظم لهذه القاعدة، ولكن من العبث لأمة واحدة أن تسعى لبلوغ ذلك لوحدها".
في إنجيل الرخاء للجميع إن كان علينا خدمته أو التماهي معه، فإن عملنا يجب أن يكون دؤوبًا كعمله. من الممكن أن تستريح قطرة الماء حين تكون بعيدة عن المحيط، لكن بمجرد أن تصبح جزءًا من المحيط فإنها لن تعرف الاستراحة. الأمر نفسه فيما يتعلق بنا؛ فبمحرد أن نتماهى مع شكل المحيط الإلهي لن نعرف معنى الاستراحة، ولن نحتاج إليها بالأحرى. لأنَّ حتى نومنا سيكون فعلاً بحد ذاته، حيث سننام وأفكار الله في قلوبنا. هذا التململ هو الراحة الحقيقية لأن هذا الحراك المستمر يحمل في قلبه سلامًا لا يوصف، وهذه الحالة من الاستسلام الكامل أصعب من أن توصف، لكنها ليست خارج حدود التجربة الإنسانية؛ فقد قاربتها العديد من النفوس المكرَّسة، وبوسعنا نحن أيضًا مقاربتها. (من يرافدا مندير، توجه الأشرام، ص47)
لقد تحدثنا عن إشكالية الوجود المعقدة، وعن تشكيل التصورات في علاقاتنا مع بعضنا، والأوهام التي يعرضها لنا الفكر ونقوم نحن بعبادتها. كما تحدثنا عن الخوف والمتعة وإنهاء الأسى وتساءلنا عن ماهية الحب، بعيدًا عن كل المخاض المندرج فيما نسميه حبًا. وتكلمنا أيضًا عن التعاطف وذكائه وعن الموت. أما الآن، فسنتحدث عن الدين. يخجل الكثيرُ من مفكري العالم من الحديثِ في موضوع الدين. حيث يرون ماهية الأديان القائمة في عالم اليوم، بمعتقداتها ومبادئها وشعائرها والبنية الهرمية التي أقامت عليها كيانها؛ فيسخرون منها ومن ثم يهربون بعيدًا عن كل ما له علاقة بالدين. ثم حين يكبرون في السن ويقتربون من تلك العتبة المسماة بالموت نراهم يعودون غالبًا إلى ما نشأوا عليه، فيتحولون إلى الكاثوليكية أو قد يلتحقون بمعلم (غورو) في الهند أو اليابان. لقد خسر الدين مصداقيته حول العالم وأضاع معناه في الحياة اليومية. فكلما تمعنتَ، وكلما ازدادَ فهمُكَ لمحتوى البنى الدينية، بتَّ أكثرَ شكًا حول الموضوع برمته. وكباقي المثقفين، سترى ألا علاقة لك به. أما غير المتشككين فيتعاملون مع الدين برومانسية وعاطفية أو كشكل من أشكال الترفيه.
قال أرسطو: "يا أصدقائي، ليس من أصدقاء". لن أناقش المعلم الأول في ما ذهب إليه مغاليًا. فالبشرية لا تخلو من محبين صادقين كما لا تخلو من مبغضين كثر. في اللغة صادقته أي خاللته. ومعنى صديق فلان أنه صدقه المودة والنصيحة. هناك إذًا نأي عن الكذب. هناك مبيت في الإخلاص: "أحبب صديقك كنفسك”. بذا تجعله قريبًا وكأنكما واحد. لعل كل سر الصداقة أنه يكمن كليًا في المحبة التي يصير فيها المحبوب واحدًا مع المحب. مرة خاطب أحد قياصرة روسيا الرئيس الفرنسي في رسالة إليه قائلاً: صديقي العزيز، فأراد الرئيس الفرنسي أن ينقح له العبارة قائلاً: في العرف الديبلوماسي يقال يا أخي العزيز. أجابه الروسي: أخوك مفروض عليك (بالطبيعة) أما صديقك فتختاره.
|
|
|