<LINK href="favicon.ico" rel="SHORTCUT ICON">

 ميثاق العبرمناهجية - Charter of Transdisciplinarity

هذا الشعار مستوحى من شعار المركز الدولي للأبحاث و الدراسات العبرمناهجية، عن رسم أصلي للفنان البرتغالي الراحل ليماده فريتاس

 إصدارات خاصّة

Special Issues

  المكتبة - The Book Shop

The Golden Register - السجل الذهبي

 مواقع هامّة

Useful Sites

أسئلة مكررة

F.A.Q.

الدليل

Index

 معابرنا

 Maaberuna

     الصفحة التالية

قصتنا مع الوراثة والصبغيات1

 

قيصر زحكا

 

إن قصة الوراثة هي صورة مصغرة عن قصة الحياة بكل أبعادها، فحتى الاكتشافات التي حدثت في الوراثة مشابهة تمامًا لما يحدث في الحياة بشكل عام، فقد ظلت أسرار الوراثة غافلة عن البشرية لآلاف السنين، ثم بدأت البدايات البسيطة الحالمة لهذا العلم في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وكانت خطوات بطيئة جدًا من Christened or Gregor Mendel إلى William Bateson إلى Walter Sutton، ومن ثم إلى والد علم الوراثة الأميركية Thomas Hunt Morgan إلى Ronald Fisher إلى Hermann Joe Muller. وبدأت هنا تتسارع الخطوات الاكتشافية بين George Beadler وEdward Tatum وLinus Pauling، ونصل إلى عام 1943 لنجد أن مكتشفي بنية الـDNA ما يزالون بعيدين عن اكتشافهم بعد، حيث Francis Crick يعمل في التصميم في منجم بـPortsmouth، وJames Watson قد دخل للتو الكلية الباكرة بعمر 15 سنة في جامعة شيكاغو ومصمم على قضاء حياته في علم الطيور Ornithology وMaurice Wilkins يساعد على تصميم القنبلة النووية في الولايات المتحدة، وRosalind Franklin تدرس تركيب الفحم لصالح الحكومة البريطانية، ولم يتم جمع الشمل، وأخيرًا اكتشاف تركيب الـDNA إلا عام 1953، وهنا بدأ التسارع يزداد. ومن ثم نجد أنه في السنوات العشرة الأخيرة أصبح التسارع مذهلاً، ففي عام 1998، أُعلن أنه تم اكتشاف 10% فقط من الجينوم أو التوريث الكامل الإنساني وأنه ستأخذ 7 سنوات أخرى لاكتشافه كاملاً. فجأة ظهر شاب طائش ومزوح بريطاني يدعى Craig Venter وأعلن أنه سيؤسس شركة خاصة لسبر الجينوم بشكل كامل وبكلفة أقل قدَّرها بأقل من 200 جنيه استرليني، وأنه يستطيع إنجاز المشروع في عام 2001.

لقد قام فينتر بتهديدات مماثلة ولكنه تميز بعادة تحقيق ما يقول، ففي عام 1991، قام باكتشاف طريقة لتحديد المورثات الإمراضية، في الوقت الذي قال غيره باستحالة هذه الطريقة. في عام 1995 استطاع دراسة الجينوم الكامل للجرثوم بطريقة جديدة، وكان قد قدَّم طلبًا للحكومة البريطانية بإعطائه المساعدة المالية الضرورية لهذا المشروع، وبعد دراسة الحكومة هذا المشروع، أجابوه بالاعتذار لأن الطريقة لن تنجح. وصلت رسالة الاعتذار بعد أن أنهى المشروع.

لذلك في المرة الثالثة أصبح الكل حذرًا بالشك بمقدرات فينتر، وبدأت المساعدات تنهال. وأخيرًا، وفي حزيران عام 2000، أعلن الرئيس الأميركي Bill Clinton ورئيس الوزارة البريطاني Toni Blair بأن النسخة المبدئية للجينوم قد وضعت. كانت هذه طبعًا لحظة تاريخية، لأنها المرة الأولى في التاريخ التي يستطيع فيها كائن حي قراءة وصفته بنفسه، وهي في نفس الوقت وصفة لقراءة جسم بشري. في داخل الجينوم الآلاف من الجينات أو المورثات وملايين التسلسلات الأخرى التي تشكل كنزًا دفينًا وأسرارًا فلسفية كبيرة. طبعًا كان الهدف الأساسي لاكتشاف الصيغة الوراثية أو الجينوم هو إيجاد حلول للأمراض الوراثية ولأمراض أخرى مثل السرطان وداء القلب الإكليلي والتي تلعب المورثات دورًا كبيرًا في زيادة التعرض لها ودرجة إصابتها، وفي النهاية لا يوجد علاج للسرطان ما لم يتم فهم الدور الذي تلعبه المورثات المحرضة والمثبطة له.

علم الوراثة لا يتوقف طبعًا عند الطب، فهو يحوي أسرارًا عديدة منها من حاضرنا ومنها من ماضينا البعيد منذ كنا مخلوقات وحيدة الخلية، وكيف بدأنا باستعمال النار وصنع اللبان والأجبان، ويتدخل علم الوراثة أيضًا بتصرفاتنا وسلوكنا ومشاعرنا وإرادتنا الحرَّة. حتى الآن، في الحقيقة، لم يؤدي اكتشاف الصيغة الوراثية إلى تغيرات علاجية أو تاريخية أو سلوكية كبيرة، لكنه خلق تساؤلات بعيدة المدى. أولاً أننا لاحظنا، وللمرة الأولى، مدى ضحالة معلوماتنا عن أنفسنا. ثانيًا، لم يسبب أي اكتشاف علمي حتى الآن الضجة الشعبية التي سببها اكتشاف الجينوم، فالشعب أصبح يطالب بمعرفة ما يجري ويريد أخذ قراراته وألا يدع العلماء وحدهم يتحكمون بالهندسة الوراثية وتغيير النمط الوراثي والاستنساخ الوراثي وتشخيص المرض، أما العلماء فمشغولون طوال الوقت بإيجاد اكتشافات حديثة عن محاولاتهم ايجاد الوقت الكافي ليشرحوا نظرياتهم واكتشافاتهم أمام عامة الشعب.

لقد تسبب اكتشاف الجينوم بمشاكل جديدة عديدة؛ أولها التوقع المبكر للإصابة بالأمراض الوراثية، فكم من المخيف أن يعرف الشخص قبل الأوان أنه سيصاب بهذا المرض بعد عدة سنوات. مع هذا، لا بدَّ لنا أن نكون متفائلين وأن نأخذ العلم كبركة وليس كلعنة عسى أن نجد حلولاً لهذه الأمراض الوراثية. أعلن العالم الإيطالي Renato Dulbecco الفائز بجائزة نوبل عام 1986 أن الدراسة الكاملة للجينوم هي الطريقة الوحيدة للفوز في معركتنا على السرطان.

في النهاية، ماذا يعني أن النسخة الأساسية للجينوم الإنساني قد وضعت؟ هذا يشبه إلى حدٍّ كبير خريطة العالم التي وضعت عام 1700، والتي كانت دقيقة إلى حدٍّ كبير في معظم الأجزاء، ولكن شرق سيبيريا وشرق أوستراليا وشمال كندا محذوفة بشكل كامل من الخريطة، كذلك الشكل الدقيق لوسط القارة الأميركية وغرب الولايات المتحدة كان فيه الكثير من الخطأ. نفس الشيء وضع الجينوم الحالي، فقد حدِّدت الجينات والأقسام غير الفعالة التي بينها، لكن لا نعرف بعد شيئًا عن ماهية الاختلافات الجينومية بين شخص وآخر، ولماذا بعضنا يصاب بالسكري وبعضنا بالسرطان وبعضنا بأمراض القلب، ولماذا يصاب بعضنا بالأمراض النفسية رغم كل الظروف الجيدة وآخرون لا رغم الظروف السيئة؟ لماذا بعضنا واقعي وبعضنا يحلِّق في النجوم؟ السؤال الذي يطرح نفسه أن عدد المورثات الإنسانية حوالي 30000 (أقل بكثير مما توقع سابقًا 100000) ، بينما ذبابة الفواكه 13000، والجواب على هذا يكمن إما في تعقيد النظام الوراثي للإنسان وليس في العدد، أو أن نظرتنا حول الكائنات الأخرى يجب أن تتغير.

وكما وجد كوبرنيكوس أن الشمس هي مركز الكون وقتئذ وليس الأرض، كذلك قد لا يكون الإنسان هو محور وهدف التطور، وكل شيء آخر أقل من إنساني، فكثير من الحيوانات متأقلمة مع محيطها أكثر من الإنسان. ما زلنا في المراحل البدئية من اكتشاف الجينوم، فالعمل أمامنا الآن هو كشف العطب الكامن في كل مرض، وما هو البروتين المسؤول وما مهمته وما يشابهه في الحيوان والنبات. سنتمكن في السنين القادمة من فهم الخريطة الخاصة بكل إنسان وكل كائن حي، وما هي نقاط قوتنا وضعفنا. تصبح مهمة الصحة عندئذ توجيه النصائح الخاصة بكل إنسان وليس نصائح عامة، ومعها تأتي حقيقة أن اختلافاتنا مفيدة ومحتفى بها. أن نكون ضعفاء وهشِّين هو أن نكون بشر. يجب أن يكون هناك قرار بخدمة البشرية جمعاء وليس فقط من عنده قوة وسلطة. هذا سيشهد رحلة طويلة على البعد العلمي والسياسي والقانوني (مشروع الجينوم الإنساني مشروع مدعوم من الشعب بين National Institutes of Health في بيثسدا بالولايات المتحدة والـ Welcome trust في لندن، بينما مشروع الجينوم التجاري من قبل Celera فهو مدعوم بأسهم تجارية معينة). البيولوجيا والطب والمجتمع لن تكون نفسها بعد الآن.

الصبغيات

تتألف الصيغة الوراثية أو الجينوم البشري من 23 زوج من الصبغيات أو الكروموزومات، يصنف منها 22 زوج بالترتيب حسب الحجم، فالصبغي الأول أكبرها، والثاني أصغر منه والثالث أصغر منه إلى الصبغي 22. ومن ثم عندنا صبغيان X عند المرأة، أما الرجل فصبغي X واحد وصبغي أصغر منه بكثير هو الصبغي Y. من ناحية الحجم، الصبغي X يأتي بين الصبغي 7 و8، أما Y فهو أصغر الصبغيات على الإطلاق. إن الرقم 23 ليس مهمًا بحد ذاته، فالكائنات الأخرى، ومنها القريبة للكائن البشري مثل القرود، تملك عددًا أكبر، وكائنات أخرى تملك عددًا أقل، ولا تتجمع المورثات ذات العمل المتشابه على نفس الصبغي بالضرورة. غاية المحاضرة هنا هو اختيار مورثة معينة على كل صبغي وإعطاء قصة ملائمة لها، كما فعل Primo Levi عندما وجد علاقة بين كل عنصر كيماوي من الجدول الدوري للعناصر وربطه بفترة معينة من حياته. هناك بعض المورثات التي تكونت عندما كان أجدادنا على شكل دودة، ومورثات أخرى عندما كانوا أسماكًا، وهناك مورثات موجودة حاليًا فقط بسبب حصول جائحات لأمراض من الماضي، وهناك مورثات تكتب لنا تاريخ الهجرات البشرية في الآلاف الأخيرة من عمر البشرية. طبعًا إن ربط صبغي معين بمفهوم معين لا يعني أننا لن نجد مورثات أخرى لها علاقة بهذا المفهوم على صبغيات أخرى، كذلك لا يعني أن هذا الصبغي مختص فقط بهذا المفهوم، فالصبغي 11 ليس مختصًا بالشخصية فقط، بل له علاقة بأشياء أكثر بكثير، بالإضافة إلى وجود حوالي 30000 - 80000 مورثة وفقط 46 صبغي. قد يقول البعض إن الكائن البشري ليس فقط مورثاته، وهذا صحيح طبعًا، فالإنسان أكثر بكثير من صيغته الوراثية، ولكن حتى الآن كانت المورثات لغزًا كبيرًا، ونحن أول جيل يستطيع فهم هذا اللغز جزئيًا، وحاليًا نحن نقف على حافة تحوي أجوبة عديدة ولكن أسئلة أكثر بكثير.

يتألف الجسم البشري من حوالي مليار خلية، معظمها حوالي عشر الملم بالطول، داخل كل خلية منطقة سوداء مدورة تدعى بالنواة وداخل النواة يوجد 23 زوجًا كاملاً من الصبغيات أو الكروموزومات، أي يوجد زوج كامل من الجينوم أو الصيغة الوراثية، باستثناء البويضات والنطاف التي تحوي نسخة واحدة وليس زوج، والكريات الحمراء التي لا تحوي أية صبغيات. تأتي نسخة من الأب ونسخة من الأم. نظريًا، كل نسخة تحوي نفس الـ30000- 80000 مورثة على الصبغيات الـ23، لكن عمليًا، يوجد اختلافات صغيرة بين مورثة وأخرى وهذا ما يسبب أن تكون العين زرقاء أو عسلية.

لنقارن الجينوم بكتاب:

هناك 23 فصلاً هي الصبغيات أو الكروموزومات.

كل فصل فيه قصص عديدة هي الجينات أو المورثات.

كل قصة تحوي مقاطع تسمى الايكسونات Exons، ما بينها إعلانات لا قيمة لها تسمى الانترونات Introns.

كل مقطع مؤلف من كلمات هي الكودونات Codons.

كل كلمة مؤلفة من أحرف هي الأسس Bases.

هناك مليار كلمة في الكتاب والتي تجعله أكبر بحوالي ألف مرة من الإنجيل أو القرآن الكريم. إذا قمنا بقراءة هذا الكتاب بمعدل كلمة بالثانية، فسنأخذ حوالي قرن كامل لإنهائه، وإذا قمنا بكتابة الكلمات بجانب بعضها فسيكون طولها بطول نهر الدانوب. والغريب في الأمر أن هذا الملف الهائل يتسع ضمن النواة التي يقدر حجمها برأس الدبوس. إنها معجزة بكل ما تتسع له الكلمة من معنى. إن تشبيه الجينوم بكتاب ليس مجرد تشبيه. إنه حقيقة واقعة. فهناك فعلاً معلومات مصفوفة بشكل رقمي خطي ببعد فراغي واحد وباتجاه واحد ومحكومة بشيفرة معينة تجعل من هذه الألفباء من الرموز ذات معنى معين حسب تجمع هذه الأحرف، والفارق الوحيد أن اللغة تكتب دائمًا في الاتجاه نفسه فالعربية تكتب من اليمين إلى اليسار، واللغات اللاتينية والعبرية والفارسية تكتب من اليسار إلى اليمين واللغات الأسيوية يكتب بعضها من الأعلى للأسفل أما هنا فبعض المقاطع تقرأ من اليسار إلى اليمين والبعض الآخر من اليمين إلى اليسار ولكن حتمًا ليس في الوقت نفسه.

الفارق الآخر أن الكلمات في اللغات المختلفة قد تكون ذات طول مختلف: 3 أحرف أو أربعة أو خمسة... إلخ، أما في الوراثة فالكلمات دائمًا ثلاثية الأحرف وتستعمل فقط أربعة أحرف مختلفة: A أدنين، C سيتوزين، G ﭽوانين، T ثيامين. وبدل الكتابة على صفحات مسطحة فهي مكتوبة على سلاسل طويلة من السكر والفوسفات تدعى DNA، وكل صبغي هو زوج طويل جدًا من جزيئات الـDNA.

يعتبر الجينوم فائق الذكاء فهو يستطيع قراءة نفسه (تدعى هذه العملية بالترجمة) ونسخ نفسه. يحدث النسخ من خلال أن الأسس الأربعة ترتبط ببعضها بعلاقة حُب خاصة، فالـ A يحبُّ التزاوج مع الـT والـG مع الـC، فشريط واحد من الـDNA ينسخ نفسه من خلال إعادة تجميع الأسس المقابلة للنسخة المقابلة، فمثلاً ACGT يصبح TGCA بالنسخة المقابلة، وتعود إلى ACGT بالنسخة المقابلة للنسخة المقابلة فتعود كالأصلية، وهذا ما يجعله ينسخ نفسه بشكل غير محدود ومع هذا يحوي المعلومات نفسها.

أما الترجمة فأكثر تعقيدًا، فهنا يتم النسخ لشريط مختلف قليلاً عن الـDNA يدعى RNA والذي يحوي أيضًا شيفرة خطية ويستعمل الأحرف نفسها باستثناء استعمال U بدل الـT، وهذا الـRNA الرسول Messenger يتعرض عندئذ لكل أنواع التقسيم، ويتصادق مع آلة مجهرية تدعى الريبوزوم والتي تتكون هي بنفسها جزئيًا من الـRNA، ويتحرك الريبوزوم على الـRNA مترجمًا كل كودون من ثلاثة أحرف إلى حرف واحد من ألفباء مختلفة هي ألفباء الحموض الأمينية العشرين، والتي تحضر بواسطة RNA ناقل، وعندما تتم ترجمة كل الرسالة تتجمع الحموض الأمينية لتشكل البروتين. هناك 64 كودون أو حرف وراثي، بينما فقط 20 حمض أميني، فقد يكون لأكثر من كودون حمض أميني واحد أي معنى واحد.

تقريبًا كل شئ في الجسم من الشعر إلى الهرمونات مصنوع من بروتينات أو بواسطة بروتينات، وحتى التفاعلات الكيماوية تتم بواسطة أنزيمات والتي هي بروتينات، وحتى نسخ وترجمة الـDNA تساعد فيها البروتينات. عندما يتم النسخ والترجمة، قد تحدث بعض الأخطاء، فقد ينسى أساس معين أو يُدخل أساس في مكان خاطئ، أو مقطع بكامله أو جمل بكاملها تقطع أو تزدوج أو تقلب، وهذا ما يسمى بـالطفرة Mutation. بعض الطفرات لا قيمة لها، فقد يتم تبديل الكودون بواحد آخر له المعنى نفسه، أي يترجم للحمض الأميني نفسه. وفي الكائنات البشرية تحدث حوالي 100 طفرة في كل جيل، والتي لا شئ بالنظر لوجود مليون كودون، ولكن عند حدوث الطفرة في المكان الخاطئ، تكفي واحدة لتكون مميتة.

لكل قاعدة شواذ، فليست كل المورثات محمولة على الصبغيات الـ23، فبعضها موجود ضمن ما يسمى المتقدرات Mitochondria منذ أن كانت جراثيم حرة، ليست كل الجينات DNA، فهناك فيروسات تستعمل RNA فقط. بعض الجينات تترجم فقط لـRNA وليس لبروتين، وتذهب الـRNA لتعمل فقط كجزء من الريبوزوم أو الـRNA الناقل. لا تتم كل التفاعلات الكيماوية في الجسم فقط بواسطة البروتينات، بعضها يتم بواسطة الـRNA فقط. لا يأتي كل بروتين في مورثة واحدة، بعضها يأتي من وصفات متعدِّدة ثم تجمع سوية. ليست كل الكودونات الأربعة والستين تعني حموضًا أمينية: ثلاثة منها تعني فقط إشارة Stop. وأخيرًا ليست كل أجسام الـDNA ذات معنى، بعضها فقط تسلسلات لا معنى لها ونادرًا ما تترجم.

-       الصبغي الأول: الحياة.

-       الصبغي الثاني: الأجناس.

-       الصبغي الثالث: التاريخ.

-       الصبغي الرابع: القدر.

-       الصبغي الخامس: البيئة.

-       الصبغي السادس: الذكاء.

-       الصبغي السابع: الحدس.

-       الصبغي الثامن: المصلحة.

-       الصبغي التاسع: المرض.

-       الصبغي العاشر: التوتر النفسي.

-       الصبغي 11: الشخصية.

-       الصبغي 12: تركيب أجسامنا.

-       الصبغي 13: ما قبل التاريخ.

-       الصبغي 14: الأزلية.

-       الصبغي 15: الجنس.

-       الصبغي 16: الذاكرة.

-       الصبغي 17: الموت.

-       الصبغي 18: العلاج.

-       الصبغي 19: الوقاية.

-       الصبغي 20: السياسة.

-       الصبغي 21: التطور.

-       الصبغي 22: الإرادة الحرة.

-       الصبغي XY: الصراع.

الصبغي أو الكروموزوم الأول: الحياة

يقول الكسندر بوب في كتاب مقالة حول الإنسان:

كل شيء في الوجود يعني شيئًا آخر ثم يختفي، ونحن بدورنا نلتقط النفس الحيوي ثم نموت، مثل الأمواج على سطح البحر تنهض تنكسر ثم تختفي.

في البدء كانت الكلمة، وبدأت الكلمة تغدق البحر برسالتها وتنسخ نفسها مرات ومرات عديدة. بدأت تكتشف كيف تعيد ترتيب العناصر الكيماوية في حقل الإنتروبي وأن تجعلها تعيش، وحولت الكلمة العالم من جهنم مغبر إلى جنة خضراء، وأخيرًا أينعت الكلمة لتصبح دماغًا بشريًا والذي بإمكانه أن يكتشف ويكون واعيًا للكلمة نفسها.

بما أن اليابسة والبحار كانت مسكونة بالنباتات لفترات طويلة جدًا قبل ظهور الحيوان، وببعض الحيوانات قبل فترة طويلة من حيوانات أخرى، فهل من الممكن الافتراض أن نفس الخيوط الحيَّة هي السبب في كل الحياة العضوية؟ هذا ما تنبأ به Erasmus Darwin في عام 1794 الذي كان شاعرًا وطبيبًا، وهو جدُّ Charles Darwin واضع أسس علم التطوُّر الحديث. والغريب في تنبؤ Erasmus أنه ليس فقط عرف أن أساس كل الحياة العضوية واحد بل أن السر كله متضَّمن في خيط.

من الصعب تعريف الحياة ولكن الحياة نفسها تتمتع بخاصتين: القدرة على توليد نفسها والقدرة على إيجاد تنظيم معين، فالأشياء الحية تولِّد أشياء كثيرة الشبه بها فالأرانب تولد أرانب والكمثرى تولد كمثرى؛ ولكنها تفعل أكثر فالأرانب تأكل العشب وتحوِّله إلى لحم وعظام في جسمها وتبني أجسامًا شديدة التنظيم والتعقيد من الفوضى الموجودة، ولهذا تخالف القانون الثاني للترموديناميك والذي يقول بأنه في بنيان مغلق يتحوَّل كل شيء من النظام إلى غير النظام، وهذا ببساطة لأن الأرانب ليست بنيان مغلق، فهي تستهلك الكثير من الطاقة لبناء هذه الأجسام.

يأتي مفتاح هاتين الصفتين من المعلومات؛ فالقدرة على التوالد تأتي من خلال وجود وصفة وهي المعلومات الضرورية لتكوين الوليد، وكذلك يوجد وصفة من أجل إعطاء التعليمات للحفاظ على هذا التكوين ولقيامه بهذه الوظائف المعقدة المنظمة. تحمل بيضة الأرنب كل المعلومات لبناء أرانب جديدة، وهذه الفكرة تعود إلى الحكيم اليوناني أرسطو والذي قال إن مفهوم الدجاج متضمن في البيضة وهذا ما جعل علماء الوراثة الحديثين يقولون إنه لا بد من إعطاء جائزة نوبل متأخرة في الوراثة لهذا الحكيم اليوناني.

إن شريط أو خيط الـDNA هو المعلومات، رسالة مكتوبة في شيفرة من الأسس الكيماوية واحد بعد الآخر، وهي خطية ورقمية بمعنى أن كل حرف له نفس أهمية الحرف الآخر، وهي أسهل من الإنكليزية.

بدأ Josef Mengele في Auschwitz في ألمانيا النازية بتجارب مخيفة على التوائم من أجل أن يفهم الوراثة، فكان يعذبهم حتى الموت في بعض التجارب، وكان أحد الفارِّين من معسكره عالم الفيزياء الشهير Erwin Schrödinger الذي هرب إلى دابلن في إيرلنده وصار يعطي محاضرات في كلية الثالوث هناك، وكان يقول إن هذه الصبغيات تحتوي نسخة عن كلِّ النمط الذي سيكون عليه تطوُّر شخص معين وآلية عمله في المستقبل. ويقول إن المورثة هي شيء صغير جدًا ولكنها جزيء كبير، وهذه الفكرة أعطت بصيرة لكل مكتشف بعده بما فيهم كريك وواتسون وويلكنز وفرانكلين مكتشفي بنية الـDNA. ولكن خطأه تمثل بأنه قال بأن قدرة الجزيء على إحداث الوراثة تكمن في نظرية الكوانتوم التي كان يحبها كثيرًا، ولم يتبين علاقة الوراثة بالكوانتوم بعد ذلك، وبذلك انتهت فكرة أن الوراثة فيزياء.

بعض العلماء اعتقدوا أن الإجابة تأتي من الكيمياء ومنهم العالم الكندي Oswald Avery عام 1943، الذي توصل إلى أن الـDNA هو التظاهرة الكيماوية للوراثة واستطاع أن يحول جرثوم غير ضار إلى جرثوم مؤذي من خلال إبلاعه محلولاً كيماويًا، فاعتقد أنه بهذا المحلول غيَّر صيغة DNA وبالتالي تغيرت طبيعة الجرثوم، خاصة بعدما قام Friedrich Wöhler في القرن السابق بالحصول على البولة، والتي لا يركبها إلا الأحياء، من خلال مزج كلوريد الأمونيوم مع سيانيد الفضة  كاسرًا بهذا الحواجز ما بين العالم العضوي والكيماوي، وبهذا اعتقد أن الحياة كلها كيمياء. قد تكون هذه الفكرة صحيحة بعض الشيء ولكنها مملِّة، كمن يقول إن كرة القدم مجرَّد فيزياء، صحيح أن الحياة هي هيدروجين، أوكسجين وكربون (مع بعض النتروجين) تشكل 98% من الكائنات الحية، ولكن الصفات الناجمة عن الحياة مثل قابلية الوراثة وليس التركيب الذي يهمّ، وفي النهاية لم تستطيع الكيمياء وحدها إعطاء الإجابة.

علماء آخرون ومنهم Alan Turing في بريطانيا عام 1943 قالوا إن السر يأتي من الرياضيات، وكان دائمًا يقول إن الأرقام تستطيع توليد أرقام. وفي محاولة لتحطيم آلات Lorentz الألمانية المشفرة تم بناء كمبيوتر ضخم يدعى Collosus على نظريات Turing، وهي آلة كونية مع برنامج مخزَّن قابل للتعديل (وفي الحقيقة فإن الوراثة هي برنامج مخزَّن قابل للتعديل)، والاستقلاب هو آلة كونية والوصفة الوراثية هي ما يربط بينهما، بين البرنامج المخزَّن وبين الآلة، والسر هو ما يجعلها تكرِّر نفسها.

وأيضًا في عام 1943 في نيوجرسي، كان العالم Claude Shannon يجتر دائمًا فكرة أن المعلومات والأنتروبي هي أوجه متقابلة للكلمة نفسها، وأن الاثنين لهما علاقة بالطاقة، فكلما كان الشئ ذو أنتروبي أقل كان يحوي معلومات أكثر والعكس بالعكس، والسبب أن المحرِّك البخاري يستطيع تحويل الطاقة الآتية من الفحم المحترق إلى حركة دائرية، هو أن المحرِّك فيه معلومات كثيرة آتية من عقل المخترع، فالحياة بالنسبة له أكثر من مجرد فيزياء وكيمياء فهي معلومات رقمية مكتوبة في الـDNA، ولكن للأسف لم يكن Turing أو Shannon على دراية بالبيولوجيا.

في البداية كانت الكلمة ولكن الكلمة ليست الـDNA، بل أتت الـDNA لاحقًا بعدما تكونت الحياة. وبعدها انقسم العمل إلى فعاليتين: كيماوي وخزينة من المعلومات، استقلاب ونسخ. الـDNA تحوي تسجيل للكلمة منقولة بشكل أمين خلال السنين الغابرة إلى الوقت الحاضر.

كل صبغي له ذراع طويلة وذراع قصيرة موصولة بعقدة تدعى الجزيء المركزي Centromere، وبالقرب من هذا المركز على الذراع الطويلة يوجد سلسلة من 120 حرفًا من الـ T,G,C,A والتي تتكرر باستمرار أكثر من 100 مرة يفصل بينها مقاطع عشوائية. هذه الأحرف الـ120 تعطي شريطًا قصيرًا من الـRNA يدعى RNAS، وهو يجتمع مع الـRNAs أخرى وبروتينات أخرى في ريبوزوم، وهي الآلة التي تترجم الـDNA إلى بروتين، والبروتينات هي التي تسمح للـDNA بالتكاثر، فكما يقول Samuel Butler: "إن البروتين هو طريقة المورثة لتوليد مورثة أخرى والمورثة هي طريقة البروتين لإحداث بروتين آخر". الطباخون يحتاجون لوصفات ولكن الوصفات تحتاج لطباخين والحياة هي هذه اللعبة المشتركة بين البروتينات والـDNA.

البروتين يمثل الكيمياء، العيش، التنفس، الاستقلاب والسلوك، ما يسميه البيولوجيون بالـ Phenotype التعبير الظاهري، أما الـDNA فتمثل المعلومات، التكاثر، التزاوج وما يسميه البيولوجيون بالنمط الوراثي Genotype. لا يستطيع الواحد البقاء بدون الآخر، إنها حالة الدجاجة والبيضة، من أتى قبلاً؟ لايمكن للـDNA أن تأتي قبلاً، لأنها مجرَّد قطعة من الرياضيات المسكينة التي لا حول لها ولا قوة ولا تستطيع أن تقوم بالتفاعلات الكيماوية، كذلك لا يمكن أن يكون البروتين لأنه مجرَّد كيمياء بحتة بدون القدرة على نسخ نفسه. كان يمكن أن تبقى هذه معضلة لو لم تكن الكلمة قد تركت أثرًا خفيفًا دالاً عليها، فكما أننا نعرف الآن أن البيضة تواجدت قبل الدجاجة، لأن الزواحف القديمة وضعت بيوضًا، وهنا يبدو أن الـRNA (وليس DNA) تواجد قبل البروتين. الـRNA يربط عالمي الـDNA والبروتين، إنه يقوم بترجمة الـDNA إلى البروتين، كان RNA بمثابة أبجدية اليونان لـDNA روما، بمثابة هوميروس لفيرجيل. الكلمة كانت RNA وقد تركت وراءها خمسة أدلة صغيرة على هذا.

-       أولها أن تكوين DNA آت من تغييرات بسيطة على تكوين الـRNA فالثيامين آت من تغيير تم على اليوراسيل.

-       ثانيهما كثيرمن الأنزيمات والتي هي بروتينات تعتمد على جزيئات صغيرة من الـRNA من أجل أن تقوم بعملها.

-       ثالثًا تستطيع الـRNA (بعكس الـDNA والبروتين) نسخ نفسها لوحدها. أعطها الأسس وستفصلهم وتخيطهم وتجعلهم رسالة.

-       رابعًا حيثما نظرنا في الخلية فإن أكثر الأعمال أساسية وبدئية تحتاج إلى وجود الـRNA: إن الأنزيم الذي يأخذ الرسالة الآتية من الـRNA ومن المورثة يعتمد على RNA في عمله. الريبوزوم حيث يتم تصنيع البروتين آلة معتمدة على الـRNA. إن القطع الصغيرة التي تنقل الحموض الآمينية هي RNA، والأكثر من ذلك أن الـRNA بعكس الـDNA يستطيع العمل كمجزئ ومركب، يستطيع قطع البروتينات وتجميعها.

إن اكتشاف هذه الخصائص للـRNA في أوائل الثمانيات من قبل Thomas Cech وSidney Altman قلب مفهومنا للعالم. يبدو من المنطقي الآن أن المورثة الأولى المدعوة Ur-gene كانت قادرة على التكاثر والتفاعلات الكيماوية. ربما حوالي 4 مليارات عام قبل ظهور الديناصورات والنباتات والجراثيم والفطور والديدان كان هناك عالم الـRNA ووقتها كان الكون بحدِّ ذاته فقط 10 مليارات من العمر. دعيت هذه بالكائنات الريبية Ribo-Organisms ولكن واجهتها مشكلة كبيرة هي أن RNA غير مستقر ويتحلَّل في ساعات إذا لم تساعده الظروف؛ فإذا وضعت في جو دافئ أو كبرت كثيرًا، سيحصل معها ما يسميه العلماء بكارثة علمية وسيحصل انحلال سريع للرسالة الوراثية، وعندها، وبواسطة التجربة والخطأ، وجدت مرة نسخة أقوى وأحدث من الـRNA تدعى بالـDNA وبدأ يحصل جهاز لإجراء نسخ RNA من DNA وآلة دعيت بسابقة الريبوزوم Proto-Ribosome وبدأت شيئًا فشيئًا تركب البروتين، وهنا ظهر كائن حي أكثر تنظيمًا قام بتخزين صيغته الوراثية على الـDNA وأحدث البروتين واستعمل الـRNA ليربط الفجوة بينهما. هذا الكائن دعي باللوكا (Last Universal Common Ancestor السلف المشترك الكوني الأخير).

لا أحد يعرف تمامًا كيف كان هذا الكائن، ولكن غالبًا كان يشبه الجرثوم وعاش في مستنقع حار أو قرب نبع حار. وحديثًا صار لهذا الجرثوم عنوان يسكن فيه، حيث تبين أن الصخور تحت اليابسة والبحار مليئة بجراثيم، فاللوكا توضع في مكان عميق تحت الأرض في شق وتغذى بالكبريت والحديد والهيدروجين والكربون. ومن الممكن أنه أنتج الغاز الطبيعي. اليوم من غير الممكن لمعظم الكائنات إلا أن تحصل على مورثاتها من أبويها، أما سابقًا، وكما هي بعض الجراثيم حاليًا، فمن الممكن تغيير الصيغة الوراثية من خلال ابتلاع جرثوم لآخر، أو التبادل بين جرثومين، ومن الممكن أن الصبغيات قديمًا كانت صغيرة ومتعددة، وأن يضيع بعضها أو يكسب بعضها بسهولة، وقد تكون مورثاتنا قد أتت من كائنات ومخلوقات متعددة، وأن الكائنات أتت من خلال تجمع جراثيم مع بعضها لتشكيل خلايا معقدة.

النظرية الأخرى التي بدأها العلماء في نيوزيلندة في عام 1998، أن الحياة لم تبدأ من جرثوم، بل من طفيلي Protozoan، وكانت صبغياتها مستقيمة ومتعددة، وليست واحدة دائرية كما في الجراثيم، وأنها أحبت المناطق الباردة، ومن ثم جاءت الجراثيم، والتي تعيش في المناطق الحارة، وقامت بالاحتفاظ بالـDNA والبروتين من اللوكا، ولكنها رمت ما بجعبتها من RNA من أجل أن تعيش في الأماكن الحارة التي قد تصل درجتها إلى 170 درجة، وابتكار طرق سريعة للتكاثر، ومن هذه الناحية فهي أكثر تطورًا منا. أما نحن، فعندنا الكثير من الـRNA داخل النواة والنوية وفي السيتوبلازم، أما الجراثيم فلا تملك أيًا من هذه وقد تكون رمتها خلال التطور. كان المجهود موجهًا عند الجراثيم إلى ابتكار طرق سريعة للتكاثر والحركة والبساطة، أما عند الفطور والنباتات والحيوانات وعندنا، فقد تم التركيز على التعقيد. إن الكلمات المؤلفة من ثلاثة أحرف تعني الشيء نفسه عند كل الكائنات، فـCGA تعني أرجنين، وGCG تعني ألانين سواء أكانت فيروسات أم فطريات أم قرود أم إنسان.

الكروموزوم الثاني: الأجناس Species

تصفعنا الحقائق بوجهنا أحيانًا، فحتى عام 1955 كان من المقرر أن الإنسان يملك 24 زوجًا من الصبغيات، وقد بدأ هذا الاعتقاد منذ أن قام العالم Theophilus Painter من تكساس بتشريح خصى 3 رجال اثنين سود وواحد أبيض، الذين قد تم اخصاؤهم بسبب الجنون وتعذيب النفس، وقام بدراسة الخلايا المنوية تحت المجهر ووصل إلى العدد 24، وظل هذا الاعتقاد قائمًا لسنوات. قامت مجموعة من العلماء لاحقًا بإلغاء كامل تجاربهم على خلايا الكبد لأنهم رأوا فقط 23 زوجًا من الصبغيات. لم يتوصل العلماء إلى العدد 23 حتى عام 1955 عندما قام عالم أندونيسي يدعى Joe-Hin Tijo والذي سافر إلى السويد ليعمل مع Albert Levan واستعملا طرقًا أحدث ووجدا العدد 23، وعادا من بعدها إلى الكتب التي تعرض صور الصبغيات، وفعلاً العدد 23. من الغريب أن يكون العدد 23، فالشمبانزي والغوريلا والـOrang Utans أقرب الكائنات إلينا عندها 24. تحت المجهر وضح السبب تمامًا، فنحن لم نفقد زوجًا من الصبغيات، بل اتحدَّ عندنا صبغيان في صبغي واحد هو الصبغي 2 ثاني أكبر صبغي.

قال البابا يوحنا بولس الثاني لأكاديمية العلوم في 1996 إنه ما بين أجدادنا القرود وبيننا يوجد فجوة تطورية، وهي التي نفث فيها الله روحًا إنسانية في هذه السلالة الحيوانية، ربما كانت الفجوة عندما اتحدَّ الكروموزومان مع بعضهما، وأن مورثات الروح تقع في مركز الصبغي 2. كل كائن على الأرض فريد من نوعه وليس من الضرورة أن نقول إن الإنسان هو رأس هرم التطوُّر، فمن عدة نواحي قد تتفوق عليه كائنات أخرى، فالجرثوم المدخن الأسود، والذي يعيش على قاع المحيط الأطلسي في خيمة من الكبريت، قد يكون أكثر تطورًا منا من الناحية الوراثية، خاصة أن عمره القصير يسمح له بمجالات لتغيير صيغته الوراثيّة أكثر منا بكثير. كون الإنسان يحمل بين أذنيه أكثر آلة بيولوجية تعقيدًا هي الدماغ لا يعني بالضرورة أنه الأكثر تفوقًا وتطورًا فليس التعقيد هو كل شيء.

لكن تطوُّر الإنسان يأتي من نجاحه البيئي الكبير، فهو حاليًا من أكثر الحيوانات الكبيرة الحجم تواجدًا على سطح الأرض، فهناك حوالي 6 مليارات، والحيوانات الوحيدة الكبيرة التي تفوقه عددًا استطاع الإنسان ترويضها وهي البقر والدجاج والغنم، أو اعتمدت على طرق سكنه وهي الفئران والجرذان. في المقابل عدد غوريلات الجبال أقل من 1000 في العالم كله، وحتى قبل أن نقتلهم أو نغيِّر طبيعة عيشهم كان عددهم أقل من 10000، كذلك يملك الإنسان قدرة هائلة على التكيُّف في بيئات مختلفة، وهذا النجاح الإيكولوجي الكبير أتى بعد شريط طويل من الفشل.

فنحن ننتمي إلى فئة من القرود التي كادت تنقرض قبل 15 مليون سنة في منافسة لها مع القرود الأكثر جاهزية. نحن من الأوليات، مجموعة من الثدييات، التي كادت تنقرض قبل 45 مليون سنة في منافستها مع القوارض. نحن من رباعيات الأطراف المتمفصلة، وهي مجموعة من الزواحف، التي كادت تنقرض قبل 200 مليون سنة أمام الديناصورات. نحن من الأسماك ذات الأطراف والتي كادت تنقرض قبل 360 مليون سنة في منافسة لها مع الأسماك الشعاعية الحراشف. نحن فقاريات استطعنا الانتصار قبل 500 مليون سنة على المتمفصلات الأٌقدام والتي أثبتت نجاحًا تأقلميًا بيئيًا خارقًا (والتي تضم الحشرات والعناكب والعقارب والسرطانات).

منذ 4 مليار عام، بدأت اللوكا أو السلف الكوني المشترك الأخير تنمو وتبني ما يسمى بآلات البقاء، أي تكوينات لحمية تسمى بالأجساد والتي كانت قادرة على قلب الأنتروبي من أجل نسخ المورثات داخلها من خلال المحاولة والخطأ والمعروف باسم الانتقاء الطبيعي. بدأت تتكون بليارات من الأجسام ومات الكثير منها، وكانت فقط منها القادرة على البقاء والتكاثر هي التي استمرت وأصبحت قادرة على تكوين البروتينات والـDNA من العناصر الكيماوية، وكانت المخلوقات وحيدة الخلية والتي تكاثرت بسرعة كبيرة وتكونت مورثات عديدة وطفرات عديدة، ولكن الحياة لم تنتهي هنا، ففجأة، وقبل مليار عام، جاء عالم جديد من الأجسام المتعدِّدة الخلايا منها أشنيات بطول ½ متر، وديدان بطول ربع متر وغيرها. ظلت وحيدات الخلايا هي المسيطرة، ولكن عديدات الخلايا بدأت تصنع لها أماكن عيش وصارت تزداد تعقيدًا وتنوعًا، وطبعًا كانت معرَّضة لضربات النيازك والأجرام السماوية أكثر من وحيدات الخلايا بسبب حجمها. بدأ الدماغ ينمو بشكل خاص ومن الملاحظ تمامًا أن حجم أكبر دماغ في العصر القديم أصغر من أكبر دماغ في العصر المتوسط وهذا بدوره أصغر من أكبر دماغ في العصر الحديث والذي هو أصغر من وقتنا الحاضر، فالجينات استطاعت أن تحقق طموحها ليس فقط ببناء أجسام قادرة على البقاء، بل عبر القيام بتصرفات ذكية أيضًا. وجاءت الحشرات والأسماك والديناصورات والطيور... إلخ. ونصل إلى ما قبل 10 ملايين سنة بظهور حيوان له أكبر دماغ حتى الآن وربما يكون سلفنا وهو القرد Ape. وحوالي قبل 10 ملايين سنة وجد نوعان منه افترقا عن بعضهما، واحد هو أصل الغوريلا والثاني هو أصل مشترك للشمبانزي والإنسان، واللذان افترقا عن بعضهما حوالي قبل 5 ملايين سنة. والسبب في قول هذا هو بدراستنا للمورثات. فالفروق الوراثية بين الغوريلا والشمبانزي أكبر من التي بين الشمبانزي والإنسان، وبعض الفروقات مثل التي في الـDNA تفترض انقسامًا قديمًا يتجاوز السبعة ملايين، أما في المتقدرات فأحدث.

عدا عن وجود الالتحام في الصبغي 2، فإن الفروق بين الشمبانزي والإنسان طفيفة جدًا، والحروف المختلفة في كل مقطع لا يتجاوز 2%، وهذا يعني أننا شمبانزيون بنسبة 98% وأن الشمبانزي إنسان بنسبة 98%، بينما كلاهما غوريلا فقط بنسبة 97%. قد نستغرب ونقول لكن لا يوجد شيء في الشمبانزي يشبهني، هو أكثر شعرًا وحجم رأسه مختلف، شكل جسمه مختلف، حجم أطرافه، أصواته... إلخ، ولكن هذه رؤية قاصرة ومن جهتنا فقط. إذا أخذنا فأرًا وحاولنا تحويله إلى شمبانزي، وفأر أخر حاولنا تحويله إلى إنسان فسنجد أن التغييرات التي نجريها على الفأر شبه واحدة، وإذا بدأنا بالأميبيا أو المتحوِّل الزحاري، فكل التغييرات التي سنجريها واحدة، ففي الحالتين سنحتاج لـ 32 سن، خمسة أصابع في كل يد، عينان، أربعة أطراف، كبد، شعر، جلد جاف، عمود فقري، ثلاثة عظام صغيرة في الأذن الوسطى. لا يوجد عظمة واحدة في الشمبانزي لا أملكها، لا يوجد مادة كيماوية في الشمبانزي لا أملكها. لا يوجد حتى قسم من أقسام الدماغ في الشمبانزي لا أملكها. لقد حاول العالم من العصر الفيكتوري Sir Richard Owen الدفاع عن الإنسان وقال إن جزءًا من الدماغ يدعى حصين البحر الأصغر خاص بالإنسان، وعارضه بشدة Thomas Huxley طويلاً، وطالما سمعت أصواتهما في قاعات لندن يتجادلان، وتبين في النهاية أن هاكسلي على صواب وأن الشمبانزي عنده حصين بحر. على كل حال، إنها أقل من 300.000 جيل منذ افتراق الإنسان عن الشمبانزي في افريقيا الوسطى، فإذا أمسكت بيد والدك الذي أمسك بيد والده والذي أمسك بيد والده... إلخ إلى 300.000 جيل، فسنجد أنها أقصر من المسافة بين دمشق وحلب. 5 ملايين سنة زمن طويل، لكن التطور يحدث بالأجيال وليس بالسنوات. الجرثوم يمر بهذه الأجيال خلال 25 عامًا فقط، أما نحن فخلال 5 ملايين. قد تكون الصحراء الكبرى هي التي فصلت جدنا الأكبر في شمال افريقيا عن جد الشمبانزي في جنوبها، كما فصل نهر الكونغو بين الشمبانزي وشقيقه الـBonabo. أو قد يكون الوادي الأكبر في افريقيا حسب نظرية العالم الفرنسي Yves Coppens، أو قد يكون الانهيار الكبير عند مضيق جبل طارق. على كل حال، أصبح الإنسان قبيلة صغيرة معزولة عن القبيلة الأكبر من الشمبانزي، وسبب معرفتنا أننا القبيلة الأصغر هو أن التغيرات الموجودة في الجينوم الإنساني أقل بكثير من التغيرات التي نراها في الشمبانزي. حدث الالتحام بين الصبغيين لتكوين الصبغي الثاني، وهنا أصبحت عملية التزاوج بين الشمبانزي والإنسان عقيمة (لا نعرف هذا بشكل موثوق تمامًا).

أخذ الإنسان القامة المنبثقة التي تلائم المسافات الطويلة والمستوية بينما ظل الشمبانزي بوضعيته المنحنية التي تلائم المسافات القصيرة وذات الطبقة القاسية. أصبح جلد الإنسان أقل شعرًا وأصبح كثير التعرق ازداد شعر الرأس وكثرت أوردة فروة الرأس، كل هذه دلائل على أن جدنا لم يعد يمشي في مناطق الظل والغيوم، بل تحت الشمس الحارة بخط الاستواء. الطقس جاء لعندنا ولم نذهب لعنده، ففي حوالي نفس الوقت بدأت المناطق العشبية للسافانا تحلُّ محل الغابات الكثيفة في افريقيا.

قبل حوالي 3.6 مليون سنة، مشت ثلاثة أحجام من شبيه الإنسان في ما يسمى حاليًا تانزانيا، وبنتيجة بركان ساديمان، من الجنوب إلى الشمال الأكبر حجمًا اتجه أكثر شمالاً، ثم الأوسط أبطأ منه، ثم الأصغر وبعد فترة اتجهوا قليلاً إلى الغرب وازدادت قامتهم انبثاقًا بشكل مشابه لمشيتنا حاليًا ودعوا بالـLaetoli، وظهرت فصائل منهم دعوا بالـ أوسترا لوﭙيثيسينس العمالقة والذي عكس ما يدل التسمية كانوا صغار الحجم، أصغر وأغبى من الشمبانزي، ولكنهم منتصبي القامة وذوي أحناك هائلة لأكل الأعشاب والنباتات القاسية. وهناك دلائل مستحاثية عليهم ولكن لا نعرف الطبيعة الوراثية لهم لأنهم انقرضوا قبل مليون سنة ولا أحد يعرف كيف. قد نكون قد أكلناهم. أما أجدادنا فكانوا أكبر حجمًا وقد يكونوا أكبر من الآن حوالي 200 سم، بدؤوا يستعملون الأدوات الحجرية بدل أسنانهم، ربما ليأكلون أولاد عمهم الأوسترالوﭙيثيسينس (في عالم الحيوان، أولاد العم ليسوا مهمين فالأسود تقتل الفهود والذئاب تقتل الـCoyotes) والشيء الثاني الهام أن الدماغ بدأ ينمو أكبر وأكبر وكان يضيف 150 مليون خلية جديدة في كل 100 ألف سنة. بدؤوا يأكلون اللحم، وبذلك صغرت أحناكهم، وظهرت ظاهرة ثالثة مهمة هي الانتقاء الجنسي فالنساء أصبحت أقرب حجمًا للرجال، فعند الشمبانزي والأوسترالوﭙيثيسينس والإنسان الأول كان الرجل أكبر بمرة ونصف من المرأة، وبدأ الحرم من الزوجات العديدات للغوريلا يتحول إلى امرأة واحدة، وأصبح التركيز على النوعية وليس الكمية وأصبح الرجل فجأة ينتقي امرأة شابة لأن أمامها فترة إخصاب أطول.

ثم ظهر تقسيم الأدوار حسب الجنس، وبشكل لا يشبهه أي حيوان أو نبات آخر على ظهر المعمورة، فظهر نظام تعاون فريد من نوعه بين الرجل والمرأة؛ فمن خلال مشاركة الرجل للطعام المجموع من قبل المرأة، أصبح بإمكانه التفرغ لصيد اللحم وإعطائه للمرأة والصغار. وانتشر تقسيم المهمات هذه لنواح عديدة من حياتنا، وظهر التخصص، بمعنى أن يقوم أشخاص معينون بحرف معينة. تقسيم الأدوار هذا شجع على ظهور الزيجات الوحيدة Monogamy. إن سجلاً كاملاً لماضينا موجود في مورثاتنا، والوراثة حاليًا هي التي تميز بيننا وبين الشمبانزي، فمورثات الشمبانزي ستجعله ينمو منحنيًا، ذا أصابع أقدام طويلة وعقب صغير، فماذا لو أخذنا نواة خلية شمبانزي وحقنت بدل نواة خلية إنسان، ووضعت البيضة في رحم امرأة وربِّي الطفل في عائلة إنسانية؟ هل سيكون طفل إنساني؟ لا ، سيكون شمبانزي، فالجينات أو المورثات هي الفيلم النيجاتيف والرحم هو الذي يظهر الصورة. إن طفل الشمبانزي المربى في عائلة إنسانية سيكون ضائعًا مثل طرزان المربى من الشمبانزي، فطرزان لن يستطيع الكلام، والطفل الشمبانزي لن يستطيع ملاطفة الحيوانات الأقوى منه أو فرض نفسه على الأضعف منه أو أن يصنع مساكن في الشجر أو يصطاد في البرك؛ فالسلوك بمعظمه مكتسب، ولكن الوراثة تلعب دورًا أيضًا في السلوك كما سنرى لاحقًا، خاصة في كثير من السلوك الغريزي، فما الذي يجعل حيوانًا معينًا متعدد الزيجات أو وحيدها؟

الصبغي أو الكروموزوم الثالث: التاريخ

يوجد على الصبغي الثالث مورثة مملة تقوم بعمل كيماوي ممل في مناطق مملة من الجسم مسببة مرضًا مملاً عندما تكون معطوبة. لا يوجد فيها شيء غريب: لا علاقة لها بالذكاء أو الاتجاه الجنسي. لا تخبرنا بشيء عن قصة الحياة والأكثر من ذلك أنها ليست أنانية، فهي تتبع قوانين ماندل بشكل كامل، لا تميت أو تعطب بشكل كبير، وتقريبًا تكون هي نفسها وتقوم بنفس العمل في كل كائن حي على وجه البسيطة، ولكنها مع ذلك تستحق الاهتمام في علم الوراثة لأنها تلخص قصة هذا العلم. إنها مسؤولة عن تركيب بروتين هو خميرة Homogentisate Deoxygenase والتي في حال عطبها تسبب مرض نادر وغير خطير هو الـAlkaptonuria يتظاهر بالتهاب المفاصل ويتحول لون البول وصملاخ الأذن إلى اللون الأحمر أو الأسود عند التعرض للهواء خاصة بعد تناول أطعمة معينة. يعالج المرض بتخفيف الأطعمة الغنية بالفنيل ألانين.

بدأ وصف هذا المرض على يد الطبيب البريطاني Archibald Garrod والذي حقق سمعة طيبة حتى ذلك الوقت، فهو أولاً ابن البروفسور المشهور Sir Alfred Baring Garrod مكتشف مرض الملوك (النقرس)، أما أرتشيبالد نفسه فقد عمل خلال الحرب العالمية الأولى في مالطة وحصل على شهادة طبية كبيرة ليتبعها حصوله على رتبة بروفسور في الطب من جامعة أوكسفورد مباشرة بعد البروفسور Sir William Osler. لاحظ Garrod أن عددًا من مرضاه عندهم هذا المرض النادر وهو موجود في أكثر من شخص في العائلة فبدأ يفكر بالسبب الوراثي خاصة أن الأهل كانوا أولاد عم من الدرجة الأولى، ومن بين 17 مريض عندهم المرض كان ثمانية منهم أولاد عم من الدرجة الثانية. وهنا شعر أنه يتعامل مع وراثة مندلية من النوع المقهور والسبب نقص مادة معينة. وجد لاحقًا أن البول والصملاخ يحتويان على نسبة عالية من الهوموجنتيسات وهي مادة طبيعية في كل الأحياء، ولكنها تتحلل ويتم التخلص منها. وبسبب نقص هذا الأنزيم أو الخميرة تتراكم هذه المادة. بفضل Garrod بدأت معرفة الطب بالاضطرابات الاستقلابية الوراثية. ظلت نظرية Garrod مهملة لمدة 35 سنة إلى أن أعيد إحيائها بظهور علم الوراثة الحديث وكان عندها قد مضى 10 سنوات للأسف على وفاة Garrod.

لم يفهم معاصرو Garrod فكرته، لكنهم احترموه على الأقل؛ أما المسكين الأكبر أبو الوراثة الحق فهو Gregor Mendel. اسمه الأصلي Christened Johann Mendel، ولد في قرية صغيرة كانت تدعى Heinzendorf في مملكة النمسا، أما الآن فتدعى Hynöice في شمال مورافيا. كان والده Anton يعمل عند إقطاعي ويؤمن لولده الدراسة إلى أن وقعت شجرة عليه واضطر لبيع مزرعته الصغيرة ليبعث ابنه إلى جامعة Olmütz. وأخيرًا اضطر مندل لأن يدخل الكلية اللاهوتية في Brünn (الآن أصبح اسمها Brno) ويصبح راهبًا يدعى بالأخ Gregor. كان مندل مجتهدًا جدًا بالرياضيات وبلعب الشطرنج والزراعة وبدأت تجاربه على البازلاء وغيرها واستمرت 8 سنوات زرع خلالها أكثر من 30000 نبات مختلف. وفي عام 1860 وحده، زرع 6000 نبات ليغير بعدها العالم بأكمله من خلال تجاربه، وأرسل نتائجه ونشرها في مجلة جمعية العلوم الطبيعية لجامعة Brünn ولكن الحظ لم يحالفه بالشهرة أبدًا، وبعدها فقد حماسه وعاش حياة مؤلمة ووحيدة محاولاً الدفاع عن زيادة الضرائب التي فرضتها الحكومة النمساوية على المؤسسات الدينية. وحتى كراهب لم يكن شديد الحماس. وفي الواقع يذكر في كتاباته الطعام الطيب أكثر من ذكر الله سبحانه تعالى.

بدأ مندل بإلقاح أنواع مختلفة من البازلاء: البازلاء ذات الحبة المدورة مع المتعرجة، ذات اللون الأخضر مع الأصفر، ذات القرن الممتلئ مع المتمعج، ذات القرن الأخضر والأصفر، ذات الأزهار المحورية والانتهائية، ذات الساق الطويلة والقصيرة... إلخ، ودائمًا كانت النتيجة تغلب مظهر على المظهر الآخر، وعندما يتم إلقاح البنات، فإن المظهر المقهور يعود للظهور في ربع الأحفاد. بعدما درس مندل البازلاء والفوشيا والذرة وغيرها وحصل على النتائج نفسها، استنتج قاعدة أساسية في الوراثة هي أن الصفات لا تختلط والدماء لا تختلط والسوائل لا تختلط، بل يحدث تمازج مؤقت لقطع صغيرة. أما Darwin الذي آمن بالوراثة الممتزجة قال أخيرًا إن الإلقاح في النهاية هو خليط وليس امتزاج حقيقي لفردين مختلفين، وهذا ما يفسر لماذا يكون أحد الإخوة ذا عينين بنيتين وآخر زرقاوين. كان داروين قد هوجم بشدة من قبل Fleeming Jenkin البروفسور الاسكوتلندي في الهندسة والذي قال بأن الاصطفاء الطبيعي الذي نادى به داروين والوراثة الممتزجة لا تتفقان، لأنه لو امتزجت السوائل والخلاصات، فلن يكون بإمكان أية طفرة جديدة إحداث تغيير، بل ستذوب ضمن السياق العام الموجود. عرف داروين أن Jenkin على حق، ولكنه كان يشعر أنه هو أيضًا على صواب ولم يصلإلى الحل حتى وفاته، لكنه لو تعرف على مندل لكان عرف الحل.

كان أحد أعظم اكتشافات مندل أن الوراثة تبدو مزيجًا بين كائنين فقط لأن هناك أكثر من جزيء واحد، أما في الحقيقة فهي تركيب لمليارات من الجزيئات الصغيرة غير القابلة للتقسيم كما أثبت John Dalton هذا عن الماء. للأسف حاول مندل إرسال كل دراساته واكتشافاته للبروفسور في جامعة ميونيخ Karl- Wilhelm Nägeli والذي لم يقدر أهمية مندل ولم يعره اهتمامًا، بل وجَّهه في اتجاهات سيئة بأن قال له بتزويج الأعشاب الصقرية Hawkweed والتي تبين لاحقًا أنها نباتات عذرية، بمعنى أنها تحتاج لغبار الطلع للتزاوج ولكنها لا تأخذ مورثات الشريك المرسل لغبار الطلع. وبالتالي بعد قضاء سنوات طويلة مع هذا النبات، أصيب مندل بالإحباط وانتقل لتزويج النحل. أما نتائج التجارب الواسعة التي أجراها على النحل فلم تكتشف. هل عرف شيئًا عن غرابة وراثتها أحادية وثنائية الصبغيات؟ بالمقابل، طبع Nägeli مجموعة ضخمة عن الوراثة والتي ليس فقط لم يذكر فيها مندل، بل غابت عن ذهنه الفكرة بأكملها، فقد قام بتزويج قطط الأنغورا مع قطط أخرى، فاختفى وبر الأنغورا تمامًا في الجيل الثاني، ولكنه عاد للظهور في الجيل الثالث وهذا يثبت الوراثة المقهورة لمندل تمامًا.

بعد مندل وNägeli مرت الوراثة بأسماء عديدة منها William Bateson وWalter Sutton ووالد علم الوراثة الأميركية Thomas Morgan والبريطاني Ronald Fisher ومن ثم نصل إلى Hermann Joe Muller الذي حصل على جائزة نوبل لاكتشافه أن المورثات قابلة للطفرات أو التغييرات الصبغية (لأنه قبل ذلك، كان يعتقد أنها شأن العناصر الذرية غير قابلة للقطع). وكان Muller مختلفًا عن بقية اليهود بأنه هاجر من الولايات المتحدة إلى أوروبا بعكس الهجرات اليهودية التقليدية، فهو من مواليد نيويورك وبسبب صراعه مع رئيسه Thomas Morgan الذي عزاه هو إلى معاداة مورغن للسامية، ترك جامعة كولومبيا وذهب إلى تكساس عام 1920 (ولكن بدا لاحقًا أن هذا الاتهام الذي وجَّهه لرئيسه هو من تعقيدات مولر النفسية لأنه تصارع تقريبًا مع كل شخص آخر في حياته)، ففي عام 1932، كان زواجه على المحك واتهم زملاءه بأنهم يسرقون أفكاره ثم حاول الانتحار. لاحقًا وبسبب أفكاره الاشتراكية ورغبته برؤية أطفال ينمون على نسق كارل ماركس ولينين (والتي غيرها لاحقًا إلى شخصيتي لينكولن وديكارت) غادر أميركا إلى ألمانيا، ليصل قبل أشهر معدودة من صعود هتلر إلى الحكم ورؤيته النازيين يحطمون مخابر رئيسه Oscar Vogt لعدم طرده اليهود العاملين تحت إمرته. اتجه مولر إلى ليننغراد ومخابر Nikolay Vavilov كذلك مرة ثانية قبل فترة وجيزة من قيام الحركة المناوئة لمندل وزعيمها Lysenko الذي حصل على رضى ستالين وبدأ باضطهاد علماء الوراثة المندليين، لسببين: أولاً لاعتقاده بتأثر مندل بالخرافات الدينية التي زرعها في عقله الرهبان، والثانية، وهي الأهم، لاعتقاده أن النباتات والحيوانات يجب أن تدرب مثل الأرواح الروسية على العادات والمناهج الصحيحة بدل أن تلقح، وأن من يعتقد عكس ذلك لا يفيد فيه الإقناع ويجب أن يقتل. مات Vavilov في السجن وهرب مولر في الوقت المناسب إلى اسبانيا ليجد الحرب الأهلية في انتظاره، فانتقل إلى Edinburgh في الوقت الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية. حاول العودة إلى الولايات المتحدة، ولكن من يريد اشتراكيًا عاش في الاتحاد السوفييتي. وأخيرًا قبلته جامعة انديانا وفي السنة التالية فاز بجائزة نوبل.

حتى ذلك الوقت، بقيت المورثة غير مفهومة ومن المستحيل الوصول إليها. ثم، ولأول مرة، تم الحصول على قطع من الـDNA في بلدة صغيرة في ألمانيا تدعى Tübingen من قبل طبيب سويسري يدعى Friedrich Miescher، ولكن لم يصدق أحد أن تلك الأحرف الأربعة تستطيع تحديد الوراثة. وأخيرًا أتى زمن Crick وWatson وWilkins الذين استطاعوا تحديد شكل الـDNA وأعلنوا عام 1953 في 28 شباط منه وفي نادي النسور أنهم اكتشفوا سر الحياة بطريقة بدت أكثر إعجازًا من أرخميدس خارجًا من حمَّامه. لكنهم في الحقيقة لم يكتشفوا سر الحياة. اكتشفوا أن الـDNA مكون من حلزون مضاعف ذي طول غير محدَّد، وهذا المركب ينسخ بطرق كيماوية ويعبر عن نفسه من خلال بروتينات عبر طرق غير معروفة تربط الـDNA بالبروتين. كانت نتيجة الاكتشاف الرئيسية أنه نظام رقمي Digital والآلة فيه تعمل كالكمبيوتر. بعد سنوات طويلة من الحيرة والاحباط لفهم كيف تستطيع 4 حموض نووية أن تكون 20 حمضًا أمينيًا - التي تدخل في تركيب البروتين، بدأت الأبحاث تنهال وتم اكتشاف الـRNA الناقل والذي كان صلة الوصل بين الـDNA والبروتين. ثم وجد CRICK أنه لا بد للكلمة أن تتكون من 3 أحرف وأنها بدون فواصل أو نقاط، وقام بحذف الكلمات التي يتكرر فيها الحرف نفسه مثل AAA, CCC, GGG, TTT، ثم وضع الكلمات في زمر، كل زمرة تحوي أحرف تتتالى بالترتيب نفسه مثل ACT, CTA, TAC وأبقى كلمة واحدة من كل زمرة ليجد أخيرًا أن 20 كلمة بقيت وهناك 20 حمض أميني. جاء ما يخالف هذا من خلال بحث Marshall Nirenberg وJohann Matthaei الذان استطاعا أن يأخذا كلمة من الـRNA تحوي فقط UUU ووضعها في محلول من الحموض الأمينية والريبوزومات التي تكون البروتينات، فإذا بالبروتين كله يتكون من فنيل ألانين. وهكذا تبين أن الكلمات التي تتألف من الحرف نفسه ممكنة وأنه يوجد كلمات لا معنى لها أو تعني فقط فواصل ونقاط، وأن أكثر من كلمة قد تعني الحمض الأميني نفسه. في عام 1965، كانت الرموز كلها معروفة والإنجازات التي تمت في الستينات أصبحت أعمالاً روتينية في التسعينات من القرن الماضي، وتمكن العلم أن يقول بالتحديد ما مشكلة مرضى Garrod مع مرض بيلة الألكابتون Alkaptonuria.

الصبغي أو الكروموزوم الرابع: القدر

يعود سبب تسمية هذا الصبغي بصبغي القدر إلى ارتباطه بمرض مرعب من النوع السائد أو القاهر، بمعنى أنه إذا كان أحد الأبوين مصابًا به، فسيصاب به الأولاد، والمشكلة أنه يظهر في عمر متقدم نسبيًا ويتطور على فترة 15 إلى 25 سنة. إذا وضع التشخيص فعلى الأولاد الانتظار حتى تبدأ أعراضهم بالظهور أم لا (الاحتمال 50%)، والمشكلة الأخرى هي أن الأعراض النفسية البدئية للمرض قد تسبب الكثير من العناء والتوتر النفسي واختلاف وضع العائلة.

هذا المرض هو داء Huntington والذي يبدأ بتراجع بسيط في القوى الذهنية، ليتلوها الحركات النفضية والرقصية ومن ثم اكتئاب شديد وبعدها هذيانات وإهلاسات. والمرض لا علاج له. والأسوأ أن الوراثة محتمة به دون تدخل أية عوامل أخرى بيئية أو غذائية أو نفسية... لا يهم إذا كنت تدخن أم لا، تشرب الكحول أم لا، تأخذ الفيتامينات أم لا. باكتشاف المورثة المسؤولة عن هذا المرض في عام 1993، وضع الإنسان أمام تنبؤ مرعب وقاس وغير قابل للتراجع. وبشكل دقيق لم يضعه أي تنبؤ سابق في تاريخ البشرية، سواء أكان تنبؤ دينيًا أم فرويديًا أم ماركسيًا، في مثل هذا الموضع. هذه المورثة تقوم كغيرها بتركيب بروتين معين يدعى Huntingtin وتدعى المورثة Wolf- Hirschhorn. في حال غياب هذه المورثة بشكل كامل، يظهر مرض نادر جدًا هو مرض Wolf- Hirschhorn ويموت هؤلاء الأشخاص في عمر مبكر جدًا، فالمورثة إيجابية وليست سلبية، بمعنى أن وجودها يحمي من حدوث المرض وغيابها يسببه. ولكن ما علاقة هذا بمرض هانتغتون أو داء رقص هانتغتون؟

تتألف المورثة من كلمة تعيد نفسها وتتكرر عدة مرات داخل المورثة هي CAG أي سيتوزين-أدينين-غوانين. تتكرر هذه الكلمة في بعض الناس فقط 6 مرات، في آخرين 30 مرة، في آخرين أكثر من 100 مرة: كاغ كاغ كاغ... إلخ. إذا تكررت أقل من 35 مرة فأنت بخير. إذا تكررت 39 مرة، فغالبًا ستبدأ الأعراض بعمر 66 ببعض الاضطراب في التوازن، ومن ثم عدم القدرة على الاعتناء بالنفس في عمر 75. إذا تكررت 40 مرة، فستبدأ الأعراض بعمر 59. إذا تكررت 41 مرة، ستبدأ بعمر 54. إذا تكررت 42 مرة، ستبدأ بعمر 37. إذا تكررت 50 مرة، سيفقد الشخص عقله بعمر 27، وفي النهاية نصل إلى نتيجة مرعبة. إذا كان طول صبغياتنا يضم خط الاستواء، فالفارق بين السلامة والجنون أقصر من مجرَّد سنتمتر واحد.

لقد تم تشخيص هذا المرض للمرة الأولى من قبل الطبيب الأميركي George Huntington عام 1872 في ولاية Long Island، ووجد أنه يحدث بشكل عائلي، ووجد لاحقًا أن المصابين في هذه الولاية ينتمون إلى عائلة أكبر أصلها من New England، وأنهم في النهاية يعودون إلى جدين أخوين هاجرا من Suffolk عام 1630، وقد أحرق عدد من ذريتهما على أساس أنهم سحرة بسبب الاضطرابات النفسية وحركات الرقص في مدينة Salem عام 1693. ولكن بما أن المورثة تعبر عن نفسها في عمر متأخر، حيث يكون المصابون قد أنجبوا أولادًا، لا تختفي المورثة بسبب الاصطفاء الطبيعي. ازدادت شهرة المرض بعد وفاة المغني الشعبي Woody Gutherie به عام 1967.

داء رقص هانتغتون هو أول مرض وراثي قاهر أو سائد قد ظهر للنور، وبهذا لا يكون مثل داء بيلة الألكابتون Alkaptonuria حيث يجب وجود نسختين من الأب والأم ليحدث المرض. هنا تكفي نسخة واحدة. والغريب أيضًا أن المرض يكون أشد إذا ورِّث من الأب عنه إذا ورِّث من الأم، وتنمو الطفرة بشكل أشد من خلال ازدياد تكررات الـCAG. في أواخر السبعينات من هذا القرن، قررت امرأة أن تجد المورثة المسؤولة عن داء هانتغتون، وتعاونت مع طبيب يدعى Milton Wexler والذي كانت زوجته وثلاثة من إخوتها يعانون من المرض. من بعدهما، أصبحت ابنة الدكتور ويكسلر المدعوة نانسي مهووسة بايجاد المورثة، خاصة أن هناك احتمال 50% أن تصاب هي نفسها بالمرض، وقيل لها وقتثذ: كفي عن الجنون، إن احتمال أن تجدي المورثة هو كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش تعادل مساحة أميركا.

بعد مضي سنوات، قرأت نانسي تقريرًا لطبيب فنزويلي يدعى Americo Negretto عن المرض، وفي عام 1979 سافرت نانسي إلى فنزويلا لتزور 3 قرى ريفية جدًا تدعى San Luis, Barranquitas, Laguneta على شواطئ بحيرة Marracaibo في غرب فنزويلا، حيث توجد عائلة كبيرة كثيرة الإصابة بداء هانتغتون. استطاعت نانسي أن تتبع شجرة العائلة إلى أوائل القرن التاسع عشر إلى امرأة تدعى Maria Concepcion والتي عاشت في Pueblos de Agua في بيوت مبنية مباشرة على الماء. يوجد حوالي 11000 شخص من عائلة ماريا خلال ثمانية أجيال، ما يزال 9000 منهم أحياء في عام 1981، وعلى الأقل 371 واحدًا منهم مصاب بالمرض، وهناك 3600 شخص يحملون نسبة ¼ للإصابة بالمرض لأن واحدًا من أجدادهم يحمل المرض. كانت شجاعة نانسي وصبرها لا يصدقان. لم تستطع أن تتخيل هؤلاء الأطفال الذين يفيضون آمالاً وتوقعات رغم الفقر المدقع والجهل والعمل المضني بالصيد طوال النهار في قوارب صغيرة في بحيرة مليئة بالتماسيح وغيرها بالنسبة للصبية، والاعتناء بالأهل والأجداد والعمات والعموم المصابين بالمرض الذي ينسفهم الواحد تلو الآخر بالنسبة للبنات.

جمعت نانسي عينات الدم من أكثر من 500 شخص وبعثتها إلى مختبر في بوسطن، وبعد عمل مضن، استطاع Jim Gusella عام 1983 أن يحدد أن المورثة تقع على الذراع القصير للصبغي 4، ولكن ما تزال المورثة تقع ضمن نص يحتوي على مليون حرف. واستمر العمل المضني الذي شبه بتسلق قمة إفرست لثماني سنوات، وأخيرًا في عام 1993 اكتشفت المورثة المسؤولة عن بروتين الـHuntingtin وأن هذه التكررات في الـCAG أدت إلى تراكم الحمض الأميني الغلوتامين داخل هذ البروتين، وكلما ازدادت التكررات، تجمع البروتين بشكل كتل إلى أن تتم وفاة الخلية أو تحريضها لتنتحر بالموت المبرمج Apoptosis suicide.

إن هذا التكرر للكاغ ليس محصورًا بداء هانتغتون، بل يحدث في خمسة أمراض عصبية أخرى مثل الهزع المخيخي Cerebellar Ataxias، وحتى أن تكرار الكاغ عن قصد في مورثة فأر تسبب مرضًا عصبيًا شبيهًا بداء هانتغتون. والأكثر من ذلك أنه وجدت أمراض عصبية أخرى تبدأ بـ C وتنتهي بـ G، فالمقطع CCG وCGG يعاد أكثر من 200 مرة في بداية مورثة على الصبغي X في المرض المسمى الصبغي X الهش fragile X Syndrome والذي يعتبر مسؤولاً عن نسبة جيدة من حالات التخلف العقلي عند الأطفال (أقل من 60 تكرارًا يعتبر طبيعيًا. وجدت بعض الحالات المرضية فيها أكثر من 1000 تكرار). أيضًا المقطع CTG يعاد بين 50 مرة و1000 مرة في مورثة على الصبغي 19 في الحثل العضلي الوتاري Myotonic Dystrophy، والآن يوجد أكثر من 12 مرضًا فيها هذه التكرارات وكلها تسبب تجمع الغلوتامين المتسلسل ضمن البروتين Polyglutamine Diseases.

عدا عن أهمية المقطع C*G عن كونه يعني غلوتامين، فهو إحداثه ظاهرة الاستسباق أو التوقع Anticipation، بمعنى أن الأشخاص المصابين بداء هانتغتون أو الصبغي x الهش أو غيرها، سيصاب أولادهم بمرض أقسى أو أبكر ظهورًا في العمر، والسبب هو ازدياد عدد التكررات من جيل إلى آخر، وهذا قد يعود إلى عدة أسباب الأول هو أن الـDNA تميل إلى الالتصاق على نفسها مثل شكل الشعرة، حيث أن الـC تلتصق على الـG، وعند انفتاحها أثناء النسخ، يحدث بعض الأخطاء وتدخل مقاطع جديدة، والسبب الآخر أنه بازدياد عدد التكررات يزداد عدد الادخالات الجديدة، وقد يكون هناك سبب ثالث بأن الجهاز المتحكم بإصلاح الأخطاء قادر على كشف التغيرات الصغيرة ولكن ليس عندما تحدث تكررات كثيرة.

لقد استطاعت Laura Mangiarini في مشفى GUY بلندن إثبات ذلك عن طريق الفئران، ووجدت أنه كلما ازداد عمر الفئران وتكونت خلايا جديدة، ازدادت التكررات لدرجة قد تزداد عشرة مقاطع في بعض الخلايا، وذلك عدا المخيخ والذي لا تتكاثر خلاياه بعد عمر معين بعد أن يستطيع الفأر أو الإنسان المشي. وفي الحقيقة قد ينخفض عدد التكررات في المخيخ. بهذا عرف سبب كون الأولاد المصابين بالمرض من أبيهم أشد إصابة من المصابين عن طريق أمهم، ذلك لأن الخلايا المولدة للنطاف تتكاثر بسرعة، وعليه فإن نسبة الطفرة أكبر بـ5 مرات في الرجال منه في النساء. كذلك يفسر لماذا يشتد المرض في أولاد الرجال الذين ينجبون بعمر متأخر. بعض العائلات أكثر عرضة من عائلات أخرى لحدوث مرض هانتغتون، والسبب ظاهرة القفز، بمعنى إذا وجد 35 تكرر للمقطع CAG ومن ثم جاء مقطع CCA ومن ثم CCG وأثناء القراءة والنسخ تم إدخال CAG أخرى فالعدد أصبح 36، أما في عائلة أخرى فالعدد أيضًا 35، ولكنها متلوة بـ CCA ومن بعدها CAG مرتين، وتم خطأ بقراءة CAA وقرئت CAG أصبح العدد 38. إن اكتشاف مورثة هانتغتون حتى الوقت الحاضر هو حكم بالإعدام طالما أنه لا يوجد علاج. إن الجهد المقدم من قبل نانسي وكسلر وغيرها في هذا المجال عملاق، وخاصة أن الرغبة الأساسية والدافع الأساسي إنساني لها ولغيرها، خاصة عندما نعرف أنه بين عامي 1872 و1993 لم يقدم أي شيء بشأن هذا المرض، ثم فجأة وفي سنوات قليلة، صرنا نمتلك هذا الكم الهائل من المعلومات حوله وحول غيره من الأمراض بفضله. يوجد 100 مليار خلية في دماغنا. كيف يمكننا الوصول إليها وإزالة التكررات للكاغ فيها.

عندما كانت نانسي في فنزويلا، جاءت امرأة خائفة من أن يكون لديها المرض. كانت بحالة جيدة ولكن نانسي استطاعت كشف بعض العلامات المبكرة للمرض، وفي نهاية الفحص سألت المرأة مجموعة الأطباء بماذا يعتقدون؟ فأجابها أحدهم: أنت ماذا تعتقدين؟ فقالت إنها تشعر بخير. فقال لها أحد الأطباء أنهم يحتاجون لفترة أطول بكثير قبل ان يستطيعوا وضع التشخيص. بعد دقائق، جاءت صديقتها بحالة هلع وهستريا وسألتهم ماذا قلتم لها، وعندما أجابوها، تنفست الصعداء وقالت: "الحمد لله، لأنها قررت أن تنتحر فورًا لو كان عندها المرض". هنا يأتي خطر وجود فحص بدقة عالية من أجل تشخيص مرض قاتل على البطيء، يسلبك إرادتك وعقلك شيئًا فشيئًا ويجعلك تبدو معتوهًا أمام الناس. والأسوأ من ذلك ليس له أي علاج. المشكلة عندما نقول احتمال المرض عند الشخص 50%، فهي كلمة غير دقيقة، فالشخص لا يملك 50% من المرض، بل يملك 100% أو 0%. ما تخشاه نانسي أن وضع العلم حاليًا هو وضع Tiresias الأعمى المتنبئ في طيبة. تقول الأسطورة اليونانية أنه بالخطأ شاهد الإلهة أثينا تستحم، فرمته الإلهة بالعمى، لكنها ندمت بعد ذلك وأعطته موهبة معرفة الغيب، فإذا به في مصير أسود وقد قال هذا لأوديب: "ماذا أفعل بالحكمة عندما لا تفيد؟". وكثير من أقرباء المرضى رفضوا إجراء الفحص واختاروا الجهل عن المعرفة القاتلة. ماذا عن نانسي وأختها أليس؟ طالما حدثت مناقشات ساخنة عصبية بينهما وبين والدهما، وطالما ذهبت نانسي لإجراء الفحص، ثم تراجعت في اللحظات الأخيرة، والآن هي حتى الآن غير مصابة بالمرض، رغم وصولها لعمر والدتها عندما شخصت بالمرض، أما أختها أليس فقد كتبت مذكرات رائعة وعميقة جمعتها في كتاب القدر في خرائط.

يتبع...

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود