الصفحة السابقة    

قصتنا مع الوراثة والصبغيات2

 

قيصر زحكا

 

الكروموزوم X وY: الصراع

إن الصبغي التالي بالحجم للصبغي السابع هو الصبغي X وإن وجود اثنين منه يجعل الشخص امرأة ووجود واحد منه مع الصبغي Y (والذي يعتبر أصغر الصبغيات) يجعل الشخص رجلاً. دائما تعطي الأم الصبغي X، أما الأب، فتكون نطافه حاملة إما للصبغي X التي إذا لقحت البيضة الحاملة دائما للصبغي X، يكون المولود أنثى، أما إذا لقحت النطفة الحاملة للصبغي Y البويضة، كان النتاج XY ذكرًا. هناك بعض الشواذات عن القاعدة، مثل امرأة بصيغة XY (تكون هنا المورثات الذكرية الأساسية ناقصة أو مخربة على الصبغي Y). من المعروف أن عددًا من المراض الوراثية تصيب الذكور أكثر من النساء مثل عمى الألوان، الناعور، الحثل العضلي لدوشين وبيكر، حثل المادة البيضاء الكظري، لأنه طالما أن مورثاتها على الصبغي X، والرجل عنده نسخة واحدة فقط لا يعوضها وجود نسخة ثانية إضافية سليمة يصاب بالمرض، أما الأنثى فلا.

في وقت ما من تاريخنا، اختار أجدادنا تغيير طريقة تحديد الجنس من خلال حرارة البيضة كما في الزواحف إلى طريقة وراثية، وهذا الكروموزوم الجديد Y كان عليه أن يبتعد قدر الإمكان عن X ويختبئ ويتخلى عن مورثات غير أساسية من أجل تغيير شكله. هناك مورثات أساسية موجودة طبعًا على الصبغيين وتقوم بدورين مختلفين حسب الجنس، فنفس المورثة على الصبغي Y التي تقوم ببناء القرون عند الوعول، تقوم على الصبغي X بصنع الحليب. لقد تم اكتشاف مورثة على الصبغي X تدعى DAX التي بوجود نسختين منها على هذا الصبغي عند الرجل تجعله امرأة رغم وجود الصبغي Y؛ ذلك لأن وجود مورثة أخرى على Y تدعى SRY تجعل الشخص رجلاً وتحارب عادة الـ DAX، ولكن عند وجود نسختين من الأولى تنتصران على الـ SRY وهذا يجعل الشخص امرأة.

هذا الصراع يعتبر حاليًا واحدًا من أهم العوامل لتطور الإنسان وازدياد ذكائه ومقدراته، كما لو – على سبيل المثال – وجدت مورثة للكذب مثلاً ومورثة لكشف الكذب وهما متحاربتان طبعًا، ولكن كل واحدة ستعمد إلى ابتكار طرق أكثر ذكاء للانتصار على الأخرى، وبالتالي تتطور العضوية بشكل عام. قام Dean Hamer وSimon Le Vay وغيرهم بمحاولة معرفة هل المثلية الجنسية (اللواطية أو السحاقية) بيولوجية أم خاضعة لضغوط أسرية واجتماعية؟ قاموا باستجواب 110 عائلات فيها أفراد لواطيين ووجدوا أنها تتكرر في نفس العائلة ولكن ليس عند والد الشخص بل عند خاله، وهنا برز دور الصبغي X، لأنه الوحيد الذي يرثه الشخص حتمًا من أمه، وعند إجراء البحث والتمحيص، تبين أن هناك مورثة معينة Xq28 موجودة على الذراع الطويل للصبغي، تكون موجودة بشكل معين عند 75% من اللواطيين، بينما الناس الآخرين تكون نسخة أخرى من المورثة هي الموجودة بنسبة 75%. لكن المشكلة تكمن في أنه لما كان احتمال الإنجاب عند اللواطيين أقل من الآخرين، فيجب على هذه المورثة أن تختفي مع الوقت، لا أن تزداد كما حدث في الفترة الأخيرة. (نسبة اللواطيين حوالي 4% والثنائيي التوجه Bisexuals حوالي 2%). لكن السر يكمن أنه طالما يقضي الصبغي X في جسم المرأة ضعفي الوقت الذي يقضيه في جسم الرجل، فإذا كانت نفس المورثة تؤدي عند المراة إلى ازدياد إخصابها، ستبقى وتتفعل وإن كان لها دور سيء على إخصاب الرجل. أحب أن أنوه أن دراسات أخرى لم تثبت دائمًا العلاقة بين اللواطية وXq28.

الشيء الآخر حول اللواطية أنها تزداد مع ازدياد ترتيب الولادة، بمعنى أنه في الولد الذكر الثالث والرابع يزداد احتمال اللواطية عن الولد الأول أو الثاني، ولكن لا تزداد فيما إذا كان الأكبر منه بنات. هذه الملاحظة شوهدت في بريطانيا، هولندة وكندا والولايات المتحدة. حاول البعض في البداية تعليل هذا من خلال النظريات الفرويدية، ولكن السحاقية مثلاً لم تشهد شيئًا مشابهًا. يكمن السر في جينات موجودة على الصبغي Y تدعى بالمستضدات النسيجية الصغرى H-Y وقربها يوجد مورثة نكوِّن الهرمون المضاد للأنابيب المولرية Anti- Mullerian Hormone والتي لها دور في جعل العضوية ذكرية وجعل النابيب المولرية – والتي تتحول عادة في جسم المرأة للرحم وأنابيب فالوب – تضمر. أما المستضدات النسيجية الصغرى H-Y فتسبب ارتكاسًا في مناعة الأم، وبذلك يزداد الارتكاس مع الحمول المتعددة وهذا الارتكاس يؤثر على ذكرية الدماغ ولكن ليس على ذكرية الأعضاء التناسلية. لقد أثبت هذا على الفئران، كذلك عندما تم تعطيل مورثة تدعى بالمحوِّلة في صبغيات ذبابة الفواكه، أظهرت الذكور تصرفات أنثوية فقط. طبعًا، فالإنسان ليس بهذه البساطة، وهناك ما يدعم أن التمايز الجنسي للإنسان يستمر بعد الولادة؛ فاللواطيون مثلاً ليسوا نساء بالعقل داخل أجسام ذكرية. لا بدَّ أن أدمغتهم قد أصبحت ذكرية جزئيًا، ولكن من الممكن أن أحد الهرمونات الذكرية قد نقصت خلال فترة حرجة وأثرت بشكل دائم على اتجاهاتهم الجنسية.

الكرومورزوم الثامن: المصلحة الشخصية

لقد تبين أنه كالكمبيوتر، يحوي الجينوم الإنساني والحيواني والنباتي مورثلت طفيلية وشرهة أتت من مصادر مختلفة وتحاول نسخ نفسها باستمرار، وأحيانًا وبسبب دفاع العضوية عن نفسها، قد تجلس بهدوء وتحاول نسخ نفسها مع المورثات الأخرى. إن 35% من الجينوم الإنساني مورثات أنانية، بمعنى أن نسخ الجينوم يستغرق طاقة ووقتًا أكثر بـ 35% من المفترض. لا يجب أن نستغرب هذا، فعلى كافة أصعدة الحياة يوجد طفيليات. هناك ديدان في أمعائنا، جراثيم في دمائنا وفيروسات في خلايانا. مع هذا، إن وجود هذه المورثات الأنانية كان له التطبيق الأول العملي في علم الوراثة؛ فمن خلال أبحاث Alec Jeffreys وVicky Wilson عن كيفية تطوُّر الجينات من خلال دراسة الجينات المسؤولة عن البروتين العضلي المدعو ميوغلوبين، لاحظوا وجود سلسلة من الـDNA المكررة في منتصف المورثة والتي تختلف من إنسان لآخر اختلافًا كبيرًا بسبب عدد التكررات وموقعها والتي استعملت لاحقًا من أجل معاملات الهجرة عن طريق تحليل مورثات المهاجرين ومقارنتها مع مورثات أقربائهم المزعومين، وفي عام 1986، تم تحديد المجرم القاتل والمغتصب لفتاتين في انكلترا لأول مرة من خلال ما يدعى بصمة الأصابع الوراثية Genetic Fingerprinting من خلال تحليل النطاف الموجودة في أجسام الضحايا وتحليل دم المتهم، كما اكتشف مكان الجريمة الحقيقي في إحدى القضايا الأميركية من خلال التحليل الوراثي لأشواك نبات معين وجد داخل السيارة واختلف وراثيًا عن التركيب الوراثي للنبات الذي نقلت إليه السيارة.

لم تقتصر دراسة بصمات الأصابع الوراثية على معاملات الهجرة والجرائم، بل أصبحت تطبق في معاملات الوفاة والتوريث وفي تحديد الأب الحقيقي في عدد من القضايا؛ والمضحك في الموضوع أنها قلبت مفاهيمنا عن زقزقة العصافير، فكان من المعروف أن ذكور العصافير تزقزق من أجل اجتذاب إناث للإخصاب، ولكن لماذا تستمر بالزقزقة بعد فترة الجماع الربيعي. بدأ العلماء في الثمانينات بدراسات الـ DNA لتحديد والد الصغار في كل عش. حدثت المفاجأة عندما وجد العلماء أنه حتى في أكثر أنواع الطيور وفاء لبعضها، كثيرًا ما تتزاوج الأنثى مع ذكور الجيران، وأن الذكر يستمر بالغناء لأنه يبحث عن علاقات أخرى مشبوهة. أدى هذا لظهور نظرية التنافس النطافي Sperm Competition والتي تفسر لماذا يكون حجم خصية الشمبانزي أكبر بـ 4 مرات من خصية الغوريلا، مع أن الغوريلا أكبر بـ 4 مرات من الشمبانزي. السبب أن الغوريلا الذكر يحتكر الأنثى، ولذلك لا تعاني نطافه أية منافسة، بينما الشمبانزية تعاشر عدة ذكور، لذلك يصبح كل واحد راغبًا بإنتاج أكبر كمية ممكنة من النظاف ويتزاوج أكثر ليزيد احتمال كونه الأب.

الصبغي التاسع: كروموزوم المرض

يحوي هذا الصبغي مورثة معروفة جدًا هي المسؤولة عن زمرة الدم ABO. هذا النوع من زمرة الدم اكتشف منذ عام 1900، وكان له وقتئذ 3 تصنيفات مختلفة مما سبب كثيرًا من الالتباس، فالنمط الأول حسب Moss هو النمط الرابع حسب جانسكي، وأخيرًا أصبح النمط موحدًا على يد العالم النمساوي Karl Landsteiner وقسمها إلى الزمر: A، B، AB وO.  استعمل هذا النظام من بعدها في القضاء، فالنتيجة السلبية تعني أن المتهم بريء، أما الإيجابية فقد توحي فقط ولكنها لا تؤكِّد. على أساس هذا، حكمت المحكمة العليا في كاليفورنيا عام 1946 أن تشارلي شابلن الممثل المشهور كان بريئًا من تهمة الأبوة المنسوبة إليه لطفل معين بسبب اختلاف زمر الدم. لم تكتشف المورثة المسؤولة عن زمر الدم من نمط ABO إلا عام 1990، حيث تبين أن الـ A والـ B هي الأنماط الغالبة للمورثة أما النمط O فهو النمط المغلوب أو المقهور. المورثة تتألف من 1062 حرفًا، مقسمة إلى 6 إكسونات قصيرة وإكسون طويل، وهي مسؤولة عن تركيب خميرة galactosyl Transferase. الاختلاف بين A وB اختلاف بسيط هو بسبعة أحرف من بين 1062، ومن بينها 3 صامتة أي تشكل نفس الحمض الأميني، أما الأربعة الأخرى فهي الأحرف 523، 700، 793، و800. في النمط A، هذه الأحرف هي C، G، C،G. أما في النمط B، فهي G، A، A،C. هناك بعض الأشخاص عندهم بعض الأحرف من A، وبعضها من B، وهناك نمط نادر من A، فيه حرف ناقص قبل نهاية المورثة. النمط O فيه اختلاف بحرف واحد عن A، لكن المشكلة أنها ليست استبدال، بل حذف حرف واحد، مما يجعل الثلاثيات المتتالية مختلفة تمامًا. نحن نعرف أن اللغة الوراثية لا تحوي نقاط أو فواصل أو أدوات عطف: خرج فأر جار وكر أكل جبن جار آخر، فإلى حدٍّ ما الكلام مفهوم، أما عندما يحذف حرف الجيم من خرج، تصبح الجملة: خرف أرج ارو كرا كلج بنج ارا خر، تغيرت كليًا، فما حدث للنمط O أنه بسبب استبدال حرف واحد ولكن في البداية تغير كل ما تلاه وتكون بروتين آخر تمامًا بصفات مختلفة تمامًا. بشكل عام، لا يوجد أفضلية لزمرة على زمرة أخرى، فالنمط O مثلاً ليس أكثر قابلية للسرطان أو لا يسبب مثلاً تمايز بالإمكانيات الرياضية أو الموسيقية ولم يقم سياسي معين بمحاولة إحداث عقم في أصحاب هذه الزمرة. الشيء المميز للزمر الدموية أنها غير مرئية وكأنها لا تحدث شيئًا بتاتًا.

ولكن كونها حيادية وغير مرئية، ما الذي أوصلها للوضع الحالي؟ ما الذي جعل الهنود الحمر ذوي زمرة O؟ هل هي بمحض الصدفة؟ هنا بدأنا نرى ما يميِّزها. منذ عام 1960، بدأت تظهر العلاقة بين زمر الدم والإسهالات، فأولاد النمط A أكثر تعرضًا للإسهالات بجراثيم معينة، بينما النمط B أكثر تعرضًا للإسهالات بأنماط أخرى، وفي عام 1980، وجد أن النمط O أكثرها تعرضا للكوليرا والنمط AB أقلها تعرضًا والنمط A أقل تعرضًا من النمط B. حسب الاصطفاء الطبيعي لداروين، أولاد النمط A سيعيشون أكثر من النمط B، ولكن ما يحدث أن النمط AB هم الأكثر مناعة للكوليرا، وإذا تزوج AB من AB، فإن نصف الأولاد فقط سيكونون AB، والربع سيكون AA، والربع BB، فالعالم مليء بالحظوظ المتفاوتة والأناس الأكثر مناعة سيأتيهم أولاد ليسوا كثيري المناعة.

وهنا نطرح السؤال التالي: طالما الزمرة O تجعلنا أكثر تعرضًا للكوليرا، فلماذا لم تختفي حسب الاصطفاء الطبيعي؟ الجواب يكمن في مرض آخر هو الملاريا، فالزمرة O أفضل الزمر مناعة تجاه الملاريا. أثبت العالم الكيني Anthony Allison أن فقر الدم المنجلي له علاقة بالملاريا. الناس الذين عندهم المورثتين لفقر الدم المنجلي يموتون باكرًا غالبًا، أما الذين عندهم نسخة واحدة يقاومون الملاريا أكثر بكثير من الطبيعيين. للأسف، فإن فقر الدم المنجلي ثمن باهظ دفعته الإنسانية لمقاومة الملاريا في الماضي، وكذلك الثالاسيميا التي تكثر في بلاد البحر البيض المتوسط لها مقاومة تجاه الملاريا. كذلك وجد أن وجود داء التليف الكيسي الذي يصيب الرئة والأمعاء يحمي من التيفوئيد المسبب من قبل جرثوم السالمونيلا (لكن مورثة داء التليف الكيسي تقع على الصبغي السابع وتسمى المورثة CFTR) والتيفوئيد يحتاج إلى النسخة الأصلية من المورثة CFTR ليصيب الخلايا، ولكن بوجود هذه النسخة المعدلة التي تنقص 3 أحرف من أحرف الـDNA لا يستطيع الجرثوم الدخول. لذلك وبسبب موت الأشخاص الطبيعيين من مرض التيفوئيد، سمح لهذه المورثة الشاذة بالانتشار. إذا حوى الشخص نسخة واحدة منها، لا مشكلة؛ أما إذا حوى النسختين، فالحكم عليه بالموت من مرض التليف الكيسي. وهكذا دفع الإنسان ثمنًا باهظًا للوقاية من التيفوئيد، كذلك هناك بعض الدلائل على أن المرضى المصابين بالـ Tay- Sachs أقل عرضة للإصابة بالسلِّ.

تقريبا واحد من كل 5 أشخاص يكونون غير قادرين وراثيًا على إفراز زمرتهم الدموية بشكلها المنحل بالماء في لعابهم وسوائل جسمهم، وهؤلاء الأشخاص يكونون أكثر تعرضًا للإصابة بالتهاب السحايا والالتهابات الفطرية والبولية، ولكن بنفس الوقت أقل تعرضًا للانفلونزا والالتهابات التنفسية. إن كل جائحات الماضي من طاعون وحصبة وجدري وتيفوس وتيفوئيد وافرنجي وجدري الماء وانفلونزا وغيرها قد تركت آثارًا على مورثاتنا، وحتى الوقت الحاضر، طالما قللنا من أهمية الجراثيم والفيروسات في إحداث المراض، كما حصل في حالة القرحة والـ Helicobacter pylori، وهناك بعض الدلائل على وجود علاقة بين الكلاميديا أو فيروس الحلأ والأمراض القلبية، وحتى بين الفصام والاكتئاب وفيروس دماغي نادر يدعى Borna يصيب الفرس والقطط باضطرابات نفسية.

بطريقة ما، يلخص لنا الجينوم تاريخنا المرضي، فقد يكون الهنود الحمر ذوي زمرة دم O، لأنهم لم يتعرضوا للعيش في ظروف مكتظة وفي حالات تلوث ميام الماء بالمجاري والتي سببت الكوليرا. لكن المشكلة أن الكوليرا بحد ذاتها كانت مرضًا نادرًا قبل عام 1830 والمشكلة الأكبر أن فحص زمرة الدم من مومياءات شمال أميركا تدل على أنها من زمرة دم A أو B، فما الذي جعلها تتحول إلى O؟ ربما يكون مرض الافرنجي Syphilis، فأصحاب الزمرة O أقل تعرضًا لهذا المرض. من خلال تجربة قام بها Claus Wederkind وSandra Füri على الفئران، وجدوا أن أنثى الفأر تميل للتزاوج مع فأر مختلف عنها وراثيًا بالنسبة لمورثات المستضدات النسيجية MHC الموجودة على الصبغي 6، ثم قاموا بالتجربة على الإنسان، فألبسوا رجالاً ونساء قمصانًا لمدة يومين كاملين دون استعمال أية رائحة عطر أو مزيل للتعرق، وأعطوا هذه القمصان لرجال ونساء آخرين ليشموها ويقرروا أي منها أكثر إغراء جنسيًا، وقد وجدوا أنه كلما كان الاختلاف بمورثات المستضدات النسيجية أكبر، كلما كان الميل الجنسي أكبر، واللواتي لم تستطعن الحكم، كانت أولئك التي يتناولن مانعات الحمل، ومن المعروف أن مانعات الحمل تؤثر على الشم، وفي النهاية قال Wederkind: "لا يوجد رائحة جيدة لكل الناس، الأمر في النهاية يعتمد على من يشم من". على الصعيد العاطفي والنفسي، كثيرًا ما نلاحظ أننا إذا كنا نتصف بصفات معينة مثل الترتيب والنظام، تفضيل المنطق على الحدس، كثرة الكلام عن الصمت... الخ ونكره الصفات المضادة نتزوجها (بمعنى نتزوج شخصًا عنده هذه الصفات المغايرة) أو ننجب أولادًا عندهم هذه الصفات المغايرة.

في النهاية، إن فكرة اكتشاف الجينوم الإنساني يقوم على لغط كبير، فلا يوجد شيء هو الجينوم الإنساني والذي يختلف زمنيًا وشخصيًا، فكثير من المورثات هبطت وصعدت بناء على هبوط وظهور الأمراض. في عام 1949، كان J. B. S. Haldane، من الأوائل الذين حاولوا دراسة سبب الاختلافات الوراثية الكبيرة في الجنس البشري وغيره وعزاه لهجوم الجراثيم والطفيليات، ولكن زميله الهندي Suresh Jayakar قال إنه ليس من الضرورة أن يكون هناك ثبات، وأن الطفيليات ستسبب تأرجحات دورية في المورثات، وفي عام 1980، أكد العالم الأوسترالي Robert May أن الحركة العشولئية الأبدية قد تحصل من نظام حيوي مقرَّر، وقام وليام هاملتون بإنشاء معادلات رياضية لتفسير تطور التكاثر الجنسي، معادلان اعتمدت على السباق الوراثي بين الطفيليات والكائنات التي تصيبها، ووصل في النهاية إلى ما أسماه "اللااستقرار المستمر للجينات". في وقت ما في عام 1970، وصل علم البيولوجيا إلى ما وصل إليه علم الفيزياء قبله بخمسين سنة إلى عالم التقلبات والتغيرات ونظرية الشواش Chaos Theory، على عكس علم اليقين والاستقرار الذي كان سائدًا، وأن الجينوم الذي نظهره في جيلنا الحالي ما هو إلا نسخة فوتوغرافية واحدة لملف دائم التغيير.

الصبغي أو الكروموزوم العاشر: التوتر النفسي

إن سبب تسمية هذا الصبغي بهذا الاسم هو وجود المورثة CYP17 المسؤولة عن تركيب أنزيم أو خميرة معينة مسؤولة عن تحويل الكولسترول إلى هرمونات عديدة منها الأنثوية كالأوستراديول ومنها الذكرية كالتستسترون ومنها المعدنية كالألدوستيرون؛ وأهمها القشرية السكرية كالكورتيزول الذي بدونه لا يوجد حياة، والموجود منذ البدايات الأولى للزمن والحياة قبل الانقسام إلى نبات وحيوان وفطور وجراثيم... الخ. ولكن المشكلة تكمن أن التوتر النفسي المؤقت مفيد ويؤدي إلى إفراز هذه الهرمونات بشكل معقول ومفيد للعضوية؛ وأما على المدى البعيد وبإفراز الكورتيزول المستمر، فهذا يوثِّر على الجهاز المناعي، ويجعل الشخص أكثر عرضة للرشح والانفلونزا والأمراض الأخرى. الكورتيزول يغيِّر من استجابة الجسم عن طريق تأثيره على أغشية الخلايا بوجود مستقبلات له على هذه الخلايا، ومن بعدها تتحرض مجموعة تفاعلات كيماوية على حساب نواة الخلية ويتم تركيب بروتينات معينة. السؤال هاهنا من هو البادئ ومن هو التالي؟

الكورتيزول بحدِّ ذاته يتحرض إفرازه بسبب وسائط عصبية قادمة من الدماغ، وما يساعد على ازدياد نشاط تحت المهاد في الدماغ، هو الظروف الخارجية والتي تؤثر نفسيًا على هذا الجزء من الدماغ. لقد تبين تمامًا أن القردة غير القياديين أكثر عرضة لمرض القلب من المترئسين، وكذلك تبين في دراسة على الجنود الانكليز أن وضع الجندي ومرتبته ومعاشه يلعبان الدور الرئيسي في إصابته بمرض القلب، وذلك بعد استبعاد عوامل ارتفاع التوتُّر الشرياني والتدخين ونسبة الكولسترول، وهذا ما يفسر لماذا يصاب الأشخاص بمرض القلب بعد تقاعدهم أو خروجهم من الخدمة: لأنهم يشعرون أنفسهم بدون فائدة، وكذلك لماذا يستطيع بعض الأناس تأجيل مرضهم القلبي إلى ما بعد مناسبة معينة مثل زواج.

الصبغي أو الكروموزوم 11: الشخصية

يتواجد على الذراع الصغير للصبغي 11، مورثة معروفة باسم D4DR المسؤولة عن تركيب البروتين المشكل لمستقبل الوسيط العصبي المعروف بالدوبامين، وكلنا يعرف الدور البالغ الذي يلعبه الدوبامين في المزاج والشخصية من شعور بالابتهاج وحس المسؤولية والثقة بالنفس، بالإضافة لدوره البالغ في الحركة، ونقص إفرازه الذي يؤدي لداء باركنسون.

الصبغي أو الكروموزوم 12: تجميع أجسادنا

المورثات أو الجينات في النهاية هي أقراص طرية software لكمبيوتر ضخم يقوم بالدور نفسه في كل الأحياء. لقد تبين من الأبحاث أن هناك مورثة تدعى Hox هي المسؤولة عن جعل هذه الخلية المعينة تكون في ظهر أو بطن ذبابة الفواكه، في الخلف أو الأمام، وقد وجدت مشابهات لهذه المورثة في كل الأحياء. عند الفأر مثلاً، توجد تجمعات لعدة مورثات من الـ Hox وبنفس الترتيب، بحيث تكون المورثات المسؤولة عن تركيب الرأس في الأمام، والمسؤولة عن تركيب الذنب في الخلف، مع اختلافات بسيطة، وهناك فارق آخر، أن الجزء المسؤول عن البطن في ذبابة الفواكه، يصبح المسؤول عن الظهر في الفأر، والعكس بالعكس. هذه التجمعات موجودة على الصبغي 12 عند الإنسان، ويبدو أنه هذا الاختلاف بين أي جزء من المورثة هو البطن، وأي جزء هو الظهر، هو الذي جعل الجد الأكبر للإنسان والفأر والثدييات بشكل عام يفترق عن الجد الأكبر لذبابة الفواكه والحشرات بشكل عام.

الصبغي أو الكروموزوم 13: ما قبل التاريخ

بعد قيام Sir William Jones عام 1786 بملاحظة أن اللغة السنسكريتية الهندية هي ابنة عم اللغات اللاتينية واليونانية، وجد لاحقًا تشابهها مع اللغات الكلتية والغوطية والفارسية، فالأب في الفارسية pader هي padre الاسبانية وPère الفرنسية وVater الألمانية... الخ ورقم 3 Tres اللاتينية هي Treis اليونانية وTryas السنسكريتية، وأن هذه اللغات والمدعوة بالهندوأوروبية لها مصدر مشترك قبل 8000 سنة ربما من منطقة أوكرانيا أو تركيا، أما اللغة التركية بحد ذاتها، فهي نتيجة هجرة شعوب من وسط آسيا، وهي ليست بهندو أوروبية، بل ألتائية Altaic، وهناك مجموعة ثالثة تدعى بالأورالية وتشمل لغات روسيا وفنلندة واستونيا وهنغاريا، ومع الوقت لوحظ وجود رابط بين هذه المجموعات الثلاث التي ساحت في أوراسيا حوالي قبل 15000 عامًا وسموا بالنوستراتيين، وذلك من خلال ملاحظة كلمات بسيطة وأحرف، فالحرف m غالبًا ما يدل على الشخص نفسه (moi, me, mich, mio, matē) والحرف t يدل على الشخص المواجه في كل اللغات اللاتينية من فرنسية وايطالية واسبانية وبرتغالية وكذلك اللغات الأورالية من روسية وغيرها وكذلك المنغولية والتشوكتشي والاسكيمو وحتى الكورية، وقد أدخل العالمان الروسيان Vladislav Illich-Svitych وAharon Dolgopolsky اللغات العربية والشمال إفريقية ضمن هذه المجموعة، بينما لم يقتنع Joseph Greenberg وأدخل بدلاً منها لغات كامشاتكا وتشوكتشي. أما لغة الباسك في جنوب فرنسا وشمال اسبانيا، فلا تنتمي مثلاً إلى هذه المجموعة، بل لها علاقة مع لغات النافاجو وبعض اللهجات الصينية التي تدخل ضمن عائلة لغوية تدعى بالـ Na- Dene. هناك بعض الدلائل على أن لغة الباسك كانت موجودة في مساحات واسعة من أوروبا وآسيا بحسب أسماء الأماكن، وربما كانت الباسك والنافاجو هي الشعوب التي حلت مكان الإنسان النياندرتالي في أوراسيا.

في عام 1980، قام العالم الإيطالي Luigi Luca Cavalli-Sforza بمحاولة الربط بين عالم اللسانيات والوراثة ومحاولة الإجابة عن سؤال هل الحدود اللسانية تتفق مع حدود وراثية؟ (مع العلم أن الحدود الوراثية أصعب دراسة وأقل وضوحًا بسبب الزواج، فقد يتكلم الأشخاص نفس اللغة، ولكنهم يتشاركون بمورثات من أربع أجداد وجدات، فالفروق الوراثية بين الألمان والفرنسيين أقل بكثير من الفروق اللغوية الهائلة). استطاع لويجي بدراسة الجينات الأبسط تحديد 5 خرائط وراثية أساسية في أوروبا: الأولى تمتد بشكل واسع من الجنوب الشرقي وحتى الشمال الغربي والتي تعبر غالبًا عن هجرة الإنسان الحجري الحديث Neolithic من الشرق الأوسط إلى أوروبا، والتي تتوافق مع انتشار الزراعة حوالي قبل 9500 سنة، وهذا يمثل حوالي 28% من هذا التنظيم الوراثي. الثانية متركزة في الشمال الشرقي وتمثل الشعوب الأورالية وتأخذ 22% من هذا التنظيم الوراثي، الخريطة الثالثة حوالي 11% مع تركُّز في أوكرانيا ويمثل غالبًا هجرة الرعويين Nomads من مناطق الفولغا والدون حوالي 3000 قبل الميلاد. الرابع أقل نسبة وذروته في اليونان وجنوب ايطاليا وغرب تركيا وتمثل غالبًا انتشار الإغريق في الألف الأول والثاني قبل الميلاد. الخريطة الخامسة هي ذروة لمورثات غريبة تتوافق خاصة مع توزع شعوب الباسك والذي يظهر أنهم من بقايا ما قبل الإنسان الحجري الحديث.

والآن ما علاقة هذا بالسرطان 13؟ من الصدفة وجود مورثة هي BRCA2 على هذا الصبغي وهي المورثة الثانية التي ثبت علاقتها بسرطان الثدي، والأناس الذين يحملون هذه المورثة أكثر استعدادًا للإصابة بسرطان الثدي. وجدت هذه المورثة في البدء عند الشعوب الايسلندية (ومن المعروف أن ايسلندة تشكل مخبرًا وراثيًا ممتازًا، لأنها مسكونة من مجموعة عرقية معينة ذات أصل نرويجي- الفايكنج - منذ عام 900 ميلادي، ولم تشاهد هجرات واضحة بعدها؛ وكل الـ 270000 نسمة الآن يعودون إلى الآلاف القليلة من الفايكنج الذين أتوا، وقد أمكن تحديد عائلتين كبيرتين تحويان جينة الاستعداد الوراثي لسرطان الثدي الثانية. هناك طفرة مختلفة قد تحدث في نفس الجينة ولكن بمكان آخر، وهو حذف الحرف 6174 شائعة عند يهود الاشكيناز. هناك 8% من إصابات السرطان عند يهود الاشكيناز تحت عمر 42 يعود لهذه المورثة و20% يعود للمورثة الأولى BRCA1 على الصبغي 17، وأيضًا يشكل يهود الاشكيناز مصدر كبير للدراسة في الغرب بسبب قلة الناس الخارجيين الذين أضيفوا لهم، وعدم اعتبار الناس الذين تزوجوا من الخارج.

الصبغي أو الكروموزوم 14: الأزلية

يبدو الجينوم كأنه أزلي، فمنذ أول Ur- gene وحتى عصرنا الحالي، حدث حوالي خمسين مليار عملية نسخ على مدى أربعة مليارات عام، ولكن طبعا الأزلية الماضية لا تحمل بالضرورة أزلية مستقبلية. معظم الأجناس عاشت حوالي 10 مليون سنة ولم تترك بعدها أجناس حفيدة. لقد تواجد الجنس البشري حتى الآن لمدة 5 ملايين سنة، ولم يحدث حتى الآن جنس بنوي آخر؛ فالاحتمال الأكبر – وبسبب الاصطفاء الطبيعي – أن لا تترك مورثاتنا أي أثر ربما بعد مليون سنة. إذا استمرت الأرض بوضعها الراهن – وهذا مشكوك به جدًا – قد يقوم بعض الأحياء بترك أثر، ولو بسيط، في أجناس قادمة.

جزء من هذا السؤال يكمن في الصبغي 14 في مورثة تدعى TEP1 المسؤولة عن تركيب بروتين هام يشكل جزءًا أساسيًا من آلة كيماوية تدعى Telomerase. فقدان التيلوميراز يؤدي للشيخوخة المبكرة، وإضافة التيلوميراز لبعض الخلايا يجعلها أزلية. في كل مرة، ينسخ فيها الصبغي، يُتْرك قسم بسيط منه لا ينسخ، وهي موجودة في كل الصبغيات، وتكون عديمة المعنى هذه الأقسام النهائية، ولكن مع الوقت، تُترك أقسام هامة. في كل سنة من عمرنا، يترك حوالي 31 حرفًا دون نسخ وأحيانًا أكثر، وهذا ما قد يفسر سبب شيخوخة خلايانا. في عمر الـ80، تصبح التيلوميرات أو الأقسام النهائية للصبغيات 5/8 ما عليه وقت الولادة.

الصبغي أو الكروموزوم 15: الجنس

يوجد بين الأمراض الوراثية مرض يدعى Prader- Willie يكون فيه الأطفال رخوين شاحبين، يرفضون الرضاعة، ولكن بعد سنوات، يصبحون نهمين بشدة وشديدي السمنة، لدرجة ذكر عن أجد الأطفال منهم بأنه تناول ½ كغ من اللحم النيء وهو جالس في المقعد الخلفي للسيارة دون انتباه والده، كما لا تتطور عندهم الأعضاء الجنسية ويكونون مصابين ببعض التخلف الذهني وذوي أقدام وأيدي صغيرة وسريعي الغضب خاصة عندما لا يعطون الطعام. وصف هذا المرض من قبل أطباء سويسريين في عام 1956. المشكلة كمنت عندما وصف الأطباء مرضًا مغايرًا تماما في عام 1980 دعي بتناذر Angelman حيث يكون الأطفال على العكس طويلي القامة نحيلين، كثيري الحركة صغيري الرأس طويلي الحنكين كبيري اللسان، يميلون للأرق والضحك والسرور وشديدي التخلف الذهني وليس عندهم قدرات كلامية. المضحك في الموضوع أنه تبين أن المرضين تسببهما نفس المورثة، ولكن الخلاف يكمن هل المورثة أتت من الأب أو من الأم. القطعة الناقصة من المورثة تكون من الأب فيكون المرض Prader- Willie، من الأم، فيكون Angelman. هذا الاكتشاف قلب قوانين الوراثة رأسًا على عقب منذ أيام غريغور مندل. قبل عصر الاستنساخ، قام عالم مجتهد بالوصول إلى البيضة الملقحة لفأر في الزمن قبل التحام النطفة بالبيضة وأخرج نواة النطفة ووضع بدلاً منها نواة بيضة أخرى، وبالمقابل وضع نواة النطفة مع نواة نطفة أخرى بدلاً من نواة البيضة المستخرجة. في الحالتين لم ينمو الجنين. في حالة النطفتين، نمت مجموعة عشوائية من خلايا غير مرتبة (خبيصة) ولكن بمشيمة ممتازة. في حال البيضتين، نمى جنين ممتاز ولكن لم تتكون مشيمة داعمة للجنين.

ثبت من التجارب اللاحقة أن مورثة الأب تلعب دورًا أكبر في تكوين المشيمة، بينما تلعب مورثات الأم دورًا أكبر في تكوين الدماغ والرأس. اعتقد David Haig من اكسفورد أنه عرف الجواب لهذا، وكوَّن نظريته التي تقول أن المشيمة عند الثدييات ليست بعضو من الأم مخصص لدعم الجنين، بل هو عضو من الجنين مخصص للتطفل على أوعية الأم وأخذ التغذية منها، وبهذا تقوم المشيمة بإجبار أوعية الأم على التوسع وتقوم بإفراز هرمونات ترفع ضغط وسكر الأم. تجيب الأم على هذا الاعتداء برفع الأنسولين. إذًا رغم الهدف المشترك للأم والجنين، لكنهما يختلفان في التفاصيل لفعل هذا، تمامًا كما يحدث لاحقًا عند فطام الوليد من حليب أمه. مورثات الأم – بطريقة ما – تعاني من بعض الضياع لأنها تشكل جزءًا من الجنين ولكنها بنفس الوقت تعود للأم، بينما لا تعاني مورثات الأب من هذا الصراع طالما توفر لها من خلال رحم الأم منزلاً دافئًا، ولكنها لا تثق بالأم تمامًا لإتمام العمل، فتقوم هي بالدور الأساسي في بناء المشيمة، وهنا تعبر مورثات الأب عن نفسها، أما الأم فيتم إسكات مورثاتها، وهذا ما يسمى بالإطباع Imprinting. تبين لاحقًا أن أجزاء كبيرة من نظرية Haig باطلة، لكن الجوهر الأساسي ظل قائمًا، وتبين – كما هو متوقع – أن الحيوانات التي تضع بيوضًا لا يحدث فيها ظاهرة الإطباع Imprinting، لأن البيضة توضع خارجًا ولا تحتاج لتغيير البيئة حولها، كذلك الجرابيات مثل الكنغر والتي تضع جنينها في جراب خارجي بدل المشيمة؛ بينما تكون ظاهرة الإطباع مميزة للثدييات ولبعض النباتات التي تحتاج بذورها لدعم النبات الأم. هناك نوع من الفئران يدعى بـ Peromyscus maniculatis تكون إناثه شرهات للجنس وتحمل في نفس الوقت أجنة لآباء مختلفين، بينما نوع آخر يدعى Peromyscus Polionatus تكون إناثه ملتزمات بذكر واحد. ماذا يحدث في الزيجات المتصالبة؟ إذا كان الأب من النوع الأول، تكون الأجنة ضخمة، أما إذا كان من النوع الثاني، فتكون صغيرة جدًا. كون الأجنة الأولى تتوقع أن تولد في جو منافسة وعداء فتكون شرهة لأخذ كل شيء وتكبر كثيرًا، أما الثانية، فهنا الأم تتوقع أن توجد داخلها أجنة متنافسة تصارع كثيرًا، فتقوم بالصراع المعاكس وتقلص أوعيتها لتقليل الغذاء الصادر ويخلق الجنين صغيرًا.

والآن، كيف يتم إسكات وإخماد بعض المورثات كيماويًا؟ يتم ذلك عن طريق إضافة جذر مثيل للسيتوزين، وهذا ما يسمح بكبت المورثات الشرهة الأنانية، أما المورثات التي عبرت عن نفسها، فهي التي تجاوزت مرحلة المتلتة Methylation. هذا التفاعل الكيماوي بالذات هو الذي وقف أمام قدرة العلم على الاستنساخ لسنوات طويلة. تمكن العلماء بسهولة من استنساخ العلجوم أو ضفدع الجبل بزرع مورثات خلايا معينة ضمن بيضة ملقحة، ولكنها لم تنجح مع الثدييات لأن مورثات هامة جدًا حدث فيها متلتة، ثم فجأة تم استنساخ Dolly الاسكوتلندية عام 1997. أما كيف تم هذا، فما يزال لغزًا حتى لعلمائها، ولكن يبدو أن طريقة التحضير أزالت عملية المتلتة. لا تحدث الأمراض بالضرورة دائمًا من خلال طفرة في إحدى المورثتين، بل قد تحدث من أسباب أخرى. عادة تأتي نسخة صبغية من الأب ونسخة من الأم – كما أسلفت الذكر- لتعود وتتكون نسختان من جديد كالعادة. في بعض الأحيان، لا ينفصل الصبغيان الآتيان من جهة معينة عن بعضهما، وعند الإلقاح، يصبح عندنا 3 نسخ بدلاً من 2، ويحدث هذا أكثر في البويضة كلما تقدم عمر الأم. في معظم الحالات تكون هذا الثلاثية الصبغية مميتة، وفي أحوال قليلة مثل الصبغي 13 و18، يعيش الوليد أيامًا قليلة بعد الولادة، أما في حالة الصبغي 21 (وهو أصغر الصبغيات)، فقد يستطيع الإنسان الحياة لسنوات طويلة وهو ما يعرف بتناذر داون أو المنغولية. أحيانًا، يستطيع الجسم التعامل مع هذا الصبغي الإضافي عن طريق إخماده أو إسكاته، والمشكلة أنه إحصائيًا قد يتم إخماد الصبغي الوحيد الآتي من الأب الآخر ويبقى الصبغيان الآتيان من الأب الأول. هذا بحد ذاته، قد لا يحمل أية مشكلة، ولكن في حالة الصبغي 15، تسبب وجود نسختين آتيتين من الأم والحاملة للمورثة UBE3A مرض Prader- Willie، بينما وجود نسختين من الصبغي الآتي من الأب والحاملين لمورثة SNRPN تناذر Angelman. رغم أن كلتي المورثتين تلعبان عادة دورًا ثانويًا، فالأولى مثلاً تشكل بروتين E3Ubiquitin Ligase والذي له دور محدود في الجاد والعقد اللمفاوية، ولكن في عام 1997، تم اكتشاف أنه في حال إتاحة عمل هذا البروتين في الدماغ، فهو ديناميت، كذلك وجد لاحقًا أن القسم الأمامي لدماغ الفئران يتكون بواسطة مورثات منطبعة من الأم، بينما الوطاء بمورثات آتية من الأب.

هذا الاختلاف وعدم التوازن قد تم إثباته من قبل علماء فذين من خلال إحداث ما يسمى بفئران الـ Chimeras، والتشيميرا هي أجسام متحدة لفردين مختلفين تمامًا وراثيًا، أي تمامًا عكس التوائم الحقيقية. (التوأم الحقيقي هما جسمان مختلفان بصيغة وراثية أو جينوم واحد، أما هنا ففرد واحد عنده جينومين، وقد نكون قد التقينا ببعض الأفراد التشيميرا بدون معرفتنا، وقد يكون بعضنا منهم). قام فريق من Cambridge بإحداث تشيميرا من خلال دمج جنين فأر طبيعي مع جنين تم إلقاح بيضته بنواة بويضة أخرى (أي نسختان من الأم)، والنتيجة كانت فأر برأس كبير، وعندما تم على العكس دمج جنين طبيعي مع جنين أتى من وضع نسختين من نطفتين في البويضة، فتكون فأر برأس صغير وجسم كبير، وبحقن مواد كيماوية مشعة، تم اكتشاف أن معظم قشر المخ والجسم المخطط وحصين البحر في الدماغ تأتي من مورثات الأم، بينما تكون لمورثات الأب الدور الأكبر في بناء العضلات وبعض مناطق من الدماغ مثل الوطاء، اللوزة والمنطقة قبل البصرية، وإذا كنا نحن كالفئران، فنحن نمشي بتفكير أمنا ومشاعر أبينا. لاحقًا اكتشف أن هناك مورثة عند الفئران تدعى Mest gene التي عند فقدانها عند إناث الفئران، تكون طبيعية تمامًا عدا كونها أمهات سيئة، فهي لا تبني أوكارًا جيدة ولا تعيد صغارها للأوكار، ولا تهتم بها ولا تنظفها، وفي النهاية تموت الصغار. المضحك في الموضوع أن المورثة تأتي من الأب، أما الآتية من الأم فتبقى عادة صامتة. وهنا نجد أن بعض هذه الحقائق تعاكس نظرية Haig، وهنا يأتي دور نظرية العالم الياباني Yoh Iwasa والذي يقول إنه طالما تقوم صبغيات الأب بتحديد الجنس من خلال إعطائه كروموزوم X أو Y، فمن المفترض إذًا أن تأتي تصرفات البنات من آبائها وليس من أمهاتها، لأنها لو أتت من أمهاتها، فهي ستظهر في الصبية أيضًا. ظهر هذا بشكل واضح من خلال تجارب David Skuse وزملائه في لندن، فقد درسوا 80 أنثى بين عمر 6 و25 سنة مصابات بتناذر Turner (والذي يحدث فيه غياب جزئي أو كامل لأحد الصبغيين X، وتكون المصابات به أميل للقصر، ذوات ذكاء شبه طبيعي ولكن يعانين من صعوبة التأقلم الاجتماعي). من خلال أسئلة موجهة للبنات وذويهن، تبين أن الإناث اللواتي ينقصهن الكروموزوم X من الأم أفضل تأقلمًا وقيامًا بالأعمال التنقيذية الدقيقة واللغوية من الـ 55 أنثى اللواتي ينقصهن الكروموزوم من الأب.

لهذه التجربة نتائج هامة أولها أنها تفسر لماذا تكثر إصابات التوحد Autism، اضطرابات القراءة والتعلم والاضطرابات الاجتماعية الأخرى عند الذكور عنه في الإناث (ذلك لأن الذكر يتلقى نسخة واحدة من الصبغي X من أمه فقط، وهذه المورثة قد تكون غير فعالة). حتى الوقت الحاضر، لم تحدد هذه المورثة تمامًا. النتيجة الثانية الأهم، أن الدور الجنسي لا يأتي فقط من التربية، بل أيضا يحدَّد وراثيًا (وهو السؤال الذي طالما سئل)، فكلنا يعرف أن الصبية تهتم بالقتال والآلات والأسلحة بعمر صغير، بينما تهتم البنات بالملابس واللعبات والناس. ظل السؤال قائمًا، هل هذا نتيجة التربية أم الوراثة. أكد John Money – وهو من أنصار التربية – على الدور الأساسي للتربية من خلال أحد الأمثلة ألا وهو: في عام 1960، أدى تطهير أحد الصبية إلى خطأ طبي كبير وتلف شديد بالقضيب، اضطر بعدها إلى قطع القضيب كليًا، وبعد التشاور مع الأهل، قام الجراحون بإخصاء الطفل وتحويله لأنثى وإعطائه العلاج الهرموني المناسب، وهكذا أصبح جون جوان ولبست الفساتين ولعبت باللعبات وأصبحت امرأة شابة، وهكذا في عام 1973، أكد John Money أن الأدوار الجنسية تأتي بالتربية. المشكلة أن الوضع كان مختلفًا تمامًا في عام 1997، عندما تبين أن جوان هي الآن رجل متزوج سعيد مع زوجته، وأنه طالما شعر في مراهقته وبعد ذلك، أنه غير مرتاح لسبب ما، وأنه يفضل مثلاً لباس البناطيل وأن يلعب مع الصبية وأن يتبول واقفًا. تم إخباره في عمر الـ14 عن قصته، وشعر عندها بالارتياح، فأوقف العلاج الهرموني وأزال ثدييه وغير اسمه من جديد لجون، وتزوج لاحقًا وتبنى أولاد زوجته. هنا ظهر الدور الكبير للوراثة في موضوع الأدوار الجنسية.

الصبغي أو الكروموزوم 16: الذاكرة

الجينوم الإنساني هو كتاب كما ذكرت سابقًا. الجينوم يصنع الجسد ويضع فيه إكسير الحياة، ولكن ليكون الجسم حيًا بحق، يجب أن يقوم بأكثر من مجرد الوجود. يجب أن يتكيف، أن يتغير، أن يتفاعل، أن يكون مستقلاً بذاته وقادرًا على إيجاد طريقه الخاص بالحياة، ولا يكون فقط شيئًا تكنولوجيًا تحت سيطرة فرانكشتاين. الجينوم لا يخبر القلب متى ينبض، أو العين متى ترفُّ، أو العقل متى يفكر. حتى لو قامت المورثات بتحديد بعض معالم الشخصية والذكاء والطبيعة الإنسانية، فهي لا تسيطر على كل هذه المعالم. قد يكون محكوم علينا نحن البشر أن نخضع لمورثاتنا، ولكن بإمكاننا دائمًا أن نتغير حسب ما نتعلمه خلال حياتنا؛ فالجينوم حاسوب ضخم يستخرج المعلومات من المحيط ويضع هذه المعلومات ضمن بنائه، ولكن ليضع هذه المعلومات ضمن بنائه يحتاج إلى أجيال وأجيال ليحدث هذا التغير؛ ولا عجب إذًا أنه أوجد آلة أسرع لأخذ هذه المعلومات والتكيف معها هي الدماغ.

وجد Eric Kendel أن التعلم يحدث بسبب تغير يطرأ على صفات التشابكات العصبية بين الخلايا العصبية المختلفة، ووجد هو وزملاؤه أن الجزيء الكيماوي الذي يدخل في تقوية أو إضعاف تواصلات عصبية معينة هو الـ Cyclic AMP (الـ AMP الحلقي)، وأن ما يحدث هو شلال من التفاعلات الكيماوية: الألف تصنع الباء والباء تصنع التاء والتي تفتح قناة تدعى الدال والتي تسمح بدخول أكبر للجيم لداخل الخلية، وبالتالي يزداد إفراز القاف وهو الوسيط الكيماوي الذي ينتقل للخلية التالية.

ما يحدث أن التاء تحرض بروتينا يدعى CREB أن يغير شكله، وفي الحيوانات التي يتفعل فيها الكريب، قد تتعلم ولكنها لا تتذكر أكثر من ساعة ما تعلمته، لأن الكريب عندما يتفعل، يبدأ بزيادة عمل بعض المورثات وتغيير شكل وعمل التشابكات العصبية. في السبعينات، تم اكتشاف مورثة مسؤولة عن قلت التعلم عند ذباب الفواكه، وتلاها اكتشاف 16 مولاثة أخرى، ووجد أن هذه المورثات الـ16 لها علاقة بتركيب والتفاعل مع الـ AMP الحلقي، كما استطاع العلماء بعدها من إزالة المورثة المسؤولة عن تركيب الكريب، وأصبحت هذه الذبابة قادرة على التعلم ولكنها لا تتذكر ما تعلمته، وبعدها استطاعوا أيضًا إحداث ذبابات قادرة على التعلم السريع بمرة واحدة. وجد الكريب في عديد من الحيوانات الأخرى، فالفئران مثلاً تحويه ومن خلال حقن مضاد له، أصبحت فئران غير قادرة على التذكر. في الإنسان، تقع مورثة الكريب على الصبغي الثاني، ولكن حليفه الضروري لعمله ويدعى الـ CREBBp تقع مورثته على الصبغي 16.

الصبغي 17: الموت

إذا كان التعلم هو إنشاء تواصلات جديدة بين الخلايا العصبية، فهو أيضًا خسارة تواصلات قديمة. في عام 1909، اكتشف Peyton Rous أن دجاجة مصابة بسرطان الساركوما تستطيع نقله لدجاجات سليمات، وفي عام 1960، اكتشف فيروسات مسرطنة، وعندها أعطي روس جائزة نوبل في عمر 86. وجد بعدها أن الفيروس يحتوي على مورثة مولدة للسرطان دعيت sac، وبدأت بعدها حملة اكتشاف المورثات المسرطنة، وعرف أن المورثات المسرطنة هي مورثات تساعد على النمو. لاحقًا، تم اكتشاف TP53 في عام 1979، وأنها مورثة مانعة لتشكل الأورام، ووجد لاحقًا أن تفعيل هذه المورثة يؤدي لإبطاء تكاثر الخلية ونموها وإبطاء تصنيع الـ DNA، حتى يتحقق الإصلاح المطلوب أو أن تنتحر الخلية وتقتل نفسها Apoptosis (وفرقه عن الـ necrosis). يتفعل الـ TP53 بأية دلائل تخرب في الخلية أو عند نفاذ الأوكسجين منها، لذلك سمي بالملاك الحارس للجينوم.

اكتشف الـ TP53 على يد David Lane عام 1979، ومرة كان يتنافس هو وزميله Peter Hall وهما جالسين في مطعم عن أهمية هذا المركب، وصديقه غير مقتنع كثيرًا به، وعرض ذراعه لأن تكون حيوان تجربة من أجل حقن الـ TP53، لن استعمال حيوان تجربة يحتاج لأشهر من الموافقات، أما متطوع بشري فيمكن التضحية به فورًا. تعرضت ذراع Hall باستمرار للأشعة، وكان Lane يأخذ باستمرار خزعات متكررة منها للدراسة، ووجد ارتفاع بمستوى P53 البروتين المصنع من قبل مورثة TP53 باستعمال الجلسات الشعاعية المتكررة، مما يدل على أن المورثة تستجيب للتخريب الناجم عن السرطان. إن حدوث طفرة في مورثة الـ TP53 يسبب سرطانًا قاتلاً، وفي حوالي 55% من كل السرطانات الإنسانية تكون الـ TP53 متخربة، وترتفع النسبة إلى 90% من سرطانات الرئة. عندما يولد البعض بنسخة غير طبيعية من أصل اثنتين من الـ TP53، يكون عندهم احتمال 95% من حدوث سرطان عندهم وغالبًا في عمر مبكر. تكون الـ TP53 غالبًا هي آخر المطاف في عدد من السرطانات. سرطان الكولون مثلاً يبدأ بطفرة على حساب مورثة APC، فيحدث عندها مرجّل أو بوليب، وإذا وجدت مورثة مسرطنة تدعى RAS يتحول إلى أدينوما أو ورم سليم، وبوجود مورثة ثالثة، يصبح أكثر خطرًا، وأخيرًا بوجود طفرة في الـ TP53 يصبح كارسينوما أو سرطان.

فالـ TP53 هي المسؤولة عن الموت الخلوي المبرمج Apoptosis الذي يستعمل من أجل إزالة الخلايا السرطانية وأحيانا الخلايا المصابة بالجراثيم والفيروسات من أجل منع الإصابة الشاملة، وقد طوَّرت بعض الفيروسات طريقة لمنع الخلايا من الانتحار، مثل فيروس Epstein- Barr المسؤول عن داء وحيدات النوى الإنتاني، ولكن بنفس الوقت، قد تكون المبالغة في الموت الخلوي المبرمج سببًا في إحداث بعض الأمراض مثل Huntington, Parkinson وزيادة حجم الفالج.

الصبغي 18: العلاج

استطاع Paul Berg عام 1972 في جامعة ستانفورد أن يقسم الـ DNA الفيروسي إلى نصفين، ثم يعيد تركيبها بواسطة أنزيمات معينة، وبدأت من وقتها دراسات الـ DNA التشكيلي Recombinant DNA وإدخال أقسام من صبغيات جراثيم أو فيروسات لتلتحم مع صبغيات كائنات أخرى وتتكاثر ضمنها وتقوم بأعمال معينة، وباكتشاف أن الفيروسات الرجيعة Retroviruses تستطيع صنع نسخ DNA  من الـ RNA، جعلت إمكانية العلاج الجنيني ممكنًا. استطاع العلماء لاحقًا تطبيق العلاج الوراثي في مرض يدعى العوز المناعي المختلط الشديد Severe combined Immune deficiency والذي يجعل الطفال غير قادرين على التغلب على الإنتانات بسبب موت كرياتهم البيضاء، ولا يستطيعون العيش إلا في جوٍّ معقم معزول أو إعطائهم نقي عظم كامل من قريب لهم متشابه وراثيًا. تتالت بعدها أبحاث الهندسة الوراثية خاصة في مجال الفواكه والنباتات، وقد نستطيع يومًا ما حقن المورثة المسؤولة عن منع سرطانات الكولون والمستقيم عند الشخاص الذين لا يحوون النسخة السليمة على الصبغي 18 هذا، لكن حتى ذلك الوقت إذا أكلنا حمية غنية بالموز غير الناضج والألياف وبعض الأسبرين، نحمي نفسنا من هذا السرطان، فالتشخيص الوراثي متبوعًا بالعلاج التقليدي هو ربما أكبر خدمة قدمها اكتشاف الجينوم للطب.

الصبغي 19: الوقاية

هناك عائلة من المورثات تدعى بمورثات الـ Apolipoprotein ولها ربعة أنواع هي: A, B, C, E ونوع الـ E موجود على هذا الصبغي، وكل نوع يأتي بأشكال مختلفة، فالـ APOE ليس مثل معظم المورثات وأن يحوي أغلبنا نفس الشيء، وقد تحدث طفرات فيه. لا هنا الموضوع مختلف. هنا مثل لون العينينن هناك أنواع: APOE2,E3,E4.. في أوروبا، يشكل النوع E3 أفضل وأكثر الأنواع تواجدًا، فأكثر من 80% من الأوروبيين عندهم على الأقل نسخة منه، و39% عندهم نسختان. الأشخاص الذين عندهم نسختان من الـ E4 ويشكلون 7% فقط، أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب وألزهايمر. يكثر الـ E4 كلما ارتفعنا للشمال، فهو أكثر بـ 3 مرات في السويد وفنلندة عنه في إيطاليا، وهذه هي حال أمراض القلب. تقريبًا 30% من الأوروبيين عندهم نسخة واحدة من الـ E4، والأسيويون فقط 15%، أما الأفارقة والأوستراليون ففوق الـ 40%، وفي غينيا الحديثة فوق 50%، وهذا ربما يعكس تناول الشحوم والعادات الغذائية، فالغينيون الحديثون لا يصابون بأمراض القلب في حميتهم المكونة من قصب السكر والنباتات ونادرا لحم الكونغورو، أما عندما يعملون في المناجم ويبدؤون بأكل الهمبرغر والبطاطا، ترتفع الإصابات القلبية إلى أكثر من الأوروبيين.

الصبغي 20: السياسة

تبدأ القصة في القرن الثامن عشر في بريطانيا، عندما حاول المزارعون تزويج الأنواع الأفضل من الأغنام مع أولادها لتتركز الصفات الأفضل، وفعلا ظهرت أصناف سريعة النمو غزيرة الصوف، ولكن ظهرت أحيانًا بعض الأعراض الجانبية هي أغنام مصابة بالجنون عند الشيخوخة، فكانت تجرح بعضها، تتعثر كثيرًا وتصطدم ببعضها، نزقة ومعادية للآخرين، ثم تحدث الوفاة بصورة سريعة بعدها. دعي المرض بالـ Scrapie. هزت جائحة جديدة من هذا المرض عام 1930 أيضًا في بريطانيا، عندما قام أحدهم بتلقيح الأغنام بلقاح يدخل في تركيبه خلايا دماغية من الأغنام، رغم تعقيمها بالفورمالين. في هذا القرن، بينما كان العالم الأميركي Bill Hadlow ينظر إلى معرض تابع لمتحف الطب في لندن، فوجئ بالتشابه الكامن بين أدمغة الخراف المصابة بالـ Scrapie، وبين أدمغة إنسانية شاهدها سابقًا في Papua بغينيا الجديدة، لنساء وأطفال مصابين بمرض غريب يجعل المشي مهتزًا مع كلام ممطوط وغريب ونوب من الضحك الهستريائي ويموت الشخص خلال سنة. اكتشف لاحقًا أن السبب أن هذه القبائل الآكلة للحوم البشر تقوم بطقوس معينة أثناء الدفن Katim na Kukim na Kaikai أي اقطع، اطبخ وكل، وعادة تأخذ النساء والأطفال التكريم بأكل الأدمغة والأحشاء ويأكل الرجال لاحقًا العضلات وسمي المرض بالكورو. لاحقًا، بدأت تظهر في الأرض المحتلة حالات إنسانية لمرض مختلف قليلاً، ولكن يوجد شبه لا بأس به للكورو عند يهود مهاجرين من ليبيا. سمي المرض بـ Creutzfeldt- Jacob نسبة لمكتشفيه، وتبين أن سبب المرض هو عادات تناول دماغ وعيون البقر في ليالي السبت عند هؤلاء القوم. لاحقًا تبين أن السبب لا يكمن في العادات، بل هو سبب وراثي بحت، بأن هؤلاء اليهود ينتمون لسلالة وراثية معينة تحوي طفرة معينة، والتي وجدت أيضًا في عائلات سلوفاكية، تشيلية وألمانية أميركية.

منذ عام 1967، اقترح أحدهم أن يكون العامل الممرض في الـ Scrapie بدون جينات DNA أو RNA، وأنه قد تكون الشيء الوحيد في الحياة الذي لا يستعمل حمضًا نوويًا وليس له جينات بحد ذاته؛ ولما كان اكتشاف كريك وواتسون حديثا بأن أساس الوراثة هو الDNA الذي يشكل الRNA والذي يشكل البروتين؛ فإن استقبال فكرة عامل وراثي بدون DNA كان بمثابة استقبال أفكار مارتن لوثر في روما الكاثوليكية أو أفكار آية الله الخميني في السعودية. في عام 1982، وجد Stanley Prusiner أن سبب المرض بروتين كثيف يقاوم الهضم من قبل الأنزيمات المعتادة، وموجود في المصابين البشر أو الحيوانات وغير موجود في السليمين، وهذا البروتين يتجمع بشكل عقد كثيفة وملتصقة على بعضها البعض بشدة بشكل يمنع تكسيرها. حاول Prusiner بعدها من خلال سلسلة الحموض الأمينية في هذا البروتين أن يعادلها بسلسلة الحموض النووية المشكلة للـ DNA المقابل، ومن ثم صار يبحث عن هذه السلسلة في جينات الفئران ومن ثم في البشر ووجدها، وأسماها Protease Resitant Protein (PRP)، ووجد أنها مورثة عادية تشكل بروتينًا عاديًا سمِّي بالبريون، ولكن المشكلة في هذا البروتين أنه قد يتحول فجأة إلى شكل قاس وخشن وعقدي مخربًا عمل الخلية، والأكثر من هذا، أنه قد يحوِّل بروتينات أخرى طبيعية لهذا الشكل المنطوي على نفسه. في الإنسان، تحوي المورثة 253 كلمة وكل كلمة طبعًا 3 أحرف، ولكن أول 22 كلمة وآخر 23 كلمة تقطع بسرعة من البروتين حالما يتكون. فقط في 4 أماكن، يكون لتغيير الكلمة أن تسبب مرضًا بريونيًا ولكن بأربعة تظاهرات مختلفة:

  1. تغيير الكلمة 102 من برولين إلى لوسين يسبب مرض Gerstmann- Sträusler- Scheinker وهو مرض وراثي يأخذ وقتًا طويلاً ليميت الشخص.

  2. تغيير الكلمة 200 من غلوتامين إلى ليزين يسبب مرض Creutzfeldt- Jacob النمطي ليهود ليبيا.

  3. تغيير الكلمة 178 من حمض الأسبارتيك إلى أسباراجين يسبب أيضًا نمطًا وصفيًا آخر من Creutzfeldt- Jacob ولكن المشاهد في مناطق أخرى من العالم.

  4. تغيير الكلمة السابقة 178 + الكلمة 129 من فالين إلى ميثيونين يسبب أكثر أمراض البريونات هولاً وإخافة وهو الأرق العائلي المميت Fatal familial Insomnia حيث تحصل الوفاة خلال أشهر بعد أرق كامل دون أية ساعة نوم لأشهر، مع اضطرابات عصبية ونفسية شديدة، وهنا يتآكل المهاد في الدماغ حيث يكمن أهم مراكز النوم عند الإنسان.

اكتشف بروزينر وأعوانه أنه كلما كان التغيير في المناطق المركزية بين الكلمة 108 و121، كلما كان الانطواء أشد والموت أسرع عن عندما يحدث التغيير في المناطق المحيطية؛ كذلك من المفيد أن يكون صبغيي الشخص مختلفين وليس متماثلين، بمعنى أنه من الأنسب أن تكون الكلمة 129 على أحد الصبغيين فالين والأخرى ميثيونين، من أن تكون الاثنتين ميثيونين وعندها تكون قابلية المرض أشد. كذلك كلما حصل الإنسان على كمية أكبر من البروتين المريض كلما كان احتمال المرض وانتشاره أشد، لأن كل بريون يحوِّل جاره لبريون منطوي وتحصل الكارثة، وهذا ما حصل في داء البقر المجنون. إن داء البريون انالوج وليس رقميًا (ديجيتال)، بمعنى أنه ليس اختلافًا بالترتيب، بل بالشكل والكمية والمكان. هذا لا يجعله أقل حتمية من هانتنغتون بالعمر الذي يصيبه، فهناك حالات مذكورة لإخوة اصيبوا بنفس العمر بمرض كرويتزفلد-جاكوب، مع أنهم عاشوا بعيدين عن بعضهم طوال عمرهم.

والآن نأتي لداء البقر المجنون أو ما يسمى اعتلال الدماغ الاسفنجي البقري BSE. ظهرت أول بوادر المرض في عام 1986، عندما أصيبت 6 أبقار في البداية، وفي نهاية تلك السنة، عرف أن 50000 بقرة مصابة في بريطانيا، وفي النهاية ماتت حوالي 180000 بقرة، قبل أن يقضى عليه تمامًا في نهاية التسعينات. لقد لوحظ مثلاً أن جزيرة Guernsey تحوي على جائحة منه بفترة طويلة قبل جزيرة Jersey، وعرف أن الجزيرتين تأتيهما الأعلاف من مصدرين مختلفين، والأولى تحوي على الكثير من اللحم ومطحون العظام، بينما الثانية على كمية قليلة من هذه، وبازدياد عدد البريونات ومن ثم طحن لحومها وعظامها وإعطائه من جديد إلى حيوانات أخرى، يزداد المرض انتشارًا. في عام 1996، أعلنت الحكومة البريطانية أن عشرة أشخاص ماتوا بشبب مرض ﭙريوني يشبه قليلاً أعراض الـBSE، ويختلف عن كرويتزفلد- جاكوب. بدأت المشكلة تتفاقم وتم توقع حالات جديدة من المرض في بريطانيا وخارجها لسبب غير معروف تمامًا، بدأت الإصابات بالتناقص بعد عام 1996، وبالتدقيق، لوحظ أن الأشخاص المصابين كانوا شغوفين بأكل اللحم خلال سنوات جنون البقر الخطرة (1985-1990)، عدا أحدهم الذي أصبح نباتيًا قبل سنوات، ولكن الملاحظ أن أقرباء المرضى كانوا على هذه العادات ولم يصابوا بالمرض.

تبين لاحقًا أن المصابين كانوا من نمط المتشابه الأمشاج Homozygotes للمثيونين في الكلمة 129 (والذي ذكرته سابقًا في الأرق العائلي المميت)، وأن وجود فالين بدله، أو نمط متغاير الأمشاج Heterozygotes فالين- ميثيونين يجعل فترة الحضانة أطول وقد لا يتعرضون للمرض نهائيًا. لكن المشكلة أن كرويتزفلد-جاكوب قتل العديد من النباتيين الذين لم يجروا أية عملية جراحية ولم يغادروا بريطانيا ولم يعملوا في حقل أو في دكان لحام، والأكثر من ذلك أن كل أسباب أكل اللحوم ولحوم البشر، العمليات الجراحية، العلاجات الهرمونية لا تشكل إلا 15% من الحالات، أما 85% فما تزال مجهولة السبب؛ فالـﭙريونات بحق قد جعلتنا متواضعين بجهلنا العميق أمام مجرد بروتين بسيط لا يحمل حتى شفرة رقمية للمعلومات المتوارثة. قال خبيران في علم الـﭙريونات: "هل من المعقول أن تكون كل هذه التراجيديا العائلية والشخصية، المآسي العرقية والمصائب الاقتصادية بسبب مجرد انطواء خبيث لجزيء صغير واحد؟".

الكروموزوم 21: التطور Eugenics

هو أقصر الصبغيات، لذا يجب تسميته 22، لكن حتى وقت قريب، كان يظن أن الكروموزوم 22 أقصر، وبهذا ظل الاسم هكذا، وبسبب كونه أصغر الصبغيات، فإن نسخة إضافية منه تجعل الإنسان قادرًا على العيش سنوات لا بأس بها، وهذه هي حالة المنغولية أو Down Syndrome، أما وجود نسخة إضافية من الصبغي 13 أو 18، فيعيش الشخص فقط أيامًا بسيطة.

والد التطور Francis Galton مخالف تمامًا لابن خاله اللزم Charles Darwin، فبينما كان داروين منهجيًا صبورًا، خجولاً وتقليديًا إلى حدٍّ ما، كان غالتون من نوع الذكاء المتطاير، محبًا للظهور وكتلة من اللخبطة الجنسية. قام باستكشاف أميركا الجنوبية ودراسة التوائم وجمع الإحصاءات، وكان يحلم باليوتوبيا (العالم المثالي)، واليوم تساوي شهرته تقريبًا شهرة ابن خاله. كان دائم الخوف أن تتحول الداروينية إلى جشع سياسي وهذا تمامًا ما قام به غالتون. أراد تحسين الجنس البشري كما نفعل مع الماشية والفواكه، وأراد التطوير الجماعي وتحسين المجتمعات برمتها من خلال إصدار قوانين تحتم هذا (بعكس Herbert spencer الذي أراد التطور الفردي من خلال تحسين الفرد لنفسه واختيار شريك حياته على نحو مدروس من أجل تحسين نسله).

من تلاميذ غالتون Karl Pearson الذي كان مرتاعًا من النمو السريع لألمانيا، فأراد وضع قوانين نافذة من أجل تطوير بريطانيا وجعلها دائمًا في المقدمة وأن تتحكم القوانين بالخيارات الزوجية. فجأة أصبح اسم Eugene بالانكليزية أو Eugène بالفرنسية أو يوفغين بالروسية أو أويغين بالألمانية شائعًا جدًا (التطور Eugenics) وأصبحت فكرة تحسين النسل شائعة، والتي ظهرت في ألمانيا من خلال كتابات Friedrich Nietzsche وErnst Haechel، وأصبحت لاحقًا فكرة الشعب المميز مرتبطة بالقومية الألمانية لدرجة أكبر من بريطانيا.

ظلت الأفكار نسبيًا بريئة من أجل تحسين الموجود، ولكن لاحقًا، بدأت تتجه نحو إزالة ومنع ما يفترض أنه سيء، أو ما يسمى العقل الضعيف، وهذا يشمل الكحوليين ومرضى الصرع والمجرمين والتأخر الذهني؛ وأصبح هذا المنحى جديًا بشكل خاص في الولايات المتحدة التي بعدما كانت القِدر الذي ينصهر ضمنه جميع القوميات Melting Pot، أصبحت سياسة أميركا – وبتأثير من Charles Davenport وAndrew Carnegie وHenry Goddard أن أميركا في خطر من الانحلال والزوال بسبب العائلات المصابة بالتأخر الذهني، وشجع الخوف من المهاجرين الجدد الآتين من أوروبا الشرقية والجنوبية هذا الشعور، لأن البولونيين والتشيك والطليان سيخربون نقاء العرق الأنجلوساكسوني والجرماني الموجود. كان قانون تحديد الهجرة الذي صدر عام 1924 كنتيجة مباشرة للأحزاب التطورية والذي وضع الكثير من المهاجرين الأوروبيين تحت ظروف سيئة جدًا، بسبب رفض الولايات المتحدة استقبالهم كوطن ثان لهم. لم تتوقف النتائج على قوانين الهجرة، بل تعدتها إلى قيام 6 ولايات عام 1911 بالسماح بتعقيم المتأخرين ذهنيًا، وخلال 6 سنوات، انضمت 9 ولايات أخرى. تم تعقيم أكثر من 100000 شخص بين عام 1910 و1935، واستمرت ولاية فيرجينيا حتى عام 1970، ومن أكثر الحالات التي أخذت ضجة هي تعقيم عائلة Buck، لأن الشابة Carrie Buck البالغة من العمر 17 والتي تعيش مع أمها وابنتها فيفيان، كانت تعمل مع مرضى الصرع صباحًا، وقد تقرر أنها متخلفة ذهنيًا، وبفحص طفلتها البالغة 7 أشهر فقط، تقرر أنها متخلفة، وقاموا بتعقيم العائلة بكاملها بما فيها الطفلة فيفيان التي ماتت شابة، أما أمها فعاشت لعمر متأخر وكانت تحل الكلمات المتقاطعة في أوقات فراغها، ما أختها الأصغر فحاولت الإنجاب لفترة طويلة قبل أن تكتشف ماذا أجري لها بدون موافقتها وهي بعمر 13.

لم تتوقف محاولات التعقيم على الولايات المتحدة، فقد عقمت السويد 60000 شخصًا، كما أجري التعقيم في كندا، النرويج، فنلندة، استونيا وأيسلندة وأكثرها في ألمانيا التي عقمت في البدء 400000 شخصًا ثم قتلت العديدين منهم، وخلال الحرب العالمية الثانية، قتل 70000 شخصًا من المرضى النفسيين المعقمين سابقًا لإخلاء أسرتهم للجنود المصابين. وبالمقابل كانت بريطانيا – وهي كما يقال أصل البلاء لعلم التطور - الدولة الصناعية البروتستانتية الوحيدة التي لم تصدر قانونًا مبنيًا على علم التطور، أما الدول التي سادت فيها سلطة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لم تصدر أيضًا قوانين كهذه، وكذلك هولندة والاتحاد السوفييتي. هذا لا يعني أنه لم يكن هناك الكثير من المشجعين لتطوير النسل في بريطانيا، وكان الحزبان المحافظ والليبرالي على السواء مشجعين له، بما فيهم وينستون تشرشل، وقيلت العديد من الأقوال مثل: "إن حشود الأشخاص السوداء والسمراء والبيضاء الملطخة والصفراء يجب أن تغادر بلادنا"، وأيضا "إن إعطاء المساواة لهؤلاء الناس يعني أن نغرق إلى مستواهم، أن نحميهم ونباركهم معناه أن نقع في وحل توالدهم وخصبهم المتزايد"، وأيضًا قيل "قتل هؤلاء الناس سيكون باستخدام الأفيون"، وحتى هذا لم يحدث تمامًا، بل اتبعت وسائل أحيانا أكثر عنفًا.

كادت بريطانيا في بعض اللحظات أن تصدر قوانينًا كهذه خاصة عام 1913، و1934، وفي البدء كان يوجد رافضون، ولكن بتسلم وينستون تشرشل منصب السكرتير الأول، بدأت الأمور تتغير لصالح إصدار قوانين لمنع إنجاب المعاقين، بما فيها استعمال أشعة X والعمليات لتعقيمهم، ولكن وجدت دائمًا عدة أمور أعاقت تطبيقها، وفي النهاية كان الفضل للمهندس المعماري Josiah Wedgwood الذي ينتمي لعائلة صناعية كبيرة طالما تزوجت من عائلة داروين، وتشارلز داروين نفسه كان جده. كان جوزيا يقول إن مجتمع التطوير هذا يريد معاملة الطبقة العاملة كما لو كانت ماشية، وأن قوانين الوراثة بحدِّ ذاتها ليست بتلك الدقة الفائقة ليؤمن بها الشخص، فكيف يقوم بوضع قرارات مبنية عليها، وأكثر ما هاله ألا يسمع للمعاقين بالزواج والإنجاب وأن يحكم على من يتزوج منهم بالسجن.

أٌوقفت طبعًا هذه القوانين في معظم الدول، ولكن مثلاً في الولايات المتحدة، تقوم جمعية منع الأمراض الوراثية اليهودية بإجراء فحوص دم لأطفال المدارس اليهود، وتنصح بعدم زواج فردين يحملان المورثة المسؤولة عن مرض معين، ويكون في النهاية اختيار هذين الشخصين بالزواج أولاً. في الصين، يجرى الفحص الإجباري للأشخاص حول عدة أمراض وراثية قبل الزواج، ويُحتَّم الإسقاط في كثير من الحالات، حتى لو اعترض الأبوان، ويوافق على هذا القرار 90% من علماء الوراثة الصينيين، بينما يوافق عليه فقط 5% من علماء الوراثة الأميركيين الذين يعتقدون أن هذا يجب أن يكون قرار الأم، وطبعًا السبب اختلاف المجتمع بين الصيني الذي يضع مصلحة المجتمع قبل كل اعتبار، عن الغربي الذي يضع الحرية الفردية قبل كل اعتبار.

الكروموزوم 22: الإرادة الحرَّة

كان هذا الصبغي أول صبغي يقرأ من أوله لآخره، وكل الـ 11 مليون كلمة فيه قد قرئت ودوِّنت. قرب نهاية الذراع الطويل لهذا الصبغي تقع مورثة ضخمة ومعقدة تدعى AFW هي المسؤولة عن تكوين بروتين معقد، يعبِّر عن نفسه فقط قي قسم من القشر الدماغي ما قبل الجبهي، ويمكن القول بشكل مبسَّط أنه يزوِّد الجنس البشري بالإرادة الحرَّة. لقد وُجِد دائمًا في علم البيولوجيا علماء آمنوا بالقدرية الوراثية، وعلماء آخرون آمنوا بالإرادة الحرة، ولكن المشكلة تكمن أن هذا النوع الثاني من العلماء رفضوا القدرية الوراثية ليضعوا بدلاً منها، قدرية أخرى مثل تأثير التربية والإشراط الاجتماعي، ومن الغريب أن هؤلاء الكتَّاب الذين حاولوا الدفاع عن الكرامة الإنسانية ضد وحشية مورثاتنا، كانوا سعيدين بقبول وحشية ظروفنا العائلية والاجتماعية، فأن نقول إن سلوك الإنسان غير وراثي، وأن الأهل الذين يسيئون لأطفالهم، قد أسيء إليهم وهم أطفال، هو بحد ذاته كلام قدري، ويخلو من الإحساس ويضع قرارات مسبقة مجحفة بحق هؤلاء الناس.

إن الفكرة الشائعة بوجود فارق بين المبرمجات المحتِّمة الكالفينية لمورثاتنا، وبين المحيط حولنا الذي يحمل كل معاني الإرادة الحرة هي وهم، فواحدة من أقوى التأثيرات المحيطية على الشخصية والسلوك هي تلك الـ 9 أشهر التي يقضيها الإنسان في رحم أمه والمحتمة عليه، والتي لا يستطيع فعل أي شيء تجاهها، بينما على العكس تمامًا، قد تكون بعض الجينات المسؤولة عن القدرات الذهنية جينات مسؤولة عن الشهية، ونفس النتيجة قد تحدث إذا تنعَّم الشخص بوجود أستاذ فذٍّ، فطبيعة الشخص الوراثية قد تكون أحيانًا أكثر مرونة من المحيط حوله.

رسم الكاتب الفذُّ Aldous Huxley في العشرينات من القرن الماضي في كتابه Brave new World عالم جديد شجاع صورة عالم مثالي مُوَحَّد، يقوم فيه كل شخص بدوره المطلوب منه بكل رضى وسعادة ويتمتع بما يقدم له المجتمع، ولكن هذا العالم الجديد الشجاع بنفس الوقت جهنمًا للفردية الإنسانية، حيث يسيطر على كل شيء يقوم به الإنسان من قبل جهة مركزية، وتلغى الفروق الجميلة بين المجتمعات والثقافات والأديان، بمعنى حدوث عولمة مفروضة. هذه الجهنم بيئية وليست وراثية. هل يمكننا القول أيهما أسوأ؟ القدريون الوراثيون المتطرفون الذين حكموا ألمانيا في الثلاثينات، أم القدريون البيئيون المتطرفون الذين حكموا روسيا في نفس الوقت والذين في طريقهم لحكم الولايات المتحدة حاليًا؟ أو القدريون البيئيون الدينيون الذين حكموا أوروبا في القرون الوسطى وعادوا حاليًا؟ كل ما يمكننا قوله إن كلا الاتجاهين مريع. الشيء الآخر أنه يوجد دلائل أخرى على أن فكرة التأثير الأبوي والاجتماعي قد تكون خاطئة في كثير من الأحيان؛ فلقد تبين أن أولاد الأهل المسيئين لأولادهم Abusive parents يصبحون أيضًا مسيئين لأولادهم، حتى وإن رُبّوا في عائلات وأجواء أخرى، بينما الأولاد المتبنُّون من قبل أهل مسيئين لا يصبحون مسيئين. نفس النتائج وجدت في الدانمارك حول المجرمين، فلقد وُجِد علاقة بين السجل الإجرامي للأولاد مع الأهل البيولوجيين وليس الأهل المربِّين، وهذا ينطبق على الكحولية والبدانة ونسبة الطلاق... إلخ.

أظهرت دراسات حديثة أن الأولاد يؤثرون على أهلهم بشكل بيئي غير وراثي، أكثر مما يؤثِّر الأهل على الأولاد. ظلت لفترة طويلة الفكرة القائلة بأن الأولاد اللواطيين Homosexuals يكونون هكذا بسبب آبائهم البعيدين الذين لا يشاركون نهائيًا بتربيتهم ورعايتهم، وتكون الأمهات بالمقابل شديدات الرعاية والاعتناء، ولكن تبين العكس، فمن الممكن أن الأب الذي يشعر بأن ابنه غريب الطبع ومتماثل الجنس يبتعد عنه، وتستغيض الأم بالرعاية الزائدة. نفس الشيء قيل عن الأولاد التوحديين Autistic Children بأن أمهاتهم منعزلات وباردات، ولكن قد يكون أن الأم بعد محاولات جاهدة من التقرب من الطفل وسنوات من المرارة، تستسلم وتفقد المحاولات. هذا لا يعني عدم أهمية البيئة والمحيط، بل ربما ما تزال أكثر أهمية من المورثات في موضوع السلوك والتصرف، ولكن للوراثة أيضًا أهمية كبيرة.

في النهاية القدرية لا تعني الانتهائية والموت، فعلى سبيل المثال افترض أنك مريض، ولكن لا تريد الاتصال بالطبيب لأن هذا لن يفيد، إما لأنك ستشفى بكل الأحوال، أو أنك لن تشفى أبدًا. في الحالتين، الطبيب لا يلعب دورًا، ولكن هذا يلغي احتمال أن شفاءك أو عدم شفائك، قد يتسبب من محاولتك أو عدم محاولتك الاتصال، فهذا يعني أن القدرية لا تحدِّد ما يمكن أو لا يمكن فعله، بل تعني الرجوع إلى أسباب الحالة الحالية وليس لنتائجها. طالما تصارعت الأديان مع هذه المفاهيم، فالله سبحانه تعالى لا يقبل تعريفًا بالإرادة الحرة للإنسان، وإلا لن يكون كامل القدرة، ولكن بنفس الوقت، لا يمكن أن نحاسب الإنسان على أفعاله إذا لم يكن له إرادة حرَّة، فبدون إرادة حرة تصبح الخطيئة خدعة وجهنم ظلم من إله عادل، ومعظم الديانات حاليًا تؤمن بأن الله سبحانه تعالى زرع الإرادة الحرَّة فينا، وعلينا مسؤولية أن نعيشها بصدق أو خطيئة. يعتقد بعض العلماء البيولوجيين التطوريين أن الإيمان الديني تعبير عن حدس إنساني كوني، وأنه بطريقة معينة يوجد لدينا جينات للإيمان بالله، وأن أخلاقنا ومثالياتنا تعبير عن غرائزنا، وقد وجد علماء الأعصاب أن بعض الأقسام من الفصين الصدغيين للدماغ أكبر، وبعض الجزيئات الكيماوية أغزر عند الممارسين دينيًا.

اعتقد Charles Darwin أن الإرادة الحرة وهم بحدِّ ذاته سببه عدم قدرتنا على تحليل دوافعنا الحقيقية، وقال Robert Trivers – وهو من الداروينيين الجدد - إن خداع أنفسنا في أمور كهذه هو بحد ذاته تكيف متطور، ويقول Pinker إن الإرادة الحرة هي طريقة مثالية ابتدعها الإنسان من أجل جعل لعبة المثاليات والأخلاق قابلة للعب. يقول الفيلسوف Tony Ingram بأن الإرادة الحرَّة هي شيء نفترض وجوده عند الآخرين. لنتذكر أنه في حديثنا عن الكروموزوم 10، قلت كيف أن استجابة التوتر النفسي تأتي من تعبير مورثات معينة نتيجة الظروف المحيطة وليس العكس. إذا كانت الجينات تؤثر على السلوك والسلوك يؤثر على الجينات، فالسببية هنا دائرية، وفي مثل هذه الأنظمة الدائرية، تحدث نتائج غير متوقعة أبدًا من خلال مناهج قدرية بسيطة، وهذا ما يدخل ضمن نظرية الشواش Chaos Theory والتي سبق علماء الفيزياء فيها علماء الوراثة بزمن طويل، فبعكس الفيزياء الكوانتية لا تستند على الصدفة، فالأنظمة الشواشية قدرية وليست عشوائية، ولكنها تستند على أنه حتى لو عرفنا كل العوامل القدرية في نظام معين، لن يكون بإمكاننا معرفة خطِّ السير بسبب الطرق المختلفة التي تتعامل فيها العوامل مع بعضها؛ وحتى الأنظمة القدرية البسيطة تتصرف شواشيًا بسبب مبدأ الانعكاسية، حيث يؤثر فعل معين على الظروف البدئية أصلاً للفعل الآخر، وهنا تصبح نتائج صغيرة أسبابًا كبيرة.

السلوك الإنساني يشبه ما يحدث في الأنظمة الشواشية، فالتوترالنفسي يؤثر على تعبير المورثات والتي تؤثر بدورها على الاستجابة للتوتر النفسي، فالسلوك الإنساني غير قابل للتنبؤ على المدى القصير، ولكنه قابل للتنبؤ على المدى البعيد، فقد أختار ألا آكل في وقت معين، ولكن على الأغلب سآكل خلال يوم كامل، فوقت طعامي يعتمد على أمور كثيرة: جوعي المحدَّد جزئيًا من مورثاتي وجزئيًا من جهدي وتعبي، الطقس، دعوة شخص على الغداء، عملي... إلخ. لا يمكننا الهرب من القدرية، لكن يمكننا التمييز بين قدرية جيدة وقدرية سيئة، قدرية حرَّة وقدرية تابعة لغيرنا وظروفنا، قدرية أختارها أنا وقدرية يختارها غيري لي، فالحرية في النهاية هي التعبير عن قدرية أنفسنا وليس قدرية غيرنا. ليست القدرية هي التي تصنع الفرق، بل ملكية هذه القدرية. إذا كانت الحرية هي ما تريد، فالأفضل أن تصنع من عوامل تنبع من أنفسنا وليس من الآخرين.

المقالة مستقاة بشكل رئيسي من كتاب Genome: Matt Ridley.

*** *** ***

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني