الصفحة التالية

الإنسان والمرض 1

المرض، القطبية، التكامل

إعداد: نزار محمد شديد

 

كل ما في الوجود كائن في باطنك [أيها الإنسان]، وكل ما في باطنك موجود في الوجود.

– جبران خليل جبران

 

الإنسان والمرض، المرض والإنسان – متلازمة عرفناها كبشر منذ الأزل – حتى إنه يحلو لبعضنا أن يصف الإنسان بـ"الكائن الذي يمرض"! فالإنسان والمرض متلازمان. ولكن ما سر هذا التلازم؟ ما هي فلسفته؟ وما هي حكمته؟ ما هي الأفكار المنطقية التي يمكن لنا أن نهتدي بها ونحن نقرع هذا الباب في محاولة لإدراك كنه هذا السر، هذه الفلسفة، هذه الحكمة؟ يحضرني هنا قولٌ لأحد الفلاسفة:

الإنسان، بوصفه العالم الأصغر، هو صورة مختصرة للكون، تنطوي على مبادئ الوجود بأكملها كامنةً في وعيه.

ومادام المرض ملازمًا للإنسان، الذي هو "الكون الأصغر" والذي في باطنه يكمن كل ما في الوجود (جبران)، فإن الأمر، كما أرى، يستدعي منا المزيد من التفكر والبحث والتأمل. ولهذا عملت على جمع هذه الأفكار، من مراجع عدة[1]، ليضعها كلٌّ منا تحت مجهره الخاص، فتكون قابلةً للتفكر وللقياس، لعلَّها أن تساعدنا على تفتيح مداركنا لتفسير بعض ما يشغل عقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا – ولاسيما حيال ظاهرة المرض.

دعونا، بادئ ذي بدء، نتفكر في العبارات التالية التي تمثل، في رأيي، إناءً يتسع للكثير من الأفكار التي أرجو أن تساعدنا على تعلم فنِّ الكيفية التي تيسِّر تفتُّح نفوسنا وعقولنا:

كل ما في الوجود كائن في باطنك، وكل ما في باطنك موجود في الوجود. ليس هناك من حدٍّ فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها. ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة. – جبران خليل جبران

أجمل شيء في وسعنا أن نختبره هو السر المبهم. إنه منبع كلِّ فنٍّ وعلم حقيقيين. فمَن يستغرب هذا الانفعال، مَن لم يعد يقدر أن يتوقف مذهولاً ويقف منخطف الرَّوْع، فكأنه ميت: عيناه مغمضتان. – ألبرت أينشتاين

عرفت الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الحقَّ والظلم، أَدَنتُ وأُدِنتُ، عبرتُ الولادة والموت، الهناء والشقاء، النعيم والجحيم – وفي النهاية عرفت أنني في كلِّ شيء، وأن كلَّ شيء فيَّ. – حضرة عناية خان

هاكم سلسلة أخرى من العبارات، مستقاة من مصادر متنوعة، نتركها للتأمل الهادئ:

لا يوجد في هذا العالم شيء غير مشروع. ولكن ثمة الكثير مما لم يتمكن الإنسان بعدُ من رؤية مشروعيته. إن كلَّ الجهود التي يبذلها الإنسان واعيًا لا تخدم في الواقع سوى قصد واحد هو: تعلُّم رؤية العلائق والترابطات رؤيةً أفضل. وهذا ما ندعوه بازدياد الوعي، ولكن ليس بمعنى تغيير الأشياء؛ إذ لا يوجد شيء للتغيير والإصلاح ماعدا طريقة الرؤية الخاصة.

*

الحقيقة ديناميَّة غير ساكنة – وهذا هو أساس التطور: فعلينا أن نتجاوز الحقائق الدنيا عندما نصل إلى حقائق أرقى من سابقاتها.

*

عندما يكف البشر عن تفسير الأحداث في العالم يغرق وجودُهم في العبث. ولكي يستطيع المرء تفسير شيء ما يحتاج إلى إطار مرجعيٍّ أرقى من المستوى الذي يتجلَّى فيه الشيءُ المراد تفسيره.

*

الإنسان خاطئ وآثم، ما في ذلك ريب. لكن هذا الإثم حصرًا يميِّزه – ذلك أنه عربون حريته. ومن المهم جدًّا أن يتعلم الإنسان تقبُّل إثمه دون أن ينوء تحت وزره، ودون أن ينهك رأسه بالتفكير في ما هو غير مهمٍّ على الإطلاق. لا يهم إطلاقًا ماذا يفعل الإنسان، إنما كيف يفعل ما يقوم بفعله.

*

كل خداعات هذا العالم بسيطة وبريئة إذا ما قيست إلى ما يقوم به الإنسان من كذب على نفسه طوال حياته. لذا يُعَد الصدق مع النفس من أقسى الاستحقاقات التي يمكن أن تواجه الإنسان. ولذلك تُذكَر معرفةُ النفس منذ القِدَم بوصفها أعظم المهمات وأصعبها.

*

يعتقد صغارُ الأطفال أن بإمكان المرء جعلَ نفسه غير مرئيٍّ بمجرد إغماض عينيه. كذلك يعتقد البشر أن في وسع المرء التخلص من نصف الحقيقة بمجرد عدم النظر إليها في داخله.

*

ما نحبه أو نكرهه في شخص آخر هو في النهاية موجود دائمًا فينا نحن. ندعو الأمر كرهًا عندما يعكس أحدُهم طبقةً عميقة جدًّا من ظلِّنا لا نزال نرفض مواجهتَها في نفسنا رفضًا قاطعًا.

*

الموت يهدد دائمًا الأنا فقط، لا الإنسان ذاته. مَن يتمسك بالأنا يعيش الموت وكأنه صراع ولا يختبر أية متعة في الحياة.

*

الحياة عبارة عن طريق خيبات الأمل. مافتئ الإنسان ينتزع وهمًا إثر آخر حتى يستطيع أن يطيق الحقيقة.

*

التطور هو التكرار الواعي لنموذج قائم دائمًا. وكل قاعدة في الحياة تتجاوز نفسها في وقت من الأوقات وتوجِد ضرورةَ التغيير. القاعدة عند الرضيع هي أن يتغوط في قماطه، وبالتالي تصح عليه رضيعًا، وليست كذلك حين يكبر. ويُعَد إدراكُ ضرورة التغيير في الوقت المناسب أحد الصعوبات في الحياة البشرية.

*

اللغة وسيلة رائعة لمعرفة العلاقات الأعمق وغير المرئية واختيارها. فهي تتصف بحكمة خاصة بها، لا تكشف سرَّها إلا لمن يتعلم فنَّ الإصغاء إليها. يجب علينا أن نتعلم الإحساس بكلِّ كلمة وإدراكها على مستوياتها كافة في وقت واحد.

*

المعرفة في حاجة دومًا إلى الفصل بين الذات وبين الموضوع. ويجب أن نعلم أنه من أجل كلِّ خبرة وكلِّ خطوة وعي يحتاج الإنسان إلى المرور عن طريق جسديَّته.

*

إن عالم وعينا النهاري وهمٌ وحلم، مثله كمثل حلمنا الليلي سواء بسواء – ولا وجود لكلا العالمين إلا في وعينا.

*

لا يستطيع الصراع تحرير نفسه بنفسه، بل يجب عليه الانتظار إلى أن تنتشله الوقائعُ الخارجية التي تفتح للمشكلة اللاواعية قناةً تفصح عِبْرها عن نفسها.

*

يجب أن ندرك أن كلَّ كلِّية نحس بها أو نعرفها هي جزء من كلِّية أكبر، مؤلَّفة في الوقت نفسه من العديد من الكلِّيات، وأن كلَّ منظومة قادرة، في الأحوال العادية، على احتمال خروج قلة قليلة من أعضائها عن النظام دون أن يتعرض الكل للخطر. بيد أن ثمة قيمة حدِّية يتعرض وجودُ الكلِّ للخطر عند تجاوُزها.

*

كل نية في تغيير شيء ما لا تسفر سوى عن الأثر العكسي. فالنية في الدخول في النوم سريعًا هي أضمن طريقة للحيلولة دون النوم، في حين يخيم النوم من تلقاء ذاته عند فقدان النية.

*

يمكن الاستيقان من مدى صحة تفسير ما وصدقه من شدة الدهشة والذهول اللذين ينتاباننا عند سماعه. فالقاعدة تقول: عندما تصح معلومةٌ ما فإنها تثير الدهشة والذهول!

*

وقاعدة أخرى تقول: كل فعل إدراك حسيٍّ يمكن إرجاعُه إلى معلومة تتأتى من تغيير يطرأ على اهتزازات الجزيئات.

*

تقويض الأوهام ليس يسيرًا ولا لطيفًا، ولكنه يهب دومًا فسحةً جديدة من الحرية.

*

المرض والموت يبدِّدان أوهام العظمة عند الإنسان ويصحِّحان أفكاره المسبقة.

*

لا بدَّ للمرء من أن يغدو قابلاً للجَرح من جديد كي يتمكن من معايشة ما هو رائع وبديع.

*

صيرورة الوعي غايةُ وجودنا، والكون بأسره في خدمة هذه الغاية فقط.

***

 

سيأتي زمنٌ ينجز فيه العلمُ تقدمًا هائلاً، ليس بسبب تحسين الأدوات المساعِدة على الاكتشاف وقياس الأشياء، بل بسبب وجود أشخاص قليلين يسيطرون على قوى روحية كبيرة هي في الوقت الحاضر نادرًا ما تكون مستخدَمة. في غضون عدة قرون، سيتطور فن الشفاء الروحي تطورًا متزايدًا وسيتم استخدامه على مستوى كوني.

– غوستاف سترومبرغ

 

ما الجسم؟ ما المرض؟ ما أعراض المرض؟ ما الشفاء؟

الجسم الحي يدين بوظيفته لجهتين غير ماديتين، غالبًا ما نسميهما بـ"الوعي" (النفس) و"الحياة" (الروح)، حيث يمثل الوعيُ المعلومات التي تتجلَّى في الجسم وتنتقل فيه إلى حيِّز الظهور. وبما أن الوعي يمثل كيفية مستقلة غير مادية، فهو بالطبع ليس نتاج الجسم ولا هو متعلق بوجوده أو متوقف عليه.

ويمتلك الإنسان مركزين: القلب والدماغ، الشعور والتفكير. ويُعَد الرأسُ أكثر الأعضاء ارتكاسًا للألم؛ ويبيِّن الألمُ الذي ينتابه أن تفكيرنا خاطئ، أننا نوظف تفكيرنا توظيفًا خاطئًا، وأنه عندما تتعاون الوظائف الجسمانية المتنوعة لتقوم بأدائها الجمعي أداءً محددًا ينشأ نموذجٌ نشعر أنه متناغم، ولذلك ندعوه بـ"الصحة". أما إذا انحرفت إحدى الوظائف، فإنها تُخِل بمجمل هذا التناغم، كثيرًا أو قليلاً، ويدور الحديث عندئذٍ عن "المرض".

والمرض، شأنه شأن الموت، متأصل في عمق الوجود البشري (البوذية)، ولا يمكن القضاء عليه ببضع حيل وظيفية لا حول لها ولا قوة. فالمرض إحدى حالات الإنسان التي تنبِّهه إلى أنه في وعيه لم يعد على ما يرام أو أنه فقد التناغم: العَرَض المرضي symptom ينبِّهني إلى أنني كإنسان، ككائن نفسي، مريض؛ أي أنني خرجت عن توازن القوى النفسية الداخلية. وبذلك ليس للمرض من هدف سوى جعلنا أصحاء!

المرض أكثر من مجرد خلل وظيفي في الطبيعة: فهو جزء من نظام شامل يخدم التطور. ولا يمكن تخليص الإنسان من حالة المرض بإطلاق لأن الصحة تحتاج إليها كقطب مضاد. يمرض الإنسان لأنه يفتقر إلى الوحدة. فلا وجود للإنسان السليم الذي لا ينقصه شيء – اللهم إلا في كتب التشريح!

المرض دومًا أزمة؛ وكل أزمة في تطور، وكل محاولة للعودة ثانيةً إلى حالة ما قبل المرض محاولة ساذجة. فالمرض يريد أن يمضي بنا إلى ضفاف جديدة، مجهولة، غير معاشة. وفقط عندما نلبي نداءه تلبيةً واعية وطوعية فإننا نضفي على الأزمة مغزى.

المرض يجعل الإنسان صادقًا. ففي أعراض المرض نعيش في وضوح وفي شكل مرئي ما نريد أن نكبته ونخفيه. ونحن نتحمل بأنفسنا دائمًا مسؤولية كل ما يصيبنا في حياتنا. ولا استثناء في هذا: عندما يعاني أحدنا فهو لا يعاني دائمًا إلا من نفسه. كل منا هو الفاعل والضحية في شخص واحد. ومادام الإنسان لم يكتشف كلا الأمرين في نفسه يتعذر شفاؤه. من هنا يجب علينا أن نتذكر أن من الصعوبة بمكان شفاء شخص فقد الرغبة في الحياة (أي صار يعتبر نفسه ضحية)، وأن من السهولة بمكان معالجة مَن يكافح من أجل الحياة، لأن نضال العقل يتغلب على المادة دائمًا.

كل مَن يعاني آلامًا ينبغي عليه دائمًا أن يراجع نفسه ويفكر فيمَن المقصود بها في الواقع. ومَن يتعلم فهمَ المرض بوصفه طريقًا إلى الوعي ينفتح له عالمٌ جديد من الاستشراف والبصيرة.

فالمرض فرصة الإنسان الكبرى – خيره الأثمن: هو المعلم والدليل الشخصي على طريق العافية والسلامة. ولا بدَّ للإنسان من أن يكف عن "محاربة" المرض، وأن يتعلم، بدلاً من ذلك، كيف يصغي ويرى ما يريد المرضُ أن يقوله له. يجب على المريض أن ينصت إلى دخيلة نفسه وأن يتواصل مع أعراضه إن هو أراد سماع رسالتها. فالشفاء يقترن دومًا بتوسيع في الوعي.

الهم والرجاء يجب أن ينصبَّا على طريقة محددة للرؤية والتفكير تمكِّننا من رؤية المرض رؤيةً مختلفة عما ألفناه حتى الآن. والحال هنا شبيهة بِمَن يريد تفسير أحلامه: ينبغي عليه أن يستعمل كتابًا لتفسير الأحلام ليتعلم كيفية التفسير، لا ليبحث عن أحلامه فيه!

لدى أعراضنا المَرَضية الكثير لتقوله لنا؛ إنها أكثر وأهم من النظرة التي نوليها للمرض نفسه. العَرَض صديق حميم، ينتمي إلينا انتماءً كاملاً؛ وهو الوحيد الذي يعرفنا حق المعرفة، حيث إننا، إذا أصغينا إليه وتَواصلنا معه، صار معلمًا مرشدًا نزيهًا على طريق الشفاء الحقيقي بإخباره إيانا عما ينقصنا في الواقع.

الأعراض المَرَضية لا تحل المشكلة على المستوى الجسماني، بل توفر للجسم شرطَ التعلم كخطوة أولى. فكل حدث جسماني يُكسِب خبرة؛ ولكن ليس بالإمكان التكهن، في الحالة المفردة، بمدى بلوغ هذه الخبرة إلى الوعي.

أعراض المرض تشفي الإنسان وتجعله سليمًا، وذلك بتحقيقها على مستوى الجسم ما هو ناقص على صعيد الوعي. لذا يجب أن نتعلم كيف نقف إلى جانب "ظلِّنا" (يونغ) ونصادِق لاوعينا: من هنا ضرورة الوقوف في صف الظلِّ دومًا، ومساعدته على التكشف والظهور، وعدم محاربة المرض وأعراضه، بل استخدامها والاستفادة منها كمحور للشفاء. ولا يزول العَرَض المرضي قبل أن يغدو وجودُه وعدمه سيان عند المريض.

كلما ازداد تعمق المرء في الصور المَرَضية ومشكلات الإنسان اتضح له أكثر أن الحياة البشرية تتأرجح بين قطبي الجذب والنبذ، الإثبات والنفي. وكثيرًا ما ندعو الأول بالحب والثاني، في صورته النهائية، بالموت. أما الحياة فتعني ممارسة كلٍّ من الجذب والنبذ ممارسةً إيقاعية.

الشفاء يعني دائمًا اقترابًا من السلامة، اقترابًا من الوعي الكلِّي. إن طريق الإنسان هو طريق من الويلات إلى السلامة – من المرض إلى الشفاء والقدسية – لأن الشفاء يحدث عن طريق ضمِّ ما هو ناقص؛ وبالتالي، فهو غير ممكن دون توسيع في الوعي.

ما الأنا؟ ما الذات؟ ما الظل؟ ما اللاوعي؟

معرفة النفس، بحسب كارل يونغ، تعني اكتشاف الذات Self، وليس الأنا ego. إذ إن الذات تشمل كلَّ شيء، بينما تحُول الأنا باستمرار، من جراء وضعها للحدود، دون التعرف إلى الكل، إلى الذات الكلِّية. المغالاة في تقدير قوى الأنا وسيادة الإرادة تفصلاننا عن مجرى الحياة العفوي. ولكن مَن يسعى إلى الصدق مع نفسه يمكن أن يتحول المرضُ عنده إلى وسيلة رائعة تُعينه في طريقه.

كارل غ. يونغ (1875-1961): أول عالِم نفس معاصر جعل من التحليل النفسي وسيلة لبلوغ كلِّية النفس – الذات.

يتمتع الإنسان بوجود مستقل عن الزمن، ولكن يجب عليه أن يحقِّقه ويعيه في سياق الزمن. ويُدعى نموذجه الداخلي هذا بـ"الذات". وطريق حياة الإنسان هو الطريق إلى هذه الذات التي هي رمز إلى الكلِّية. فالإنسان في حاجة إلى الزمن لتحقيق ما هو موجود دائمًا.

يود البشر دائمًا تغيير الأشياء، لذا يصعب عليهم إدراكُ أن الشيء الوحيد المطلوب من الإنسان هو القدرة على النظر. فالغاية الأسمى للإنسان تنحصر في القدرة على النظر إلى شيء ومعرفة أنه صالح وخيِّر كما هو. ومادام الإنسان يرى أن شيئًا ما في حاجة إلى التغيير، فهو لم يبلغ معرفة النفس بعد. وعندما يهتدي الإنسان في داخله إلى قانونه الخاص، يعفيه هذا من القوانين الأخرى كلِّها. والقانون الداخلي لكلِّ إنسان هو الالتزام بإيجاد مركزه الحقيقي – ذاته – ومن ثم تحقيقه، أي التوحد مع كلِّ ما هو كائن. وتدعى أداة توحيد الأضداد هذه بالمحبة. ومبدأ المحبة هو الانفتاح والسماح بدخول ما كان حتى ذلك الحين في الخارج.

كلما زادت الأنا من تحديد نفسها تقوقعتْ وتفاقم فقدانُها للشعور بالكلِّ الذي تمثل هي نفسها دائمًا مجرد جزء منه. فبمقدار ما تتقوقع الأنا يفقد الإنسانُ الصلةَ والارتباطَ الراجع بالعلَّة الأولى للوجود. ولا تخشى الأنا إلا التوحد مع الكل؛ إذ إن هذا التوحد يشترط موتَها. فالوحدة لا يمكن بلوغُها إلا إذا ضحَّى المرء بالأنا.

الإنسان لا يكره أحدًا كما يكره نفسه. محبة النفس/الذات واحدة من أصعب مهمات الحياة؛ وكل مَن يظن أنه يستمرئ نفسه ويحبها تلتبس عليه ذاتُه بأناه الصغرى. ولأننا لا نحب أنفسنا ككل، بما فيها ظلنا، نحاول باستمرار تغيير صورتنا الخارجية وتشكيلها من جديد.

الظل Shadow هو مجموع مجالات الحقيقة المرفوضة التي لا يراها الإنسان في ذاته، أو لا يريد رؤيتها – لذا تكون غير موعية في نظره. وهو الخطر الأكبر على الإنسان لأنه كامن فيه دون أن يعرفه. فإذا رفض الإنسان مبدأ معينًا في داخله وكَبَتَه، فإن هذا المبدأ يثير فيه القلق والرفض مرارًا وتكرارًا عندما يواجهه ثانية فيما يسمَّى بـ"العالم الخارجي". لذلك ينشغل الإنسان في الغالب بما لا يريد، وبذلك يقترب من المبدأ المرفوض إلى درجة أنه يعيشه شخصيًّا في نهاية المطاف. فرفض مبدأ ما كفيل بجعل الإنسان المعني يعيش هذا المبدأ شخصيًّا، بحيث لا يمكن أن تضايق إنسانًا ما وتقلقه في الخارج سوى المبادئ التي لم يستدمجها في نفسه. فمَن يعيش في هذا العالم، جاهلاً أن كلَّ ما يدركه ويعيشه هو جزء من ذاته، فإنه يغرق في الخداع والوهم. فلا بدَّ لنا من الاستيقاظ أولاً كي نستطيع التعرف على الحلم بوصفه كذلك.

لوحة للرسام مولسكين مستوحاة من حلم رأى فيه يونغ "ظله": "لا نور بلا ظل، ولا كلِّية نفسية بلا نقص."

الظل، في وهمنا، عبارة عن مجموع ما نحن على يقين من وجوب القضاء عليه لنصير "أخيارًا" و"بررة"؛ بينما الأمر، في الواقع، على العكس من ذلك: فالظل يتضمن كلَّ ما ينقص العالم كي يغدو سليمًا. الظل يُمرِضنا، أي أنه يجعلنا غير سليمين لأنه يعوزنا من أجل سلامتنا. فالظل يُمرِض، وتقبُّل الظل يشفي – ذلك هو مفتاح فهم المرض والشفاء.

مخطط يمثل إسقاط بُعدَي "الظل": الشخصي (المكروه)، في علاقته بالأنا والإدراك، والجمعي (النمطي البدئي).

كل ما يعيشه المريض في الخارج عبارة عن إسقاطات لظلِّه. والسلوك النفسي ذاته هو التحقيق القسري للظلِّ غير المعاش. فمَن يعاني من الأرق واضطرابات الدخول في النوم، مثلاً، هو مَن يخاف التخلِّي عن رقابته الواعية والوثوق باللاوعي. لذا ينبغي عليه أن يتعلم أن يختم نهاره ويُنهيه نهايةً واعية كي يتمكن من الاستسلام كليًّا للَّيل ولقوانينه (ومن هنا تُعَد المصالحة مع الجانب الليلي من الحياة وسيلة منوِّمة مضمونة). ومَن يصعب عليه الاستيقاظ والنهوض، على الرغم من القسط الوافي من النوم الذي ناله، ينبغي عليه النظر إلى خوفه من استحقاقات النهار، من الفاعلية والإنجاز: مَن يستصعب الدخول إلى الوعي النهاري يهرب إلى عالم الأحلام ولاوعي الطفولة، ولا يريد لاستحقاقات الحياة ومسؤولياتها أن تُثقِل عليه.

والهلوسة وما يسمَّى بالأمراض الذهنية ليست أقل أو أكثر واقعية من أيِّ إدراك آخر. الفارق هو أنها تفتقر إلى استحسان الجماعة! والمريض النفسي يعمل تبعًا للقوانين النفسانية ذاتها، مثله كمثل أيِّ إنسان آخر. ولكن إذا سُدَّتِ الأقنيةُ وأُغلِقَتْ جميع المجالات الممكنة بإحكام تام فلا بدَّ أن يحصل انتقالٌ للسيادة، بحيث يتولَّى الظل زمام السيطرة على الشخصية بكاملها. وهنا غالبًا ما يقوم الظل – بإحكام تامٍّ أيضًا – بقمع الجزء من الوعي الذي كان مسيطرًا حتى الآن، ليستدرك بكلِّ قوة كلَّ ما لم يتجرأ الجزءُ الآخر من الإنسان على عيشه حتى الآن. وهكذا ينقلب الأشخاص الفاضلون والوعاظ إلى إباحيين فاحشين، والأشخاص الخوافون الوديعون إلى وحوش كاسرة، والخائبون الخجلون إلى مجانين عظمة!

المرض النفسي يجعل المرء صادقًا أيضًا؛ إذ يستدرك كلَّ ما فاته حتى الآن بقوة واستبداد يبعثان القلق في العالم المحيط، حيث يعيش الإنسان ظلَّه ويثير الجنون في نفوس المتفرجين، لأنه يذكِّرهم بظلِّهم الخاص. فمبدأ كبت الظلِّ يقود مباشرة إلى انفجار الظلِّ "العنيف"، وقمعُه من جديد يرجئ المشكلة، ولكنه لا يحلها أو يتخلص منها.

مشكلة الإنسان تكمن دائمًا في ظلِّه. لذا فإن لقاء الظلِّ وتمثُّله تدريجيًّا هو الموضوع المركزي للعلاج التحليلي اليونغي. فالحوار مع الظل ليس سهلاً، لكنه الطريق الوحيد الذي يقود في نهاية المطاف إلى الشفاء، لأن معايشة الحقائق النفسية العميقة لا يمكن نقلها بالكلمات. نحن نعالج ظلَّنا دائمًا في جميع النشاطات والاحتكاكات. ولا تثمر عن شراكة حقيقية إلا الاحتكاكات والتوترات؛ إذ لا يقترب المرء من نفسه إلا عن طريق معالجة ظلِّه عند الآخر[2].

ما القطبية؟ وما التكامل؟

تنشطر الوحدة في الوعي البشري قطبيًّا. والقطبان يكمِّل أحدُهما الآخر؛ وبالتالي يحتاج كلٌّ منهما في وجوده إلى قطبه المقابل. والميزة التي تقدمها لنا القطبية polarity هي القدرة على المعرفة، التي هي غير ممكنة لولاها. وغاية "الوعي القطبي" هو التغلب على حالة عدم السلامة التي يعاني منها الوعي، المشروطة بالزمن، وأن يغدو ثانية صحيحًا ومتكاملاً، حيث في نطاق القطبية لا وجود لخير مطلق أو لشرٍّ مطلق، لا وجود لصواب مطلق أو لخطأ مطلق: فكل تقييم يتعلق بوجهة نظر الناظر؛ ولذا فهو صحيح دائمًا في نظره. وثنائية الأضداد التي لا تعرف المهادنة، مثل الصواب والخطأ، لا تُخرِجنا من القطبية، بل تزيدنا غرقًا فيها.

ليس بين الخير والشر، في مفهوم القطبية، أي تناقض؛ إذ إن كلاً منهما يتأسَّس على الآخر. فالخير والشر وجهان للوحدة ذاتها؛ لذا يتوقف وجود كلٍّ منهما على وجود الآخر. فمَن يغذي الخير عامِدًا يغذي الشرَّ أيضًا دون أن يدري!

كل قطب يعيش من وجود القطب المضاد له، لأننا إذا قبضنا على أحد الطورين، يختفي الطور الآخر أيضًا. كذا هو التنفس: فهو إيقاع؛ والإيقاع أساس كلِّ حياة. كل محاولة للتمسك بأحد القطبين دون الآخر تقود إلى الركود وإلى الموت. أما الثابت اللامتغير والكائن أبدًا فنجده فيما يتعدى القطبية: الطاو.

دائرة الطَيْ جي الطاوية: رمز نموذجي إلى تكامل القطبين في النفس الإنسانية.

يغدو البشر بصيرين عِبْر القطبية ومن خلال إمكانهم التمييز بين الخير والشر. وبهذه الخطوة يخسرون وحدة الوعي الكوني ويظفرون بالقطبية (القدرة على المعرفة). وهكذا يجب عليهم مغادرة الفردوس – جنة الوحدة – ليهووا إلى العالم القطبي للأشكال المادية. هذا الموضوع المركزي للبشرية عرفتْه الشعوبُ كلها في جميع العصور، وصاغتْه في صور متشابهة. وتنحصر خطيئةُ الإنسان في الخروج عن الوحدة. فجميع الأديان، مثلاً، لم تقم بأية محاولة لتحويل هذا العالم إلى فردوس، إنما علَّمت السبيل الذي يقود من هذا العالم المتكثر إلى الوحدة. كل فلسفة حقيقية (الطاوية مثلاً) تعلِّم أنه ليس في مكنة المرء في عالم قطبيٍّ تحقيقُ أحد القطبين فقط، بل يجب على كلِّ إنسان في هذا العالم أن يوازن كلَّ هناء بالقدر نفسه من الشقاء. إن كلَّ استخدام وظيفي نفعي للإمكانات البشرية فيه شيء "شيطاني" دومًا؛ إذ إن هذا الاستخدام يقيِّد الطاقة إلى القطبية، حائلاً دون التكامل الداخلي. والصراع الذي غالبًا ما يُستشهَد به بين قوى النور وقوى الظلام ليس صراعًا حقيقيًّا؛ إذ إن الخاتمة معروفة دومًا: الظلام لا يمكن له النيل من النور، ولكن النور يحوِّل الظلامَ إلى نور. لذلك يضطر الظلام إلى تحاشي النور إنْ هو أراد لوجوده ألا ينكشف!

رسالة الموت تقول لنا دائمًا: تخلَّصْ من وهم الزمن، تخلَّصْ من وهم الأنا. فالموت عَرَض، لأنه تعبير عن القطبية، وهو قابل للشفاء، شأنه شأن كلِّ عَرَض، عن طريق التكامل.

كلما قلَّ التمييز وقلَّ، بالتالي، الانغماس في القطبية، انخفض الاستعداد للمرض؛ في حين كلما كان الكائن الحي أكثر تطورًا في سلَّم الأحياء، أي أكثر تورطًا في القطبية، وبالتالي، في القدرة على المعرفة، كان أكثر استعدادًا للمرض. وبما أن الإنسان يمثل أرقى أشكال القدرة على المعرفة تطورًا فهو الكائن الأشد معايشةً لتوتر القطبية، في النفس كما في الجسم؛ ووفقًا لذلك، يجد المرض أيضًا أقصى معانيه في مجال الإنسان.

لا تتوحد الأضداد من تلقاء نفسها. لذا لا بدَّ لنا من أن نعيشها في صورة فاعلة لكي نستدمجها فينا. فإذا استدمجنا كلا القطبين، يكون من الممكن عندئذٍ إيجاد التوازن والشروع، انطلاقًا منه، في عملية توحيد الأضداد. والاتزان هو الموقف الوحيد الذي يسمح بالنظر إلى الظواهر دون تقييمها.

"الحل الوسط" ليس حلاً أبدًا؛ إذ إنه لا يمثل التوازن المطلق بين قطبين، ولا يمتلك القوة على التوحيد. الحل الوسط يعني نزاعًا دائمًا وبالتالي ركودًا[3]. لذا فإن كلَّ صراع معاش يعلِّم الإنسان التعاطي مع الصراعات عمومًا تعاطيًا أفضل وأشجع – تعاطيًا "حارًّا"، إذا جاز القول. ولا بدَّ للنفس من تقديم تضحية كافية عند اتخاذ القرار. يعرف معظم الآباء، مثلاً، أنه بعد اجتياز أطفالهم مراحل مَرَضية معينة يشعرون بقفزة من النضج أو النمو عندهم، بحيث لا يعود الطفل هو نفسه قبل المرض. فالإنسان يخرج أنضج من كلِّ صراع. "الحرب أصل الأشياء كلِّها" (هيراقليطس). الحرب والصراع وتوتر القطبين تُمِد بطاقة الحياة؛ وبالتالي، فهي وحدها التي تضمن التقدم والتطور.

كل قرار يحرِّر. ولكن الصراع الدائم المزمن يبدِّد الطاقة باستمرار؛ الأمر الذي يقود من الناحية النفسية أيضًا إلى الفتور وفقدان الدافع، وصولاً إلى الركود والاستسلام. ولكن عندما نعقد العزم، مهتدين إلى أحد قطبي الصراع، سرعان ما نشعر بالطاقة المتحررة من جراء ذلك، لتخرج النفسُ من كلِّ صراع قوية؛ إذ إنها قد تعلَّمت من مُعارَكة المشكلة درسًا، ووسَّعت حدودَها بفضل الاشتغال على القطبين المتعارضين، وبالتالي، أصبحت أوعى. ولنعلم أننا من كلِّ صراع معاش نجني ثمرةً هي عبارة عن معلومة وعي تؤهل الإنسان للمناعة النوعية للتعاطي في المستقبل مع المشكلة ذاتها تعاطيًا آمِنًا.

الإدراك يعني معرفة الحقيقة. وهذا لا يمكن له أن يحصل حتى يتعرف المرء إلى نفسه في كلِّ ما يدركه. وبقدر ما تعود أعضاء الحواس تؤدي وظائفها أداءً صحيحًا يتعلم الإنسان النظر إلى الداخل والإنصات إلى وجدانه، ويغدو مجبرًا على العودة إلى "افتكار الذات" self-remembering ووعيها (غورجييف)[4].

الفيلسوف القوقازي غيورغي إ. غورجييف (1872-1949): أساس طريقته الروحية "افتكار الذات" في كلِّ فعل تفكير أو شعور أو حركة.

إن أسرع الطرق للخروج من أية وضعية هي التوغل توغلاً كليًّا فيها. بيد أن جبن الإنسان غالبًا ما يُقعِده عن السعي إلى هذه الكلِّية، ولذلك يبقى معظمنا عالقًا في قلب أحد القطبين. المشكلات غير موجودة كي تُحَلَّ؛ إذ إنها الأقطاب التي يتولد بينها التوتر الضروري للحياة. الحل يكمن فيما يتعدى القطبية؛ ولكن الوصول إلى هناك يقتضي من المرء توحيد الأقطاب، التوفيق بين الأضداد[5].

مَن لا يريد أن يفتح وعيه لصراع قد يثيره في شدة لا بدَّ له، بدلاً من ذلك، من فتح جسمه للعوامل المثيرة، مما يسبب الأمراض النفسجسمية psychosomatic؛ إذ تستقر هذه العوامل في نقاط ضعف الجسم: فالجسم تعبير مرئي ومنظور عن الوعي، كما أن البيت تعبير مرئي ومنظور عن فكرة الباني.

عن طريق النظر بوعي قطبيٍّ يتحول تزامنُ الوجود إلى تعاقُب. ومفهوم "الأبدية" Eternity يعني انعدام الزمن بالمعني الميتافيزيقي حصرًا، وليس استمرارية في الزمن إلى ما لا نهاية. فكل طريق إلى السلامة أو إلى الاستنارة enlightenment هو طريق من القطبية إلى الوحدة. إن عدم الفعل هو سلفًا قرار ضد الفعل، وعدم القرار هو قرار ضد القرار. لذا يجب أن ندرك أن المرض هو القطبية والشفاء هو التغلب على هذه القطبية. والمحبة وحدها قادرة على التغلب على القطبية وعلى توحيد الأضداد: المحبة Agapê تستهدف، بالدرجة الأولى، نفسَ الآخر، لا جسمه، بينما الحب الجنسي Eros يرغب في جسم الآخر وحسب[6].

إن أقل تصور عن الخير والشر يُدخِل ذهننا في الارتباك والبلبلة. كل تقييم أخلاقي ضيق يقيدنا إلى عالم الأشكال ويقود إلى الأسر. ومادمنا مأسورين لا يمكن لنا الخلاص من الشقاء والألم، ونظل خاطئين غير أصحاء؛ ويستمر عدم رضانا وتوقنا أيضًا إلى عالم أفضل ومحاولتنا لتغيير العالم. فحين يعتقد الإنسان بعدم كمال العالم لا يلاحظ أن النقص يكمن في نظرته فقط التي تمنعه من رؤية الكل.

التعليم الباطني القديم يقول بالمقايسة بين العالم الأصغر (الجسم) وبين العالم الأكبر (الكون)؛ وهي مقايسة صحيحة تمامًا، لأن الأنا هي الوهم الذي لا يوجد كحدود مصطنعة إلا في الوعي – وذلك إلى أن يتعلم الإنسان التضحية بهذه الأنا ليختبر، على حين غرة، أن حالة الوحدة الرهيبة هي في الحقيقة حالة الكلِّ الواحد[7].

في الوحدة لا وجود للتغير ولا للتحول أو التطور، لأن الوحدة لا تخضع للزمان ولا للمكان. فالكل الواحد هو في سكينة أبدية. إنه وجود خالص دون شكل ودون فعالية. الوحدة هي قطبية القطبية: فالمرء لا يجد الوفرة والامتلاء إلا في اللاشيء! هذه هي الحقيقة – والحقيقة مزعجة ومثيرة للاستياء، أيًّا كان اللسانُ الذي ينطق بها.

الوحدة هي المحبة

حتى نستطيع أن نحب، يجب علينا فتح حدود الأنا، يجب علينا أن نشتعل ونتقد على جمر المحبة وأن نستهلك حدودَنا في نارها. ومَن هو على غير استعداد لذلك قد يتعرض لنار خارجية تحرق حدوده الخارجية (الجلد)، وبالتالي، تفتح المرء عنوةً وتجعله رقيقًا وحساسًا.

مادام الحب يختار فهو ليس حبًّا حقيقيًّا (كريشنامورتي)، لأن الحب الحقيقي لا يفرِّق، بينما الاختيار يفرِّق. الحب لا يعرف الغيرة؛ إذ إنه لا يريد الامتلاك، بل يريد أن يفوح ويتدفق. ورمز الحب الشامل هو محبة الله للبشر. فمن الصعب تصور أن الله يوزِّع محبته توزيعًا متفاوتًا: فالشمس تسطع بنورها وحرارتها على البشر أجمعين، ولا توزع أشعتها تبعًا للفضائل وللرذائل[8]. ويعلِّمنا الجسم أن مَن لا يحب تغدو نفسُه حامضة، وأن مَن لا يستطيع الاستمتاع والاستساغة سرعان ما يغدو هو نفسه غير ممتع وغير مستساغ!

المحبة شافية لأنها تفتح الحدود وتدع الآخر يدخل من أجل التوحد معه. إن ما يود المرء وصفه لا يراه أو يتعرف إليه إلا عند الآخرين. ومَن يحب لا يضع أناه في المرتبة الأولى، بل يعيش كلِّيةً أكبر. مَن يحب يشعر بالمحبوب تمامًا كما لو أنه هو نفسه[9]. مَن لا يعيش هذه المحبة في الوعي فهو مهدَّد بأن يهبط حبُّه إلى دَرَك الجسدية المحضة ليسعى هناك إلى تحقيق قوانينه كالسرطان.

السرطان حبٌّ على المستوى الخاطئ. فالكمال والتوحد لا يمكن تحقيقهما إلا في الوعي، وليس في نطاق المادة؛ إذ إن المادة هي ظل الوعي. السرطان عَرَض للحبِّ المُساء فهمه؛ وهو لا يهاب إلا الحب الحقيقي. ورمز الحبِّ الحقيقي في كياننا هو القلب. والقلب هو العضو الوحيد في الجسم الذي لا يصاب بالسرطان.

الوقاية – كيف نفهمها؟

"درهم وقاية خير من قنطار علاج" مثل صحيح، شريطة أن نأخذه على محمل الحرف. فالاتقاء يعني الانحناء طوعًا قبل أن يجبرنا المرضُ على ذلك. وهاكم ثلاثة مبادئ مساعِدة على الوقاية:

-       كل دافع لا نعيه يعود إلينا ظاهريًّا من الخارج.

-       تُعَد قابليةُ "التسليم" الخاصية الأساسية للجانب المؤنث من النفس؛ وهي أساس كلِّ القابليات الأخرى، كالانفتاح والاستقبال والتلقِّي والاحتواء.

-       كل "مقاومة" تجعلنا نشعر بحدودنا وبأنانا، في حين تضيع معالمُ هذه الحدود وتتلاشى تباعًا مع كلِّ "نعم" نقولها للحياة بكياننا كلِّه[10].

فكنْ واعيًا، مستقبلاً، موافِقًا، راضيًا بكلِّ ما هو موجود، تتوحدْ مع كلِّ ما هو موجود – وهذا هو طريق المحبة.

* * *


[1] لن أورِد هاهنا ثبتًا بهذه المراجع لأن المهم، في نظري، هي الأفكار في حدِّ ذاتها، وليس أصحابها.

[2] لا تنشأ المشكلات – في الحب مثلاً – إلا عندما يستثمر شخصان شراكتهما استثمارًا متفاوتًا، وذلك بأن يعالج أحدُهما إسقاطاته ويستردها، في حين يتعثر الآخر تمامًا ويبقى عالقًا في إسقاطاته. عندئذٍ يحين الوقت الذي يغدو فيه أحدُهما مستقلاً عن الآخر، بينما قلب الآخر يتحطم. أما في حال بقي الاثنان عالقين في الإسقاط فإننا نشهد حبًّا حتى الموت!

[3] جاء على لسان يسوع في رؤيا يوحنا (3: 15-16): "إني عليم بأعمالك وأعلم أنك لست باردًا ولا حارًّا. ليتك كنت باردًا أو حارًّا! سأتقيؤك من فمي لأنك فاتر، لست باردًا ولا حارًّا."

[4] فقد السمع، كعَرَض مرضي، عبارة عن دعوة إلى إعادة توجيه الإصغاء نحو الداخل وإطاعة الصوت الداخلي؛ فلا يصاب بالصمم إلا مَن يصم أذنيه عن صوته الداخلي مدة طويلة.

[5] يقول النفري: "يا عبد، إذا رأيتَني في الضدين رؤية واحدة فقد اصطفيتك لنفسي."

[6] من هنا حينما يتم توحيد الأضداد على مستوى الجسم فقط تكون حالة الوعي الناتجة (الرعشة الجنسية) محدودة زمنيًّا؛ إذ إن مستوى الجسم خاضع لقانون الزمن.

[7] هذا هو المعنى العميق لقول يسوع: "مَن يريد أن يخلِّص حياتَه يفقدها [...]. ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟" (متى 16: 25-26)

[8] يقول يسوع أيضًا: "أحبوا أعداءكم وصلُّوا من أجل مضطهديكم، لتصيروا أبناء أبيكم الذي في السماوات، لأنه يشرق بشمسه على الأشرار والأخيار، ويُنزِل المطرَ على الأبرار والفجار." (متى 5: 44-45)

[9] يقول أبو حيان التوحيدي: "الصديق آخر هو أنت."

[10] هذا هو المعنى العميق للإسلام: "التسليم" للحياة ككل.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود