|
رسالة مفتوحة إلى غاندي بخصوص فلسطين
مارتن بوبر فيلسوف إسرائيلي من أصل نمساوي (فيينا 1878 – القدس 1965)، جدَّد دراسة المنقول الديني والروحي اليهودي في كتب عميقة، من نحو الأنا والأنت (1923) ويأجوج ومأجوج (1941). والنص التالي مقتطَع من رسالة مفتوحة كَتَبَها الفيلسوف الحصيدي الكبير ردًّا على انتقادات المهاتما غاندي في مقاله المنشور في مجلة هارجان بتاريخ 26/11/1938 بعنوان "اليهود في فلسطين" (راجع معابر، الإصدار الثامن، باب "اللاعنف والمقاومة"). فمع أن رأي بوبر، المفرط في التفاؤل والمثالية (الأصح أن نقول "السذاجة") السياسية، لا يمثل وجهة نظر معابر، ننشره فيما يلي نظرًا لأهميته التاريخية، ولإطلاع القارئ العربي على رأي التيار "الصوفي" الاشتراكي المُسالِم في الصهيونية (من أنصاره أينشتاين أيضًا)، المؤمن برسالة ثقافية حِوارية يحملها الشعب اليهودي – ذلك التيار الذي أزاحتْه الصهيونية السياسية–العسكرية إزاحةً نهائية بعد أقل من عشر سنين على هذا الحوار. المترجم ***
أنت، المهاتما غاندي، يا مَن تعرف الارتباط بين المأثور والمستقبل، يجب ألا تكون لك صلةٌ بأولئك الذين يمرون بقضيتنا مرور الكرام من غير ما تفهُّم أو تعاطف. لكنك تقول – وأنا أعتبر ذلك أهم الأشياء التي وَرَدَتْ في كلامك لنا – إن "فلسطين ملك للعرب" وإنه، بالتالي، "من الخطل وعدم الإنسانية فَرْض اليهود على العرب". يجب عليَّ هنا أن أضيف ملحوظة شخصية كي أوضح لك الحجج التي أرغب في النظر إلى رأيك من خلالها. أنا أنتمي إلى جماعة من القوم لم يتوانوا، منذ احتلال الإنكليز فلسطين، عن النضال من أجل عقد سلام حقيقي بين اليهودي والعربي. وبالسلام الحقيقي دلَّلنا – ومازلنا ندلِّل – على أن كلا الشعبين يجب أن يستثمر الأرض من غير أن يفرض أحدُهما إرادتَه على الآخر. وبالنظر إلى أعراف جيلنا الدولية، بدا لنا هذا صعبًا، لكنه غير متعذر. كنَّا – ومازلنا – مدركين جيدًا أن مدار هذه الحالة غير الاعتيادية – لا بل غير المسبوقة – هو التفتيش عن سُبُل جديدة للتفاهم والاتفاق الودي بين الأمتين. وهاهنا أيضًا وقفنا – ومازلنا واقفين – تحت حُكْم وصية. لقد اعتبرناها نقطةً أساسية في هذه الحالة أن حقَّين حيويين متعارضان – حقَّين مختلفين من حيث الطبيعة والأصل، لا يجوز وضعُ أيٍّ منهما ضدًّا للآخر، وليس من الممكن البتُّ موضوعيًّا في أيهما عادل وأيهما ليس كذلك. ولقد اعتبرنا – ومازلنا نعتبر – أن من واجبنا أن نتفهم الحقَّ المعارِض لحقِّنا وأن نحترمه وأن نسعى إلى المصالحة بين الحقَّين كليهما. ما كنَّا لنستطيع – ولا نستطيع الآن – أن نتنكر للحق اليهودي؛ فشيء أسمى حتى من حياة شعبنا مشدودٌ إلى هذه الأرض، هو حصرًا عمل هذا الشعب، رسالته الإلهية. لكننا كنَّا على قناعة – ومازلنا – أن في الإمكان قطعًا إيجاد نوع من التسوية بين هذا الحق والحق الآخر؛ إذ إننا نحب هذه الأرض ونؤمن بمستقبلها. وبما أن مثل هذه المحبة ومثل هذا الإيمان موجودان جزمًا عند الجانب الآخر كذلك، فإن اجتماعًا على خدمة الأرض معًا يجب أن يقع في مجال الإمكان. فحيثما وُجِدَت المحبة والإيمان بالإمكان إيجادُ حلٍّ حتى لما يبدو تعارُضًا مأساويًّا. ومن أجل القيام بمهمة بهذه الصعوبة البالغة – مهمة اضطررنا لنيل الاعتراف بها إلى التغلب على مقاومة داخلية من الجانب اليهودي أيضًا؛ وهو أمر أحمق بقدر ما هو طبيعي – كنَّا في أمسِّ الحاجة إلى تأييد أصحاب النية الطيبة من جميع الأمم، وأمِلْنا في الحصول عليه. لكنك الآن تأتي وتختزل المشكلة الوجودية برمَّتها إلى صيغة: "فلسطين ملك للعرب." ماذا تعني بقولك إن أرضًا هي "ملك" لسكانها؟ من البديهي أنه ليس في نيتك فقط أن تصف بصيغتك تلك حالةَ مصالح، بل أن تعلن حقًّا معينًّا. من البيِّن أنك تقصد من قولك أن لشعب، إذ يستوطن الأرض، حقًّا في تلك الأرض هو من الإطلاق بحيث إنك كلَّ مَن يستوطنها من دون إذْنٍ من هذا الشعب يكون ارتكب سطوًا. ولكن بأية وسيلة حصل العرب على حق الملكية في فلسطين؟ جزمًا بالفتح؛ وهو، في الواقع، فتحٌ بنية الاستيطان. فأنت، بالتالي، تقر أن استيطانهم، كنتيجة لذلك، يعطيهم الحق الحصري في التملك؛ في حين أن الفتوح اللاحقة للمماليك والأتراك، التي كانت فتوحًا بقصد السيطرة، وليس الاستيطان، لا تعطي مثل هذا الحق في رأيك، بل تترك للفاتحين الأسبقين حقَّهم في الملكية. بذا فإن الاستيطان بالفتح يبرِّر، في نظرك، الحقَّ في ملكية فلسطين؛ في حين أن استيطانًا كالاستيطان اليهودي – الذي لا بدَّ من الاعتراف بأن طرائقه، على كونها لم تنصف دومًا بإنصاف أساليب حياة العرب كلَّ الإنصاف، كانت، حتى في الحالات المذمومة للغاية، أبعد ما تكون عن الفتح – لا يبرر في رأيك أية مشاركة في حق الملكية هذا. هذه هي العواقب الناتجة عن تصريحك الذي تسلِّم فيه بأن الأرض هي "ملك" لسكانها. فأنت، في عصر لا تني الأممُ فيه تهاجر، تؤيد أولاً حق ملكية الأمة المهددة بنزع الملكية عنها أو بالإبادة؛ ولكن إذا اتفق لهذا أن يتم، تجدك مضطرًّا – ليس على الفور، بل بعد انقضاء عدد مناسب من الأجيال – إلى الإقرار بأن الأرض "ملك" للمغتصِب. [...] يبدو لي أن الله لا يهب أية قطعة من الأرض مجانًا، بحيث يحق للمالك أن يقول كما يقول الله في الكتاب: "لأن الأرض كلَّها لي." (سِفْر الخروج 19: 5) فالأرض المفتوحة ليست، في رأيي، إلا أرضًا مُعارةً، حتى للفاتح الذي يستوطنها – والله ينتظر ليرى ماذا هو فاعل بها. غير أنه يقال لي بألا أحترم الأرض المزروعة وبأن أزدري البرية. يقال لي بأن البرية غير قابلة لانتظار عمل أبنائها؛ إذ إنها لم تعد تعترف بنا أبناءً، نحن المثقلين بالحضارة. البرية تلهمني الرهبة والتخشع؛ لكني لا أعتقد بمقاومتها المطلقة، كوني أؤمن بالقران العظيم بين الإنسان (آدم) وبين الأرض (الأديم). هذه الأرض تعترف بنا؛ إذ إنها تصير مثمرة من خلالنا: وبالذات لأنها تحمل الثمار من أجلنا، فهي تعترف بنا. مستوطنونا لا يأتون هنا كما يفعل المستعمرون من الغرب، فيسخِّرون "السكان الأصليين" للقيام عنهم بعملهم؛ إنهم يأخذون بأنفسهم المحراث على عواتقهم ويبذلون قوَّتهم ودماءهم لإثمار الأرض. لكننا لا نرغب في إخصاب الأرض من أجلنا وحدنا فحسب. فالمزارعون اليهود بدأوا بتعليم المزارعين العرب، إخوانهم، زراعة الأرض زراعةً أنجع؛ نحن نرغب في المزيد من تعليمهم: معهم نريد أن نزرع الأرض سوية – أن "نخدمها"، بحسب التعبير العبري. وكلما ازدادت هذه التربة خصوبةً كان لنا ولهم فيها متسعٌ أرحب. ليست بنا رغبةٌ في انتزاع ملكية الأرض منهم، بل نريد أن نحيا معهم. لا نريد أن نسيطر عليهم، بل نريد أن نخدم معهم. [...] 1939 *** *** *** ترجمة: ديمتري أفييرينوس
|
|
|