|
محاضرة في اللاثنوية
ولد الحكيم اللاثنوي شري آتمانندا في 8 كانون الأول 1883 في أسرة نابهة الذِّكر في قرية برنغارا الواقعة وسط ترافنكور من أعمال الهند. كان أبوه معلِّمًا للآداب الفيدية لأطفال المحلَّة، كما كان عدد من أشقائه وشقيقاته وأخواله أدباء وشعراء. عاش طفولة هادئة هانئة مستتبة، أحد سماتها نفورُه الغريب من الطعام (الذي استمر حتى بلوغه حوالى العاشرة). اختلف إلى المدرسة في سنٍّ مبكرة، ودخل المدرسة الثانوية وهو بعدُ في الثانية عشرة. وقد لفتتْ ألمعيتُه في الدروس وشجاعتُه الأدبية وصدقُه أنظارَ الجميع إليه. بدأ بقرض الشعر وعمره حوالى 14 عامًا، وبزَّ فيه أقرباءه من الشعراء. كان، إلى ذلك، رياضيًّا ماهرًا، يهوى السباحة (كان وحده الناجي بين 12 راكبًا حين غرق بهم المركب الذي يقلُّهم إبان عاصفة ليلية عاتية). كانت سيرته الدراسية متميزة. إذ إنه لم يكن الأول على صفِّه في المواد كافة وحسب، بل كسب محبة أساتذته ورفاقه، الذين كان يساعدهم في دروسهم أحيانًا. وتعود اهتماماتُه الدينية إلى تلك الآونة. وبعد أن تَقدَّم بامتحانات القبول إلى الجامعة، وهو بعدُ في سنٍّ مبكرة، أُخبِرَ بأنه رَسَبَ في مادة لغة المالايالام. وقد تقبَّل النتيجة بهدوء، حتى تبيَّن بعد شهر أن هناك خطأ في تدوين العلامة، وأنه في الواقع أحرز المركز الأول. غير أن المساعدة المالية الضرورية للانتساب إلى الجامعة لم تكن وشيكة من جانب خؤولته، الأوصياء الشرعيين على بيت مال الأسرة؛ فذهب للعمل مدرِّسًا في مدرسة خاصة لكي يقوم بنفقات الجامعة. وفي العام 1910، قبيل تخرجه، تزوج من سوبهاغِياياتي پروكُّتِّي أَمَّا، ابنة أحد أشراف المحلَّة. ما لبث اهتمامُه السابق بالدين أن فَتُرَ، حتى ألحد، فجعل دينه وديدنه زعزعةَ إيمان أصدقائه. وعلى الرغم من استمراره – شكليًّا على الأقل – في اتباع الوصايا البسيطة التي لقَّنه إياها وليٌّ تعرَّف إليه وهو بعدُ صبيٌّ، فقد أمعن في ميوله الإلحادية بضع سنوات، حتى بعد تخرجه، إبان السنوات الأولى من عمله. انتسب بعد تخرجه إلى كلِّية الحقوق، وحصل كذلك على وظيفة في محكمة تريفاندروم العليا. وقد أثَّرت مناقبُه الرفيعة في مفوَّض الشرطة، حتى إنه عيَّنه رئيس مفتشين. بعيد ذاك ترك دراسة القانون ليتولَّى منصب مفتش شرطة. لكنه، بعد بضعة أشهر، أخذ إجازة دراسية لإتمام دراسته للحقوق، وحصل على إجازة في الحقوق بتقدير امتياز، وسرعان ما عُيِّن مفتشًا في النيابة العامة. غير أن أعمق اهتماماته لم يقتصر على حياته المهنية. فإبان تلك الفترة بدأت المسائل الروحية تستقطب منه المزيد فالمزيد من الاهتمام. ومع أنه توفَّر على كتب الفلسفة والدين، لعلَّه يجد فيها إجابات على تساؤلاته، فإنها لم تشبع عقله اللجوج. لقد اقتنع بأن السبيل الأوحد إلى ذلك هو أن يجد معلِّمًا حقيقيًّا – غورو – يقبله مريدًا ويقوده إلى غاية سُؤله. كان يعلم أيضًا أنه لم يكن بعدُ مؤهلاً لاختيار مثل هذا المعلِّم. وشيئًا فشيئًا تحول قلقُه العقلي إلى عذاب ممض، على الرغم من حرصه الشديد على أن لا تتأثر واجباتُه الرسمية من جراء ذلك. إذ ذاك بدأ يصلِّي طلبًا للهداية، ذلك أنه ما كان ليركن إلى أحد "الأولياء" المعروفين معلِّمًا؛ إذ إنه أدرك، عِبْرَ حواره معهم، أنه لن يمضي معهم بعيدًا. بيد أنه في إحدى أماسي العام 1919 التقى سنياسِن (زاهدًا) كان مختلفًا عن أولئك، مؤثرًا وساحرًا بكلِّ معاني الكلمة. كان الرجل جالسًا في بساطة على كربة على جانب الطريق. وقد خاطب المفتشَ الشاب بإنكليزية أنيقة، سائلاً إياه أن يصحبه في نزهة قصيرة. وهكذا كان. بدأ الرجلان يتحدثان في الأمور الروحية، وقطعا ميلاً، أو نحو ذلك، قبل مغيب الشمس. كان ما يزالان يتكلمان حين دخلا بيتًا قديمًا مهجورًا، لا ينيره إلا ضوء القمر الساطع. كان كريشنا مينون يطرح على صاحبه العديد من الأسئلة الحاذقة الصعبة، وفي أسئلته شيء من الاستفزاز حتى. لكن السوامي (الراهب) بدا مبتهجًا للغاية بدقة الأسئلة، وأجاب عنها كلِّها إجاباتٍ تامة، في صراحة ومنطق متماسك ولطف وتواضع جم. وبذلك رضخت أنا شري كريشنا مينون وأُسِرَ قلبُه، حتى كاد لسانُه أن ينعقد. لكنه بعد انقضاء بعض الوقت سجد أمام السوامي، وعيناه مغرورقتان بدموع الارتياح والخشوع، ثم وقف طالبًا منه، إذا وجده مستحِقًّا، أن يقبله مريدًا. أجاب السوامي: "لهذا فقط جئت من كلكتا. ليس ثمة ما يشغلني هاهنا غيره. لقد سمعت أشواقك من تلك المسافة." استمر الحديث بينهما طوال الليل. وقبل انبلاج الفجر كان المريد قد حصَّل كلَّ التعاليم الضرورية للتحقق الروحي بالعليِّ. وهذه التعاليم شملت الطرق الروحية الكبرى الثلاث للهند (بهكتي، أو التعبد، ورياضات اليوغا المختلفة، وجنانا، أو درب المعرفة، عِبْرَ منهج الإدراك المباشر). كان السوامي يعلم أن كريشنا مينون لم يكن في حاجة إلى طريقتَي التعبد واليوغا، وأقرَّ له بذلك، لكنه قال إنه ينصح له باتباعهما لسبب آخر: لقد كان يعلم أن كريشنا مينون سيصير معلِّمًا عظيمًا؛ ومَن يتحقق بهذه المرتبة لا بدَّ له من أن يخبَر الطرق الثلاث جميعًا. ومع الفجر، نهض السوامي، راضيًا بتأدية رسالته. لم يكن في المجال متسعٌ لأية هدية يقدِّمها المريدُ لمعلِّمه، كما جرت العادة، لكن الأخير قال: "ليس ثمة أي فَرْضٍ في الروحانية، بما أنه لا اعتبار للشخصية فيها. اتَّبعْ وصاياي، فتبلغ الكمال سريعًا. تلك هي هدية المعلِّم الحقيقية. فلا يقلقنَّك هذا الأمر." ثم غادر الرجل من فوره عائدًا إلى كلكتا. كان ذاك هو اللقاء الوحيد بين الـغورو والتلميذ على المرتبة الجسمانية. فمن كان ذاك الرجل؟ لم يكن السوامي سنياسِن عاديًّا، بل معلِّمٌ كبير عُرِفَ باسم يوغانندا ("الواجد غبطته في اليوغا")، وعلاَّمة نادر من أسرة أميرية في راجبوتانا. كان راسخ العلم والتحقق بالمطلق منذ صباه، وكان يعيش في أشْرَم ("زاوية"، بالمصطلح الصوفي) صغير في كلكتا، ويتولَّى تعليم أربعة مريدين زاهدين. وقد سمع من هناك نداء كريشنا مينون، الذي قُيِّض له أن يصبح آخر مريديه والوحيد بينهم الذي كان ربَّ أسرة. اعتبارًا من يوم مغادرة معلِّمه، باشر كريشنا مينون رياضةً روحية مكثفة، بادئًا بطريقة التعبد أو المحبة الإلهية. وقد قطع هذا الدرب في ستة أشهر، كتب في آخره الـرادهامَدهافام، وهو عبارة عن 48 بيتًا بلغة المالايالام. ثم باشر السير على درب الرياضات اليوغية الشاقة، حتى أنهاه في غضون بضعة أشهر، على الرغم من أنه كابد إبَّانه في جسمه شللاً مؤقتًا غريبًا. وفي نهايته، بات قادرًا، بإرادته، على البقاء مستغرقًا فترات طويلة في حالات من الغيبة الروحية العميقة (سَمادهي). غير أن هذه الأحوال، على سموِّها، ما كان لها أن تلبِّي توقه الروحي، كونها كانت محدودة زمنيًّا وتأتي ثمرة جهد كبير. لقد بات على يقين الآن من أن طبيعة الحقيقة لا بدَّ أن تكون بلا علةَّ، دائمة، ومنيرة بذاتها. لذا انقطع بعد اليوغا أخيرًا إلى درب الحكمة والفحص عن الذات: جنانا سادهنا. وعلى هذا الدرب، تمكَّن من مشاهدة الحقيقة السامية في وقت قصير نسبيًّا. ومع اقترابه من نهاية رياضاته الروحية، شعر بدافع قوي إلى تكريس بقية حياته لمعلِّمه. وقد قام بالترتيبات الضرورية كلِّها للحصول على إجازة طويلة الأمد من عمله في الشرطة للذهاب إلى كلكتا، مفكرًا حتى في تقديم استقالته نهائيًّا مع اقتراب نهاية إجازته، حتى إنه لم يكشف لزوجته عن نواياه كلِّها. غير أنه، قبل مغادرته إلى كلكتا بيوم واحد، ظهر له معلِّمه في سرِّه، وأمره بأن يواصل حياته كربِّ أسرة ويعتني بأسرته (بِمَن فيها أطفاله الثلاثة). وأضاف السوامي العجوز بأنه، على كلِّ حال، سوف يفارق الدنيا في غضون ثلاثة أيام. وهذا ما حصل؛ الأمر الذي سبَّب للتلميذ حزنًا كبيرًا. لقد ظل آتمانندا يقول بأنه ما من مريد، مهما بلغت مرتبتُه، يمكن له أن يبلغ الانعتاق من دون مساعدة كارَناغورو، معلِّم حي: "مثل هذا المعلِّم هو بالفعل الحقيقة السامية بذاتها، وإنْ بدا في هيئة شخص بشري." دامت رياضات شري آتمانندا الروحية، بما فيها الطرق الثلاث جميعًا، حوالى أربع سنوات، وتسنَّمتْ ذروتَها في العام 1923. وإبان تلك المدة، كان معلِّمه يظهر له في سرِّه كلما دعت الحاجة. وقد أُعطِيَ كريشنا مينون لقب آتمانندا ("الواجد غبطته في آتمن")، وهو الاسم الذي عُرِفَ به من بعد. وقد استمر إبان تلك الفترة كلِّها، وحتى بعدها بسنين، يخدم كمفتش في النيابة بلا انقطاع، بحيث لم يتأثر عملُه بمجاهداته الروحية من أيِّ وجه، تشهد على ذلك الثناءات المتكررة الواردة في الإضبارات الحكومية على ادعاءاته النيابية الباهرة، حتى إبان فترة أكثر رياضاته الروحية تطلُّبًا. وقد قال لاحقًا: "إذا سألني أحدُهم النصحَ حول أكثر المهن عونًا على التقدم الروحي، لنصحت له دومًا بامتهان إما الشرطة وإما الجيش. فهما يقدمان أقصى العوائق والمغريات. والفوز بالنجاح في مثل هذه الشروط نهائي ولا رجعة فيه!" إبان تلك الفترة من الرياضات الروحية، أحاطتْه زوجتُه بدعم وبمحبة لا يفتران. مرَّت به أوقات كاد فيها أن يغيب تمامًا عن الوعي الجسماني، فكان عليها حينذاك أن تحمِّمه وتطعمه. كما كان لا يصيب من النوم إلا قليلاً. في الهند يُطلَب من الزوجين أن يجسِّدا في حياتهما المشتركة الحقيقةَ السامية التي لا تعرف الموت. هكذا كان زواجهما، خاصة في تلك الأوقات العصيبة، وهكذا استمر. لم يُعرَف عنهما أن أحدهما قام مرة بشيء مخالف لمشيئة الآخر. كانت حياتهما الزوجية مثالاً يُحتذى ساطعًا للمريدين. وبعد تحققه الشخصي، علَّم شري آتمانندا أسرتَه المباشرة، ثم وسَّع دائرة الأسرة، لتشمل خؤولته وأهل زوجته الذين قَبِلَهم في دائرة التواقين إلى المطلق مع مريديه الآخرين. ومن تلامذة يوغانندا الخمسة، وحده شري آتمانندا أُذِنَ له بأن يتخذ دور المعلِّم ويقبل مريدين؛ بمقتضى ذلك، قَبِلَ الثلة الأولى من التلامذة بعيد العام 1923. وإبان تلك الفترة، تولَّى مناصب مفتش في النيابة، مفتش دائرة، معاون رئيس شرطة، ورئيس شرطة مقاطعة، على التوالي؛ كما قام بجمع وتصنيف ومراجعة دليل شرطة الولاية. وبفضل تمكُّنه من القانون كان يرتعب منه المحامون الذين يواجهونه. وقد حظي باحترام الجميع باستقامته وفطنته وسعة حيلته وكفاءته المذهلة. كما أنه لم يتردد في أن ينبري للنظام البيروقراطي الحكومي كلما تطلَّب الأمرُ ذلك. لهذا السبب، ولأسباب أخرى عديدة، كان مرؤوسوه يحبونه بلا تحفظ ويطيعونه، الأمر الذي أثار عليه حفيظة رؤسائه في بعض الأحيان. حين نُقِلَ شري آتمانندا إلى كوتَّيام في العام 1927، لم يكن قد اتخذ إلا ثلة صغيرة من المريدين؛ لكن عدد هؤلاء في غضون حوالى سبع سنين بلغ المئة أو يزيد. كان التلامذة يزورونه كلما استطاعوا، ويمكثون الأيام والأسابيع يصغون إلى محاضراته. كان يحتاج إلى أقل من خمس ساعات من النوم يوميًّا، وإلى ما لا يزيد على ثلاث ساعات من العمل الرسمي الإضافي. أما ما تبقى من الوقت فكان يصرفه متحاورًا مع تلامذته. وكلما ذهب إلى أيِّ مكان، في غير العمل الرسمي، كان تلامذته يصحبونه. كان يشعر بأنه في ميدانه حقًّا مع تلامذته. وفي إحدى المناسبات، شعر بدافع للذهاب إلى تلال كومِلي المرتفعة للتفتيش عن بعض مراكز الشرطة هناك. وفي أحد هذه المراكز شعر بدافع أقوى إلى تسلق تلة قريبة. وهناك، على رأس التلة، وجد زاهدًا عجوزًا، بدا وكأنه في انتظاره. وعندما دنا منه تعرَّف في شخصه إلى الـسنياسِن العجوز الذي علَّمه في القرية وهو بعدُ صبي في العاشرة والذي لم يرَه منذ ذاك الحين إلا مرتين. في هذه المرة، كان شري آتمانندا هو الذي علَّم الـسنياسِن الذي، على كونه بلغ مرتبةً روحيةً متقدمةً جدًّا، لم يكن قد تحقق بعدُ بالحقيقة السامية. لكنه، بعد سماعه بضع كلمات من شري آتمانندا، استطاع أن يشاهد الحقيقة السامية توًّا. و"سوامي كومِلي" هذا رأى شري آتمانندا مرة واحدة أخرى بعدئذٍ، وإنْ يكن بقي على صلة داخلية به، وعاش حتى جاوز المئة عام، حتى بعدما غادر شري آتمانندا مرتبة الوجود الفاني. بحلول العام 1937، بدأ المريدون يَفِدون عليه من الغرب، وخاصة من الأرجنتين وفرنسا والولايات المتحدة وإنكلترا، ومن بلاد أخرى أيضًا؛ وكان نصف مريديه من النساء. وأولئك المستعدون منهم كانوا يُعطَون الحقيقة كاملة، مفصَّلةً على نحو مترابط ومباشر. وبالحجة والبرهان المنطقي المتماسك، على الرغم من كلِّ ما يُبدون من مقاومة، كان انتباهُهم يوجَّه إلى الوجود الحق، فيما يتعدى الجسم والصورة والحواس والذهن، إلى الخبرة اللاثنوية لطبيعة المرء الحق، إلى التحقق الفوري أو الإدراك الآني للحقيقة. وهذا كان يُطلَب منهم أن يستمسكوا به، وأن يألفوا حضوره فيهم كلما تسنَّى لهم ذلك، مختبرين الحقيقة السامية في كلِّ مرة. وفي العام 1959، أضحى عدد المريدين المباشرين ينوف على بضع مئات، بينما كان كثيرون غيرهم يتلقون مددًا روحيًّا لا يستهان به، حتى وإن لم يكونوا مريدين. وفي مريديه قال آتمانندا: "وحدهم أقبل أولئك الذين أجد فيهم موقف التسليم الملائم، أو الإخلاص الحق للحقيقة." (من أشهر مريديه غير الهنود: الإنكليزي جون ليفي والهولندي فولتر كيرز؛ كما أنه قابل باحثين روحيين من كلِّ الأصناف وتحاوَرَ معهم، نذكر منهم: عالِم الميثولوجيا الأمريكي جوزف كمبل، والإنكليزيان جوليان هكسلي، مدير اليونسكو، والرحالة پول برنتون، والزعيم اللبناني كمال جنبلاط.) لكنه كان ينفر من أشكال الترويج كافة، ويتجنب الصحافيين والمروِّجين قدر المستطاع. كان يسأل الجميع ألا ينشروا أيَّ شيء قبل مراجعته، اتقاءً لأيِّ سوء تفسير، حتى وإن كان غير مقصود. كثيرًا ما كان يقول إن الحقيقة لا تنتقل إلا عِبْرَ التماس الشخصي، وليس من خلال أية وسيلة أخرى. بعد تقاعده من الخدمة الحكومية، كرَّس شري آتمانندا وقتَه كلَّه لتلامذته، مقيمًا سحابة وقته في "آنندا فادي"، بيته الريفي القديم على ضفة نهر پمپا. وقد سافر مدة من الزمن، فزار حيدرآباد، بومباي، القاهرة، پاريس، سويسرا، وغيرها، لكنه استقر في تريفاندروم بعيد العام 1943، حين بدأت صحةُ زوجته بالتدهور. كان دومًا حاضرًا ومُعينًا لجميع الباحثين المخلصين، ولم ينتقص قط من معتقدات أيِّ إنسان، ناصحًا للجميع باتباع دروبهم الخاصة عِبْرَ تمييز مخلص وجهد دؤوب. بالإضافة إلى ذلك، عُرِفَ عنه حرصُه على اتباع الأعراف الدينية والاجتماعية الصحية كافة. إذ قال إنه من الحمق – وأحيانًا من الخطر – التخلِّي عن الأعراف والتقاليد لمجرَّد أننا لا ندرك مغزاها الحقيقي. فمثل هذه الاهتمامات تقع على صعيد الظاهر، ويجب أن تسيِّرها الأعرافُ والشرائع الظاهرية. فحين توفيت أمه في العام 1932، أدى عن روحها الشعائر الدينية المعتادة كلَّها بإمامة كاهن القرية؛ كذلك الأمر حين توفيت زوجته في العام 1953؛ وقد سأل أبناءه أن يؤدوا الشعائر نفسها عن روحه.
شري آتمانندا (1883-1959) وقبل أن تُتوفى زوجته، سهر على العناية بها إبان مرض متطاول، ليلاً نهارًا، غير عابئ بصحته. وفي النهاية، ساعدها على العبور إلى المطلق عبورًا هادئًا، ثم خرج من الغرفة من فوره، وأعلن لمريديه المنتظِرين: "انتهى!" وقد أشرف بنفسه على ترتيبات الجنازة، وذرف من الدموع ما ذرف، حتى تساءل تلاميذه إنْ كان سيتوقف؛ ومع ذلك توقف عن البكاء، مستذكرًا مع أحد أصدقائه القدامى المُعَزِّين قضايا الأدب والشعر، ثم عاد إلى ذرف الدموع من جديد. وقد فسَّر ذلك قائلاً: "كلاهما تعبير ذهني... من الخطأ أن ننسب إلى الحكيم الرصانة أو التهاون. إنه خلفية الوعي لكليهما." كان شري آتمانندا يحب الموسيقى، وكان هو نفسه موسيقيًّا جيدًا؛ وقد قيل عنه أحيانًا إنه كان كالغارق في موسيقى إلهية تتصاعد من سرِّه. كان يعشق الشعر والموسيقى الكلاسيكيين الهنديين، وكانت عروضٌ تتضمنهما من الفقرات الأساسية في الاحتفالات بعيد مولده. ومشاهد الجمال الطبيعي – الجبال، الأنهار، الشلالات، إلخ – تؤثر فيه عميق التأثير. كما كان مولعًا بالشطرنج، ويُعتبَر بطلاً فيه. وقد قال إنه يستعمل الشطرنج لتعزيز الحياة الروحية لأولئك الذين يلاعبهم. لكنه، من جانب آخر، مع أنه كان رياضيًّا متميزًا في شبابه، فإنه كفَّ لاحقًا عن ممارسة التمرينات البدنية، إلا السباحة من حين لآخر؛ فقد كانت حِمْيته وعاداتُه الشخصية مفيدة عمومًا، وكذلك تنفسه كان كاملاً، بحيث بدا أن هذه حلَّتْ محلَّ التمرينات الرياضية. كان قليل الأكل، نباتيًّا متشدِّدًا. ومع أنه كان يمضغ التبغ الثقيل، ثم تعوَّد لاحقًا على تدخين لفافات منه، فلم يدمن على هذه العادة، ولا على أية عادات أخرى. لم تُعرَف عن شري آتمانندا المماطلة أو التسويف. كان دائمًا دقيقًا في مواعيده في كلِّ شيء، وإنْ يكن وعيه مستغرقًا في المطلق، فيما يتعَّدى الزمن. أصرَّ كذلك على عدم ترك أيِّ أثر من أيِّ نشاط بعد الانتهاء منه؛ فأي أثر يخلَّف، على حدِّ قوله، هو بذرة خبيثة للمشكلات. كان يكره أن يكون مدينًا لأحد، بِمَن في ذلك الأطفال والأقرباء. ومع أن تلامذته المخلصين كانوا يعتنون به، كان هذا يتم على حسابه الخاص. على أن خدمته لم تكن في نظر هؤلاء دَيْنًا؛ إذ كان يسعدهم أن يخدموه بكلِّ ما في مستطاعهم. في الإحسان والضيافة كان أميرًا، وكثيرًا ما أطعم الأطفال والـسنياسِن والفقراء في الأعياد. كان ضد أية مأسَسَة أو توريث من أيِّ نوع في الحياة الروحية. فقد طلب من تلامذته وأولاده أن يحيوا، بالأحرى، كأسرة منسجمة، متذكِّرين أن علاقة كلٍّ منهم الروحية علاقةٌ مباشرة مع الـغورو وحده. في شهر نيسان الحار من العام 1959، ذهب شري آتمانندا مع بعض أقرب مريديه لقضاء بعض الوقت على مقربة من شاطئ البحر عند رأس كوموران، وهي بقعة مؤاتية في أقصى جنوب الهند. ومع نهاية الشهر، بدأ يفقد شهيته للطعام، ولم يكن للعناية الطبية أيُّ مفعول. وقد حزن أهلوه ومريدوه لرؤيته، تدريجيًّا، تتخذ حركاتُه مظهرًا ميكانيكيًّا، فيما بدا أن وعيه ينسحب إلى الداخل أكثر فأكثر. ثم ما لبث الرهط أن عاد إلى تريفاندروم طلبًا للمزيد من العناية الطبية، الأمر الذي لم يكن له مفعول يُذكَر. وبعيد ذكرى مولده الـ75، صبيحة 14 أيار 1959، ارتفعت روحه مغادرةً الجسم الفاني، فيما ظل الإشراق الذي ظهر على جسمه، فيما كان أحد مريديه يرنِّم الأغاني الأثيرة إلى قلبه، مرتسمًا على محياه بعد أن فارق الحياة. حين توفيت زوجته وعد مريديه بأنه لن يحيا بعدها غير ست سنوات. وقد وفى بوعده، بالدقة المعروفة عنه. أُحرِقَ الجثمان الطاهر على أكوام من خشب الصندل والكافور والمانغو وأعواد البخور، وأودِعَ الرمادُ في ديماس إلى جانب زوجته الحبيبة. الحكيم ليس ما يولد ولا ما يموت. صَرْحُه الحقيقي الأوحد هو الحقيقة الحية. ولقد قال آتمانندا مرارًا: "أنا آتمن، غير المنقسم. أنا حاضر في قلب كلِّ واحد منكم، في كلِّيتي. وما عليكم إلا أن تتعرفوا إلى ذلك، ولا تنسوه أبدًا." المترجم ***
الـجيفا[1] الـجيفا، مثلها كمثل الأمواج في البحر، تنوجد وتصعد وتهبط، تصطخب وتموت. والأمواج، بعد أن تتكسر على الشاطئ، تتقهقر، متعبةً مكدودةً، طالبةً الراحة والسلام. بالمثل، تطلب الـجيفا العليَّ بطُرُق متنوعة. الأمواج تستمد ولادتها وحياتها وموتها من البحر نفسه؛ الـجيفا تستمدها من الرب. الأمواج ليست إلا ماءً. والبحر كذلك. بالمثل، ليست الـجيفا والرب شيئًا آخر سوى ساتشيتانندا[2]. عندما تدرك الأمواج أن البحر هو أساسُها المشترك يتوقف كلُّ الصراع. ليس في هذا مكسبٌ كثير. وهذه ليست الكلمة الأخيرة. فمازال العمل ضروريًّا لإزالة كلِّ حسٍّ بالفَرْق. حين يتحقق الماء يتلاشى الموج والبحر. ما ظهر وكأنه اثنان يتحقق بذلك بوصفه واحدًا. يمكن بلوغ الماء رأسًا اعتبارًا من الموج باتخاذ الدرب المباشر. أما إذا اتُّخِذَ الطريقُ عِبْرَ البحر فإن المزيد المزيد من الوقت يكون مطلوبًا. المنطق لا يصح طرحُ أيِّ سؤال يتعلق بزمن العالم ومكانه وعلَّته؛ إذ إن هذه نفسها جزء من العالم. هذا السؤال يطلب تعليلاً للكلِّ بلُغَة أجزائه. لذا فلا يمكن له أن يكون منطقيًّا أبدًا. كذلك السؤال عمَّن يركِّب الفاعلية على النفس ليس سؤالاً في محلِّه. إذ إن فعل التركيب نفسه يقتضي أصلاً وجود فاعل. لذا فإن هذا السؤال غير منطقي هو الآخر. الذهن وسَتْفا[3] الوعي حيال الموضوعات هو الذهن. الوعي حيال الذات هو ستفا. يرى الحكماء أن نتاج الذهن هو أفِديا[4] وأن نتاج ستفا هو فِديا[5]. وحدها فِديا وسيلة الانعتاق. درب أفِديا يقود إلى العبودية. لذا فإن على التواق أن يتخذ دربَ فِديا لتحقيق الانعتاق. يتطلب بلوغُ السلام الأبدي جهادًا دؤوبًا حتى الانعتاق. تحقيق الحقيقة المأسور بجمال المنحوتة يتناسى وجود الحجر المبطِّن لها. لكنه، حين يرتقي فوق هذا الأسْر، يبصر الحجر المبطِّن الذي يحمل الشكل. حين يتم الانتباه إلى الحجر على هذا النحو، يُبصَرُ الحجرُ كذلك في الشكل؛ ولاحقًا يُبصَرُ الشكلُ بوصفه ليس شيئًا سوى الحجر. الاستنارة تحدث على هذا النحو. فأصل خفوت الوعي يكون عِبْرَ وقوع المرء في الأسْر واهتمامه المقيم في الموضوعات الغليظة. حين يشب المرء عن هذا الاهتمام، فينظر إلى هذه الموضوعات، يجد أنها تنبثق من الوعي وتقيم فيه وحده. وهكذا، حين يبدأ الوعي بتلقِّي الاهتمام المطلوب، فإنه يتكشَّف في الموضوعات أيضًا، وفي المآل تتحقق هذه بوصفها الوعي. إن تحقيق الذات والعالم ككل بوصفهما وعيًا واحدًا هو ما يُعرَف بتحقيق الحقيقة. سَمادهي في الوعي بالذات تنشأ الموضوعات. لذلك حين تتوارى الموضوعات فإن ما يبقى هو الوعي، وليس العدم. إذا تجذَّرت هذه الحقيقة تجذرًا عميقًا في الفكر فإن النوم العميق يفقد خاصيته في حَجْبِ الحق ويتحول إلى نِرفِكالبا سمادهي[6]. حين تتحقق الموضوعات هي الأخرى بوصفها ليست سوى الوعي يعود المرء إلى طبيعته الحق ذات القيومية، المتعالية عن الحالات كافة، بما فيها سمادهي. "الأنيَّة" وحده ما تمَّ إدراكُه من قبلُ يمكن أن يطرأ على الذاكرة. كذلك "الأنا" المتجسِّمة المدرِكة تطرأ هي الأخرى على الذاكرة أحيانًا. يستتبع هذا أنَّ "الأنا" المتجسِّمة شاهَدَها مبدأُ "أنية" آخر وقت حصول هذا الإدراك. هذه "الأنا" الشاهدة هي "الأنا" الحق. لذا فإن المرء، بتثبيته انتباهه عليها، وترسيخ نفسه فيها، يتحرر من العبودية. آتمن[7] النور في إدراك موضوعات الحسِّ هو آتمن السرمدي، الواحد الذي لا ثاني له، القيوم، المالئ الكل. في سبيل رؤيته كما هو، على الموضوعات أن تُفصَل عنه – وإلا فيجب جعلُها تدل عليه. على "حسِّ الأنية" أن يتحول من الجسم إلى آتمن. التحرر من العبودية والسلام والسعادة تنبع من ذلك. آتمن هو ذاك السلام الذي لا يتبدل، غير المنقطع، الذي تندمج فيه الخواطر والمشاعر. رؤيته، وبالتالي الدخول فيه، وترسيخه بوصفه "الأنا"، يبدِّد الأوهام ويجلب السلام الدائم. الفاعلية لا حاجة للمرء إلى أن يقال له – إذ إنه يعرف الأمر معرفةً واضحة – إن "الأنا" لا تتغير. "الأنية" تبقى في الحالات كلِّها. إنها حاضرة حين يوجد الفكر. وهي حاضرة حين ينعدم الفكر. ما الحاجة إلى أيِّ برهان آخر لتبيان أنها لا يمكن أن تكون الفاعل أو المتمتع؟ – الأمر الذي يعني التغير. في الوقت الذي يتم فيه القيامُ بالفعل لا توجد فكرةٌ أو شعورٌ بأن المرء يقوم به. وفي هذا برهان آخر على أن المرء ليس هو الفاعل. لذا فإن زَعْمَ المرء بأنه قام بفعل بعد القيام به لا يمكن أن يجعل منه فاعل هذا الفعل. الشعور القوي بأن المرء ليس هو الفاعل ولا المتمتع يزيل كلَّ عبودية ويسمح لطبيعة المرء الحق بأن تظهر إلى النور. التماهي الكاذب الـجيفا هو ظهور الجسم وآتمن بوصفهما واحدًا. حين يفترق الاثنان لا يعود بإمكان الـجيفا بوصفه كذلك أن يظهر موجودًا، وبذلك يتوارى. أليس الجسم وپرانا[8] وتقلبات الذهن مدرَكات؟ إذن فالوعي، الذات، هو المدرِك. مَن يتناسون هذا، مُماهين الذات مع الجسم والذهن إلخ، يعيشون مستعبَدين. أما مَن يَتسامَوْن، بالتمييز الحكيم، على هذا التماهي الكاذب، فيتحررون ويستريحون في سلام طبيعتهم الحق. إن فكرة أن المرء هو الجسم، سواء الكثيف أو اللطيف، هي علَّة كلِّ عبودية. أما إذا كانت فكرة أن المرء هو الوعي عميقة وقوية فإن المرء يتحرر من كلِّ عبودية على الفور. الرائي بما كذلك لا يمكن له أن يكون المرئي، والمرئي بما هو كذلك لا يمكن له أن يكون الرائي. إذا استقرت هذه الحقيقة عميقًا في قلب المرء فإن التماهي المغلوط مع الجسم يتوقف. من الممكن أن يُرى، في أثناء نشاط الحياة، أن خصائص شيء ما كثيرًا ما تتركَّب على شيء آخر. لذا يجب إيلاء تجنُّب هذا الأمر عنايةً خاصة. كلما نَسَبْتَ الحقِّية إلى الموضوعات، إذ ذاك فأنت كائن متجسِّم. بعبارة أخرى، ثمة إذ ذاك تماهٍ للـذات مع الجسم. أبْقِ في بالك دومًا أن تغيرات من نحو الولادة والنمو والتحلل والدمار من خصائص المادة، موضوع الوعي. لذا يجب أن يُفهَم فهمًا واضحًا أن الوعي مختلف عن موضوعه وأنه، في حين أن الموضوعات تتنوع، يبقى الوعي ثابتًا. الوعي هو نور آتمن، في حين أن الموضوعات متصلة اتصالاً مباشرًا بالجسم. حين ينقطع الارتباط بالجسم فإن الارتباط بالموضوعات ينقطع هو الآخر. إذا توخينا الدقة، لا يمكن أن يكون ثمة ارتباط بين آتمن والجسم. إذ كيف يمكن أن يكون ثمة أي ارتباط بين أشياء مختلفة اختلافًا كليًّا من حيث طبيعتُها؟ آتمن هو الحق الأوحد. أما الجسم فغير حقيقي تمامًا. من هذا الواقع كذلك يتبع أنه لا يمكن أن يكون ثمة أي ارتباط حقيقي بين الاثنين. من الواضح أن ارتباطهما ليس إلا مفهومًا. وهو يتلاشى حين تُعرَف الحقيقة وتُصان حية. إذا صارت الرغبةُ مقيَّدةً بالموضوعيِّ فهذا من قبيل تركيب خاصية آتمن على اللاآتمن. فكيف يمكن لموضوعات مقيَّدة بالزمن، بالتعريف، أن تُجعَل متعاليةً على الزمن؟ آتمن هو السعادة بعينها. لهذا السبب فإن الرغبة في السعادة موجودة في كلِّ أحد. حين تُتخيَّل السعادة مرتبطةً بموضوع ما فهذا من قبيل تركيب خصائص أحدهما على الآخر. الرغبة في الحرية كذلك تضرب بجذورها في آتمن، الذي هو الوجود غير المقيَّد الأوحد. الانجذاب، النفور، الخوف، الأسى، التواكل، عدم الصِّدق، الكسل، السلبية، إلى ما هنالك، تنشأ من الجسم. الدأب، المحبة، السعادة، السلام، الشجاعة، الحرية، الصِّدق، الوجود، اليقظة، المعرفة – هذه جميعًا تنتمي إلى عالَم آتمن. كل ما يشير إلى الشخصية يجب أن يُفهَم أنه يعود بأصله إلى الجسم. أما ما يشير إلى ما يتعدَّى حدود الجسم فيجب أن يُرى بوصفه ينشأ من تأثير آتمن. لذا لا بدَّ من تمييز الخصائص على هذا النحو ورؤية كلٍّ منها في مجاله الخاص. إذا تمَّ استعمالُ التمييز حينئذٍ وعندئذٍ فإن تركيب خصائص الواحد على الآخر يتعطل. فإذا أزيلَتْ بذلك كلُّ إمكانية لمثل هذا التركيب فإن المرء يبلغ حالتَه الطبيعية التي يُدرَك فيها العالم الموضوعي ككل بوصفه ليس شيئًا سوى الوعي. لا يمكن لموضوعات الوعي أن تنفصل عن فعل الوعي نفسه. إذ ليس لها أيُّ وجود مستقل، وهي، بالتالي، ليست شيئًا غير الوعي. مقاربة الحقيقة على هذا النحو تزيل كذلك التماهي المتخيَّل للـوعي مع الجسم، كما تزيل كلَّ ضلال. إذ ذاك فإن المرء يجد نفسه راسخًا بوصفه آتمن، الحق الواحد الأحد. الحق لا يمكن لكلمات من نحو "سرمدي"، "عديم الصورة"، "غير مقيَّد"، إلخ، حتى بفحواها السلبي، أن تبيِّن الحق كما هو. إن القول بأن الإنسان ليس بهيمة صحيح، لكنه لا يبيِّن أيًّا من خصائصه الحقيقية. من المتعذر تبيان الحق كما هو. فالكلمات ليست إلا مجرد إشارات. إذا تفكر المرء، من دون أن يعرف هذا، في المعنى الحرفي للكلمات، فإن اختباره للـحق يفسد بمقدار ما يفعل. أما إذا اتُّخِذَت الكلماتُ كمجرد وسيلة للسموِّ على الأفكار جميعًا فإن استعمالها يكون في محلِّه تمامًا. إذا تمَّ تصور الحق بوصفه متعاليًا على الأفكار جميعًا، وتمَّ توجيه المشاهدة بمقتضى ذلك، فيمكن للكلمات أن تساعد في إرشاد المرء إلى مرحلة يتوقف فيها كل تصور ويتم اختبار الحق. قد ينشأ شك حول إمكانية مشاهدة ما يتعدى الفكر. هذه المشاهدة ممكنة! الصعوبة صعوبة ظاهرية وحسب. الصحيح أن موضوعًا واحدًا من موضوعات الإدراك فقط يمكن مشاهدته مشاهدةً مباشرة. "الأنا" هي المدرِك دومًا، وليست أبدًا موضوعًا للإدراك. بذا فإن المشاهدة المباشرة للـ"أنا" أمر متعذر. ولكن بما أن "الأنا" تُختَبَر بوصفها كينونة المرء نفسها فإن من الممكن مشاهدتها مشاهدة غير مباشرة. ألا يمكن مشاهدتها بوصفها ما يبقى بعد إزالة كلِّ شيء موضوعي من "الأنا" الظاهرة؟ هذه الفكرة التأملية نفسها سوف تؤول أوتوماتيكيًّا في النهاية إلى السكون، وفي السكون سوف تُشاهَد مشعةً طبيعةُ المرء الحق. ما يقع فيما يتعدى الفكر قد يشاهَد مشاهدةً غير مباشرة بطُرُق أخرى أيضًا، وبذلك تنكشف طبيعة المرء الحق. تذكَّر دومًا أن كلمات من نحو الوعي، المعرفة، الكينونة، السعادة، تشير جميعًا إلى "الأنا". تمسَّكْ بفكرة واحدة لكي تبدِّد الأفكار الأخرى. ولتكن هذه الفكرةُ فكرةً تشير إلى كينونة المرء. فكما أننا نطبِّق كلمة "معرفة" للتدليل أيضًا على وظيفة التعرف، كذلك فإننا نستعمل كلمة "سعادة" للتدليل على وظيفة التمتع. ومع ذلك، فإن المعرفة والسعادة لا تشرقان ضمن خبرة كلِّ واحد إلا حين تتوقف وظيفتا التعرف والتمتع على التوالي. بذا فإن المعرفة والسعادة هما كينونة المرء. متسلحًا بهذه القناعة، إذا وُجِّه الفكر إلى أية من هاتين، فإن هذا الفكر يسلِّم صورته ويندغم في الكينونة. والاندغام لن يكون أبدًا في النوم العميق، بل في كينونة المرء نفسها. وكل عُقَد القلب سوف تُقطَع بهذه الوسيلة. الاختبار والعلَّة في اختبار المرء، بحصر المعنى، ليس هناك فكر ولا موضوع خارجي حاضر. إنه حالة يقيم فيها المرء في ذاته بمفرده. موضوعات الإدراك، إذ يُعتقَد بأنها علَّة الخبرة، تغري الجاهل. إذا تمعَّن المرء في الأمر، سيجد أنه لا توجد علَّة ومعلول كعاملين مستقلين. فالمعلول لا يظهر أبدًا مستقلاً عن العلَّة، والعلَّة تشاهَد دومًا في المعلول. ولكن ليس ثمة علَّة كهذه تظهر في خبرة المرء. ينتج عن ذلك أن الخبرة لا علَّة لها. فإذا لم تكن للخبرة علَّة لماذا هذا التصيد للموضوعات؟ كل ما هو مطلوب هو اندغام الأفكار في كينونة المرء نفسها. إن المشاهدة الدائمة لطبيعة الخبرة نفسها سوف يجلب هذا الاندغام. والقناعة الراسخة بأن المرء ليس الفاعل ولا المتمتِّع لا بدَّ أن تجلب النتيجة نفسها. أو يستطيع المرء أن يرى بأن الفكر، بما هو كذلك، غير موجود حقًّا أو ليس شيئًا غير الوعي – وهذا هو أفضل السُّبُل. الشاهد يبيِّن التحليل السليم أن الذهن، متخذًا صورة موضوع ما، هو الذي عادةً ما يقال عنه إنه إدراك موضوع ما أو معرفته. آتمن هو الوعي السرمدي الذي يدرِك، من دون جهد أو أيِّ تغير في ذاته، مثل هذا التعديل في الذهن. وإمعان النظر سيكشف أن هذا هو المبدأ المقصود بكلمة "أنا". والمرء، إذا يقيم على ذلك، لا يرى أيَّ شيء آخر. ليس ثمة جسم، ولا ذهن، ولا عالَم، ولا أعضاء حواس. لا شيء انوجَدَ، كما لا مفهوم لوجود سابقٍ لشيء أو لوجود حاضر له. وبذلك فإن الفاعل، الوعي، يتمتع بذاته أبدًا. العالَم الماء، إذ يتماسُّ مع الزمن والمكان – وهما متميزان عنه ومختلفان اختلافًا كليًّا، – يمكن له أن ينتج موجة. لكنْ ليس ثمة إمكانية لإيجاد أيِّ عالَم على هذا النحو. لا شيء يوجد في معزل عن الوعي. فكيف يمكن، إذن، لشيء مختلف ومستقل أن يتماسَّ مع الوعي، فيوجِد بذلك عالَمًا؟ الماء بمفرده لا يمكن له أبدًا أن ينتج موجة. بالمثل، لا يمكن للـوعي بمفرده أبدًا أن ينتج عالَمًا. بذا فإن العالَم ليس، لم يكن، ولن يكون أبدًا. ما هو موجود حقًّا هو الوعي وحده. الوعي هو السعادة بعينها. الـآتمن، مقصودًا بكلمة "أنا"، هو كذلك ذاك. التغير ليس في إمكان أيِّ شيء أبدًا أن يتغير إلى شيء آخر من دون أن يفقد الـسواروبا[9] الخاص به. فإذا فَقَدَ الشيءُ الـسواروبا الخاص به فإنه بذاته لا يبقى. فإذا لم يعد باقيًا كيف يمكن أن يقال عنه إنه تغيَّر إلى شيء آخر؟ – بما أنه لا يوجد شيء يربط بينه وبين الشيء الجديد. بذا لا يمكن لشيء أبدًا أن يكابد التغير والولادة والموت. مَن يكتشف هذه الحقيقة عِبْرَ تقصي طبيعة الأشياء، فيقيم فيها، هو الـمهاتما[10] الذي بلغ غايته. إنه يعرف الشيء الوحيد الذي تنبغي معرفته، وبذلك يبقى مَرْضِيًّا أبدًا. الأفكار والموضوعات عزو صفة الحقِّية إلى الموضوعات التي تخطر بالبال هي علَّة العبودية. يمكن للصورة أن توجد فقط بوصفها موضوعًا للرؤية، وليس في معزل عنه أبدًا. وهذا عينه يصح على جميع موضوعات الحسِّ. ليس ثمة ارتباط بين الموضوعات بعضها ببعض. فارتباطها يكون دومًا مع الفكر وحده. لا يمكن لموضوع ما أن يوجد، ولا حتى لبرهة واحدة، ما لم يُدرَك في الفكر. حين يتغير الفكر يتغير الموضوع كذلك. الفكر والموضوع متلازمان، وهما، بالتالي، واحد. والحقيقة أن هناك شيئًا واحدًا، تُبقيه الكلمات المجرَّدة منقسمًا. لذا فإنه حتى القول بأن الأشياء تنشأ في الفكر هو من قبيل الضلال. ليس ثمة إلا الوعي وحده، ومحتوى الفكر هو الوعي. إذا أُبقِيَتْ هذه الحقيقةُ حيةً على الدوام، سرعان ما يتلاشى الفكر، فيسود الوعي. إذ ذاك يأتي التحرر من كلِّ عبودية. الوعي المحض للـوعي مظهران: مقيَّد وغير مقيَّد. الأول هو الذي ينير موضوعات الوعي؛ الثاني هو الوعي المحض. موضوعات الحسِّ هي مجرد صور ذهنية. لذا، إذا توخينا الدقة، نقول إن الأفكار وحدها هي موضوعات الوعي. مَن لا يتمكن، بالتمييز والتقصِّي، من تحقيق الوعي المحض، له أن يكتفي بالإقامة في المظهر المقيَّد. وإنه لسوف يبلغ غير المقيَّد في المآل إذا لم يبقَ مكتفيًا بالمقيَّد. إذا أمعن المرءُ النظر، يمكن له أن يرى بأن كلَّ فكرة تنشأ عن الوعي المحض وحده وتنطلق منه. أما ما ليس وعيًا محضًا فهو صورة ذهنية. والوعي المحض لا يمكن له أبدًا أن يشهد له. إن الحجة القائلة بأن الذاكرة تبقى غير متغيرة، وترصد كلَّ الأفكار متتابعةً، هي حجة باطلة. إنه لمن قبيل الخبرة العامة أنه حين توجد أفكارٌ أخرى، لا تصاحبُها الذاكرة. فكيف يمكن للذاكرة أن تستدعي أفكارًا ماضية؟ فإذا لم تكن الذاكرة تستطيع استدعاء أفكار ماضية فهي ليست ذاكرة على الإطلاق. كلمة "ذاكرة"، إذن، كلمة عديمة المعنى. ومع ذلك، يجب أن نقرَّ بأن الذاكرة هي دومًا التي تستدعي الأفكار الماضية. إذا كان ما نسمِّيه "ذاكرة" عديم الوجود، ينتج عن ذلك أن الأفكار عديمة الوجود هي الأخرى. إذ ليس ثمة شاهد للبرهان على وجودها. بالمضيِّ في خطِّ المحاكمة العقلية هذا نتوصل إلى أن ما يبدو مقيَّدًا هو في الواقع غير مقيِّد، بل هو الوعي المحض. التمييز بين الرائي والمرئي إذا نظر المرءُ من خلال عضو البصر الكثيف فإن موضوعات كثيفة تظهر. والعلاقة نفسها موجودة بين أعضاء الحسِّ الكثيفة الأخرى وبين موضوعاتها. فإذا ترك المرء الأعضاء الجسمانية، ونظر من خلال عضو الحسِّ اللطيف (الذهن)، فإن موضوعات لطيفة تظهر. أما إذا نظر من الوعي المحض غير المقيَّد، فوحده يُرى الوعيُ المحض. هذه الخبرة تبرهن أن العالَم الموضوعي يظهر دومًا بوصفه الانعكاس الكامل للموقع الذي تتخذه الذاتُ المدرِكة. لذلك، ليس العالَم الموضوعي هو الذي يمثل عقبةً في سبيل التقدم الروحي، بل الموقع الذي يتخذه المرء. إذا تمَّ تسليم الموقع الكاذب فإن تحقيق الحقيقة يتبع. من أجل تسليم الموقع الكاذب، لا بدَّ من الاتصاف بالشجاعة والانتباه المركَّز على نقطة واحدة وإخلاص القلب التام اتصافًا مطلقًا. الفحص النقدي عن العالَم الموضوعي لا بدَّ أن يجلب النتيجة نفسها. غير أن التوصل إلى النتيجة التي مفادها أن هذا العالَم الذي يظهر صلبًا هو مجرد فكر لا يحل المشكلة. إنه لا يمكن أن يكون مُرْضيًا كلَّ الرضى لأنه يجري على مستوى العقل الذي يُترَك غير معلَّل. العقل، هو الآخر، شيء مُدرَك. أليس المرء نفسه، الوعي، هو المُدرِك الحقيقي؟ من أجل الفحص عن الفكر، على المرء أن يتخذ موقعه في إدراك الوعي. وحين يتبيَّن أن محتوى الفكر ليس شيئًا غير الوعي يتلاشى الفكر ويبقى الوعي. والوعي، حين يُظَنُّ خطأً أنه مقيَّد بالزمن، يظهر بوصفه فكرًا. غير أن هذا لا يقيِّده حقًّا. أليس الزمن نفسه فكرةً؟ كيف يمكن، إذن، لنشوء فكرة أن يُنسَبَ إلى تقيُّد الوعي بالزمن؟ بذا فإن توخِّي الدقة يجعلنا نقول بأنه لا وجود للفكر. لا وجود إلا للـوعي. فكرة الزمن هي مجرد تركيب عليه سببه الضلال. الحلم والواقع في حالة اليقظة يدرك المرء أن موضوعات الحلم غير حقيقية. إذا كان الرجل الذي يشاهَد في الحلم غير حقيقي فإن ذهنه غير حقيقي سواء بسواء. وأفكاره، بصره، سمعه، إلخ، هي، بالمثل، غير حقيقية. على النحو نفسه، فإن ذات الحالِم في الحلم، التي هي نتاج للحلم هي الأخرى، لا بدَّ أن تكون غير حقيقية. الجسم في حالة الحلم مختلف عن الجسم في حالة اليقظة. ففي حين أن الأول فاعل يظل الثاني مستلقيًا في حالة مفعولية. أفكار ذات الحالِم وإدراكاتُها في الحلم ليست، على النحو نفسه، أفكارَ حالة اليقظة ولا إدراكاتها. أفكار الأول وإدراكاته غير حقيقية، من حيث إنها نتاج الحلم. إذ ذاك ينطرح السؤال: مَن الذي يرى الحلم؟ والجواب الصحيح هو أنه لا أحد يراه وأنه لم يوجد حلم قط. إذا تمَّ الفحصُ عن عالَم حالة اليقظة على هذا النحو سيتبيَّن أنه عديم الوجود. إذ ذاك يكتشف المرءُ هويتَه الحق، فيعود من جديد راسخًا بوصفه الوعي المحض. الهوية الحق أنا ذاك الوعي، الباقي بعد زوال كلِّ ما هو موضوعي مِن أنا. ليس لي جسم، ولا پرانا، ولا إدراكات، ولا أفكار، ولا رغبات. أنا أبعد من الانجذاب والنفور، اللذة والألم، الخوف والضلال. أنا الوعي المحض. وإذ أدْرِكُ أن كلَّ موضوع، أينما وُضِعَ، يؤكد أنا، أتمتع في كلِّ مكان بكلِّ شيء. في حالة النوم العميق، وكلما تحققتْ أية رغبة، وحدي أنا أشع بوصفي السلام والسعادة اللذين لا يُقلِقُهما شيء. أنا المبدأ الأكثر بُطونًا، ساتشيتانندا نفسه. أنا الذي يتعالى عن كلِّ شيء. قبل كلِّ فكرة وشعور وبعدهما، وحدي أنا أشع في مجدي. فيَّ أنا تنشأ الأفكار والمشاعر، ومنِّي أنا تنطلق، وأنا شاهدها السرمدي. أنا نور الوعي في الأفكار والإدراكات كلِّها، ونور المحبة في المشاعر كلِّها. لم أولد ولم أمتْ، لا أعاني أسًى ولا ضلالاً. أتعالى عن العبودية والحرية. العالَم الذي يولد في الفكر ويقتات بالفكر ليس بذاته شيئًا غير الفكر. الفكر ليس شيئًا غير الوعي، والوعي هو كينونتي. لذا فإن العالَم بأسره هو الوعي، الذي هو ذاتي. أنا كامل غير منقسم. ليست بي رغبة، ولا تعلق، ولا أنانية. أنا الأبدي، اللافاعل، الذي لا يشوبه شيء، المتوكل على ذاته، المنير بذاته. بلا صفات، لامتغير، غير مقيَّد، أنا مقام المحبة، الواحد الذي ما له ثانٍ، الساكن أبدًا. تريفاندروم، الهند، 1945 *** *** *** ترجمة: ديمتري أفييرينوس [1] النَّفْس، الأنا، حس الوجود الشخصي، "الأنية" الظاهرة. [2] الوجود والوعي والغبطة: المظاهر الثلاثة للـوعي المحض. [3] النقاء، المظهر أو الخاصية المتصفة بالنور والحقيقة والحقِّية. [4] الجهل، الضلال. [5] المعرفة، الحكمة. [6] الوعي المحض، الإدراك غير المقيَّد. [7] الذات، الذات الحق، الوعي المحض. [8] النَّفَس، طاقة الحياة. [9] الطبيعة الحق أو الجوهرية، هوية الشيء الحق. [10] الروح العظيمة، الحكيم. |
|
|