english

نملةْ

 

معن عبد السلام

 

وراء الكلام والانفعال، وراء الجهد والضجيج،

كان صمتٌ يتَّضحْ... يكبرُ... يتَّضحْ.

وكانت نملةُ مولودة حديثًا، لا تمشي إلا وتتعثر. نامت الكائنات، وهي تتعثر. أفاقت الكائنات، وهي منكفئة على نفسها حزينة. علَّمتْها أمُّها: هذه "يد"، وهذه "قدم"، وهذا "قرن تحسُّس".

كان اسمها "نملةْ"، وكانت تحب أن تعدَّ الكلمات والأسماء التي تعلَّمتْها: "حبق"، "بنفسج"، "زعرور"، "أمي"، "أبي"، "قمر"، "مطر"...

-       مطر!...

وانثالَ المطرُ، رخيمًا هادئًا، فتراقصت الأعشاب والأزهار، اغتنجتْ مع تياراته وهذيانه. والأرض فرحتْ وتعطَّرتْ بأحلى الروائح والعطور. أما نملةْ فجالسةٌ تحت عشبة خضراء سمَّتْها "مظلة"، تتأمل قطرات الماء وتسميها "مطر".

هنيهات، وخيوطٌ ذهبية برَّاقة سَرَتْ في أوردة الغابة، لتشقَّ طريقها إلى نملةْ المبتهجة الحائرة، التي وجدتْها أمُّها أخيرًا، لتضمَّها إلى صدرها، وتعود بها إلى بيتها في جذر شجرة الورد.

-       أمي، أمي... إنه ماء!

-       نعم مطر.

-       مطر حقيقي... مياه تسقط من السماء!

-       نعم، مطر... مطر حقيقي.

العشب الأخضر يتطاول وينمو، ليصبح زرافاتٍ يضيع البصر مع ذروتها. ونملةُ الصغيرة تتسلق إحدى العشيبات لتصل إلى سفحها، وتجلس هناك منتظرةً ألوان الليل الفضية التي تحبها أكثر من كلِّ الألوان. في البعيد يسقط شهابٌ، رأسُه قرمزي مشع، وجسمه برتقالي مفرح، أما ذنبُه فوردي يسحب القلب معه.

هدأت الكائنات عن الحركة، وصمتت في برج من العتم الحالك – إلا سيد صرصار، المغنِّي العجيب الذي لا يفتأ يغنِّي وينادي، وإذا اعتراه الشوق، نشج وطرب، ولا أحد في الغابة كلِّها يعرف لِمَنْ يغني.

النجوم طلعت الواحدَ خلفَ الآخرَ، في بطءٍ وحياءٍ شديدين. وقبلهما أخذ القمرُ يتوسطُ رقعتَه في السماء. صارت الخيوط الفضية تُحاك وتطول، حتى تبلغ أغصانَ الأشجار، وعلى وجوه الورود تفرش عباءتها.

ونملةُ المأخوذة تلعب لعبة الأسماء: "نجم"، "قمر"، "سماء"، "شجرة"، "نملةْ".

-       نملةْ!...

وتسير نملةُ تائهةً حزينة فوق سفح العشبة. لم تفكر في حياتها ما معنى اسم "نملةْ".

-       هذه شجرة ورد. في جذورها نعيش، ومن رحيقها نأكل. وهذه سماء زرقاء في الصباح، وفي المساء تلتحف بغطائها الأسود. أما "نملةْ"، فماذا يعني هذا؟!

وتصادف نملةْ قطرةَ ندى.

-       قطرة الندى، يا قطرة الندى، يسمونني "نملةْ". ماذا يعني، يا قطرة الندى؟

وقطرة الندى الصامتة أبدًا لا تردُّ، ولا تبدي أية حركة.

-       خائفةٌ، يا قطرة الندى، حائرةٌ أنا، ولا أعلم ما يعني "نملةْ".

وبين الحزن والألم، وبين دموعٍ غزيرةٍ تهطل من عيني نملة الحائرة، يصلُ خيطٌ فضِّي برَّاق إلى السيدة قطرة الندى، فتشع وتتوهج، وتتحول إلى مرآة صقيلة جميلة. تنتبه نملةُ، من خلال غشاوة عينيها، إلى مرآة قبالتها كانت قبل حين قطرةَ ندى، وترى عينين سوداوين يتيه في غورهما النور، وحاجبين مقوَّسين رقيقين، ووجهًا بنيَّ اللونِ، ناعمًا كزهرة البندق، وجسمًا مثل خرزاتِ العيدِ مجتمعًا.

-       هذه "يد"، وهذه "قدم"، وهذا "قرن تحسُّس".

ابتسامة عميقة تفيض في قلب نملةْ. تشكر قطرة الندى على معروفها، نازلةً عن سفح العشبة، متجهة إلى حيث يكمن أبواها، فرحةً بوجودها بين أقرانها.

ربيع 1997

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود