|
نظرية "اللاعنف المباشر" عمومًا و… فلسطينيًّا*
عندما انتصرتْ ثورةُ أكتوبر 1917 من خلال استراتيجية وتكتيك الانتفاضة المسلَّحة العامة في العاصمة والمدن الرئيسية، اعتبر كثيرٌ من المنظِّرين أن تلك هي الاستراتيجية الناجحة في تحقيق التغيير المنشود. لكن تجاربَ متكررة تلتْها طوال العشرينات التالية، من أوروبا حتى شنغهاي في الصين، فشلتْ فشلاً ذريعًا. فأثبتت التجربةُ الخللَ الخطير في تعميم أسلوب بعينه، نجح في مكان وزمان محددين وظروف خاصة، تعميمًا جامدًا. فما من أسلوب نجح في التغيير إلا وكانت وراءه، ومعه، أسبابٌ أخرى شاركتْه الوصول إلى النجاح؛ ولهذا لا يمكن أن يُرَدَّ النصرُ إليه وحده. وبعد تتالي فشل تلك التجارب، لَحَظَ ماو تسي تونغ أن أسلوب الانتفاضة المسلَّحة العامة لا يصلح للصين، كما لم يصلح الأسلوب السِّلمي. وأخيرًا، اهتدى إلى نظرية حرب الشعب واستراتيجية تطويق المدن من خلال الريف. وعندما نجحت الثورة الصينية في العام 1949، وجد أسلوبُ ماو مَن يعمِّمه، كما فعل مَن عمَّموا الانتفاضةَ المسلَّحة العامة. وقد زاد من قوة حجَّتهم نجاحُ المقاومة المسلَّحة ضد القوات النازية واليابانية المحتلة في عدد من بلدان أوروبا وآسيا. ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الخمسينات، لحق الفشل بعدد من تلك التجارب، من اليونان، إلى الملايو، إلى الفيليبين، مع بعض النجاحات هنا وهناك، في يوغوسلافيا وفييتنام (1954) مثلاً. آفةُ تعميم أسلوب تجربة ناجحة حدثتْ أيضًا مع تجربة اللاعنف التي قادها غاندي بنجاح في الهند، مما أكسبها الأنصار والمدافعين عنها في سائر أنحاء العالم طوال عشرات السنين. لكن كثيرًا من بلدان المستعمرات لم ينجح فيها أسلوبُ الكفاح السِّلمي اللاعنفي، مما اضطر حتى قادةً من نمط غاندي إلى اتِّباع أسلوبٍ يجمع بين المقاومة المسلَّحة والكفاح السِّلمي: المطران مكاريوس في قبرص، ومانديلا في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال. هنا أيضًا، أثبتت التجاربُ العالمية الخللَ الكبير في تعميم أسلوب بعينه على الحالات كافة، أو الدفاع عنه بطريقة إيديولوجية أو تجريدية مفرطة في إطلاقيَّتها. ثمة جانب آخر أثبتتْه التجربة العالمية المعاصرة، وهو أن مَن يستورد أسلوبًا بعينه، ويطبِّقه في بلده، ولا يكون مناسبًا لسمات المكان والشعب ولطبيعة العدو، سيجد أسلوبَه مهمَّشًا لحساب ما يفرزه الواقعُ والعفويةُ الشعبية، أو لحساب الأسلوب – أو الأساليب – الأكثر تلاؤمًا مع خصوصية الحالة المعنية. ذلك أن التجربة هي محك الاختبار لكلِّ نظرية تنزل إلى الميدان؛ ولا علاقة لكثرة الذين يتبنونها عند الانطلاق أو قلَّتهم. يجد من يقرأ تاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني، من 1917 إلى 1948، ومن 1950 إلى 1967، ومن 1968 إلى الآن، أنها عرفتْ أسلوب الكفاح السِّلمي، أو ما يُسمَّى "اللاعنف المباشر"، في أعلى تجلِّياته. ففلسطين اشتهرت بعقد المؤتمرات وتقديم المذكرات والتفاوض والتظاهرات، وعرفت أطول إضراب سِلْمي عَرَفَه شعبٌ من الشعوب (ستة أشهر كاملة في العام 1936). وقد فشل ذلك كلُّه، ومن دون أن تبدو بوادر – ولو بعيدة – في الأفق تشير إلى إمكان نجاح هذا الأسلوب، مهما تَواصَل النَّفَسُ وطال. أما السبب فيرجع إلى طبيعة المشروع الصهيوني، وإلى التزام بريطانيا والدول الكبرى الأخرى به، أي إقامة الدولة العبرية وتفريغ الأرض من أصحابها – سكانها. ولم يكن مصير اللجوء إلى الكفاح المسلَّح في 1937-1939 بمختلفٍ، وذلك للأسباب نفسها، وإن استطاع أن ينتزع تراجعًا مؤقتًا ("الكتاب الأبيض")؛ وهو ما لم يستطعه الأسلوب السِّلمي. وجاءت مرحلة 1950-1967 لتقتصر على مناشدة الأمم المتحدة تطبيقَ قراراتها، ولكن من دون جدوى. وجرت محاولاتٌ لتنظيم زحفٍ سلميٍّ إلى الحدود من أجل العودة؛ وإذا بالغرب كلِّه، والشرق معه، يضغطان على الدول العربية لئلا تسمح بذلك، مع التهديد الإسرائيلي بالحرب والاحتلال والتوسع. وبهذا كان طريق الكفاح السِّلمي، السلبي والإيجابي، مسدودًا تمامًا. وهذا ما وَرَدَ في بيان قوات العاصفة (فتح) الأول في تسويغ إعلان الثورة المسلَّحة في 1/1/1965. بين 1968 و1993، لم يكن أمام الشعب الفلسطيني، ليُسمِعَ صوتَه أو ليُعتَرَف بوجوده حتى، غير طريق الكفاح المسلَّح ومقاومة الاحتلال الجديد بكلِّ الأشكال – وهو ما اعترفتْ له به قراراتُ الأمم المتحدة – بسبب زحف المشروع الصهيوني الاستيطاني العنصري التهويدي، فضلاً عن عدالة القضية. وهذا ما أمكن إنجازُه عبر هذا الأسلوب، في حين لم تصنع المناشدات السِّلمية السابقة إلا معاملة الفلسطينيين باعتبارهم لاجئين يستحقون شفقةَ أصحاب "الضمائر"، وأنه يجب توطينهم في الشتات عند أصحاب "السياسة العقلانية". وللمناسبة، جَرَتْ محاولاتٌ عدَّة لاختراق المقاومة بالأسلوب السِّلمي اللاعنفي المباشر من قبل قادة المقاومة أنفسهم حينئذٍ. مثلاً: محاولة تنظيم "باخرة العودة" (1988)، ثم انتفاضة (1988-1993). ومع ذلك، كانت الطريق إلى الحدود أو الشواطئ مسدودةً تمامًا، في حين كانت المقاومة المسلَّحة قادرةً على الاختراق وتذكير العالم بعدالة قضية شعب فلسطين. وجاءت تجربة سبع سنوات بعد اتفاق أوسلو في العام 1993، ليتضاعف الاستيطانُ في ظلِّها، وليبدو النفقُ أشد ظلامًا من المرحلة السابقة لها. أما الرأي العام، فقد غاب عن الأنظار، ليترك المفاوِض الفلسطيني (من دون أن يسوِّغ مسارَه) محاصَرًا مختنقًا، ليس أمامه غير الاستسلام الكامل أو رفض التوقيع على ذلك الاستسلام (كامب ديفيد 2). وبهذا عاد الواقع الفلسطيني – وتحديدًا بسبب طبيعة المشروع الصهيوني وما يلقاه من شراكة أمريكية ومناصرة دولية – ليختطَّ طريقَ الانتفاضة والمقاومة والصمود في وجه الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات وتدمير البيوت وتجريف الطرقات والبساتين وقصف الأباتشي والفانتوم الأمريكيتين. وهذا الاختيار جَمَعَ بين الوعي المسبق بضرورة مقاومة الاحتلال والاستيطان وبين الوعي العفوي الشعبي، مع عودة القناعة السابقة التي حملتْها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والتي تخلَّتْ عنها في أثناء قبول مسار أوسلو؛ مما أدَّى إلى تعاظُم مناصرة الرأي العام للشعب الفلسطيني كما لم يحدث من قبل. وحتى بعد تحرير جنوب لبنان على يد المقاومة الإسلامية المسلَّحة وإمكان الوصول إلى بوابة فاطمة، جرت في ربيع 2000 محاولةٌ للزحف السِّلمي اللاعنفي في اختراق الحدود؛ فجرى إجهاضُها، بما أثبت، مرة أخرى، أن "اللاعنف المباشر" غير ملائم للظرف الفلسطيني – وذلك من دون أن يُتَّهَم بالعقم، لأن التجربة مازالت تُخرِجُه إلى النور بين الحين والآخر، ليس باعتباره البديل الأوحد، وإنما ضمن مظلَّة المقاومة والانتفاضة والصمود وما يتعايش من أشكال المقاومة المتعددة. إذا كانت تجربة كلِّ شعبٍ ذات فرادة واستثنائية، فقد أثبتت التجربةُ الفلسطينية، طوال تاريخها الحديث، بأنها فريدة بين الفرائد، واستثنائية بين كلِّ ما هو استثنائي. ويكفي مرورٌ سريع على المشروع الصهيوني ومعرفة طبيعته العنصرية، الاغتصابية للأرض والاقتلاعية للشعب الفلسطيني، وإدراك الاستراتيجيات الدولية – الأمريكية بخاصة – في ظروف ما فُرِضَ من تقطيعٍ في الوضع الفلسطيني وتجزئة عربية مولِّدة للشلل، حتى يتواضع الذين يقترحون اتِّباع أسلوب "اللاعنف المباشر" أسلوبًا أوحدًا. فالتجربة التاريخية والراهنة، والحياة نفسها، وطبيعة الوضع، مكانًا وزمانًا وعدوًّا وظروفًا، وما يمكن أن يستجد من موازين قوى وظروف إقليمية وعالمية، هو ما يحدِّد ألوان الكفاح وتفوقها في آنٍ واحد، كما سبق وحدَّد، دائمًا، مراحل وإشكالات. وإذا كان من الطبيعي – وربما الضروري – أن يكون لأسلوب "اللاعنف المباشر" أنصارُه، فإن الانحياز المطلق له، ومعاداة أو مجافاة أشكال المقاومة الأخرى، يدلان إلى محدودية في النظرية العامة، وإلى محدودية أخرى في ما يخص الحالة الفلسطينية. *** *** *** * يعبِّر هذا المقال عن وجهة نظر صاحبه، وليس عن موقف أسرة التحرير إجمالاً. (المحرر) |
|
|