أساليب السُّلطة الدِّينية

في مُحاصَرة العقل المُسْلِم

 

بلال الشوبكي*

 

المقدمة

في ظلِّ التردِّي المتفاقم الذي تشهده الحالةُ الإسلامية في مختلف ميادين الحياة، تظهر نداءاتٌ ومطالباتٌ عديدة تنادي بالإصلاح والتقدم والتطور. ويحاول أصحاب هذه النداءات تحديد المشكلة الإسلامية لكي تبرز وجهاتُ النظر المختلفة حول تحديد المشكلة الواجب معالجتها.

لكن الغريب في الأمر أن القليل من أصحاب هذه النداءات مَن تنبَّه إلى أساس المشكلة وإلى علَّة المرض الإسلامي. فقد تركزتْ معظم الرؤى على المظاهر والأعراض لأساس المشكلة، فطالبت بحلول لها، فكانت هذه الحلول لا تتعدَّى كونها مسكِّنات ومهدِّئات لحالة الاحتضار الإسلامي.

نعم، القليل من المفكِّرين مَن أعاد المشكلة إلى الجذور. ويأتي بحثنا هذا، فيزيد القليل شيئًا، ويعود بالمشكلة إلى العقل الإسلامي الذي بات يتعامل مع أسئلة الماضي على أنها مسلَّمات، ومع أسئلة الحاضر على أنها قدر الله، ومع أسئلة المستقبل على أنها في علم الغيب – عقل لا يتعاطى مع الواقع، ويكرِّس النقل على حساب النقد، كنتيجة طبيعية لحصار العقل من قِبَل مَن هم أشبه بمقاولي المعرفة: رأيهم الفقهي مقدس قداسة النص القرآني، إن لم يكن أكثر، مستندين في ذلك إلى مرجعيات سياسية واجتماعية تحمل الدين شعارًا، لتستر وراءه مصالحَها الخاصة، فتصير السلطة الدينية أمرًا مفروغًا منه، ونتاجًا طبيعيًّا لاستغلال الدين في خدمة أصحاب المصالح، على اختلاف نشاطاتهم وتوجهاتهم.

من هنا انطلق الباحث في هذا الموضوع مختلفًا عن الأبحاث التي حدَّدت المشكلة الإسلامية في ظواهر الأمور، ومتفقًا مع القليل منها التي عادت بالمشكلة إلى الجذور، وإنْ كان ذلك في شكل عام أو مجتزأ في أحيان كثيرة.

فبعضهم طرح موضوع السلطة الدينية في شكل بسيط ضمن إطار عام هو السلطة التقليدية والاجتماعية؛ وبعضهم الآخر طرح موضوع السلطة الدينية دون ربْطه بالتطور الفكري. أما في هذا البحث، فيتم طرح موضوع السلطة الدينية من خلال علاقة تناسُب عكسي بين هذه السلطة والتطور الفكري، حيث يتم استعراض أهم المظاهر الدينية التي تُعتبَر السلاحَ الفعال بيد السلطة الدينية، وتحليل مدى تقييد هذه المظاهر لحرية الأفراد، ومن ثَمَّ المجتمع، تحت غطاء الدين، لتؤدي في نهاية المطاف إلى الجمود الفكري. ولا يقف البحث عند هذا الحد، بل يقوم لتوضيح أشكال العلاقات بين السلطة الدينية والسياسية، وكيف يمكن أن تتوافق المصالح بين السلطتين أو تتعارض.

ويأمل الباحث أن يساهم هذا البحث في إخراج الفكر من حالة الجمود المميت، وعلى أقل تقدير، أن يساهم في تحريك المجتمع نحو رَفْض المظاهر المقيِّدة للحرية تحت غطاء الدين.

وبما أن الباحث سيعالج الموضوع من خلال استعراض بعض المظاهر، فإن المنهج الوصفي سيكون ذا أهمية في هذا البحث. لكنْ، بالتوازي مع استخدام هذا المنهج، سيتم التركيز على المنهج التحليلي لتوضيح العلاقة بين المتغيِّرات في البحث.

أهمية التطور الفكري

إذا كان الفكر هو الأساس الذي يُبنى عليه واقعُ الأمم، – قويِّها وضعيفها، – وإذا كانت "الثقافة" نتيجة الفكر في المجال النظري، و"المدنية" نتيجة الفكر في المجال التجريبي، و"الحضارة" نتيجة الفكر في المجالين النظري والتجريبي معًا[1]، فإن أساس النهضة أساس فكري[2]، كما أن أساس التخلف مشكلة في الفكر.

لذلك فإن تطور الأمم في الميادين كافة يجب أن يسبقه تطور فكري، لن يكون متاحًا دون تحرير العقل من القيود الزائفة التي صُنِعَتْ لتكبيله عن القيام بدوره في تجديد الفكر الصالح للنهضة[3]، حيث العقل هو الطريق نحو الخلوص إلى واقع فكري يتفق ومعطيات العصر، ولا يتعارض مع أساس هذا الفكر.

وبالنظر إلى واقع الأمة الإسلامية، نجد تخلفًا واضحًا، ينعكس عن تخلف فكري أقل وضوحًا. فالفكر الإسلامي اليوم يعاني من غياب القدرة على التجديد؛ وهي المهمة الأساسية التي تميِّز الفكر الحيَّ عن الفكر الميت.[4]

إن ما أحاط بالفكر بالإسلامي من مثبِّطات جَعَلَه يفقد إمكانية التجديد الذاتي؛ والفكر الذي لا يجدد نفسه من الداخل لن يستطيع التجديد موضوعيًّا، أي لن يكون هناك تطور متقدم في الواقع الخارجي الملموس.[5] وهذا التجدد في الفكر يجب أن ينسجم مع التغير في الواقع: فكما أن الفكر المتجدد يجدِّد الواقع، كذلك فإن الواقع المتغير يؤثر في الفكر نحو تجدد مستمر.

وما يعانيه الفكر الإسلامي اليوم هو بقاؤه محصورًا في قوالب جامدة، أخرجتْه من دائرة الزمن. فقد تكوَّنت هذه القوالب بأشكال مختلفة على مرِّ التاريخ الإسلامي، لكنها أدت إلى نتيجة واحدة، حصرتْ العقل المسلم فيما وصل إليه السلف، ووضعتْ أمامه مسلَّماتٍ شكَّلتْ له حدودًا من كافة الجهات. وخَرْقُ هذه الحدود خَرْقٌ للمقدسات تارة، وللإيمان تارة أخرى. وهكذا أضحى الإسلام ضمن هذا الفهم سجنًا للعقل برضاه؛ ومن لم يرضَ ذلك من العقول هو حتمًا خارج دائرة الإسلام!

ولم يقف الأمر عند هذه التلقائية في التخلف، بل اتخذ مسلكًا آخر عبر تيارات تُدافِع عن هذه النظرة إلى الإسلام والفكر الإسلامي. ولهذه التيارات مفكروها ممَّن لا يتورعون عن إيجاد ما يسوِّغ توجُّههم عبر كتاباتهم التي توضح المقدسات والمسلَّمات، وتضع للعقل حدودًا تسهب في تفصيلها وشرحها.[6]

وهنا تأتي مهمة المفكر المسلم الواعي، ليفنِّد كلَّ ما علق بالإسلام من مظاهر تحدُّ من ميزات فكره في التعاطي مع كلِّ جديد، وليثير في المجتمع ما يمكن له أن يعمل على إحياء الفكر الإسلامي، ويزيل القيود عن العقل.

العقل ميزة الإنسان، وهبة من الله؛ وهو منبع الفكر. والفكر أساس العمل؛ فالعمل بلا فكر عملٌ لا يحمل الصبغة الإنسانية، وتعطيلٌ لنعمة وَهَبَها الله للإنسان دون غيره، ألا وهي العقل. فكيف يُنسَب للإسلام ما يحاصر العقل ويعطِّل هبة الله؟!

تعددت الأساليب التي حاصرت العقل وكبَّلتْه. وفي هذه الدراسة، أراد الباحث أن يلقي الضوء على أخطر هذه الأساليب، من وجهة نظره، كونها تُنسَبُ إلى الإسلام ممَّن يضع نفسه ممثلاً عن المسلمين لإماتة الفكر الإسلامي، ويمارسها المسلم، عن وعي أو عن غير وعي، ليقضي على إسلاميَّته.

أساليب السلطة الدينية في محاصرة العقل

1. تقديس الماضي

قبل الخوض في مفهوم تقديس الماضي، كأحد أساليب السلطة الدينية في محاصرة العقل المسلم، علينا الرجوع إلى أساس هذا المفهوم ومدى صدقيَّته: هل يعبِّر تعبيرًا حقيقيًّا عن مضمونه؟ أم أنه مفهوم مجازي يعبِّر عن حال أمَّة لا تزال مقيدة بما تراه قداسة الماضي؟

من النظرة الأولى إلى هذا الموضوع، يتكشَّف أن هناك الكثيرين ممَّن يخلطون بين المقدس والتاريخي[7]، أو يدمجون بين الاثنين، ليصير التاريخ لديهم مقدسًا، فيصير العقل أمامه عاجزًا عن مواجهته ومناقشته، خوفًا أو حرجًا من قدسيته.

صحيح أن إجلال الماضي واحترامه سائدٌ في مختلف الثقافات والمجتمعات الإنسانية إلى الحدِّ الذي يصل إلى التقديس؛ لكن ما يعانيه المسلم اليوم من تقديس الماضي يتمثل في أن قدسية الماضي هذه تحولت إلى جدار يطوِّق عقله ويحاصر فكره. إذًا، هل تختلف القدسية من مجتمع إلى آخر؟ أم هي واحدة، لكن آثارها مختلفة باختلاف البيئات والمجتمعات؟

الحقيقة أنه، بالإضافة إلى الخلط بين المقدس والتاريخي، فإن مِنَ المفكرين مَن أشار إلى مشكلة لغوية فيما نسميه "مقدسًا" sacred، حيث يرى محمد أركون، المفكِّر والمؤرخ الجزائري، أن "المقدس" في اللغة العربية يدل في وقت واحد على شيئين مختلفين.[8] فعندما نقول إن القرآن "مقدَّس" فهذا له دلالتان: الأولى أن القرآن ذو مكانة عالية ومتوَّج باحترام جميع مَن يرونه مقدسًا؛ والثانية أن تقديس القرآن هو بمعنى المنع والحُرمة، أي أن القرآن لا يخضع للتقييم والجدل نظرًا لقدسيته.[9] لكن المشكلة اللغوية لا تظهر في المثال السابق عن القرآن الكريم، لأن كتاب الله يحتمل الصفتين. لكن كثيرًا ما نواجه أشياء وظواهر دينية لا تحتمل سوى الصفة الأولى من دلالات القدسية، أو لا تحتمل أيًّا من الصفتين في أحيان أخرى، مما يجعل هذه الظواهر الدينية تبرز من خلال مجموعة أكبر من الظواهر التي يصير التفكير فيها خَرْقًا لقدسيتها وإهانةً للمعتقدين بها.

هذا في الإطار النظري لتحليل هذه الظاهرة. لكنْ، عمليًّا، هل يمكن أن يكون تقديس الماضي ناتجًا عن الخلط بين المقدس والتاريخي، أم عن عدم الوضوح اللغوي لكلمة مُقدَّس؟

في الواقع أن للأسباب السابقة دورَها في تفشِّي ظاهرة تقديس الماضي في المجتمع الإسلامي، وما تؤديه من محاصرة للعقل وجمود في الفكر. إن دورها، في الواقع، لا يتجاوز كونه ممهِدًا وميسِّرًا لقبول هذه الظاهرة، في حين أن هناك أسبابًا عملية أدت إلى استشراء هذه الظاهرة – أي تقديس الماضي – في المجتمعات الإسلامية، ومنها: العجز، وغياب الإنجازات، والقصور عن النهوض بفكر معاصر، يتماشى مع الحاضر دون أن يخلَّ بأسُس العقيدة، إضافة إلى عوامل لها علاقة بالتنشئة، في مختلف أشكالها ومراحلها، التي حرصتْ دائمًا على غرس ثقافة الجمود، وأولوية القديم على الحديث، ومخاطبة اليوم بلسان الأمس، لتنشئ جيلاً لا يرى نفسه إلا من خلال مَن سَبَقَه – حتى يجد المسلمون أنفسهم أقرب ما يكونون إلى تلك الأقوام التي نزلتْ فيها الآيتان القرآنيتان التاليتان: قال تعالى: "إنهم ألفَوْا آباءهم ضالِّين، فهم على أثرهم يُهرَعون" (الصافات، 69-70)، وقال أيضًا: "قالوا حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا" (المائدة، 104).

إذًا، إذا كان القرآن الكريم، الذي لا نقاش في قدسيَّته، ينتقد تلك الأقوام التي جعلتْ من قدسية ماضيها حاضرًا يحول بينها وبين مستقبلها، فإنه من باب المنطق أن ما يُعتبَر مقدسًا لدى المسلمين اليوم ليس سوى تناقضًا وخَرْقًا لتعاليم القرآن الذي لا نقاش في قدسيته. فمن الواضح من الآيات الكريمة السابقة، وآيات أخرى كثيرة، أن القرآن ينتقد أيَّ اتِّباع للسلف دون تفكير وتدبُّر؛ بل إن التعامل مع الماضي كشيء مسلَّم به لا يقبل النقاش يتعارض مع دعوة القرآن إلى إعمال العقل والفكر للتوصل إلى الصواب. فحتى لو كان هناك إيمانٌ مسبَّق بصحة الأشياء، إلا أنه يجب التفكر فيها وتدبُّر معالمها، لعلَّها تزيد الإيمان شيئًا إن كانت صائبة، وتنقِّي الإيمان شيئًا إن كانت على غير ذلك. ويبقى العقل هو الطريق إلى حقيقة الأمور.

لكن الواقع الإسلامي اليوم لا يقبل حتى نقاش الأمور التي لا جَزْمَ فيها، ليظهر فيه مَن يتخذ من رأي السلف فيها أساسًا لرأيه، متجاهلاً، عن قصد أو عن غير قصد، كلَّ ما جاء في القرآن من دعوات إلى التفكر والتساؤل، ويضع نفسه، في الحين ذاته، حاميًا للقرآن الكريم. فكيف تستقيم الأمور؟ حِرْصٌ على القرآن، وتعطيل لمبادئه في نفس الوقت!

لكن الأخطر، والأهم، هو ما يترتَّب على تقديس الماضي، وما لا يترتب بسبب من هذا التقديس، حيث أمسى أحدَ أهم مسبِّبات الانغلاق على الذات، والجمود الفكري، والفكر العنيف والإقصائي، كما أصبح جزءًا واضحًا من أزمة البحث العلمي التي يعاني منها المجتمع المسلم، ودافعًا إلى رفض الآخر، أيًّا كان.

الانغلاق الفكري كنتيجة لتقديس الماضي

غياب الثقة بالذات، والخوف من كلِّ جديد، وفقدان الفكر مبرِّراتِه التطورية، ليصير خارج دائرة الزمن[10]، وعبارات كثيرة تحمل نفس المضمون – كلُّها يعبَّر عنه الآن بكلمتين: قدسية الماضي، أحيانًا عن غير وعي، وأحيانًا كثيرة للتهرب من المسؤولية وإزالة العبء.

أليس الانغلاق هو رَفْض كلِّ جديد، ومحاربة كلِّ تفاعُل مع الآخر؟ أليس هو تقديس الماضي سابق الذكر؟ عندما يصير الجمود والتحجُّر السماتِ الأساسيةَ للفكر، ليصير مجتمعُ الماضي هو الحاضر بعينه، يُرفَضُ الحوارُ والتغييرُ رفضًا مطلقًا، ويُقدَّس الماضي تقديسًا مطلقًا، إلى أن يصير المجتمعُ خاملاً، يحمل ثقافةً تعاني من جمود مميت وقيود زائفة.

وهل وصلت الحالُ بالمجتمع الإسلامي إلى هذا الحد؟ ألم يعتبر بعضُ المفكرين أن ما يعانيه المجتمع اليوم هي أزمة العقل المسلم التي تجعله أسيرًا لماضيه، بأخطائه وانحرافاته؟[11] ألم ينعكس هذا على الخطاب الإسلامي الرافض للآخر، الذي لا يرى الحقَّ إلا من خلاله وحده – إلى الحدِّ الذي دَفَعَ ببعضهم إلى وصفه بالخطاب "الفاشي"، الذي لن يؤدي إلا إلى الصِّدام مع الحضارات، كما تنبأ صموئيل هنتنغتون منذ أكثر من عشر سنوات.[12]

أجل، لقد انغلق العقلُ المسلم على نفسه، فأمسى الطرحُ العقلاني كفرًا، والافتراضُ تناقضًا مع الإيمان، بل والبحثُ العلمي خَرْقًا لدائرة المقدس والمسلَّمات، حتى بلغ الحدُّ ظهورَ تيارات فكرية تكفيرية، تُطلِق الأحكامَ على كلِّ مَن لا يسير على دربها أو يأتي بما يخالف نصوصها: فتارة يوصف بالـ"كافر"، وتارة بالـ"مرتد"، وأخرى بالـ"فاسق"! وقد تعددتْ أصولُ أصحاب هذا التيار التكفيري الذي أرجعه د. سليمان الضحيان إلى نظريتين أساسيتين:

1.     "البراءة من المشركين": وتعني تكفير مَن أعانهم أو استعان بهم.

2.     "الحاكمية": وهي تكفير مَن لم يحكم بما أنزل الله.[13]

فأضحت هذه النصوص التي يرجع إليها أصحابُ هذا النهج التكفيري بمثابة السلاح الأنجع لمحاربة كلِّ جديد وعقلاني يحترم العقل، ويتفاعل مع الغير، خدمةً للمجتمع والأمة، دون أن يجعل من ماضيه عائقًا أمام عقله.

فهل الإسلام – دين العلم والعمل – هو نفسه دين الجمود والتحجر؟ أم أن هذا افتراءٌ عليه ممَّن يجهلون حقيقته أو ممَّن لا تتفق مصالحهم مع غير ذلك؟

في صلب الحقيقة أن الإسلامَ بعيدٌ كلَّ البعد عن كلِّ ما ينسبه إليه دعاةُ الجمود والانغلاق وأصحاب النهج التكفيري المتعصب. فالإسلام دين يحتكم إلى العقل، ويرفض الالتزام به من باب التقليد والمسايرة، أو من باب "ما ورثنا عليه آباءنا". الإسلام لا يضع نفسه حارسًا على العقل، بل يضع العقل أساسًا لاستيعاب الإسلام وحارسًا عليه. وغريب أن يرفض بعض علماء المسلمين الشكَّ والافتراض والتساؤل – وتعليلهم ذلك الرفضَ بأنه نقص في الإيمان! – مع أن هذه الأمور هي الخطوات الأولى للإيمان الحقيقي المبني على العقل والمنطق، الذي لا يخضع لرموز خَلَقَها المسلم بيديه من نصوص وشخصيات. قال تعالى:

ولقد آتينا إبراهيم رشدَه من قبلُ وكنَّا به عالمين، إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين. قال: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين. (الأنبياء، 51-54)

المجتمع الإسلامي اليوم أشبه ما يكون بقوم إبراهيم الوارد ذكرُهم في الآية الكريمة: قوم إبراهيم يعبدون تماثيل وأصنام، والمجتمع الإسلامي اليوم يعبد تماثيل من نصوص وأصنام من شخصيات الماضي! إذًا، بناءً على الآيات الكريمة السابقة ومن حيث المبدأ، فالمجتمع الإسلامي اليوم، أو "الإسلاموي"[14]، كما يحبذ تسميته محمد أركون، يسير في طريق الضلال، كما ورد في القرآن الكريم.

كما أن تقديس الماضي وما يتبعه من مظاهر له تأثير الكبير على ضعف البحث العلمي، بل وحتى غيابه؛ حيث إنه كلَّما تم توسيع دائرة المقدس والمسلَّمات، تضيق دائرة البحث والافتراض والتساؤل؛ مما ينعكس سلبًا على تطور الأمة في الميادين كافة، لأنها تسير وفق نصوص قطعية مطلقة، لا تحتمل الصواب والخطأ.[15] إذ ذاك يقف الباحث أمام خيارين: فإما أن يسير في طريق تثبيت المسلَّمات والمقدسات، ليكتشف لاحقًا أنه يراوح مكانه؛ وإما أن يُخضِع النصوصَ والمسلَّماتِ والمقدَّساتِ للنقاش والجدل، ليستفيد من طيِّبها ويستبعد خبيثها، لكنه بذلك يخدش معتقداتِ المجتمع وحرمةَ مقدَّساته. فأيهما سيختار؟ القليل من مفكري العالم الإسلامي مَن امتلك الجرأة ووضع الخيار الثاني نصب عينيه، متحملاً عواقب هذا الخيار بكافة أشكالها.

وبخصوص رفض الآخر كنتيجة للانغلاق، فـ"الآخر" هنا ليس مقتصرًا على المختلفين من نفس الأمة، بل يشمل الآخر من الأمم والحضارات الأخرى. ورَفْضُ الآخر هذا يتنافى مع مبادئ الإسلام الداعي إلى التعاون والانفتاح، بغضِّ النظر عن العرق والجنس والدين، بما يحقق النفع للإنسانية، دون أن يُخِلَّ بالعقيدة. فالإسلام يعترف بالاختلاف، ويحترم حرية الاختيار، وينبذ الإكراه. والفوارق واضحة بين العلاقة التي تقوم على الاختيار وبين العلاقة التي تقوم على الإكراه[16]، من حيث الإرادة والاقتناع، ومن ثم العمل والثقة.

كل ما تمَّ طرحُه سابقًا من تداعيات ظاهرة تقديس الماضي، من انغلاق فكري وفكر عنيف إلخ، سيؤدي، بالضرورة، إلى كَبْتٍ وقهرٍ فكريين؛ بل ربما يعمل على جعل النشاط الفكري أحادي الاتجاه.[17] بل لقد ذهب بعض المفكرين إلى أكثر من ذلك، حيث وصفوا أية إعاقة للفكر ومحاولة تقنينه في اتجاه محدَّد بأنها "إرهاب فكري" – ومنهم د. عبد الستار قاسم، الذي يرى أن أية عرقلة للنشاط الفكري هي من قبيل الإرهاب الفكري، مشيرًا، على الرغم من تحفُّظه على مصطلح "الإرهاب الفكري"، إلى أنه الطريق نحو الاغتراب عن المجتمع، وزعزعة الاستقرار الداخلي.[18]

هاهنا أضحت المعادلة واضحة وكاملة المعالم: تقديس للماضي، يتبعه انغلاقٌ فكري، ثم جمودٌ فكري، ليصير المجتمعُ الإسلامي خارج دائرة الزمن ومطمعًا لكلِّ يدٍ خارجية تسعى لاستغلال نقاط الضعف في المجتمع لاختراقه. وفي هذه الحالة، لن تكون هناك نقطة تُخترَق أضعف من الفكر؛ بل إن الفكر يُعَدُّ أحد الأمور الأكثر تعرضًا لهيمنة الأقوى. يقول محمد أركون، في هذا الصدد، إن هناك عقلاً مهيمنًا يسعى إلى فَرْضِ تفكيره على العقول الأخرى، في إشارة إلى العقل الغربي الذي يحاول السيطرة على مَن سواه.[19]

قد يتبادر إلى ذهن بعضهم أن مَن يسيطر على المجتمع اليوم ليس السلطة الدينية فحسب؛ ولذلك فإن مَن يتحمل مسؤولية ما حلَّ بالأمة من مُلمَّات ليس التيارات الدينية فقط، بل إن كافة شرائح المجتمع تشاركها المسؤولية. فمن الصواب أن نقول إن الجميع مشترك في المسؤولية عما تعانيه الأمة؛ لكن ليس من الصواب أن نقول إن الجميع يعترف بمسؤوليته تجاه ما نزل بالأمة: إذ نجد أن معظم شرائح المجتمع تعترف بمسؤوليتها، في حين نجد التيارات الدينية، أو ما أسميناه سابقًا "السلطة الدينية"، تنأى بنفسها عن تحمُّل مسؤوليتها، وتستثني نفسها من إمكانية الوقوع في الخطأ، لأن مرجعيَّتها هي الإيديولوجيا، ولأنها تعمل وفق تسيير الله لها، وتستغل هذه المقولات والشعارات لتتلاعب بعواطف الناس وتعبِّئها بما يخدم مصالح هذه السلطة الدينية[20]، المنقسمة إلى تيارات مختلفة: فهي مع نظام الحكم تارةً، ومع المعارضة تارةً أخرى، ومع قوى خارجية في حالات معدودة.

وعلى الرغم من أن تقديس الماضي أسلوب قوي تستخدمه السلطة الدينية في محاصرة العقل، إلا أنه ليس الوحيد. فهناك أساليب أخرى؛ ومن الواضح من جميع هذه الأساليب أنها تشترك في صفة واحدة، وهي أنها توهِم المطَّلِع عليها، للوهلة الأولى، أنها جزء من الدين، وأنها ليست أسلوبًا قمعيًّا، وذلك بسبب انتقاء كلمات دينية للتعبير عنها، مثل "تقديس الماضي"، "التخصص في الشريعة"، و"القضاء والقدر"، وغيرها كثير.

2. التخصص في الشريعة الإسلامية يكرِّس السلطة الدينية

هل من المفروض أن يكون هناك متخصِّصون في الشريعة الإسلامية؟ أليس ذلك منافيًا لمبادئ الإسلام؟ عندما يصير الدين وعلومه حكرًا على فئة من الناس، ألا يتعارض ذلك مع مبادئ الإسلام المُنْزَل للجميع، وليس لشيخ هنا أو عالم دين هناك؟ ألا يعني هذا أن المعرفة أضحت حكرًا على مجموعة اختارت أن تدرس الدين الإسلامي وتنصِّب نفسها قاضية على أفعال الناس والمجتمع، لتحلِّل هذا وتحرِّم ذاك؟

أليس الأجدر أن يفهم الجميعُ الدينَ – كلٌّ من خلال مجاله، واختصاصه، وحياته، وتفاعلاته – دون أن يكون هناك أفراد أو جماعات تنصِّب نفسها حارسة على الدين الإسلامي؟ حتى إن بعض الجهات التي أضحت في حاجة إلى رخصة دينية لنشاطاتها، لا تتردد في أن يكون لها مفتيها وشيخها الخاص! وبذلك صار الدين أداةً بيد المتنفِّذين من أبناء الأمة، تخدم مصالحهم وتضفي على نشاطاتهم الشرعيةَ الدينية.

وما يزيد الأمور سوءًا أن هذا التوجُّه نحو التخصص في الشريعة الإسلامية أمسى سياسة أكاديمية في سائر الدول العربية والإسلامية عن طريق كلِّيات الشريعة المنتشرة في الجامعات كافة، التي باتت تخرِّج من هم أشبه برجال الدين عند المسيحيين، وتدرِّس الشريعة على أسُس تكرِّس الجمود. حتى إن الطلبة المقبولين في هذه الكلِّيات هم غالبًا من أضعف الطلبة مستوًى أكاديميًّا، مما يجعلهم أكثر عرضة للتأثر بالشعائر، والتلاعب بالعواطف، وحَصْر الدين في مجال الشعائر والطقوس. وبذلك تكون كلِّيات الشريعة والتخصص فيها هي أسرع الطُّرُق نحو عَلْمَنَة المجتمع، وذلك بفصل الدين عن باقي العلوم. وهنا لا تخدم كلِّيات الشريعة إلا مَن يريد للإسلام الضرر.

ألا يمكن دراسة الدين واكتشاف معانيه من خلال العلوم الطبيعية؟ – كالبيولوجيا، والفيزياء، وغيرهما؟ كيف لا، والمؤمن الحق هو من يعتنق الدين بعد التفكُّر في معالم الكون والطبيعة، ليكتشف قدرة الخالق وصدق الدين الإسلامي؟ قال تعالى: "إن في خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأوْلي الألباب" (آل عمران، 190).

ألا يمكن دراسة الدين واكتشاف قيمه من خلال العلوم الإنسانية؟ – كالسياسة، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وغيرها؟ كيف لا، وهي العلوم التي من خلالها يكتشف الفرد تميُّز دينه الإسلامي عن باقي الأديان والمعتقدات؟

3. ترويج ثقافة المسلَّمات: القضاء والقدر

القضاء والقدر، و"ما هو معلوم من الدين بالضرورة"[21]، و"الإنسان لا يصنع تاريخه، وإنما ينفِّذ تاريخًا مكتوبًا سلفًا"[22]، وعبارات أخرى عديدة – كلُّها يصبُّ في القضاء على روح الإبداع والابتكار، بما تحمله من معاني التكاسل والخمول بناءً على فهم مغلوط للمعنى، كما هو حاصل في موضوع القضاء والقدر، أو بناءً على تأويل ذاتي، كما هو في موضوع صناعة الإنسان لتاريخه.

فالقضاء والقدر لا يلغيان الإرادة الإنسانية، ولا ينفيان حرية الاختيار. والخلط بين الكلمتين (أي كلمة "قضاء" وكلمة "قدر") هو خطأ؛ إذ إنهما تحملان معنيين مختلفين:

-       القَدَر: هو الأمر النافذ، المتعلِّق بنواميس الكون، ولا علاقة له بإرادة الإنسان.

-       القضاء: هو ما يجب أن يكون عليه الأمر؛ ومخالفته أو موافقته تعود لإرادة الإنسان.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم تَرِدِ الكلمتان مجتمعتين لا في القرآن ولا في السنَّة؛ كما لم يتعاطاهما المسلمون الأوائل. ويُرجِع بعضُهم ظهورَ الكلمتين مجتمعتين إلى ربطهما بالجبر والاختيار، عندما بحثها الإغريق، وانتقلت إلى المسلمين بعد ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية.[23] ولذلك فإن الخلط بين الكلمتين يؤدي حتمًا إلى خلل في الفهم، ينعكس سلبًا على نشاط المجتمع وحيويته.

كما أن هذا الفهم المغلوط للقضاء والقدر يتعارض مع مبدأ المسؤولية في الإسلام، وذلك لأن الإنسان "مسؤول بقدر ما هو حر، ومجبَر بقدر ما هو مقيَّد"[24]. وإذا كان يُفهَم من القضاء والقدر أن كلَّ ما يقوم به الإنسان هو من إرادة الله، فهذا يعني أن الإنسان لا إرادة له، وبالتالي لا يحاسَب على أفعاله – وهذا مخالف للإسلام.

وأما في خصوص أن الإنسان لا يصنع تاريخه، فإن هذه الجملة لا تنفصل عن موضوع القضاء والقدر سابق الذكر، وذلك لأن أصحاب هذه الرؤية يعتبرون أن التاريخ مكتوب سلفًا، وأن الإنسان ليس سوى منفِّذ له. وهنا لا تختلف رؤيتهم عمَّن فهموا موضوع القضاء والقدر على أن سلوك الإنسان كلَّه هو تقدير إلهي.

في نهاية استعراضنا الموجز لموضوع القضاء والقدر، تجدر الإشارة هنا إلى أن بعضهم يرى في استخدام كلمتي "القضاء" و"القدر" كمصطلح واحد تحميلاً لمعنى كلمة "القدر" شيئًا إيجابيًّا، وذلك لدى استعمالها في التحديات والضغوط لرفع المعنويات[25]، على قاعدة: "قُلْ لن يصيبنا إلا ما كَتَبَ الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكَّلِ المؤمنون" (التوبة، 51).

وبالإضافة إلى الأفكار السابقة التي تعطِّل البحث العلمي، وتؤدي إلى الجمود، فإن هناك مصطلحات أخرى وَرَدَتْ على ألسنة الكثيرين، يسعون من خلالها إلى استثناء بعض الأمور من دائرة النقاش والبحث والجدل، على اعتبار أنها من دائرة "المعلوم من الدين بالضرورة"؛ وبالتالي فإن الدين قال كلمته الأخيرة فيها، ولا داعي لنقاشها أو تقييمها والبحث في صحتها. حتى إن مَن يجرؤ على النقاش في بعض هذه الأمور سيهاجَم من كلِّ حدب وصوب، بل سيصل به المطاف ليجد نفسه مكفَّرًا، مرتدًّا، مهددًا بالقتل في أحيان كثيرة!

وبعد أن أُلصِقَتْ هذه الأفكار كلُّها بالدين الإسلامي، يسأل المسلمون أنفسهم سؤالاً غريبًا: لماذا لا يحسن المسلمون التفاعل مع الجديد أو التعامل مع معطيات الواقع؟ – مع أن الجميع يعلم أن "القيمة الحيوية لأية فكرة تكمن في قدرتها على الإجابة على أسئلة الواقع"[26]. والمسلمون اليوم حصروا الإسلام في الماضي، وفسَّروا أحكامه بناءً على أحداث تاريخية تأثَّرتْ بظروف الزمان والمكان؛ وهم يندهشون، في الوقت نفسه، لما يلمُّ بالمسلمين لعدم قدرتهم على صياغة فكر إسلامي يواجه تحديات العصر.

4. السلطة الدينية والسلطة السياسية

لكنْ، كيف تمكَّنت هذه المظاهر التي نُسِبَتْ إلى الدين الإسلامي من أن تصير سلطةً، أو جزءًا من سلطة، تتحكم في المجتمع؟

يرى الباحث أن مجمل الأفكار السابقة الذكر، وغيرها كثير مشابه، ليس في وسعها أن تنتشر وتفرض رؤيتها – إنْ جاز التعبير– على المجتمع إلا بتوفر عدة عوامل، لخَّصها الباحث في الآتي:

1.     تبنِّي شخصيات دينية واجتماعية لها نفوذ في المجتمع لهذه الأفكار.

2.     غياب أيِّ طَرْحٍ آخر يشكِّل بديلاً للمجتمع عن الأفكار السابقة.

3.     غياب الوعي الديني في المجتمع، واعتماد الأحداث التاريخية والشخصيات الإسلامية كمصادر يمكن اقتباس الدين الإسلامي منها.

4.     وجود آلية يمكن أن تتبنَّى هذه الأفكار وتحميها بما يخدم مصالحها؛ وهذه الآلية يمكن لها أن تكون نظام الحكم، أو الأحزاب، أو أية مؤسَّسات سياسية أخرى.

ويرى الباحث وجود علاقات تبادلية بين بعض العوامل سابقة الذكر. وذلك يتضح من خلال المصلحة المتبادلة بين الشخصيات الدينية التي تتبنَّى المظاهر والأفكار المسقَطة على الدين الإسلامي، مع المؤسَّسات السياسية، كالأحزاب والنظام الحاكم.

فهذه الشخصيات والتيارات الدينية في حاجة إلى آليات يتم من خلالها تحويلُ وجهة نظرهم تجاه القضايا السابقة الذكر إلى واقع معيش. وفي المقابل، تسعى أنظمة الحكم والأحزاب السياسية إلى الاستفادة، قدر الإمكان، من مثل هذه الشخصيات الدينية، بما يحقق مصلحتَها ويزيد من نفوذها في المجتمع. بل وتسعى الجهاتُ السياسية المختلفة إلى إيجاد شخصيات دينية موالية لها لتكون المشرِّع لها عند الحاجة ومَن يضفي على أعمالها الشرعية الدينية أمام المجتمع.

مع وجود هذه المصالح المشتركة بين مَن ينصِّبون أنفسهم ممثِّلين عن الدين الإسلامي وناطقين باسم الإرادة الإلهية، وبين الجهات السياسية المتعددة، تعدَّدتِ التياراتُ الدينية بتعدد التوجهات السياسية داخل المجتمعات، لتصير السلطةُ الدينية أداةً بيد السلطة السياسية، على اختلاف أشكالها.

وفي شكل عام، يمكن لنا تقسيم التيارات الدينية، من حيث طبيعةُ علاقتها مع الحياة السياسية، إلى ثلاثة أقسام: فمنها الموالية لنظام الحكم، ومنها المعارِضة له، ومنها مَن تنأى بنفسها عن الخوض في غمار الحياة السياسية.[27] وبناءً على ذلك، أمسى الدين سلعة، يشتريه الأقوى، ويبيعه مَن نَصَّب نفسه، أو نُصِّب، حارسًا عليه من غير وجه حق.

وإن أهم خدمة تقدِّمها السلطةُ الدينية للسلطة السياسية هي إضفاء الشرعية الدينية على أعمال الأخيرة. والدلائل على ذلك كثيرة: فقد اختلفت الفتاوى الدينية باختلاف المواقف السياسية. ففي الستينات من القرن الماضي، أفتى محمد شلتوت، الإمام الأكبر للجامع الأزهر، بحرمة الصلح مع إسرائيل، لتُغَيَّر الفتوى في السبعينات من القرن نفسه، فتحلِّل الصلح مع إسرائيل، على لسان محمد متولي الشعراوي، وزير الأوقاف، وعبد الحليم محمود، شيخ الأزهر، وذلك بعد اتفاقيات كامب ديفيد. وهذا يعكس تناغمًا بين الدين والسياسية في الوطن العربي، بما يخدم السياسيين ومشايخهم.

وتعدَّى الأمر ذلك إلى أن أضحت هذه الجهات الدينية منخرطةً في مؤسَّسات رسمية، كجزء من السلطة السياسية. وهذا ينطبق أيضًا على الأحزاب السياسية، وخاصة منها ذات التوجُّهات الدينية، فتحاكم مَن يعارضها بناءً على الدين – فالحكم إما حلالاً أو حرامًا – وتسيِّرُ أمورَها ونشاطاتِها بناءً على المنطق السياسي. فالموقف إما متوافق مع مصالح الحزب أو متعارض معها، دون أن يخضع هذا الموقف أو النشاط للتشريح الفقهي، كما يتم التعامل مع الآخر.

وأضحى من المعتاد أن تلجأ هذه التيارات الدينية الموالية لجهات سياسية إلى استخدام آياتٍ من القرآن الكريم لتسويغ أعمالها: فتارة تلجأ إلى اجتزاء بعض الأحكام بما يغيِّر من مضمونها، أو تعمِّم الأحكام الخاصة بما يناسب مصالحها.[28]

وما يمكن ربطه في هذه الجزئية بموضوع هذا البحث هو أن الجمود والانفلات الفكري وغياب مبرِّرات التطور ومقوِّماته يصير هو هدف السلطة السياسية الحاكمة، لأن في ذلك محافظة على مصالحها الشخصية، فيصير التخلف سياسة، والجمود الفكري وجهة نظر.

وهنا تلتقي مصالح الطرفين: فبقاء أحدهما مرتهن لوجود الآخر. فالتقدم والازدهار في الميادين كافة يعني أن هناك فكرًا ناضجًا ينعكس على حياة المجتمع العملية؛ وفي هذا الفكر تهديد للسلطة الدينية. كما أن التقدم والازدهار يعنيان تغيير المؤسَّسات السياسية، بأشكالها كافة، بما يعنيه ذلك من تهديد لمصالح السلطة السياسية. وهذا يعني أن في رعاية السلطة السياسية للسلطة الدينية حفاظًا على أساس وجودها؛ ومسايرةُ السلطة الدينية لها هو خوف من أن يأتي مَن يهدِّد نفوذها.

وأما التيارات الدينية التي تتجنَّب العمل السياسي، فليست في واقع الأمر إلا تطبيقًا لِما يراه أصحابُ التوجه العلماني بفصل الدين عن الدولة. وهنا يتضح أن في ذلك، حتى مع غياب دور التيارات الدينية في الحياة السياسية، تبعيةً لتوجُّه سياسي واضح. وهنا لا يختلف هذا التوجُّه الديني عن سابقه المُوالي للحكومة أو المعارضة.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن انتقاد الباحث للعلاقة بين الدين والسياسية ليس إلا انتقادًا لطبيعة العلاقة، لا لأساس وجودها. فالترابط بين الدين والسياسية مطلوب؛ بل يجب أن يكونا جسمًا واحدًا متكاملاً، حيث يكون العمل السياسي جزءًا من الدين الإسلامي الذي يدعو إلى الديناميَّة والتجديد، ويرفض العزلة والجمود.

ومن وجهة نظر الباحث، فإن النظر إلى الدين والسياسة كمؤسَّستين منفصلتين – وإنْ وُجِدَتْ العلاقة بينهما – سيؤدي إلى وجود مصالح مختلفة، وإن كانت غير متضاربة. وهذا سيُبقي المؤسَّستين في حالة من الترقب والانشغال ومداراة كلٍّ منهما لأخطاء الأخرى، بما يعنيه ذلك من تعطيل لعمل المؤسَّسات المنشود.

2005

*** *** ***

 

المصادر والمراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. زكي الميلاد، الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، ط 1، دار الصفوة، بيروت، 1994.
  3. طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، ط 2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1997.
  4. عبد الحميد أحمد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ط 1، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، 1991.
  5. عبد الستار قاسم، حرية الفرد والجماعة في الإسلام، ط 1، دار المستقبل، فلسطين، 1998.
  6. علي جريشة، منهج التفكير الإسلامي، ط 1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1986.
  7. محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، بترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 1، دار الساقي، بيروت، 1999.
  8. محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 2، دار الساقي، بيروت، 1995.
  9. مشهور البطران، "سلطة الإيديولوجيا – سلطة العقل: مقاربة بين نموذجين، صحيفة رؤى تربوية، عدد 16، كانون الثاني 2005.
  10. نجاح يوسف السباتين، مفاهيم النهضة الإسلامية، ط 1، دار الإسراء، عمان، 2004.

المراجع في الإنترنت

  1. بسام جرار، "المقدس والتاريخي"، من موقع باسيا الإلكتروني:

http://www.passia.org/meetings/2004/Aspects-of-Holiness-History-Islam.htm

  1. خالد الحروب، "العدوان الثلاثي لإصلاح المجتمع العربي: الخارج، والدولة، والتعصب الديني"، موقع دار الحياة الإلكتروني:

http://www.daralhayat.com/opinion/06-2004/Item-20040614-23f1ba96-c0a8-01ed-004e-e271816baad5/story.html

  1. صاحب الربيعي، "السلطة الدينية والسلطة السياسية في الوطن العربي"، 26/9/2004، الموقع الإلكتروني لمركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، عن موقع رزكار الإلكتروني:

http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?t=2&aid=24000

  1. عبد الرحمن حللي، "أزمة البحث العلمي في الجامعات الإسلامية: انتكاس المنهجية الإسلامية في بناء المعرفة"، موقع إسلام أونلاين الإلكتروني:

http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2004/07/article02.shtml

  1. عمرو إسماعيل، "الخطاب الديني السائد: هل هو خطاب فاشي؟"، موقع معابر الإلكتروني:

www.maaber.50megs.com/issue_may04/lookout4.htm

  1. محمد السماك، "التعارف وآفاقه الإنسانية"، موقع إسلام أونلاين الإلكتروني:

http://taarafu.islamonline.net/Arabic/Taarafo_Conference/2003/article44.shtm

  1. محمد حسين فضل الله، "الدين عامل تطور ومصدر قوة"، المنطلق، العددان 68 و69، تموز–آب 1990، عن الموقع الإلكتروني:

http://www.bayynat.org/www/arabic/afkar/kowwa.htm

  1. محمد سليمان، "العمل الإسلامي وسؤال النهضة"، موقع بلاغ الإلكتروني:

www.balagh.com/islam/islam.htm

  1. محمد علي الأتاسي، "حول الانغلاق والانفتاح"، حوار مع محمد أركون، موقع معابر الإلكتروني:

http://maaber.50megs.com/issue_february05/spotlights1.htm

  1. مرتضى معاش، "أزمات الفكر: انطباعات الإصلاحات والتجديد، الفكر أساسًا"، مجلة النبأ، عدد 54، شباط 2001، موقع مجلة النبأ الإلكتروني:

http://www.annabaa.org/nba54/intebaat.htm

  1. نواف القديمي، "كيف نشأ الفكر المتطرف في مجتمعاتنا؟"، موقع إسلام أونلاين الإلكتروني:

http://www.islamonline.net/arabic/daawa/2004/06/article02.shtml


 

horizontal rule

* كاتب فلسطيني.

[1] علي جريشة، منهج التفكير الإسلامي، ط 1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1986، ص 15.

[2] نجاح يوسف السباتين، مفاهيم النهضة الإسلامية، ط 1، دار الإسراء، عمان، 2004، ص 4.

[3] "الفكر الصالح للنهضة"، بحسب نجاح يوسف السباتين، هو الفكر الأساسي الذي لا يُبنى على فكر سَبَقَه، وهو "محصور بالفكرة الكلِّية عن الكون والإنسان والحياة وعن علاقتها جميعًا، بما قبل الحياة وما بعدها؛ وهو فكر شامل لأنه متعلق بالوجود كلِّه، كالفكر الإسلامي والفكر الرأسمالي." انظر: نجاح يوسف السباتين، نفس المصدر السابق، ص 5.

[4] زكي الميلاد، الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، ط 1، دار الصفوة، بيروت، 1994، ص 21-22.

[5] نفس المصدر السابق، ص 21.

[6] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، ط 2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1997، ص 50.

[7] بسام جرار، "المقدس والتاريخي"، موقع باسيا الإلكتروني:

http://www.passia.org/meetings/2004/Aspects-of-Holiness-History-Islam.htm

[8] محمد علي الأتاسي، "حول الانغلاق والانفتاح"، حوار مع محمد أركون، موقع معابر الإلكتروني:

http://maaber.50megs.com/issue_february05/spotlights1.htm

[9] نفس المصدر السابق.

[10] مرتضى معاش، "أزمات الفكر: انطباعات الإصلاحات والتجديد، الفكر أساسًا"، مجلة النبأ، عدد 54، شباط 2001، عن الموقع الإلكتروني: http://www.annabaa.org/nba54/intebaat.htm.

[11] عبد الحميد أحمد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ط 1، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، 1991، ص 50.

[12] عمرو إسماعيل، "الخطاب الديني السائد: هل هو خطاب فاشي؟"، موقع معابر الإلكتروني:

www.maaber.50megs.com/issue_may04/lookout4.htm

[13] نواف القديمي، "كيف نشأ الفكر المتطرف في مجتمعاتنا؟"، موقع إسلام أونلاين الإلكتروني:

http://www.islamonline.net/arabic/daawa/2004/06/article02.shtml

[14] بحسب محمد أركون فإن كلمة "إسلاموي" هي مقابل لكلمة islamiste بالفرنسية؛ ويقصد بها الاستخدام المتطرف لعقيدة ما أو موقف فكري معين. وقد استخدمها في كتابه: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، بترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 2، دار الساقي، بيروت، 1995، ص19.

[15] عبد الرحمن حللي، "أزمة البحث العلمي في الجامعات الإسلامية: انتكاس المنهجية الإسلامية في بناء المعرفة"، موقع إسلام أونلاين الإلكتروني:

http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2004/07/article02.shtml

[16] محمد السماك، "التعارف وآفاقه الإنسانية"، موقع إسلام أونلاين الإلكتروني:

http://taarafu.islamonline.net/Arabic/Taarafo_Conference/2003/article44.shtml

[17] عمرو إسماعيل، مصدر سبق ذكره.

[18] عبد الستار قاسم، حرية الفرد والجماعة في الإسلام، ط 1، دار المستقبل، فلسطين، 1998، ص 134-137.

[19] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، بترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 1، دار الساقي، بيروت، 1999، ص 243-248.

[20] خالد الحروب، "العدوان الثلاثي لإصلاح المجتمع العربي: الخارج، والدولة، والتعصب الديني"، موقع دار الحياة الإلكتروني:

http://www.daralhayat.com/opinion/06-2004/Item-20040614-23f1ba96-c0a8-01ed-004e-e271816baad5/story.html

[21] عمرو إسماعيل، مصدر سبق ذكره.

[22] مشهور البطران، "سلطة الإيديولوجيا – سلطة العقل: مقاربة بين نموذجين"، صحيفة رؤى تربوية، عدد 16، كانون الثاني 2005 ، ص 7.

[23] نجاح يوسف السباتين، مصدر سبق ذكره، ص 43-44.

[24] عبد الستار قاسم، مصدر سبق ذكره، ص 49.

[25] محمد حسين فضل الله، "الدين عامل تطور ومصدر قوة"، المنطلق، العددان 68 و69، تموز–آب 1990، عن الموقع الإلكتروني: http://www.bayynat.org/www/arabic/afkar/kowwa.htm.

[26] محمد سليمان، "العمل الإسلامي وسؤال النهضة"، موقع بلاغ الإلكتروني: www.balagh.com/islam/islam.htm.

[27] صاحب الربيعي، "السلطة الدينية والسلطة السياسية في الوطن العربي"، 26/9/2004، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، عن موقع رزكار الإلكتروني:

http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?t=2&aid=24000

[28] صاحب الربيعي، مصدر سبق ذكره.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود