english arabic

نظامٌ تعليميٌّ من أجل عالَم واقعي[1]

 

هنريك سكوليموڤسكي[2]

 

1. انتصار الرأسمالية؟

يقول مثلٌ صيني: "ملعون مَن يعيش في أزمنة التغيرات"، ويترَجم أحيانًا إلى: "ملعون مَن يعيش في أزمنة مشوقة". وهذه حالنا اليوم: في مثل هذه "الأزمنة المشوقة" نعيش. لقد حدثت تغيراتٌ كبرى وإعادةُ اصطفافات حاسمة نُصْب أعيننا. ويبدو أن شبح الشيوعية لم يعد يطارد العالم الرأسمالي؛ فعلى العكس، أحرزت الرأسمالية نصرًا بارعًا على الشيوعية في معركة التفوق الاجتماعي بينهما.

نشر المفكر الاقتصادي والاجتماعي المرموق روبرت هايلبرونر Robert Heilbröner مؤخرًا مقالاً عن هذا الموضوع بعينه، وكان عنوان المقال استفزازيًّا: انتصار الرأسمالية؛ وقد افتتحه بهذه العبارات:

آلَ السباقُ بين الرأسمالية والاشتراكية إلى انتصار الأولى بعد أقل من 75 عامًا على بدء ذلك السباق رسميًّا. لقد قدَّم لنا الاتحاد السوڤييتي والصين ودول أوروبا الشرقية كذلك أسطع برهان ممكن على أن التنظيم الرأسمالي للشؤون المادية للبشرية هو أكثر مَدعاة للرضا من تنظيم منافسه الاشتراكي: فمهما كان مبلغ الجور أو اللامسؤولية اللذين يتعامل بهما ميدانُ السوق في توزيع السلع فهو أفضل من طوابير الاقتصاد المخطَّط له؛ ومهما كان مبلغ طيش ثقافة النزعة التجارية commercialism فهي أكثر جاذبية من أخلاقيات الدولة؛ ومهما كان مبلغ الخداع في إيديولوجيا مدنية عالَم الأعمال فهي أكثر إقناعًا من الإيديولوجيا الاشتراكية.[3]

ومع ذلك، كان روبرت هايلبرونر مدركًا أن الأمور ليست كلها على ما يرام. لذا طرح سؤالاً ذا مغزى: "هل تؤدي الرأسمالية عملها بما يكفي من الكفاءة؟" فحالما نطرح هذا السؤال سرعان ما نواجه فعلاً مشكلةً جدية للغاية.

للوهلة الأولى، قد يأتي ردنا على سؤال هايلبرونر تلقائيًّا: أجل، بالطبع، تؤدي الرأسمالية عملها بما يكفي من الكفاءة – ألا انظروا إلى الرخاء المادي الذي يعم الغرب، وكيف تتفوق الرأسمالية على الشيوعية في أدائها! إنه أحد الأجوبة الممكنة، لكنه في الواقع جواب واضح نوعًا ما، إنْ لم نقل إنه سخيف. فهذا الجواب وثيق الصلة باقتصاد حاصل الحساب bottom-line-economics. وبما أن حاصل الحساب عندنا يُبدي ربحًا، فإن الأمور كلَّها على ما يرام.

لقد بلغ "اقتصاد حاصل الحساب" من نوال إعجاب بعضهم أنهم أخذوا يؤسطرونه. والنتيجة كانت الاقتصادانية economism: مذهب فلسفي يزعم، ضمنًا أو صراحة، أن الاقتصاد (افهمْ: "اقتصاد حاصل الحساب") هو ما يقرِّر بنية المجتمع ومزاجياته، وتجب إطاعتُه بلا قيد أو شرط لأنه معبودنا. قد لا تتم المجاهرة بهذه الخلاصة الأخيرة بهذا الوضوح، لكنها مُضمَرة.

سأحاول الآن المحاججة بأن هذا الخط من التفكير جملةً، كما ومجمل الفلسفة المبطِّنة للاقتصادانية، خاطئان أساسًا. فلنعد إلى سؤالنا: هل تؤدي الرأسمالية عملها بما يكفي من الكفاءة؟ جوابي هو: لا. إذ إن اقتصاد حاصل الحساب فكرةٌ مُساءٌ فهمُها. فحين نراقب مجرى الحياة كما هو بالفعل، ندرك إذ ذاك أن حاصل الحساب الأصيل هو نوعية الحياة quality of life. وما لم تلبِّ المنظومة الاقتصادية أو الاجتماعية هذا المعيار الأساسي – معيار نوعية الحياة – تكون منظومةً ناقصةً، غير مستوفية لشروط الصلاح، إنْ لم نقل إنها منظومة محتالة. بهذا المعنى، يمكن اعتبار الاقتصادانية، أو اقتصاد حاصل الحساب، محتالاً. واسمحوا لي أن أبيِّن السبب.

لقد كتب الكاتب البريطاني المرموق أنتوني برغس Anthony Burgess: "إن تحويل الإنسانية إلى ما هو أدنى بكثير مما في إمكانها أن تكونه هو الابتذال بعينه."[4] وهذا بالضبط ما تسعى الاقتصادانية إلى فعله بنا: اختزالنا إلى ما هو أدنى من قدرتنا أن نكونه. وبهذا المعنى، تدفعنا الاقتصادانية إلى طريق الابتذال، وهي ذاتها أداة ابتذال. وحليفاها هما الإعلان advertising ومذهب الاستهلاك consumerism. فعندما نُمعن النظر في عنقود تلك القوى التي تحط من المجتمع الإنساني روحيًّا، ندرك أن مذهب الاستهلاك والإعلان هما مجرد أداتين من أدوات الاقتصادانية.

بذلك، على مستوى أول من التحليل، يجب مُساءلة الاقتصادانية ومعارضتها بسبب إفقارها لنا ككائنات وجودية فردية، وتبخيسها لنا فيما يتعلق بما يمكن لنا أن نكون، وسطوها على تراثنا الروحي.

وعلى مستوى ثانٍ من التحليل، يجب مساءلة الاقتصادانية ومعارضتها على أسس إيكولوجية. فالاقتصادانية تقوم على حسابات زائفة؛ و"حاصل الحساب" المُحتفَل به بهذا الحماس هو حقًّا من بنات المخيلة. فما يُظهِره هو غالبًا ربح وهمي. لماذا وهمي؟ لأن بعض المؤشرات parameters والأكلاف يتم إخفاؤها وشطبها؛ وهذه تُدعى "برانيات" externalities، والنماذج الاقتصادية تصرف النظر عنها. و"البرانيات" تتبدى على شكل فواتير باهظة – تقارب مليارات الدولارات – لتنظيف البيئات الملوثة وترميم الأضرار على الصحة. أما مبلغ الفاتورة النهائية لترميم الطبيعة وإعادتها إلى حالتها المُعافاة (وهذا يعني استدامة sustainability حقيقية على المدى الطويل)، فلا أحد يعرفه. لكن مثل هذا الرقم رقم فلكي، وهو ما أورثنا إياه "حاصل الحساب"!

إن أية منظومة اقتصادية أو فلسفية بهذه اللامبالاة بنوعية الحياة – منظومة تشرِّع للخراب الإيكولوجي – لا بدَّ من أن تكون منظومة محتالة بمعنى ما. وتزعم الاقتصادانية أنها أفضل منظومة اقتصادية لخير البشرية، لكنها، في بساطة، لا تمتلك طوق النجاة، إنْ أخذنا بالحسبان تضاؤلها.

لا بدَّ من التأكيد على أن العامل البيئي ليس من ضمن تلك "البرانيات"، "الضريبة البغيضة" التي يمكن إهمالها في سهولة. لكن للمؤشرات الإيكولوجية الآن من الأهمية الحاسمة لبقائنا بحيث يجب على أية منظومة اقتصادية عاقلة ومسؤولة على المدى الطويل أن تشمل هذه المؤشرات كأجزاء لا تتجزأ من جميع المعادلات الاقتصادية.

لا يدرك هذا الأمر إدراكًا متزايدًا اختصاصيو البيئة وأصحاب القناعات اللبرالية (وجميع المهتمين بسلامة الكوكب) فحسب، بل أناسٌ من الجناح اليميني أيضًا، مدافعون تقليديون عن الرأسمالية. وأحد هؤلاء هو مارتن أندرسون Martin Anderson من معهد هوفر في كاليفورنيا. وقد اقترح أندرسون فكرة وجوب اعتبار البيئة النظيفة "حق ملكية" property right يعود إلى جميع الناس. لذا يجب معاملة الشركات والأفراد الذين يتسببون في تلويث الماء والهواء والتربة معاملة المجرمين العاديين[5]. كتب أندرسون في الـChristian Science Monitor:

السبيل الأوحد للقضاء على تلوث خطير هو التعامل معه بالضبط على ما هو عليه: قمامة... فكما أنه ليس من حق أحد إلقاء كيس قمامة في حديقة جاره، كذلك ليس من حق أحد رمي "كيس نفايات" في الهواء أو الماء أو التربة إذا كان هذا ينتهك حق ملكية الغير من أيِّ وجه. ما نحن في حاجة إليه هي قوانين بيئية أكثر صرامة ونظافة، تنفَّذ بأحكام بالسجن، وليس بتقديم حوافز اقتصادية.[6]

لا يتوقع أحدٌ أن يستخدم مثل هذه اللغة شخصٌ منتمٍ إلى اليمين. لكن الأزمنة تتغير. فتصريح أندرسون يتحدى مباشرةً أُسَّ فلسفة الاقتصادانية، وبالطبع، اقتصادَ حاصل الحساب. بذا، على مستوى ثانٍ من التحليل، تواجه الاقتصادانية تحديًا على أسس اقتصادية، بوصفها قائمةً على حسابات غير واقعية وزائفة على المدى الطويل. وفي العمق، جميعنا يعرف أن هذه الحسابات غير واقعية، ومع ذلك فقد أحجمنا – خوفًا – عن تحديها تحديًا مباشرًا.

على مستوى ثالث من التحليل، يجب مساءلة الاقتصادانية لأنها تقوم على منظومة أخلاقية باطلة: فأخلاق الأنانية والمنافسة وعدم الرحمة المستخِفة بكلِّ كينونة – في سعيها وراء الربح المادي الآني – غير طبيعية من منظور التاريخ الإنساني والأخلاق الإنسانية، ناهيكم عن منظور التطور. فالتطور هو نشيد للتعايش symbiosis، والمجتمعات الإنسانية صروح مرفوعة لروح التعاون والتضامن. أخلاق الأنانية المنفلتة من عقالها، التي تروِّج لها الاقتصادانية، ليست ابتكارًا جديدًا عظيمًا لكي تلقى الترحيب، بل ضلالة وإهانة لتراثنا الأخلاقي النبيل. ولنلحظ أيضًا أن أخلاق التنافسية تتضمن في ذاتها عنفًا كامنًا: فالأخلاق التي تشجِّعك على الدوس على أجسام الآخرين لا يمكن لها أن تكون صحيحة كأخلاق إنسانية. فالإلزام الأخلاقي للاقتصادانية، مُعبَّرًا عنه بأبسط طريقة، يُقرأ كالتالي: دُسْ على أجسام الآخرين، أو حيفًا عليك إن لم تفلح!

على المستوى الرابع من التحليل، يجب مساءلة الاقتصادانية لأنها تقوم على مفهوم قصير النظر للواقع. فكل امرئ حساس، اختبر غنى الواقع وتعدد جوانبه، بما في ذلك مظاهره الساحرة، يدرك أن اختزال الواقع برمَّته إلى أساسه الاقتصادي هو مهزلة، وليس ترجمة صحيحة للعالم الواقعي. وما تفعله الاقتصادانية هو شكل متطرف من الاختزالية: اختزال العالم والكائنات البشرية إلى مقولات وسلع اقتصادية. وهذا ما يمثِّل ابتذالاً أكثر للعالم، لكنْ هذه المرة على المستوى الأونطولوجي.

هـ. سكوليموڤسكي وزوجته خوانيتا (إلى يمينه) مع صديقة للزوجين في دارته في جزيرة ثاسوس (اليونان).

بات الآن لدينا جوابٌ عن سبب اعتبارنا اقتصاد حاصل الحساب مجرد تخيل، وليس المعيار النهائي لتعليل كلِّ شيء، وكذلك السبب الذي يجعل الاقتصادانية فلسفة غير مُرضية عمقيًّا، هذا إنْ لم نقل إنها فلسفة محتالة. وبمقدار ما لاقتصاد حاصل الحساب من دور بهذا الحسم في الرأسمالية الحالية، فإن لدينا جوابًا عما يجعل الرأسمالية لا تؤدي عملها بما يكفي من الكفاءة:

1.     لأنها تعتاش على رأس مال هو من حقِّ أجيال المستقبل؛

2.     لأنها تقوِّض الأسُس التي تستند إليها: الطبيعة والأدوار الطبيعية؛ و

3.     لأنها تختزل الإنسان – الحيوان النبيل – إلى مجرد مستهلك مبتذل.

2. نظام تعليمي من أجل عالم واقعي

بهذا نصل إلى التعليم. في مشهد لا يُنسى من مشاهد مسرحية هاملت، يتوجه الملك بالسؤال إلى هاملت:

-        والآن، هاملت، أين پولونيوس؟

-        على مائدة العشاء.

-        العشاء؟ أين؟

-        ليس حيث يأكل، بل حيث يؤكل.

بعد إجراء ما يلزم من التغيير، يمكن للأمر ذاته أن يصح على طلاب الزمن الحاضر: نظام التعليم الحالي لا يغذِّيهم، بل يفترسهم. هم لا يتلقون تعليمًا education بالمعنى الحقيقي للكلمة (من فعل educare اللاتيني الذي يعني "أقود")، بل يتم التلاعب بهم.

يقول أفلاطون: "إن المنحى الذي يتخذه تعليمُ المرء يحدد حياته في المستقبل." إنها عبارة تَصدُق راهنًا مثلما كانت صادقة في زمن أفلاطون. ما نوع التعليم الذي يتلقاه شبابنا من نظام تعليمنا الحالي وما منحاه؟ كيف يجري إرشادُهم وتوجيهُهم؟ إلى أية غايات وإلى أية مقاصد؟ هل يتم تأهيلهم وبرمجتهم لكي يكونوا مستهلكين طيِّعين ويعملوا في سبيل مجد إيديولوجيا الاستهلاك واقتصاد حاصل الحساب؟

ينبغي على التعليم، كمشروع اجتماعيٍّ وحضاري، أن يخدم نوعية الحياة في نهاية المطاف. فإنْ يُهمل التعليمُ أو يتجاهل هذا المعيار الحيوي، لن يكون صالحًا كنظام تعليم، وقد يكون بالفعل نظامًا مضلَّلاً.

في فحصنا عن عيوب الاقتصادانية كفلسفة عالمية، قدمتُ من الحجج ما يبين أنها كسيحة من أربعة وجوه:

1.     تصورها للواقع قصير النظر؛

2.     قيمها أحادية الجانب ومشوَّهة؛

3.     تعليلاتها غير صالحة ومشوَّهة حتى الفظاظة؛ و

4.     مفهومها للحياة مبتذل.

وبتوضيح عيوب الاقتصادانية هذه، صار لدينا الآن منحى واضح لتعليم مرغوب يستحق العناء. بذا دعوني أعدد صفات التعليم الجديرة بالمواطن العالمي الجديد المقبل على وراثة القرن الحادي والعشرين:

1.     على التعليم أن يُعنى بلا لبس بـمفهوم صائب للواقع. فالعالم الواقعي ليس غرفة إدارة للاقتصاديين يلعبون فيها ألاعيبهم الاقتصادية. فجمال الكوسموس Cosmos وجلاله يتجاوز كثيرًا جميع النماذج الاقتصادية وجميع النماذج العلمية. لذا لا بدَّ للتعليم الأصيل من أن يكون عملية إشراع لأبواب عقل الطالب ونوافذه على غنى الكون وتعدديته، وليس عملية اختزال للكون إلى مقولات اقتصادية، أو في أحسن الأحوال، إلى مقولات مادية أو كيميائية.

لسنا "مونادات" Monads منعزلة، شاردة بلا هدف عبر الكوسموس. إننا مترابطون مع جميع البشر ومع جميع الكائنات الحية في نسيج التطور الواحد المذهل. مناط صحة التفكير هو فتح أعيننا على مجد الخلق في صيرورته. مجد الصيرورة هذا، منذ "الانفجار الكبير" Big Bang الأصلي، عبر التطور المبدع كلِّه، هو نشيد مرفوع إلى التضامن والتعاون والتشارك. وهذا ما يجب على التعليم الأصيل أن يغرسه في عقول الطلاب: تثمينٌ للغنى الهائل للكون وامتنانٌ لوجودنا فيه.

2.     على التعليم الإنساني والإنساني المعامَلة أن يطلب قيمًا تعاونية صحيحة ويغرسها في الطلاب. فنحن نعلم أن القيم الدينية النقلية قد انهارت، وبانهيارها تقوضتْ قيمُ المنظومات الإطلاقية كلها. وكانت إحدى عواقب ذلك نهوض النسبوية relativism وانتشارها، وكانت عاقبة أخرى هي العدمية nihilism والظاهرتان مترابطتان. لقد أوجدنا خواءً، فتسلل مذهب المتعة hedonism والنسبوية والعدمية لملء هذا الخواء. وهذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي يحدث فيها مثل هذا الأمر.

ولنلحظ أمرًا خاصًّا وفريدًا يخص زماننا، وأعني التحالف الضمني بين الاستهلاكية والنسبوية. قد يكون انطباعنا الأولي أن هاتين الظاهرتين ليستا مترابطتين؛ لكنهما عمقيًّا مترابطتان. فالاستهلاكية تقتات على النسبوية وتدعمها دعمًا غير مباشر. والسبب بسيط: كلما كان المستهلك أكثر حيرة وتشوشًا كان إقناعه/إقناعها بالشراء أسهل. لكن هناك أسبابًا أخرى أعمق أيضًا. إذا كنت تؤمن بقيم جوهرية ما، تقدِّس المظاهر الروحية للوجود الإنساني، فلن يكون من السهل إقناعك بأن الاستهلاك مساوٍ للخلاص. وفي إيجاز، الروحانية عدو للاستهلاكية. لهذا السبب، تدعم الاستهلاكية النسبوية ("كل شيء جائز") أكثر من أية منظومة جوهرية للقيم.

ولهذا السبب أيضًا، تُعارض الاستهلاكية (وإنْ معارضةً غير مباشرة) حلول القيم الإيكولوجية لأن هذه القيم، على أقل تقدير، تدعو في حزم إلى كبح عاداتنا الاستهلاكية. ولقد اتضح قطعًا من تحليلنا السابق أنه ينبغي النظر إلى القيم الإيكولوجية أو الأخلاق الإيكولوجية بوصفها إحدى أسمى أولويات الإنسانية في هذا المنعطف التاريخي. نحن في حاجة لأن نشفي الأرض، في حاجة لأن نشفي أنفسنا – وما من شيء "نسبوي" في ذلك. إنقاذ الكوكب هو مشروع اجتماعي؛ والقيم الإيكولوجية ستكون محركات هذا المشروع. وفي مسار العملية، سنكون في حاجة إلى بلْوَرَة جملة جديدة من القيم الاقتصادية التي ستوثِّق اللحمة فيما بيننا سعيًا وراء مستقبل قابل للحياة وجدير بالعناء المبذول من أجله.

القيم الإيكولوجية ليست مطلقة، ولا يُقصَد لها أن تكون مطلقة. لكنها ليست قيمًا ذاتية، تُمثِّل بذلك لميول شخصية لحفنة من الأفراد. إنها ضرورة تاريخية لزماننا لنجاة الثقافة ثقافةً إنسانيةً وروحية. وبهذا المعنى، فإن القيم الإيكولوجية ذاتية بينية inter-subjective أو عبرذاتية trans-subjective. وأود أن أشير، أولاً وقبل كلِّ شيء، إلى أن من بين القيم الإيكولوجية الأهم إجلال الحياة reverence for life؛ ومن بعدُ، المسؤولية عن الجميع، بمن فيهم أجيال المستقبل؛ ثم الترشيد frugality في أساليب حياتنا: الترشيد لا ككفاف أو كنكران للذات مفروضين قسرًا، بل كنعمة بلا تبذير؛ وهذا يعني، بعبارة اقتصادية، "القيام بالكثير بأقل ما يمكن"[7].

3.     نظام التعليم الصائب يعني سيرورةَ تطبيق لقيم قويمة، تُترجَم في زمننا إلى قيم إيكولوجية؛ أو على الأقل، إقرارًا بالقيم الإيكولوجية بوصفها القيم الأهم لمستقبلنا.

على التعليم الصائب أن يلقِّننا منظومةَ محاسبةٍ سليمةً حيال الطبيعة، حيال الثقافات الأخرى، وحيال أجيال المستقبل. ففي أغلب الأحيان جنينا (أو على الأقل، بعضنا جنى) منفعةً ضخمةً على حساب صحة الطبيعة، أو على حساب رفاه شعوب العالم الثالث (التي نصدِّر لها نفاياتنا ونسلبها مواردَها الطبيعية)، أو على حساب أجيال المستقبل التي لن نخلِّف لها سوى كوكب مسلوب الخصب ومليء بالندوب. فمنظومة صائبة للمحاسبة هي مشكلة اقتصادية، لكنها مشكلة ثقافية ومشكلة قيم أكثر بكثير. ويشير تحليلنا لمفهوم الواقع وللأخلاق الإيكولوجية إشارةً لا لبس فيها إلى ما ينبغي القيام به لإيجاد منظومة سليمة للمحاسبة.

4.     على نظام صائب للتعليم، مستوفٍ للغاية منه، أن يكشف للطالب عن تصور ملائم للحياة الإنسانية. فالحياة الإنسانية يجب أن تكون حياةً احتفالية. إذ إن الكون مشهد مذهل للتأمل والاحتفاء. دراما صيرورته ليس كمثلها شيء. وأنْ يعي المرء أنه جزء من هذه الدراما هو أمر موجب للدهشة والاحتفاء. نحن لا ننكر وجود الشدائد والشقاء في الحياة، لكن قدرتنا على إدراك عظمة الكون من شأنها أن تخفف من شقائنا وتقلِّل منه. إن النظر إلى غاية الحياة الإنسانية بوصفها جزءًا من عظمة الكون، بعبارات متعالية، يجعلنا أقوى احتمالاً للمعاناة. الشرط البشري محفوف بالشدائد، لكنه مجيد. وهذا ما يجب أن يغرسه التعليم الصائب في الطالب.

وفي نهاية المطاف، تتمحور جميع أنظمة التعليم، ناهيكم عن المنظومات الفلسفية، حول كيفية صيرورتنا إنسانيين، وليس حول كيفية صيرورتنا مستهلكين. يجب ألا نسيء قراءة تفويضنا: نحن هنا لإرشاد شبابنا إلى سبيل صيرورتهم إنسانيين عن جدارة، لا أن نتلاعب بهم خدمةً للوضع القائم الذي يقوِّض وجوده نفسه على كلِّ حال.

من الواضح تمامًا أننا الآن نفتتح فصلاً جديدًا من فصول التاريخ – وهذا الفصل فصل إيكولوجي. ومسؤوليتنا تستتبع مسؤولياتٍ إيكولوجية وتستلزمها. لا يمكن لنا أن نكون إنسانيين، بمعنى أعمق، ما لم نُسالِم الطبيعة (ونُسالِم أنفسنا، ذلك أننا، إذ أعلنَّاها حربًا على الطبيعة، شننَّا الحرب على أنفسنا). وبالتالي، يجب أن يكون البُعد الإيكولوجي جزءًا من نُظُمنا التعليمية، من فلسفاتنا، ومن أدياننا[8].

3. خلاصة

يصح القول بأن الغرب قد كسب المعركة ضد الشيوعية، لكن هل يُعدُّ هذا نصرًا؟ أم أنه انتصار فادح الثمن؟ لعله قد فاتنا الانتباه، في غمرة نشوتنا وافتتاننا بهذه المعركة، إلى أننا خسرنا، ولا نزال، معركةً أخرى، معركةً أهم: معركة إنقاذ الأرض والحفاظ على معنى حياتنا أيضًا.

لذا، ينبغي على إعادة البناء الإيكولوجية وعلى شفاء الأرض أن يصبحا الآن من بين أهم إلزاماتنا. ومن شأن نظام التعليم، إنْ كان أصيلاً وشاملاً، أن يكون عونًا لنا في سيرورة الشفاء والتكامل هذه. علينا أن نُشرِّب عقولَ شبابنا قداس الطبيعة الأبدي العظيم ونعلِّمهم إجلال الحياة والخلق جميعًا. إنها ضرورة ملحَّة لبقائنا الاقتصادي على المدى الطويل، ناهيكم عن كونها ضرورةً ملحَّة لسلامتنا النفسية.

مدار الإيكولوجيا هو الحياة في هيئة جديدة؛ هو كرامة الحياة؛ هو كرامة العمل الإنساني. والاقتصاد الحالي هو اقتصاد انتحاري، وليس محاسبة مناسبة لتدبير شؤون بيتنا. في أعناقنا دينٌ باهظ نحو الطبيعة، ونطلب من جيل المستقبل تسديد الفاتورة. لكن الأجيال القادمة ترفض القيام بذلك. الأجيال القادمة تنطق بلسان الحكمة الإيكولوجية والقيم الإيكولوجية. لم يُؤتَ بنا إلى هذا العالم لكي نحيا وجودًا مُستلَبًا، مُغرَّبًا، مُستأصَلاً، مُجتثًّا من جذوره. جيء بنا إلى هذا العالم لكي نحتفي بأمجاد الكوسموس ولنحيا في تضامن مع الكائنات الأخرى. ويجب على نظام التعليم الأصيل ذي المغزى أن يساعدنا على الحياة حياةً كاملة، هادفة، ملهَمين، وباليسير من النعمة.

النظام التعليمي من أجل عالم واقعي هو النظام الذي يُجلُّ العالمَ بأبعاده كلها، بثرائه كله، بما في ذلك مظاهره الخافية والسرَّانية. ومثل هذا التعليم يُجلُّ التطورَ في تكشُّفه العميق، فيما هو لا يفتأ يشيِّد بُنًى وكائناتٍ أكثر فأكثر فطنة، وفي المآل، الكائناتِ التي تُطاوِل السماء.

فلنأخذ الشرط الإنساني مأخذ الجد. لنأخذ مآزقنا على محمل الجد. لنأخذ التعليم على محمل الجد. ثم لنعمل على تصميم بُنى تعليمية واجتماعية تنسجم مع الإلزام التطوري، مع رغبات الحياة المتكشِّفة، السخية، والمشعة في المآل. إذ إنه ليس نصرًا أن تكسب معركةً إيديولوجيةً في الوقت الذي تخسر البيئة ونوعية الحياة. دعنا نبصر في وضوح ما هي أهدافنا وغاياتنا – في التعليم وفي الثقافة عمومًا. ولا بدَّ لهذه الأهداف من أن تتوافق مع تحرر الكائن الإنساني وتحقُّقه على أعلى مستويات الإنجاز الثقافي والروحي. ما يلزمنا هو الشجاعة والتصميم والرؤيا لوضع نظريات الإنسان أحادية الجانب – من أية تشكيلة كانت، رأسمالية أم شيوعية – في المكان الذي تنتمي إليه: على رفِّ التاريخ، والشروع في تطوير مُثُلٍ ونظريات وممارسات على صورة الإنسان، بوصفه كائنًا متعاليًا.

*** *** ***

ترجمة: غياث جازي
تدقيق: ديمتري أڤييرينوس


horizontal rule

[1] قُدِّم هذا المقال أصلاً كورقة إلى مؤتمر "التعليم في أوروبا: تحدي العام 1992" الذي عُقِدَ في بوداپشت (هنغاريا) في العام 1989، ثم نُشِرَ في مجلة الـNew Renaissance، المجلد الأول، رقم 4.

[2] تعلَّم هـ. سكوليموڤسكي في وارسو وأكسفورد، وانهمك بفعالية في العمل على شفاء الكوكب خلال 35 سنة. من كتبه المترجمة إلى العربية فلسفة البيئة: تصاميم جديدة للعيش، بترجمة ديمتري أڤييرينوس وتقديم فايز فوق العادة، دار الأبجدية، دمشق 1992. عضو في هيئة معابر الاستشارية.

[3] روبرت هايلبرونر، انتصار الرأسمالية، الـNew Yorker، 23 كانون الثاني 1989.

[4] أنتوني برغس، رحلة استكشاف في ابتذاليا الجديدة، الـObserver، 6 آب 1989.

[5] كما جاء في الـInternational Herald Tribune، 11 نيسان 1986، ص 6.

[6] المرجع السابق.

[7] لمزيد من مناقشة الأخلاق الإيكولوجية، انظر ورقتَي هـ. سكوليموفسكي: "الأخلاق الإيكولوجية بوصفها أساس البقاء"، The Environmentalist، عدد 4 (1984)، ملحق 7، و"إجلال الحياة"، في أخلاق البيئة والتطور، بتحرير دونالد وجوان إنجل، 1990.

[8] لمزيد من الاطلاع، انظر: هـ. سكوليموفسكي، فلسفة البيئة: تصاميم جديدة للعيش (الطبعة العربية، 1992) وعلم اللاهوت الإيكولوجي، نحو دين لزماننا، 1985.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود