english

ما القرآن؟٭

 

توبي ليستر

 

في عام 1972، وخلال عملية ترميم للمسجد الكبير في مدينة صنعاء باليمن، وأثناء عمل العمَّال في شرفة بين سقفي الهيكل الداخلي والخارجي عثروا على مقبرة، إلا أنهم لم يتعرَّفوا عليها في بادئ الأمر. لكن جهلهم كان مبرَّرًا: المساجد في الحالة العادية ليست مقابر، كما أنَّ الموقع لم يكن يحتوي أية شواهد أو أضرحة، لا وجود لبقايا جسدية بشرية، ولا مجوهرات جنائزية. في الواقع، لم تكن هذه المقبرة تحتوي إلا على هريسة مشوَّهة وغير جذَّابة من رق قديم ووثائق ورقية عتيقة – كتب مهترئة وصفحات مشتتة مكتوب عليها بالنص العربي، مصهورة ومخلوطة ببعضها جرَّاء قرون طويلة من الأمطار والرطوبة، مقضومة خلال كل هذه الفترة من الزمن من قبل الجرذان والحشرات. ورغبة منهم بمتابعة عملهم، قام العمَّال بجمع المخطوطات، حشروها داخل حوالي عشرين كيس من البطاطا، ووضعوها جانبًا على سلَّم أحد مآذن المسجد، حيث تمَّ الإقفال عليها، ونُسيت مرةً أخرى، لكن ليس لفترة طويلة، حتى عثر عليها القاضي إسماعيل الأكوع، وقد كان رئيس السلطات اليمنية للعاديات، وهو من أدرك الأهمية الفعلية لهذه المكتشفات.

طلب الأكوع مساعدة دولية لفحص هذه الكسرات وصيانتها، وفي عام 1979 استطاع أن يثير اهتمام باحث ألماني زائر، الذي بدوره أقنع الحكومة الألمانية بتمويل مشروع ترميم. وبعد ما بدأ المشروع، سرعان ما تبيَّن أنَّ هذا الكنز كان مثالاً رائعًا لما كان يسمى في وقتٍ من الأوقات باسم "القبر الورقي" – في هذه الحالة كان الموقع يحتوي على، من بين الكثير من الأشياء الأخرى، عشرات الآلاف من الكسرات من آلاف الصحف التي تحمل مخطوطات مختلفة للقرآن، كتاب المسلمين المقدَّس. جرى الحديث في بعض الدوائر الإسلامية المتشدِّدة أنَّ النسخ التالفة أو المهترئة من القرآن يجب إزالتها وعدم إدخالها في عملية تدوير، لذلك فإنَّ فكرة القبر، والذي حافظ على حرمة وقداسة النصوص المدوَّنة عليها، وفي نفس ضمن عدم قراءة أو تلاوة أي نسخة أخرى، ما عدا نسخة كاملة وسليمة من الكتاب.

بعض الصفحات في ذلك الكنز اليمني بدت أنَّها تعود في تاريخها إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، أو القرنين الإسلاميين الأولين – كانت عبارة عن كسرات، أي أنها كانت أقدم المصاحف الموجودة حتى الآن. والأهمُّ من ذلك، بعض هذه الكسرات أظهرت بعض الزيغان والشذوذات الصغيرة لكن الملفتة للانتباه والمختلفة عن النص القرآني الرسمي. هذه الشذوذات، مع أنها ليست بالجديدة أو المفاجئة بالنسبة لمؤرِّخي النصوص، بدت مزعجة ومقلقة لمعتقدات وأفكار المسلمين الأرثوذكس التي تنصُّ بأنَّ القرآن كامل، خارج عن إطار الزمان، وأنَّه كلام الله الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل.

الجهود العلمانية والموضوعية الرئيسية لإعادة تفسير القرآن – التي تقوم جزئيًا على الدليل النصِّي الذي تقدِّمه الكسرات اليمنية – تعتبر أمرًا مزعجًا ومهينًا بالنسبة للكثير من المسلمين، على غرار المحاولات اللاحقة لإعادة تفسير الإنجيل وحياة يسوع التي أزعجت الكثير من المسيحيين المتشدِّدين والمحافظين. وبرغم ذلك، هناك باحثون، من بينهم علماء مسلمون، شعروا أنَّ هذه الجهود، والتي تسعى أساسًا إلى وضع القرآن في سياقه التاريخي، ستكون بمثابة الصدمة الإنعاشية لنهضة إسلامية جديدة، من خلال إعادة النظر في التراث وتقييمه، والتقدُّم نحو الأمام بالنظر إلى الخلف. إلى هنا تمَّ حصر الأمر ضمن إطار الحجج العلمية، هذا النوع من التفكير يمكن أن يكون بالغ القوَّة والتأثير ويمكن أن يؤدي – كما تظهر تواريخ عصر النهضة والإصلاح – إلى تغييرات اجتماعية عظيمة الأثر. فالقرآن، بعد كل شيء، حاليًا من أكثر الكتب الأيديولوجية تأثيرًا في العالم.

النظر إلى الكسرات

أول شخص يمضي قسمًا كبيرًا من الوقت في التدقيق وفحص الكسرات اليمنية، سنة 1981، كان غيردر بوين، باحث متخصِّص بالخط والرسم العربي والباليوغرافيا[1] القرآنية من جامعة سارلاند، بسار بروكن، ألمانيا. بوين، الذي تمَّ إرساله من قبل الحكومة الألمانية لتنظيم مشروع الصيانة والإشراف عليه، أدرك مدى عتق بعض كسرات الصحف، وكشفت أبحاثه المبدئية التمهيدية ترتيبًا غير مألوف للسور، اختلافات نصية جوهرية ورئيسية، وأساليب نادرة في القواعد الإملائية والرسومات الفنية المزينة. الملفت للانتباه أيضًا، أنَّ الصحف التي كتب عليها القرآن كانت مكتوبة بخط نادر وبالخط العربي الحجازي القديم: قطعًا وأجزاء من المصاحف المبكِّرة من المعروف أنَّها موجودة، كانت أيضًا ألواحًا-نسخًا يبدو أنَّه تمَّت كتابتها في وقت أبكر، نسخًا تمَّ التخلُّص منها. بدأ بوين بالإحساس أنَّ المصاحف اليمنية تشير إلى أنها نصوص متغيرة ومتطوِّرة وليست ببساطة كلمة الله التي تمَّ إنزالها على النبي محمد خلال القرن السابع الميلادي.

منذ باكورة عام 1980 تمَّ استخراج أكثر من حوالي خمسة عشر ألف صحيفة من صحف القرآني اليمني وبسطها، تنظيفها، معالجتها، فرزها، تصنيفها، وجمعها، وهي تقبع الآن (محفوظة لألف سنة أخرى) في دار المخطوطات اليمنية، منتظرة مجيء أحدٍ ما ليجري عليها دراسات تفصيلية أكثر. إلا أنَّ السلطات اليمنية يبدو أنَّها تعارض هذا الأمر ولا تسمح به. والحال، كما يقول بوين موضِّحًا:

أنهم يريدون أن يبقوا على هذا الشيء منزويًا، كما نفعل نحن أيضًا، مع أنهم – ولأسباب مختلفة تمامًا – لا يريدون أن يلفتوا الانتباه إلى حقيقة أنَّ هناك ألمان وآخرون غيرهم يعملون على تلك المصاحف. هم لا يريدون أن ينتشر الخبر بين العامَّة أنَّ هناك أعمالاً تجري، بما أنَّ الموقف الإسلامي يقتضي أنَّ كل ما يجب أن يقال عن القرآن وبخصوصه قد قيل منذ ألف سنة مضت وانتهى الأمر.

حتى الآن لم يحظى سوى اثنين من العلماء بإمكانية الاقتراب من المخطوطات اليمنية بشكل موسَّع: بوين وزميله غراف فون بوتمر، باحث متخصِّص في تأريخ الفنِّ الإسلامي، من جامعة سارلاند أيضًا. لم ينشر بوين وفون بوتمر سوى القليل من المقالات المختصرة في دوريات علمية أكاديمية حول ما تمكَّنا من اكتشافه في الكسرات اليمنية. كانا ممانعان للنشر جزئيًا لأنهما – حتى فترة مؤخرة – كانا منشغلان بتصنيف وفرز الأجزاء أكثر من انشغالهما بفحصها بشكل منتظم، وجزئيًا لأنهما كانا يشعران أنَّ السلطات اليمنية، إن هي أدركت العواقب والنتائج المترتبة عن هذا الاكتشاف، قد تمنعهما من متابعة عملهما. على أيَّة حال، انتهى فون بوتمر في عام 1997 من أخذ أكثر من خمسةٍ وثلاثين صورة مصغَّرة عن الكسرات، وعاد بالصور إلى ألمانيا. وهذا معناه أنَّ فون بوتمر، بوين، وغيرهم من العلماء سيكون لديهم قريبًا الفرصة للتأمُّل وتفحُّص النصوص ونشر أعمالهم بحرية – وهذا ما يترقَّبه بوين بحماسة. إذ يقول:

غالبية المسلمين لديهم ذلك الاعتقاد الذي يقول إنَّ كل ما هو بين دفتي القرآن هو كلام الله غير المحرَّف والمعصوم، فهم يحبُّون دائمًا الاقتباس النصي الذي يظهر أنَّ الكتاب المقدَّس له تاريخ طويل وخاص وأنَّه لم ينزَّل من السماء، لكن حتى هذه اللحظة بقي القرآن محفوظًا وأنَّه بقي بعيدًا عن التحريف والتشويه. والطريقة الوحيدة لاختراق هذا الجدار هي من خلال إثبات أنَّ القرآن له تاريخه النصي الخاص أيضًا. وكسرات صنعاء ستساعدنا في ذلك.

بوين ليس وحيدًا في حماسته التفاؤلية هذه. "فوقع المخطوطات اليمنية ما زال محسوسًا حتى الآن" يقول أندرو ريبين، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة كالغاري، الذي يعدُّ في طليعة الباحثين القرآنيين اليوم،

فقراءاتها المختلفة والمتباينة وترتيب آياتها المختلف جميعها أمور في غاية الأهمية. والجميع متفق على ذلك. هذه المخطوطات تقول إنَّ التاريخ المبكِّر للنص القرآني هو أكثر من مجرَّد سؤال مفتوح وأكثر بكثير ممَّا توقَّع الكثيرون: فالنص كان أقلَّ استقرارًا، ولذلك فإنَّه يفتقر إلى تلك القداسة والموثوقية اللتان كانتا تنسبان إليه.

تنقيح – تحرير كلام الله

حسب معايير الدراسات الإنجيلية والتوراتية المعاصرة، معظم الأسئلة التي جرى طرحها من قبل الباحثين أمثال بوين وريبين تعتبر متواضعة، ومن خارج إطار السياق الإسلامي، مفترضةً أنَّ القرآن له تاريخ ومقترحةً أنَّه يمكن تفسيره بطريقة مجازية وليس بشكل راديكالي. إلا أنَّ السياق الإسلامي – وحساسيات المسلمين – لا يمكن تجاهلها. "فمن خلال أرخنة القرآن سينتج عن ذلك عملية شرعنة لكافة التجربة والخبرة الدينية للمجتمع الإسلامي" يقول ستيفن همفري، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا.

فالقرآن هو أساس ودستور المجتمع، إنَّه الوثيقة التي أدَّت إلى وجوده. أمَّا مثاليًا – إذ من الواضح أنَّه على أرض الواقع لم يكن الأمر كذلك – فالتاريخ الإسلامي كان نتاج الجهد والسعي لمتابعة وتطبيق الوصايا القرآنية على الحياة الإنسانية. فلو كان القرآن وثيقة تاريخية، عندئذٍ يكون الصراع الإسلامي بأكمله وطوال أربعة عشر قرنًا بلا أيِّ معنى.

نظرة المسلمين الأرثوذوكس إلى القرآن تتلخَّص في أنَّه كلام الله المحفوظ، كامل، وفريد في رسالته، لغته، أسلوبه، وشكله، وهذه النظرة مشابهة لنظرة المسيحيين المتشدِّدين إلى الكتاب المقدَّس بأنَّه "معصوم" و"ملهم"، وهذه الفكرة ظلَّت شائعة حتى يومنا هذا وفي عدَّة أماكن. اكتسبت الفكرة تعبيرًا كلاسيكيًا أكثر بقليل منذ أقل من قرن من الزمن على يد الباحث الإنجيلي جون وليم بورغن.

الإنجيل ما هو إلا "صوت الرب المتربِّع على العرش!" فكل سفر فيه، كل جزء وكل مقطع منه، كل كلمة فيه، كل مقطع لفظي منه... كل حرف، هو الكلمة المباشرة والمعصومة للرب العلي!

والحقيقة أنَّه ليس كل المسيحيين ينظرون هذه النظرة نفسها إلى الكتاب المقدَّس. وفي الواقع، كما تشير موسوعة الإسلام Encyclopedia of Islam (1981): "النظير الأقرب في الديانة المسيحية إلى دور القرآن في دين الإسلام ليس الكتاب المقدَّس، بل المسيح". فإذا كان المسيح هو كلمة الرب التي تحوَّلت إلى لحم، فالقرآن هو كلمة الله التي تحوَّلت إلى نصٍّ، فالشك في صلاحيته وموثوقيته تعتبر مساسًا بالإسلام وتهجُّمًا عليه – واسألوا سلمان رشدي.

ردود الفعل الارتكاسية العنيفة للمسلمين لم تكن لتحول دون إجراء دراسة نقدية-تاريخية للقرآن، كما بيَّنت مقالات الكتاب الموسوعي أصل القرآن [الذي قام بتحريرها وترجمتها ابن الورَّاق] (1998). وقد استمر العمل حتى خلال قضية سلمان رشدي: ففي عام 1996 قام الباحث القرآني غونتر لولينغ بكتابة مقالة ضمن مجلة النقد الأعلى عن

المدى الشاسع الذي تحرَّف فيه كل من النص القرآني والأخبار التراثية الإسلامية عن أصول الإسلام، تحريف تمَّ قبوله بشكل غير متوقَّع من قبل المتخصِّصين الغربيين بالدراسات الإسلامية.

في عام 1994 نشرت مجلة القدس للدراسات بالعربية والإسلام أحدث دراسة كان قد قام بها الباحث يهودا نيفو، من الجامعة العبرية بالقدس، مفصِّلاً فيها النقوش الدينية من القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين والتي تمَّ نقشها على صخور عثر عليها في جميع أرجاء صحراء النقب والتي، اقترح نيفو، تطرح "إشكالات كبيرة ومعتبرة تتعلَّق بالتراث الإسلامي ومرويَّاته عن تاريخ الإسلام". في العام نفسه، وفي المجلة ذاتها، نشرت الباحثة باتريشيا كرونه، متخصِّصة في الإسلام المبكِّر من معهد الدراسات المتقدِّمة في برنستون، في نيوجيرسي، مقالاً قالت فيه إنَّ توضيح الآيات الصعبة والمبهمة في النص القرآني لا يصبح ممكنًا إلا من خلال "ترك الروايات والأخبار التقليدية عن كيفية ظهور القرآن والتخلِّي عنها". ومن هنا عرض جيمس بيلامي عام 1991 ضمن مجلة المجتمع الأمريكي الشرقي سلسلة من التصحيحات والتنقيحات لنص القرآن – تغييرات تعتبر من وجهة نظر المسلمين الأرثوذكس تساوي عملية تنقيح وتحرير كلام الله.

تعتبر كرونه من أشهر وأهمِّ العلماء في هذا المجال. فخلال العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين شاركت في تأليف العديد من الأعمال البحثية والكتب الهامة – أشهرها، عملها مع الباحث مايكل كوك: الهاجريون Hagarism: صناعة العالم الإسلامي (1977) – والتي قدَّمت فيها حججًا راديكالية عن أصول الإسلام ومصادره وكتابة التاريخ الإسلامي. إحدى الأطروحات المميَّزة التي يوردها كتاب الهاجريون تتلخَّص في أنَّ نصَّ القرآن ظهر في فترة لاحقة وزمن أحدث بكثير ممَّا كان يعتقد

إذ لا يوجد أي دليل قاطع يثبت وجود القرآن بأي شكل من الأشكال قبل العقد الأخير من القرن السابع الميلادي،

وأنَّ مكَّة لم تكن المقام الإسلامي الأول

[فالأدلة] تشير بوضوح إلى وجود حرم أو مقام أكثر أهمية في شمال غرب جزيرة العرب... أمَّا مكَّة فكانت ثانوية وغير هامة،

وأنَّ الفتوحات العربية سابقة لمرحلة تمأسس الإسلام

الأوهام اليهودية-المسيحية تمَّ تشريعها على شكل غزو عربي للأراضي المقدَّسة،

وأنَّ فكرة الهجرة، أو انتقال محمد وأتباعه من مكَّة إلى المدينة عام 622، قد انطلقت بعد وفاة محمد بفترة طويلة

لا يوجد أي مصدر يعود إلى القرن السابع الميلادي يعرِّف فترة الهجرة خلال الحقبة العربية،

وأنَّ كلمة "مسلم" لم تكن مستعملة خلال المرحلة المبكِّرة من الإسلام الأولي

فليس هناك أي سبب مناسب يدفعنا للافتراض أنَّ حاملي هذه الهوية البدائية قد أطلقوا على أنفسهم تسمية "مسلمين" [إلا أنَّ] المصادر... تكشف لنا عن تسمية مبكِّرة لتلك الجالية مغاريتاي "Magaritai" [والتي] تظهر في المصادر اليونانية ضمن ورقة بردي تعود إلى عام 642، وضمن المصادر السريانية "مهاغريه/مهجرية" أو "مهجريين" بحدود عام 640.

استقبل كتاب الهاجريون بهجوم عنيف من قبل العلماء المسلمين وغير المسلمين على حدٍ سواء، وذلك جرَّاء اعتماده على مصادر تعتبر معادية جدًا. فقد كتب أحدهم يقول:

هذا كتاب يقوم على ما يمكن أن يعتبر – من أي منظور إسلامي – كشهادة غير منتظمة مستوحاة من مصادر إسلامية كافرة.

منذ ذلك الوقت تراجع كل من كرونه وكوك جزئيًا عن معظم افتراضاتهم الراديكالية – على سبيل المثال، أنَّ النبي محمد كان قد عاش فترة أطول بسنتين ممَّا تقرِّر المصادر الإسلامية، وأنَّ تاريخية هجرته إلى المدينة مشكوك بها. لكن كرونه استمرَّت في تحدِّيها للأفكار ووجهات النظر الإسلامية والغربية حول تاريخ الإسلام. ففي عملها: التجارة المكية وظهور الإسلام Meccan Trade and the Rise of Islam (1987) قدَّمت حجَّة مفصَّلة تتحدَّى من خلال وجهة النظر السائدة بين العلماء والباحثين الغربيين (وبعض المسلمين) أنَّ الإسلام قد ظهر نتيجةً لتجارة التوابل العربية.

إنَّ فكرة غيردر بوين الحالية عن تاريخ القرآن تساهم وتشترك في هذه الأطروحة التصحيحية المعاصرة. يقول بوين:

فكرتي هي أنَّ القرآن هو عبارة عن مزيج من النصوص التي لم تكن مفهومة كلَّها حتى في زمن محمد، حتى أنَّ العديد منها قد يكون قبل ظهور الإسلام بفترة طويلة. وحتى ضمن المصادر التراثية الإسلامية هنالك كم ضخم من المعلومات المتناقضة والأخبار المتعارضة، من ضمن ذلك ركيزة مسيحية مهمة، يمكننا أن نشتقَّ منها نتائج أنتي-تاريخية كاملة لو أردنا.

باتريشيا كرونه تدافع عن أهداف هذه الطريقة في التفكير:

القرآن هو نصٌّ مقدَّس له تاريخه مثله مثل أي نص مقدَّس آخر – باستثناء أننا لا نعرف تاريخه حقَّ المعرفة ونميل إلى إثارة موجات احتجاج عارمة عندما ندرسه وندقِّق فيه. لن يهتمَّ أحدٌ بالاحتجاج إذا كان مصدره الغربيين، لكن الغربيين يبدون محترمين ومراعين عندما تأتي الاحتجاجات من الناس الآخرين: من أنت لتعبث بتراثهم؟ لكننا نحن المتخصِّصين بالدراسات الإسلامية لا نسعى لهدم ديانة أحد.

ليس الجميع متفقون حول هذا التأكيد – وخصوصًا منذ أنَّ حلَّت الدراسات القرآنية الغربية تقليديًا ضمن سياق العدائية المعلنة والمفتوحة بين المسيحية والإسلام. (طبعًا، الحركة الواسعة في الغرب خلال القرنين الماضيين "لتفسير" الشرق، غالبًا ما تمَّت الإشارة إليها بتسمية "الاستشراق" Orientalism، قد أصبحت خلال السنوات الأخيرة عرضةً للهجوم لإظهارها الانحياز الديني والثقافي المماثل). لقد بدا القرآن، بالنسبة للباحثين المسيحيين واليهود بشكل خاص، أنه يتكوَّن من هرطقة، وقد جادل المستشرق الكبير في القرن التاسع عشر، وليم موير، أنَّ القرآن كان أحد

أشرس وأعتى أعداء الحضارة، الحرية، والحقيقة التي سبق وأن عرفها العالم.

العلماء المبكِّرين السوفييت، أيضًا، أجروا دراسة مدفوعة أيديولوجيًا لنشأة الإسلام ومصادره، وبحماس تبشيري تقريبًا: في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين صدرت منشورات سوفييتية بعنوان "Ateist" نشرت سلسلة من المقالات تفسِّر فيها ظهور الإسلام ضمن إطار ماركسي-لينيني. في الإسلام وروسيا Islam and Russia (1956) لخَّصت آن لامبتون معظم هذا العمل، وكتبت تقول إنَّ عدَّة علماء سوفييت نظَّروا بأنَّ

القوى المحرِّكة لهذا الدين الناشئ كانت مجهَّزة مسبقًا من قبل الطبقات البرجوازية في كل من مكَّة والمدينة.

وأنَّ الباحث س، ب، تولستوف قال إنَّ

الإسلام كان عبارة عن حركة دينية-اجتماعية نشأت بصيغة عبودية وليست إقطاعية في المجتمع العربي.

وأنَّ ن. أ. موروزوف جادل بأنَّ

حتى زمن الحملات الصليبية كان من المتعذَّر تمييز الإسلام عن اليهودية و... عندها فقط اكتسب نوعيَّته المميزَّة والمستقلة، في حين أنَّ محمد والخلفاء الأوائل ما هم إلا شخصيات أسطورية.

ظهر موروزوف أنَّه منظِّر متوهِّج ومزخرف بشكل خاص: فقد كتبت لامبتون تقول إنَّه قال أيضًا، في كتابه المسيح Christ (1930)، أنَّه

وخلال العصور الوسطى كان الإسلام مجرَّد مذهب فرعي من الأريوسية ظهر بفعل حدث طقسي في منطقة البحر الأحمر بالقرب من مكَّة.

لا نفاجأ عندئذٍ، بالنظر إلى انحياز العديد من الدراسات النقدية غير الإسلامية للقرآن، لماذا يميل المسلمون إلى رفضها رفضًا قاطعًا. فهناك احتجاج بليغ ظهر سنة 1987، في دورية Muslim World Book Review، ضمن ورقة بعنوان منهج ضدُّ الحقيقة: الاستشراق والدراسات القرآنية بقلم الناقد الإسلامي برفيز منظور. واضعًا أسس وأصول الدراسات القرآنية الغربية ضمن "المستنقعات الجدلية المسيحية للقرون الوسطى" واصفًا وضعها الحالي بأنَّها "طريق مسدود من ذاتها". الذي قام به منظور هو أنه قام بتركيب عقدة أو مركَّب وهجوم مقنَّع على كامل النظرة الغربية إلى الإسلام. إذ يقول في افتتاحية مقالته بغضب:

مشروع المستشرق في الدراسات القرآنية، مهما كانت استحقاقاته الأخرى وخدماته، كان في الأساس مشروع نكاية، نشأ في حضن اليأس والإحباط وتغذى على الكراهية والثأر: نكاية الأقوياء بالضعفاء، إحباط ويأس العقلانيين تجاه المؤمنين بالخرافات، وانتقام "الأرثوذكس" ضدَّ "غير الملتزمين". ففي الساعة الأعظم من نصره الدنيوي، نسَّق الرجل الغربي، سلطات الدولة، الكنيسة والجامعة، مطلقًا هجومه المزمع ضدَّ قلاع الدين الإسلامي. جميع الخطوط الشاذَّة الضالَّة لشخصيته المتغطرسة – بعقلانيتها المتهوِّرة، بأحلامها في السيطرة على العالم وأصوليتها المذهبية – انخرطت ضمن مؤامرة دنيئة لإزاحة كتاب المسلمين المقدَّس من مكانته الحصينة كمثال للأصالة التاريخية والمغزى الأخلاقي. والجائزة النهائية والحاسمة في سعي الرجل الغربي من خلال مجازفته الجريئة كانت عقل المسلم نفسه. ومن أجل أن يتخلَّص الغرب من مشكلة الإسلام بشكل نهائي ومرة وإلى الأبد، فكر، أنَّ وعي المسلم يجب أن يقولب ويتشكَّل لكي ييأس من الحقيقة الإدراكية للرسالة الإلهية المقدَّسة التي أنزلت على النبي. وفقط المسلم الذي ينتابه الشك والريبة حول الأصالة التاريخية أو الاستقلال المذهبي للوحي القرآني هو الذي سيتخلَّى ويتنازل عن مهمَّته الكونية وبذلك لن يشكِّل أي تحدٍّ يقف في وجه الهيمنة الغربية العالمية للشرق. وهذا – على الأقل – يبدو سببًا ضمنيًا، إذا لم يكن واضحًا أو ظاهرًا، لهجوم المستشرق على القرآن.

وبالرغم من هذه المقاومة، فقد استمر الباحثون الغربيون من شتى المجالات والاهتمامات الأكاديمية واللاهوتية بالقيام بعملهم، مطبِّقين أحدث التقنيات الجديدة والمعاصرة في النقد التاريخي والنصي على دراساتهم للقرآن. جزء كبير من هذه الدراسات والأبحاث الموجودة الآن في الوقت الحالي تتكلَّف بنشرها شركة بريل Brill الأوروبية للنشر – وهي شركة نشر عريقة ساهمت بنشر أهم الأعمال الرئيسية كـموسوعة الإسلام Encyclopedia of Islam والنسخة البحثية من مخطوطات البحر الميت The Dead Sea Scroll Study Edition – وقد تكلَّفت الآن بمهمة إصدار أول طبعة من موسوعة القرآن Encyclopedia of the Quran. جين مكوليف، أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة تورنتو ومحرِّرة الموسوعة، تأمل أنها ستكون بمقام "النظير المثالي" للموسوعات التوراتية والإنجيلية وستكون بمثابة "عمل الألفية الجامع لكافة الدراسات القرآنية". تمَّ حاليًا تحرير مقالات من أجل الجزء الأول من الموسوعة ويتمُّ إعدادها للنشر لاحقًا.

ستكون موسوعة القرآن عملاً تعاونيًا بحق، شارك فيه باحثون من المسلمين وغير المسلمين، كما أنَّ مقالاته ستقدِّم لنا وجهات نظر متعدِّدة حول تفسير القرآن، بعضها قد يشكِّل تحديًا للآراء ووجهات النظر الإسلامية التقليدية – وهذا ما يقلق ويزعج الكثيرين في العالم الإسلامي، حيث أنَّ الوقت لم يحن بعد للقيام بدراسات نقدية جادة للقرآن. إنَّ قضية نصر حامد أبو زيد، الأستاذ المصري المتواضع والخبير باللغة العربية والذي احتلَّ كرسيًا في اللجنة الاستشارية للموسوعة، تُظهر الصعوبات التي تواجه الباحث المسلم الذين يحاول إعادة النظر وتقييم تراثه.

شرُّ البلية

يقول نصر حامد أبو زيد:

القرآن نصٌّ، نصٌّ أدبي، والطريقة الوحيدة لفهمه، تفسيره، وتحليله تكون من خلال النظرة الأدبية، وهذه مسألة لاهوتية جوهرية.

ولأنه عبَّر عن أفكاره بهذا الشكل – بشكل أساسي، لأنه تحدَّى الفكرة التي تقول إنه يجب قراءة القرآن بشكل حرفي وذلك لأنه كلام الله المنزَّل والمعصوم عن التغيير والتبديل – اتُّهم أبو زيد بالكفر والزندقة رسميًا عام 1995، وقد صدر هذا الحكم في عام 1996 عن المحكمة العليا بمصر، ثمَّ تابعت المحكمة عملها، على أساس الشريعة الإسلامية التي تحرِّم زواج المسلمة من الكافر أو المرتد، فأصدرت حكمًا بالتفريق بين أبو زيد وزوجته ابتهال يونس (وهو حكم وصفته ابتهال يونس بأنه جاء "كالضربة على الرأس").

أقرَّ أبو زيد بصرامة وإصرار على أنه مسلم تقيٌّ، لكنه قال إنَّ محتوى أو مضمون القرآن الظاهر – على سبيل المثال، كالقوانين والشرائع القديمة حول معاملة النساء والتي يتميَّز الإسلام بسوء سمعته في هذا المجال – أقل أهميةً بكثير من مضمونه المركَّب، المعقَّد، المستتر، والمغذِّي روحيًا. يقول أبو زيد إنَّ الشريعة الإسلامية المتشدِّدة فاسدة، فهي تختزل النصَّ المقدَّس، الأبدي، والديناميكي ليتناسب مع التفسيرات الإنسانية والتي تقتصر فقط على "حلية رخيصة... تعويذة... أو زينة".

بقي أبو زيد لفترة من الوقت في مصر محاولاً فيها ردَّ شبهة الكفر والارتداد عنه، لكنه قرَّر الهرب هو وزوجته من مصر إلى هولندا جرَّاء التهديدات الكثيرة بالموت التي تلقَّاها والمضايقات التي لقيها من العامة، حيث أطلق على المسألة بمجملها "شرُّ بلية". الشيخ يوسف البدري، وهو رجل دين ألهمت تعاليمه التحريضية الكثير من المعارضين لأبي زيد، قال مبتهجًا:

نحن لسنا إرهابيين، فنحن لم نستخدم الرصاص أو الأسلحة النارية، لكننا أوقفنا أي عدو متربص بالإسلام ومنعناه من السخرية والاستهزاء بديننا... فلن يجرؤ أحد على مجرَّد التفكير بإلحاق الضرر بالإسلام بعد الآن.

يبدو أنَّ خوف أبو زيد على حياته كان مبرَّرًا وكذلك هربه: ففي عام 1992 تمَّ اغتيال الصحفي المصري فرج فوده على يد إسلامي متطرِّف بسبب كتاباته النقدية عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وفي عام 1994 تمَّ طعن الروائي المصري والحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ برقبته لأنه ألَّف رواية بعنوان أولاد حارتنا (1959) – وهي رواية، منظَّمة مثل القرآن، يستعرض فيها الكاتب مفاهيمًا "ضلالية وهرطوقية" عن الله والنبي محمد.

الخروج عن التفسير الأرثوذكسي التقليدي للقرآن، يقول المفكِّر الجزائري محمد أركون، أستاذ فخري للفكر الإسلامي في جامعة باريس، "هو عمل حسَّاس للغاية" وله عواقب هامة. يقول أركون:

فالملايين والملايين من الناس يرجعون إلى القرآن بشكل يومي ليفسِّروا تصرُّفاتهم وأفعالهم وليبرِّروا طموحاتهم، هذه الدرجة في المرجعية أكبر بكثير مما كانت من قبل.

محمد في الكهف

تنطوي مكَّة في مكان قصيٍّ وقاحل بين سلسلتين من التلال الشاهقة والشديدة الانحدار في غرب شبه الجزيرة العربية والتي تسمَّى اليوم بالمملكة العربية السعودية. ونحو الغرب منها مباشرةً تنبسط شواطى البحر الميت المنبسطة والقائظة، وفي الشرق تمتدُّ صحراء الربع الخالي العظيمة – أكبر مساحة من الأراضي الرملية الممتدة على سطح هذا الكوكب. موقع البلدة قصيٌّ ومملٌّ، والأرض جافة ومتربة، تشتعل تحت الشمس القاسية. المنطقة بأكملها تتميَّز بالحرِّ الشديد، وخفقات الرياح الصحراوية. ومع أنَّ الأمطار قد لا تهطل طوال أعوام كاملة، فإنَّ هطولها قد يكون شديدًا وقاسيًا، مخلِّفةً سيولاً جارفة من المياه المنحدرة على سفوح التلال متوجِّهةً نحو السفح الذي ترقد ضمنه المدينة لتغمره. كخلفية مجهَّزة لنزول الوحي القدسي، فتلك هي المنطقة الأكثر ملائمةً كجبال سيناء أو براري يهودا.

المصدر الحقيقي الوحيد للمعلومات التاريخية عن مكَّة ما قبل الإسلام وظروف الوحي القرآني هي الرواية الإسلامية التقليدية حول نشأة دين الإسلام.

خلال القرون التي سبقت ظهور الإسلام، كانت مكَّة عبارة عن مقام وثني محلِّي لها مكانتها العريقة والأصيلة. أمَّا الطقوس والشعائر الدينية التي كانت تتعلَّق بالكعبة – الحرم المقدَّس، ما زالت طقوسًا رئيسية ومحورية ضمن المنظومة الإسلامية اليوم، إذ يؤمن المسلمون أنها قد بنيت أصلاً على يد إبراهيم (الذي يعرف عند المسيحيين باسم أبراهام وعند اليهود باسم أبرام) وابنه إسماعيل (إشماييل). ما أن ازدهرت مكَّة في القرن السادس الميلادي، حتى انتشرت الأصنام وتكاثرت بمختلف الأشكال والأحجام والمسميات. والرواية التقليدية أنَّه وخلال باكورة القرن السابع الميلادي كان هناك هيكل مكوَّن من 360 تمثالاً وأيقونة أحاطت الكعبة (وفي الداخل نقشت كتابات عن يسوع ومريم العذراء، من بين أصنام أخرى).

وعلى هذا الأساس يقال إنه تمَّ إيحاء أول المقاطع أو الآيات من القرآن، في سنة 610، على تاجر من مكَّة اسمه محمد بن عبد الله. كان محمد قد طوَّر عنده عادة الخروج من مكَّة الوثنية إلى كهف في جبل بالقرب منها، حيث كان ينعم في عزلته. وخلال إحدى فترات العزلة هذه يقال إنَّ ملاكًا زاره يدعى جبريل – وهو الملاك نفسه الذي أعلن قدوم يسوع لمريم العذراء في مدينة الناصرة قبل حوالي ستمائة سنة من زيارته لمحمد، بادئًا بالكلمة التي وردت في القرآن "إقرأ!"، أعلم جبريل محمدًا بأنَّه سيكون رسول الله. ومنذ تلك اللحظة، وحتى لحظة موته، محمد الذي من المفترض أنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، استلم خلال تلك الفترة الوحي من الله عن طريق جبريل بلغة عربية جمعت فيما بعد تحت اسم "القرآن" والذي كان إعلانًا، مبدئيًا بأسلوب شاعري وبلاغي جدًا، لانطلاق دين توحيدي جديد اسمه "الإسلام"، أو "الخضوع والتسليم لله". تلا محمد تلك الآيات التي كانت "تنزَّل إليه" بشكل حرفي إلى أفراد أسرته المقرَّبين منه، وأصدقائه، الذين إمَّا حفظوها عن ظهر قلب أو دوَّنوها على مختلف أنواع الصحف.

المكيُّون الأقوياء سرعان ما بدأوا حملة ضدَّ محمد وإرجاعه هو مجموعته الصغيرة إلى دينهم الأصلي، ذلك الدين الذي هو اللبُّ الوثني للحياة المكية الثقافية والاقتصادية. وكنتيجة في عام 622 هاجرت تلك المجموعة الصغيرة نحو منقطة موجودة شمالاً وتبعد حوالي مئتي ميل عن مكَّة، نحو مدينة يثرب، والتي عرفت سابقًا باسم "المدينة" (نسبةً إلى مدينة النبي). هذه الهجرة، تمثِّل ولادة مجتمع إسلامي مستقل وقائم بذاته. وإنَّ سنة 622 أصبحت نقطة بدء التقويم الإسلامي الهجري. في المدينة، استمر محمد في تلقي الوحي، آيات وسور ذات طبيعة عنيفة، تشريعية، ومملةً جدًا. وفي غضون عام 630 كان محمد قد جمع حوله عددًا كبيرًا من الأنصار والدعم ضمن مجتمع المدينة لمهاجمة مكَّة وغزوها. وقد أمضى السنتان الأخيرتان من عمره وهو يجمع أنصارًا جددًا حوله، يعزِّز قوَّته السياسية، ولم ينقطع عنه الوحي.

التراث الإسلامي يخبرنا أنَّه عندما مات محمد، سنة 632، لم يكن الوحي القرآني الذي "تنزَّل" عليه قد جمع بعد ضمن مصحف موحَّد، بل كانت الآيات وأجزاء من السور مدوَّنة على "سعف النخيل والأحجار المسطَّحة وفي قلوب الرجال" (وهذا أمر ليس بمفاجئ: فالتراث الشفهي كان شائعًا ومعتمدًا، والنص العربي الذي كان يكتب من دون نقط أو حركات صوتية، كالتي نستخدمها اليوم، كانت وظيفته تقتصر على الاستذكار)، ولم يكن مؤسَّسًا وراسخًا كالنص الحالي. ولم يكن هذا الأمر ذو أهمية تذكر في ذلك الوقت، فعرب المدينة – الذين كانوا على الأرجح ائتلاف مكوَّن من تجار سابقين، بدو من الصحراء، وحضر زراعيين اتحدوا تحت راية دين جديد منحهم حسًا بالوحدة والانتماء وألهمتهم أقوال النبي وأفعاله – كانوا في ذلك الوقت ينتقلون ضمن سلسلة طويلة من الفتوحات والغزوات الناجحة التي ارتكبت جميعها باسم الإسلام. وخلال عام 640 كان العرب قد احتلوا معظم الشام، العراق، بلاد فارس، ومصر، وبعد ذلك ثلاثين سنة كانوا منهمكين في احتلال أجزاء من أوروبا، شمال أفريقيا، وآسيا الوسطى.

خلال العقود الأولى من الفتح العربي قتل الكثير من أصحاب محمد، وقتلت معهم حصيلة كبيرة من الوحي، وبدأ المسلمون الجدد في المناطق الأعجمية يتجادلون حول النص القرآني وقراءاته. يعود قائد جيش المسلمين في أذربيجان إلى الخليفة عثمان ويعبِّر له عن مخاوفه من نشوب خلافات مذهبية بين الأعاجم والمسلمين (644-656) – الخليفة المسلم الثالث – ويقال بأنَّ الخليفة أمره بأن "يدرك هؤلاء الناس قبل أن يختلفوا على القرآن، بنفس الشكل الذي اختلف فيه المسيحيون واليهود على الكتاب المقدَّس". جمع عثمان لجنة تحريرية قامت بجمع كافة الأجزاء والكسرات المختلفة، وبعناية، من القرآن والتي استظهرت أو دوِّنت على أيدي صحابة محمد. وكانت النتيجة ظهور نصٍّ نموذجي يمثِّل النسخة الشرعية والرسمية من القرآن. وقد أمر عثمان بإحراق وإتلاف كافة النسخ الناقصة وغير الكاملة من المصاحف. أمَّا النسخة الجديدة فقد تمَّ توزيعها فورًا على المراكز الرئيسية للإمبراطورية الإسلامية التي أخذت بالنمو بشكل متسارع.

خلال القرون القليلة التالية، وبينما أصبح الإسلام كيانًا سياسيًا ودينيًا مستقلاً وقويًا، ظهر كم هائل من التقاليد التفسيرية والتاريخية لتفسير القرآن وتوضيح نشأة الإسلام وجذوره، وأهمُّ عنصر بين هذه التقاليد التراثية كان: "الحديث"، أو مجموع أقوال وأفعال محمد؛ "السنة": مجموع العادات الإسلامية الاجتماعية والشرعية؛ و"السيرة": سيرة النبي الذاتية؛ ثمَّ "التفسير": أو شروحات الصحابة والمقرَّبين من النبي للقرآن وما كان غامضًا منه. ومن هذه المصادر التراثية الإسلامية – مجموعة ومصنَّفة ضمن أعمال مكتوبة تعود على الأرجح إلى منتصف القرن الثامن الميلادي – تمَّ استقاء كافة الروايات والأخبار الإسلامية عن نزول الوحي خلال المراحل المبكِّرة والمظلمة من تاريخ الإسلام.

لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

القرآن يشبه إلى حدٍ ما الإنجيل أو "العهد الجديد"، فهو يتكوَّن من 114 سورة، والتي تتفاوت في أطوالها ومواضيعها. أمَّا ترتيب السور في الكتاب فإنه لا يعتمد لا على الترتيب الزمني للأحداث ولا على الترتيب الموضوعي، إذ أنَّ القسم الأكبر من السور تمَّ ترتيبها بطريقة منحدرة حسب الطول من البداية وحتى النهاية. وبالرغم من هذه البنية الهيكلية الغريبة وغير المألوفة، الأمر المفاجئ بالنسبة للمطَّلعين الجدد عمومًا على القرآن هو الدرجة التي تتشابه فيها الأفكار والمعتقدات والقصص في القرآن مع مثيلاتها في الكتاب المقدس.

فالرب (أو الله بالعربية): هو إله مطلق القوة، مطلق القدرة، عليم، رحيم، خلق العالم وكل ما فيه من كائنات حية، كما أنه إله يرسل رسائل وتشريعات من حين إلى آخر عن طريق رسل وأنبياء ليهدوا البشر ويذكِّرونهم بنعم الله عليهم، وفي المستقبل – القريب أو البعيد، والذي يقال أنَّ لا أحد يعرفه إلا هو – ستحلُّ نهاية العالم ويكون يوم الحساب [عند المسلمين] أو الدينونة [عند المسيحيين][2]. آدم، أو إنسان، طُرد من الجنة لأنه أكل من الشجرة المحرَّمة. نوح يبني فلكًا له لينقذ على متنه مجموعة من الكائنات الحية من الطوفان الذي حلَّ بالأرض جرَّاء غضب من الرب. إبراهيم [والأصح تسمية أبرام] يحضِّر نفسه للتضحية بابنه إرضاءً لله. موسى يخرج شعب إسرائيل من مصر ويتلقَّى وحيًا من عند الله فوق جبل سيناء. يسوع – الذي ولد من مريم العذراء والذي يلقَّب بالمسيح – يقوم بالمعجزات، يجمع التلاميذ من حوله، ثمَّ يرتقي إلى السماء.

ويولي القرآن عناية شديدة للتأكيد على هذا التراث التوحيدي المشترك، لكنه يحاول بصعوبة ومشقَّة التفريق بين الإسلام وبين اليهودية والمسيحية. فعلى سبيل المثال، نلاحظ أنَّ القرآن يورد أسماء أنبياء مثل: هود، صالح، شعيب، لقمان، وآخرون غيرهم، وهؤلاء يبدو أنهم من أصول عربية، كما أنَّ القرآن يحاول باستمرار تذكير القارئ بأنَّه نزل (بلسان عربي مبين/ ولقومٍ يتفكَّرون). وبالرغم تأكيداته المتكرِّرة لذلك، فالأمر عكس ذلك في الواقع، إذ أنَّ القرآن مستعصٍ وغامض وصعب بالنسبة للقرَّاء المعاصرين – وحتى الأفراد المتعلِّمين ومتحدِّثي اللغة العربية – ليفهموه. وكثيرًا ما نلاحظ أنَّ القرآن يقفز قفزات دراماتيكية تحوُّلية في الأسلوب، السجع، والموضوع في الآيات ضمن السورة الواحدة. كما أنه يفترض ألفة باللغة، القصص، والأحداث التي تبدو أنها كانت قد فقدت حتى بالنسبة للمفسِّرين المسلمين الأوائل (وهذا أمر نموذجي لنص تطوَّر مبدئيًا ضمن تراث شفهي). أمَّا عن تناقضاته وتعارضاته الظاهرة فمن السهل جدًا التعرُّف إليها: فالله قد يشار إليه على أنه الشخص الأول والثالث في الجملة نفسها، نسخ مختلفة للقصة نفسها تتكرَّر في أماكن مختلفة في النص، بالإضافة إلى تناقض وتعارض القرارات والأوامر الإلهية من حين إلى آخر. فيما يخصُّ هذه الحالة الأخيرة نلاحظ أنَّ القرآن يتوقع توجيه النقد له لذا نراه يدافع عن نفسه بالتأكيد على حقه في نسخ أو إلغاء آية أو آيات منه (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة 2: 106].

وقد أتى النقد ما أن احتكَّ المسلمون بالمسيحيين خلال القرن الثامن الميلادي، إذ أنَّ الحروب الاستعمارية كانت مصحوبة بنزاعات جدلية ثيولوجية، حتى انخرط المسيحيون وغيرهم بدراسة الحالة الأدبية المشوَّشة والمربكة للقرآن كبرهان على أصوله البشرية. كما أنَّ علماء المسلمين أنفسهم كانوا يحصون ويعدِّدون الإشكالات الصعبة والسمات المحيِّرة والمربكة للقرآن – مفردات غريبة وغير مألوفة، أخطاء نحوية ظاهرة في النص، تعارض قواعدي، قراءات شاذَّة، وغيرها من الأمور الأخرى. هنالك نقاش لاهوتي جدِّي ظهر في الإسلام خلال أواخر القرن الثامن الميلادي، واضعًا أولئك الذين آمنوا بالقرآن على أنه كلمة الله الأزلية الأبدية المعصومة وجهًا لوجه أمام هؤلاء الذين آمنوا أنه كتاب مخلوق ومتغيِّر مع الزمن، مثله مثل أي شيء آخر ما عدا الله نفسه. وتحت حكم الخليفة المأمون (813-833) تحوَّلت وجهة النظر الأخيرة هذه من فورها إلى مذهب أرثوذكسي قائم بذاته. فقد جرى في العديد من المدارس الفكرية قبول ودعم تلك الفكرة، ومن ضمنها مدرسة ذات أهمية ومكانة كبيرين تعرف بالمعتزلة، حيث خلقت أساس لاهوتي معقد قائم جزئيًا على الفهم المجازي للقرآن بدلاً من الفهم الحرفي.

عند نهاية القرن العاشر الميلادي خبا التأثير الفكري لمدرسة المعتزلة واندثر، وذلك لأسباب سياسية معقدة، أمَّا المذهب الرسمي فقد صار مذهب "الإعجاز"، أو إعجاز القرآن. (وكنتيجة، لم تتمّ ترجمة القرآن تراثيًا من قبل المسلمين العرب من أجل المسلمين الذين لا يتحدَّثون اللغة العربية. وبدلاً من ذلك فقد قرء وكتب القرآن في الأصل من قبل كافة المسلمين في كافة أرجاء العالم الإسلامي، والذين غالبيتهم لا يتحدَّثون اللغة العربية. أمَّا الترجمات والتوضيحات التي كانت موجودة فلم تكن تعتبر أكثر من مجرد شروحات وتعليقات على القرآن). فتبني مذهب الإعجاز القرآني كان نقطة التحوُّل الرئيسية في التاريخ الإسلامي، ومن القرن العاشر الميلادي وحتى يومنا هذا نجد أنَّ نظرة المسلمين السائدة إلى القرآن هي أنه الكلمة النهائية والمعصومة لله، والتي بقيت كما هي حتى الآن ولم تتغيَّر أو تتحرَّف.

النزعة التخريبية المريضة

يتحدَّث غيردر بوين باستنكاف عن الرغبة التقليدية، من جهة العلماء المسلمين والغربيين، لقبول الفهم التقليدي والسائد للقرآن. يقول بوين:

ورد في القرآن أنه نزل بلسان عربي "مبين"، لكن لو نظرنا إليه، فسنلاحظ أنَّ هناك الكثير من الجمل والعبارات التي لا معنى لها. فالعديد من المسلمين – وبعض المستشرقين – سيقولون لك عكس ذلك، طبعًا، لكن الحقيقة تقول إنَّ أكثر من ثلث القرآن غامض وغير مفهوم. وهذا هو سبب التوجُّس التقليدي من عملية الترجمة. فإذا كان القرآن غير مفهوم – إذا كان من المتعذَّر فهمه حتى باللغة – عندئذٍ فهو غير قابل للترجمة والتفسير. وقد خاف الناس ذلك. وبما أنَّ القرآن يزعم بشكل متكرِّر على أنه واضح ومبين، لكن من الواضح أنه ليس كذلك – وهذا ما سيخبرك به متحدِّثو اللغة العربية أيضًا – إذن فهناك تناقض. لذا لا بدَّ أنَّ هناك شيئًا آخر.

في محاولتها للعثور على أنَّ هناك "شيئاً آخر" قد بدأ فعلاً خلال هذا القرن، تقول الباحثة في تاريخ الإسلام المبكر باتريشيا كرونه:

حتى فترة مؤخرة، كان الجميع قد سلَّم أنَّ كل ما يزعمه المسلمون ويقولونه عن أصول ومصادر القرآن وتاريخه صحيح. لكن إن أسقطنا ذلك الافتراض، فعلينا عندئذٍ أن نبدأ من جديد.

وليس صحيح تمامًا أنَّ القرآن وصل إلينا وهو مرتبط بإحكام ضمن إطار تراثي تاريخي ومحصَّن ضدَّ النقد والتحليل. كما تقول الباحثة كرونه في كتابها عبيد على ظهور الأحصنة Slaves on Horses:

المنقِّحون التوراتيون يعرضون لنا أجزاء من التراث الإسرائيلي خلال مراحل مختلفة من عملية بلورتها، ويمكن مقارنة شهاداتهم بشكل مثمر وموازنتها مقابل بعضها البعض. أمَّا التراث الإسلامي فكان نتيجة، ليس عملية بلورة بطيئة، بل انفجار، حيث أنَّ المصنِّفين الأوائل لم يكونوا منقِّحين، بل جامعي فتات وبقايا الذين كانت أعمالهم مجرَّدة من الوحدة العامة بشكل مدهش ولا يمكن استجلاء توضيحات محدَّدة من مقارنتها.

ما لا يدعو للاستغراب، إذا أخذنا بعين الاعتبار التوسُّع الانفجاري المفاجئ للإسلام الأول والفترة الزمنية بين ولادة الدين وأول توثيق إسلامي منظم في تاريخه، فعالم محمد كان مختلفًا بشكل جذري وقاطع عن عوالم المؤرِّخين الذين كتبوا عنه لاحقًا. خلال القرن الإسلامي الأول، مجموعة من رجال الصحراء [البدو] المحليين الوثنيين تحوَّلوا إلى وصاة على إمبراطورية واسعة مترامية الأطراف ذات مؤسَّساتية توحيدية ازدهرت سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا وفكريًا. العديد من المؤرِّخين الحاليين يجادلون أنه من المستحيل أن نتوقَّع أنَّ قصص الإسلام ومروياته عن أصوله ونشأته الخاصة – وخصوصًا التراث الشفهي خلال القرون الأولى – قد نجت من هذا التحوُّل الاجتماعي الكبير وبقيت سليمة من دون أن تمَسَّ. كما لا يمكننا توقُّع أن يكتب مؤرخ مسلم من العراق في القرن التاسع أو العاشر الميلادي، ويكون قد خرج عن خلفيته الثقافية والاجتماعية (وقناعاته الدينية)، ليصف بدقة وموضوعية الإطار الزمني والاجتماعي للجزيرة العربية خلال القرن السابع. قام ستيفن همفري ضمن مجلة (العالم الإسلامي: إطار عام للبحث، 1988)[3] بتلخيص المسألة التي تواجه المؤرِّخين الذين يدرسون الإسلام المبكِّر:

إذا كان هدفنا فهم الطريقة التي فهم فيها مسلمو القرنين الثاني الهجري/الثامن الميلادي والثالث الهجري/التاسع الميلادي أصل ونشأة مجتمعهم، فسنكون بعيدين كل البعد عن الحقيقة. لكن إذا كان هدفنا معرفة "ما الذي حدث فعلاً" في سياق أجوبة موثَّقة وموثوقة للأسئلة الحديثة المتعلِّقة بالعقود الأولى للمجتمع الإسلامي، عندها نكون أمام مشكلة حقيقية.

الشخص الوحيد، والذي هزَّ أركان الدراسات القرآنية خلال العقود القليلة الماضية، هو الباحث جون وانسبرو John Wansbrough، باحث سابق من جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية. أمَّا بوين فيعيد قراءته الآن خلال استعداده لتحليل المخطوطات اليمنية. تقول باتريشيا كرونه عنها وعن مايكل كوك "إن أغلب ما قالاه في كتابهما الهاجريون عن القرآن اعتمد في أساسه على أفكار وطروحات جون وانسبرو". إلا أنَّ هناك باحثون آخرون أشاروا إلى عمل وانسبرو على أنه "عنيد للغاية"، "بليد وجامد بشكل مريع"، "يحتوي الكثير من الخداع الذاتي". لكن سواءً أحبوا ذلك أم لا، فأي باحث ينخرط في الدراسات التحليلية والنقدية للقرآن اليوم فعليه أن يطَّلع على أهمِّ عملين لوانسبرو هنا: دراسات قرآنية: مصادر ومناهج التفسير القرآني (1977)؛ وكتاب البيئة الطائفية: مضمون وتركيب تاريخ الخلاص الإسلامي (1978).

قام وانسبرو بتطبيق كامل للترسانة والتي أطلق عليها تسمية "أدوات وتقنيات" النقد التوراتي – نقد الأسلوب، المصادر، التنقيح، وأكثر من ذلك – على النص القرآني. وقد استنتج أنَّ القرآن قد تطوَّر بشكل تدريجي خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، وخلال فترة زمنية طويلة من التناقل الشفهي عندما كانت الفرق والطوائف اليهودية والمسيحية تتحاور باستمرار وتتبادل الأفكار مع بعضها البعض في مكان آخر يقع في الشمال من مكَّة والمدينة، والذي بات يشكِّل الآن ما يسمى بسوريا، الأردن، فلسطين، والعراق. والسبب في عدم بقاء أو وصول أي مادة تراثية إسلامية إلينا، هو أنها لم تكن موجودة أصلاً، وهذا هو الاستنتاج الذي يتوصَّل إليه وانسبرو.

بالنسبة إلى وانسبرو، يمثِّل التراث الإسلامي ما يعرف عند الباحثين والنقَّاد التورراتيين اسم "تاريخ الخلاص salvation history": وهو عبارة عن رواية دينية لاهوتية تراثية ذات طابع تبشيري لنشأة دين معين وأصوله تمَّ اختراعها لاحقًا ثمَّ تخيُّلها وهي تحدث في الماضي. بمعنى آخر، كما يشرح وانسبرو الأمر في كتابه دراسات قرآنية، فالإعلان عن شرعية القرآن – بالإضافة إلى التراث والتقاليد الإسلامية التي ظهرت لتفسيره – قد تضمَّن:

إسناد عدَّة مجموعات – متداخلة جزئيًا – من الأفكار والصور [مجموعة فسيفسائية من الأفكار والميِّزات] إلى صورة النبي الإنجيلي أو التوراتي [معدَّل حسب التبشير المحمدي كرجل عربي ينقل رسالة الرب] وإعطائه رسالة تقليدية للخلاص [معدَّل حسب تأثير الرابانية اليهودية إلى كلمة الكلمة الراسخة والمعصومة لله].

نظريات وانسبرو الغامضة كان لها أثرٌ يذكر في بعض الدوائر العلمية والأكاديمية، لكن هناك العديد من المسلمين الذين وجدوا أنَّ تلك النظريات مزعجة ومهينة. برفيز منظور على سبيل المثال، وصف عمل وانسبرو الهام دراسات قرآنية وأعمال أخرى بأنها "مقال مجرَّد من القوَّة"، و"تخريب متعمَّد للعقل". حتى أنَّ منظور نفسه يجادل بالتراجع عن الدراسات القرآنية النقدية والتخلِّي عنها، وبدلاً من ذلك يحثُّ المسلمين على بزِّ الباحثين والتجديديين الغربيين "في ساحة الوغى الإبستمولوجية"، معترفًا أنه

عاجلاً أم آجلاً سيتحتَّم علينا [نحن المسلمين] أن ننظر إلى القرآن من خلال فرضيات ومعايير منهجية مختلفة تمام الاختلاف وبشكل جذري عن المعايير والفرضيات التي قدَّمها لنا التراث.

الحداثة في العالم الإسلامي

طبعًا، ولأكثر من قرن كامل كانت هناك شخصيات عامَّة مشهورة في العالم الإسلامي كانت لها محاولاتها الحداثية لدراسة القرآن والتاريخ الإسلامي: الأستاذ المنفي، والذي توفِّي مؤخرًا، المصري نصر حامد أبو زيد، وهو ليس الوحيد. أمَّا أشهرهم على الإطلاق فكان سلف أبو زيد البروفسور الأكاديمي والوزير المصري السابق، والأديب والكاتب، طه حسين. بصفته مفكِّرًا حداثيًا عاقد العزم، كرَّس طه حسين في باكورة ثلاثينيات القرن العشرين لدراسة الشعر العربي ما قبل الإسلامي [والذي سمِّي بالشعر الجاهلي] حيث انتهى إلى استنتاج أنَّ معظم ذلك الأدب الجاهلي كان مفبركًا من قبل مؤسَّسة الإسلام لكي يكون بمثابة الداعم الخارجي للميثولوجيا القرآنية. وهناك مثال آخر أكثر حداثةً، وهو الصحفي والدبلوماسي الإيراني علي دشتي، الذي ألَّف كتابًا عنوانه 23 عامًا: دراسة في الممارسة النبوية المحمدية [1985] حيث يطلب من أصحابه من المسلمين عدم اعتماد الروايات والأخبار التقليدية عن حياة محمد، والتي أسماها بـ "المؤسطرة والمعجَزَة".

يذكر أبو زيد أيضًا شخصية ذات أثر كبير في مجتمعاتنا، محمد عبده، كسابقة حداثية. فهذا الرجل الذي يعتبر أبو الحداثة المصرية في القرن التاسع عشر رأى إمكانية قيام لاهوت إسلامي جديد ضمن سياق نظريات معتزلة القرن التاسع عشر. حيث أنَّ أفكار المعتزلة نالت شعبية كبيرة ضمن بعض الدوائر الإسلامية مبكرًا في هذا القرن، (ممَّا دفع الأديب والمفكِّر المصري الكبير أحمد أمين للقول في عام 1936 إنَّ "نهاية المعتزلة وانقراض الفكر المعتزلي كان بمثابة أعظم نكبة أصابت العالم الإسلامي، إذ أنهم بذلك ارتكبوا جريمةً بحق أنفسهم"). وقد حمل الباحث الباكستاني الراحل فضل الرحمن شعلة الفكر المعتزلي إلى عصرنا الحالي، وقد قضى السنوات التالية من عمره، من فترة الستينات وحتى وفاته في سنة 1988، يعلِّم ويدرِّس في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث درَّس الكثير من الباحثين في الإسلام – من كلٍّ من المسلمين وغير المسلمين – ضمن إطار التراث المعتزلي.

لكن الحقيقة تقول إنَّ هذه الأعمال لم تأتِ بدون تكلفة عالية: فطه حسين، مثل نصر أبو زيد، اتُّهم بالزندقة في مصر، علي دشتي توفي بطريقة غامضة عام 1979 أي بفترة قصيرة بعد انتصار الثورة الإيرانية، أمَّا فضل الرحمن قد أجبر على مغادرة الباكستان في ستينات القرن العشرين. فالمسلمون الذين يدرسون المذهب الأرثوذكسي بطريقة نقدية عليهم أن يطؤوا أرض المعركة بحذر. يقول نصر أبو زيد إثر تصاعد الحملة الإسلامية العدائية ضد نزعات تفسير القرآن الحداثية وحسب متطلَّبات العصر:

أريد أنَّ أخرج القرآن هذا السجن، لكي يعود من جديد ذلك الكتاب الغني والمنتج لجوهر ثقافتنا الفكرية والفنية، والتي جرى خنقها وتقييدها في مجتمعاتنا.

وبالرغم من أعدائه الكثيرين داخل مصر، كان أبو زيد يحرز تقدُّمًا ملحوظًا نحو هدفه: وهناك الكثير من العلامات والدلائل التي تشير أنَّ عمله قد حظي باهتمام كبير – لكن هادئ وصامت – في العالم العربي. يقول أبو زيد إنَّ عمله (مفهوم النص، 1990) قد طبع تسع مرات على الأقل بشكل غير رسمي في كل من القاهرة وبيروت.

باحث مشهور آخر له أعمال مقروءة على نطاق واسع، سعى إلى إعادة تقييم وقراءة القرآن بعيون جديدة، وهو الباحث الجزائري محمد أركون، الأستاذ بجامعة باريس. صرَّح أركون في عمله الجامع محاضرات في القرآن (1982) على سبيل المثال أنَّ

الوقت قد حان [بالنسبة للإسلام] لتقدير، بالإضافة لكل التقاليد الثقافية الكبرى، الأخطار والمجازفات الحديثة للمعرفة العلمية.

ولذلك فهويقترح أنَّ

مشكلة المصدر الإلهي للقرآن يمكنها أن تخدم لتنشيط الفكر الإسلامي ودفعه للانخراط في النقاش الرئيسي لعصرنا.

يأسف أركون لحقيقة أنَّ أغلب المسلمين غافلون أو غير مدركين أنَّ هناك مفهومًا آخر مختلفًا من القرآن موجود ضمن تراثهم وتاريخهم الخاص. أمَّا ما تقدِّمه إعادة تقييم أو قراءة للتاريخ الإسلامي للمسلمين فهو فرصة لتحدِّي التطرُّف والتشدُّد الإسلاميين من داخل الإسلام، بدلاً من الاعتماد على مصادر ومرجعيات خارجية. فأركون وأبو زيد وآخرين غيرهم، يأملون أن يقود هذا التحدِّي في النهاية إلى نهضة إسلامية متجدِّدة ومواكبة لروح العصر.

الشرخ الكبير بين هذه النظريات الأكاديمية وبين الممارسة اليومية للإسلام حول العالم شرخ هائل ومن الصعب جدًا ردمه. طبعًا، أغلبية المسلمين اليوم غير قادرين على تحدِّي الفهم التقليدي الأرثوذكسي للقرآن والتاريخ الإسلامي ومسائلتهما. ومع ذلك يتحوَّل الإسلام إلى أحد أكبر الأديان في العالم من حيث أتباعه وانتشاره، أمَّا السبب في ذلك فيعود جزئيًا إلى انفتاحه على التغيُّرات الاجتماعية والأفكار الجديدة [كما يرى كل من أركون وأبو زيد، لكن الحقيقة على أرض الواقع ترينا شيئًا آخر تمامًا]. (قبل عدَّة قرون، وعندما كانت أوروبا غارقة في ظلمة عصورها المظلمة الأبدية، كانت الحضارة الإسلامية تنعم في ازدهارها حيث فتحت عصرًا جديدًا في مجال الاكتشافات العلمية والفلسفية والفكرية العظيمة. بالإضافة إلى أنَّ أفكار اليونان والرومانيين القدماء قد بقيت مجهولة وخافية عن الأوروبيين لولا أنها لم تتمّ ترجمتها ونقلها من قبل المترجمين والفلاسفة المسلمين الذين اكتشفوها وأعادوا إحيائها من جديد). يستعرض تاريخ الإسلام أنَّ المفهوم السائد عن القرآن لم يكن هو المفهوم الوحيد على الإطلاق، ويظهر التاريخ الحالي للدراسات والأبحاث التوراتية أنْ ليست كل الدراسات التاريخية النقدية للكتابات المقدَّسة هي أعمال عدائية وهدَّامة، وبدلاً من ذلك يمكن تطبيقها وإدخالها ضمن حيِّز العمل بهدف التجديد الروحي والثقافي، إذ يمكنها، كما يقول محمد أركون، أن تبسِّط النص بينما تعيد تأكيد "ترابط بديهياتها الكبرى".

سيتمُّ طرح تفسيرات متنوِّعة ومتباينة جدًا للقرآن والتاريخ الإسلامي خلال العقود القادمة، مع ذوبان وانصهار الامتيازات الثقافية التراثية بين الشرق، الغرب، الشمال، والجنوب، ومع استمرار نمو وتزايد سكان العالم الإسلامي، ومع اتساع دائرة الضوء المسلَّطة على المصادر التاريخية المبكرة، ومع التقاء المساواة بين الجنسين مع القرآن. ومع ظهور هذا التنوُّع الكبير والهائل للتفسيرات الجديدة ستأتي معه مشاكسات ومعارضات متزايدة بالتأكيد، وذلك مرَّده على الأرجح إلى حقيقة أنَّ الإسلام موجود ضمن هذه التشكيلة الثقافية والاجتماعية الكبيرة والفسيفسائية – البوسنة، إيران، ماليزيا، نيجيريا، المملكة العربية السعودية، جنوب أفريقيا، الولايات المتحدة، وأماكن أخرى. وأكثر من أي وقت مضى، أي شخص يرغب في فهم واستيعاب الشؤون العالمية سيكون بحاجة إلى دراسة وفهم الحضارة الإسلامية، بكافة مكوِّناتها وأطوارها. وأفضل طريقة للبدء بهذا المشروع هي في دراسة وفهم القرآن.

ترجمة: إبراهيم جركس

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ مقالة نشرت ضمن مجلة "أتلانتيك مونثلي" في يناير عام 1999. مترجمة بتصرُّف بإذن خطِّي من الكاتب.

Toby Lester, "What Is the Koran7" Atlantic Monthly, January 1999.

[1] الباليوغرافيا القرآنية Koranic Paleography: علم الخطوط والكتابات القرآنية القديمة. [المترجم]

[2] راجع كتابنا: حكايا القرآن، إبراهيم جركس.

[3] Stephen Humphreys, writing in Islamic History: A Framework for Inquiry (1988)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود