french

تحيَّة إلى روح

روبير لِنْسِنْ

(11 نيسان 1911 – 15 أيار 2004)

 

سمير كوسا

 

مقدمة

اكتشفتُ مؤلَّفات روبير لنسن[1] في العام 1974 من خلال كتابه الزِنْ الصادر عن منشورات مارابو الشعبية. كنت آنذاك مقيمًا في دمشق، والأستاذ ندره اليازجي، أول مَن أدخلني إلى مجال الروحانية، كان يشدد على ضرورة القيام بـتأليف بين العقل والعلم وبين الخبرة الروحية. كنت إذن متقد الاهتمام بكلِّ ما يمت بصلة إلى هذا المجال؛ وقد علمت أن لنسن يتعمق فيه منذ الثلاثينيات وأنه كان يصدر مجلة الوجود الحر التي تعالج هذه المسائل.

روبير لنسن في جلسة تأملية في أرُناتشَلا (الهند)، الجبل المقدس الذي أقام فيه الحكيم المتحقق شري بهگفان رامانا مهارشي.

على إثر ذلك، تراسلتُ مع روبير لنسن حتى العام 1979، حين قُيِّض لي أن ألتقي به بشحمه ولحمه بُعيد انتقالي إلى باريس. وقد اعتاد روبير لنسن أن ينزل ضيفًا علينا في شقتنا في إحدى الضواحي الباريسية إبان زياراته المتكررة إلى باريس. وفي العام 1987، استقررنا في مونتريال، فظننت أنه لن يُكتَب لي أن أراه بعد ذاك، وإنْ كنَّا ظللنا على تواصُل عبر البريد والهاتف. غير أن لنسن بدأ، منذ أوائل التسعينيات، يصرف حياته بين الكويبك وأوروبا؛ وقد اتفق له أحيانًا أن يمكث معنا أكثر من ستة أشهر على التوالي، وكثيرًا ما خطر بباله أن ينتقل نهائيًّا إلى كندا. لكنه في صيف العام 2001 غادرنا إلى أوروبا، ظانًّا أنه سيعود سريعًا إلى الكويبك؛ لكن مشكلات صحية حالت دونه وذلك وحرمتْه من التواصل مع العالم الخارجي.

زبدة القول إن معرفتي بروبير لنسن لم تقتصر على مؤلَّفاته وعلى بعض اللقاءات الدنيوية بمناسبة محاضراته وغيرها من النشاطات، بل قُيِّض لي أن أتعرف إليه عن قرب: كان فردًا من أفراد أسرتي، أقام معنا، زوجتي مي وأنا، وشاركَنا حياتَنا، وكان لولدينا بمنزلة الجد.

نشاطاته ومؤلَّفاته

كان روبير لنسن رائدًا في مجالات عديدة. ونحن ندين له بالكثير. بدأ نشاطاته في الثلاثينيات، فلم يترك مجالاً إلا وأسهم فيه بقسط، من غير أن يوفر جهدًا. نشاطه الخارجي كان ضخمًا ومتنوعًا: تردد على مختلف التنظيمات والجمعيات الأسرارية، من الثيوصوفيا إلى الماسونية، كما وعلى بعض حلقات التفكر العلمي، وعمل من خلالها جميعًا. ناضل بعد الحرب العالمية الثانية في سبيل اقتصاد عدالة التوزيع[2] ومن أجل تنظيم دول أوروبا المتحدة، التي بات مشروعُها محققًا جزئيًّا اليوم من خلال الاتحاد الأوروبي. كما أسهم أيضًا في تأسيس مدارس متنوعة للتربية البديلة، وتبوأ منصب نائب رئيس "جمعية الزِنْ الدولية". أورد هذه الأمور على سبيل المثال، لا الحصر.

لنسن محاضرًا في المقرِّ العالمي للجمعية الثيوصوفية في أديار، شينَّيْ (مدراس سابقًا)، الهند.

إبان هذه السنين الطويلة من النشاط، ومن خلال "معهد العلوم والفلسفات الجديدة" الذي أسَّسه وأداره في بروكسيل وغيره، نظَّم روبير لنسن العديد من الندوات الدولية وشارك فيها بالتعاون مع اختصاصيين معترَف بهم عالميًّا. ألقى مئات المحاضرات وأدار العديد من حلقات البحث في كلِّ مكان من العالم تقريبًا، وتولَّى إدارة دار نشر "الوجود الحر"، حيث يعود له الفضل في نشر العديد من الكتب. تولَّى كذلك تنظيم محادثات كريشنامورتي[3] العامة في فرنسا وبلجيكا، واكتشف موقع المكان الذي خُصِّص للِّقاءات السنوية حول كريشنامورتي في سانِن (سويسرا).

صورة يظهر فيها (من اليسار إلى اليمين): روبير لنسن، راجاگوپال، وكريشنامورتي.

أسهم روبير لنسن كذلك في إطلاق العديد من الباحثين والمعلِّمين الروحيين والعديد من التيارات الفكرية وفي التعريف بهم وبها. جمعتْ صداقاتٌ حميمة بينه وبين عدة شخصيات روحية مرموقة، منها: ج. كريشنامورتي، وِيْ وُو وِيْ[4]، د.ت. سوزوكي[5]، ديفيد بوهم[6]، ألكسندرا دافيد نيل[7]، جان هِربير[8]، كارلو سواريش[9]، دوگلاس هاردِنْگ[10]. روجيه غودِل[11]، ستيفان لوپاسكو[12]، رونيه فويريه[13]، وغيرهم كثيرون، وتعاوَن معهم، وكثيرًا ما ساهم بذلك في التعريف بهم وبمؤلَّفاتهم.

صورة ملتقَطة في العام 1952 في منزل روبير لنسن في ترفورِن، يظهر فيها (من اليسار إلى اليمين): السيدة لنسن، د.ت. سوزوكي، رام، وِيْ وُو وِيْ وحَرَمه ناتالي، والسيدة أوكامورا.

صفوة القول إن نشاطه ومدى هذا النشاط كانا هائلين، وإنْ ظلَّ الجمهور العريض غالبًا غير حافل بهما.

صورة لرام مع سوامي سِدِّشفَرانندا، ممثل رهبنة راماكرشنا في فرنسا في الخمسينيات.

نشر في مجلته الطليعية الصغيرة الوجود الحر مقالاتٍ أصليةً لمفكرين وكتَّاب روحيين بارزين، وتناول بالدراسة، منذ الأربعينيات، قضايا باتت دارجةً جدًّا اليوم، من نحو: التأمل، الصلة بين العلم والروحانية، العلوم النفسانية الجديدة، المنقولات الروحية، طُرُق اليوگا المختلفة، الزِنْ، كريشنامورتي، الإيكولوجيا العميقة، التربية الجديدة، إلخ.

صورة ملتقَطة في غشتاد (سويسرا)، يظهر فيها (من اليسار إلى اليمين): كارلو سوارِش، الأميرة گومِّرِتفِنسكي، الدكتورة نادين سوارِش (زوجة كارلو)، دوگلاس هاردِنْگ، وِيْ وُو وِيْ، ورام.

وضع روبير لنسن أكثر من عشرين كتابًا وبضع مئات من المقالات. وعلى الرغم من المراجع الاختصاصية العديدة الواردة في كتبه ومقالاته، لم تكن غايتُه أكاديمية قط. كان همُّه أن يوصل إلى الجمهور جوهر المنقولات الروحية الكبرى – مجردةً من رموزها وصورها التي عفا عنها الزمن – وآخر الاتجاهات العلمية والنفسانية – مجردةً هي الأخرى من الكثير من مصطلحاتها الفنية النافلة – حتى ييسِّر له بذلك حيازةَ رؤية إجمالية متجددة لنفسه وللكون.

صورة تضم رام والسيدة أليس غودِل (زوجة الدكتور روجيه غودِل) والباحثة الكبيرة في التراث الروحي ماري مادلين دافي.

لكن روبير لنسن لم يكتفِ بذلك. إذ كان يشرح لقرائه ولجمهوره آليات التخدير النفساني، في العادات ومن خلالها، ويحثهم أن يحيوا طفرةً نفسانية بالعودة إلى الذات بفضل انتباه فعال وغير منحاز[14].

صورة ملتقَطة في غشتاد (سويسرا)، يظهر فيها (من اليسار إلى اليمين): رونيه فويريه، رام، فرانسين فويريه (زوجة رونيه)، وناتالي (زوجة وِيْ وُو وِيْ).

كان روبير لنسن سبًّاقًا إلى التعريف بمختلف مدارس الروحانية، ولاسيما الزِنْ في صورته الصينية الأنقى – الـتشان[15]، فكر كريشنامورتي[16]، علم نفس الأعماق[17]، والتلاقي والتأليف اللذين ينجمان عنها مع العلم الحديث[18]، قبل فريتيوف كاپرا[19] وديفيد بوهم وآخرين كُثُر بوقت طويل.

رام في حديث مع الفيزيائي فريتيوف كاپرا.

وَجَدَ روبير لنسن أن الفيزياء الجديدة تنزع عن المادة مادِّيتها، بينما التعبيرات الجديدة عن الروحانية وآخر مكتشفات علم النفس تضفي على الروح الصفة المادية. من هنا تبيَّن له أن تصنيفاتنا وآراءنا القديمة في الروح والمادة لم تعد صالحة – وهذا لم يكن في نظره مجرد حدس فكري. وقد اصطلح، منذ الثلاثينيات، على تسمية هذا التيار التأليفي الجديد بـ"المادية الروحية". فكما كتب له الفيزيائي الفرنسي لويس دُهْ برولي قائلاً في العام 1942: "... لقد أبرزتَ إبرازًا مدهشًا للغاية المقايساتِ الموجودةَ بين مظاهر معيَّنة للفيزياء الحديثة وبين الكشوف العميقة للفكر الهندوسي."

هذا وكان روبير لنسن شاعرًّا أيضًا؛ وقد نشر ديوان شعر باسم رام نيرمايَنندا دورجِهْ المستعار[20].

أجل، كان روبير لنسن مفكرًّا عميقًا ومبسِّطًا استثنائيًّا للمعارف. كان يباغت كلَّ مرة بكلِّ صورة مبتكَرة أو مثال جديد يدأب على اكتشافه حتى يبلِّغ رؤياه. كنت أجد باهرةً دراساتِه الموغلة في دقتها ورهافتها حول ولادة الأنية ونموها التي كان يضعها في متناولنا في أعقاب كلِّ اكتشاف علميٍّ أو نفساني أو روحي[21].

كان يرى أن تاريخ الأنية مرتبط بتاريخ الكون: فمنذ "الانفجار الأعظم" الكوني، تنتظم المادةُ وتتشكل بمُراكَمة الذاكرات أو العادات – التي تصير، من فرط ما تتكرر، قوانين – حتى تفضي، على كرِّ أشواط متتالية، إلى حالات مختلفة: مادة اللامتناهي في الصغر – قُسَيْمات أولية وذرات وجزيئات، فخلايا، فنباتات، فحيوانات، ثم الكائن البشري. والإنسان، بما هو خاتمة هذه السيرورة الطويلة المضنية، هو، في نظر لنسن، "ملياردير الذاكرة" والزمن. فالذاكرات–العادات فيه، وقد تراكمتْ على هذا النحو، بلغتْ نقطةً حرجة تتوهم فيها أنها كيانات منفصلة. لكن بمستطاع الإنسان أن يستيقظ من هذا الحلم، من هذا الخطأ في الإدراك، فيعاود اكتشاف أصله الكوني بإعمال انتباه حرٍّ وغير منحاز.

رام في حديث مع دوگلاس هاردِنْگ.

خلاصة القول، كما نبَّهني إلى ذلك أحد الأصدقاء: "ما كنت لأتصور يومًا أنه سيكون بمقدوري أن أقرأ وأفهم هذا المقدار من المسائل المتنوعة للغاية، العلمية والفلسفية، وأطَّلع على هذا الكم من الأعمال والمؤلِّفين لولا قراءتي لكتب روبير لنسن."

روبير الإنسان

فيما يلي الجزء الأكثر ذاتية من هذه الخلاصة – الناقصة حتمًا – عن روبير لنسن. وليُسمَح لي أن أكتفي هنا بما أعرفه معرفةً مباشرة إبان تلك الفترة من الصداقة المتبادلة، وبأن أضيف إليه انطباعاتي الشخصية أيضًا. ومن البديهي أنه يصعب عليَّ أن أصرح بأسماء وأن أحدِّد مواقف، لأن الكثير من المعلومات ذات طابع شخصي – ناهيك عن أني أعترف بأني لا أعرف كلَّ شيء عن عمره المديد.

كان روبير لنسن يستحب أن يدعوه أصدقاؤه باسم "رام"؛ وبهذا الاسم سوف أشير إليه فيما يلي من المقال.

كما أشرتُ في المقدمة، كان رام قد اختار السكن في منزلنا في مونتريال طوال عدة أشهر من السنة، وذلك في الفترة بين العامين 1991 و2001. وهذا القرب سَمَحَ لنا أن نعرف عن كثب عاداتِه ورداتِ فعله في أصغر تفاصيل الحياة اليومية، وكذلك نشاطاته محاضِرًا وكاتبًا. وفي هذه الحياة المشتركة والحميمة، كان رام يتقبل ملاحظاتنا حول أدق تفاصيل الحياة اليومية في البيت، فيتكيف في سهولة. وهاكم استعراض سريع لما كان يجري.

كما سبق لي أن ذكرت، كان رام شغوفًا. فكلما ذهبنا لاستقباله في المطار، ومن بعد السلامات المعهودة، كان يواصل الحديث فورًا في حماس حول آخر مكتشفاته الباطنية أو حول آخر صورة خطرت بباله في خصوص السيرورة الداخلية. وفي كلِّ مرة، كنَّا نشعر بحضور طاقة جديدة تدخل البيت.

كثيرًا ما سألت رام عمَّا كان يدفعه، دون كلل ولا ملل، إلى القيام بكلِّ هذه النشاطات التي ذكرت. وقد علمت من فمه أنه في الأصل من هذه النشاطات والتآليف كانت ثمة خبرات داخلية، قلما يأتي على ذكرها علنًا أو في كتاباته[22]، مفضلاً التواري خلف المعلومة المبلَّغة. في تلك الخبرات، على نحو مباغت وغير متوقَّع، كان رام يجد نفسه في بُعد آخر، تنكشف فيه الكائنات والأشياء من الداخل في طبيعتها ووحدها الحقيقيتين. كذا فإن اتقادًا داخليًّا وشغفًا عظيمين دفعاه لاحقًا إلى البحث عن التعبير المناسب عن هاتيك الخبرات وإلى شرح رؤياه وتحقيقها وتبليغها، على كلا الصعيدين الاجتماعي والفكري.

كنت أظن كذلك أن رام كان كثير القراءة. لكني فوجئتُ إذ لحظت أنه كان يقرأ باعتدال وأنه، في العقد الأخير من حياته، كاد أن يتوقف عن القراءة. وحدها مقتطفات من نِسارغاداتا مهاراج[23] وكريشنامورتي إلخ كانت له منبعًا للتفكر والتأمل. وحين سألته: "كتبك زاخرة بالمقبوسات وبالمراجع؛ لا بدَّ إذن أنك كنت تقرأ كثيرًا؟"، كان جوابه بالنفي. في أغلب الأحيان، كان أصدقاءٌ، مثلي، يشيرون عليه بالمراجع الجيدة، وهو كان يجيد استخلاص المقاطع الهامة منها الضرورية لموضوعه. وقد وهبني العديد من الكتب التي كان كثيرًا ما يستشهد بها، ففوجئت بأن أغلب صفحاتها كان ما يزال غير مقصوص: وحدها الصفحات التي يستشهد بعبارات منها كانت مقصوصة أو مسطَّرًا تحتها!

في السنوات الأخيرة من عمره، قلما كان يهتم بالاطلاع على ما يستجد من فتوح في مجال العلوم؛ وبالتالي، فإنه لم يجدد مراجعه على هذا الصعيد، مكررًا، مع القليل من الجدة، الأفكارَ والمقبوساتِ نفسَها في ترتيب جديد. ومع ذلك، تبقى كتبُه الأخيرة مدخلاً مفيدًا جدًّا في متناول المبتدئين.

كان رام يحب رياضة المشي حبًّا جمًّا، فيقوم بجولات طويلة سيرًا على قدميه ويعشق الأشجار والطبيعة. وقد ظل، حتى ناهز من العمر الخامسة والثمانين، يحمل قناني الماء الثقيلة وغيرها من السلع طوال أكثر من عشرين دقيقة تحت مناخات مونتريال كافة! كان يقوم بمشترياته بنفسه ويخدم نفسه بنفسه دومًا (إلا حين يتعذر عليه ذلك)، ويشارك في سائر أعمال المطبخ، حتى إنه كان أحيانًا يتجشم بمفرده إعداد وجبة كاملة للأسرة كلِّها.

كان رام يخصِّص وقتًا طويلاً للإجابة شخصيًّا على مراسليه جميعًا. أما حين تستحوذ عليه فكرةُ نصٍّ أو كتاب جديد، فكان ينكب على العمل طوال النهار، ولا يتوقف إلا للاستراحة أو المشي.

كان يعشق اللقاء مع أشخاص مهتمين بالبحث الروحي وكان بمقدوره أن يتناقش معهم إلى أجل غير محدَّد، ويخرج من ذلك بفرح وطاقة كبيرين.

كان رام يستحب أن يعجب الآخرين ويكون مقبولاً منهم. وبهذا حظينا، إبان إقامته الطويلة معنا، بفرص لقاء شخصيات مختلفة وأشخاص مهمين وبالمشاركة في حلقات بحث ومحاضرات وندوات متنوعة. واللقاء الذروة بينها، في نظرنا، ذاك الذي قلب حياتنا، زوجتي وأنا، كان اكتشاف يقظان حيٍّ حقيقي ولقائه: فِرجيل. فلولا رام أغلب الظن أننا ما كنَّا حظينا بمعرفته.

رام وفِرجيل.

كان رام يحب العزف على البيانو ترويحًا عن نفسه. وقد قال لي إنه تعلَّم العزف عليه في شبابه لكي ينال إعجاب فتاة جميلة.

النقاشات مع رام لم تكن تخلو من المرح. كان يميل أحيانًا، من غير ما خبث، إلى تضخيم تفاصيل نكتة، وبهذا يسلِّي جميع الأشخاص الحاضرين. وكان أحيانًا يميل إلى الغلوِّ في معارضة تصرف أو فكرة ما؛ وهذا ما جلب عليه تهجم أشخاص لم يعرفوه، فيما أظن، إلا معرفة سطحية. ولقد كنت شاهدًا على عدة وقائع من هذا النوع. وكثيرًا ما استنطقت رام عن هذا الجانب "المغالي" عنده، فأجابني في بساطة: "لكن هذا يسلِّيني." لكن ما كان يذهلني في رام هو استعداده، من غير مشكلات ولا ضغائن، لِلِقاء أكثر المتجنِّين عليه عداوة؛ لكني لا أظن أن هؤلاء كان يفهمون الأمر على هذا النحو.

جانب آخر عظيم الفائدة لنا كان قدرته، حتى وهو في التسعين، على تصحيح نفسه – كما رأيته على الأقل، ومن غير أن يكون أبدًا في نزاع – عند كلِّ ملاحظة نوجِّهها له على أسلوبه في الحياة وفي عيش الحياة اليومية والتفكير فيها. فما انفك يكرر لنا (بالإنكليزية): "مازلت أتعلَّم."

عنصر آخر كان يفاجئني هو موقفه الملتبس من المال. كان رام يبيع كتبه العديدة في أثناء محاضراته وحلقات البحث التي يعقدها. فكان يبدو من غير المفهوم رؤيته أحيانًا يصر على دفع ثمن كتاب صغير، بينما تراه أحيانًا أخرى يهب بكلِّ أريحية كتبًا غالية الثمن نوعًا ما، دون أن يتوقف ذلك على منزلة الموهوب أو على مرتبته الاجتماعية. كثيرًا ما أظهر كرمًا نحو أشخاص يكاد لا يعرفهم، حتى إنه كان يقدم لهم دعمه المادي، في حين أنه كان، أحيانًا، أكثر الناس تحفظًا حيال الأقربين من أسرته. وقد استجوبته مرارًا حول هذا الأمر، وفهمت أنه كان يعطي بحسب الحاجة الحقيقية.

اقتسم روبير لنسن حياته دوريًّا مع عدة صاحبات. وقد تبين لي مما قيِّض لي أن أشهد أنه كان دومًا يخلص للعلاقة؛ لكنه حالما يشعر بأنه أضحى مملوكًا كان يضع حدًّا للحياة المشتركة. وعلى حدِّ علمي، لم يتخلَّ أبدًا عن صاحبة من غير أن يساعدها.

لم تكن صلته بأسرته الكبيرة – خلَّف ثلاثة أجيال – على ما يرام دومًا، وكانت لي مناقشات مطولة مع رام حول هذا الأمر. لقد فهمت أن ما يجهله بعض الأقربين إليه كانت محبته الحقيقية لهم، التي لم يتمكن من التعبير عنها بسبب رفضهم قبوله كما هو. وأحسب أن الأمر يعود، في معظمه، إلى أن رام لم يكرس للاهتمام بأولاده إلا وقتًا قليلاً؛ إذ كان دائمًا على سفر لمتابعة نشاطاته العديدة. وهذه غالبًا حال الرائين والرواد الكبار: نشاطاتهم تعلو على حياتهم الأسرية.

خاتمة

كان رام رائيًّا شغوفًا ورائدًا شغوفًا. وبساطة الصلات التي كان في الإمكان عقدها معه وحماسته الروحية وحميَّته الساريتين كانت قدوة للآخرين. ولقد فتح باب العالَم الباطن لباحثين كثيرين.

لم أنظر أبدًا إلى رام كيقظان تامٍّ، بل بالحري كامرئ انكشف لبصيرته بعدٌ روحي وعميق للوجود. والتعبير عن هذا البُعد الآخر كان يتم عِبْر شخصه، بكلِّ خصاله، وكذلك بكلِّ حدوده. غير أن قدرته على الاعتراف بأخطائه وقدرته على التعلم حتى النهاية كانا خارقين.

وحتى إذا ما اتفق لكتبه ولاسمه أن يضيعا في غياهب النسيان، سيبقى حافزًا هامًّا من حوافز هذا الدفع التطوري للكون، هذا الاشتباك السري العميق للأحداث، الذي تتحقق مفاعيلُه كلَّ يوم أكثر فأكثر.

أشكره على عبوره حياتي[24]، وأترك له كلمة الختام. ففي العدد 3 من مجلة أوم حول ثيمة "نفاذ البصيرة" (ص 607)، جوابًا عن سؤال: "كيف ترى "خاتمة" الشخص روبير لنسن؟"، قال: "لا شيء! مويجة متلاشية، نكرة، بين مليارات موجات محيط الحيِّ الأعظم الذي لا يُسبَر له غور، جسم بين مليارات الأجسام، المعلومة والمجهولة، تستبيحه استباحةً غير قابلة للفهم بَرَكةُ قوة محبة، مفاجئة وغير مَسعِيٍّ إليها، حاضرةٌ في قلب الكائنات جميعًا، جسم لم يعد يتنفس، بل "يُتنفَّس به"، لم يعد فاعلاً، بل "مفعول به" – ولا فضل له في ذلك كلِّه."

*** *** ***

ترجمة: د.أ.


 

horizontal rule

[1] يمكن للقارئ مراجعة نصَّين لروبير لنسن في أرشيف معابر:

1.      "بوذية الزِنْ واليوگا": http://maaber.50megs.com/second_issue/spiritual_traditions_2.htm، و

2.      "أهمية الحياة في الحاضر": http://maaber.50megs.com/forth_issue/epistemology_1a.htm. (المحرِّر)

[2] راجع المقالات حول هذا النظام في السلسلة القديمة من مجلة الألفية الثالثة الفلسفية–الروحية الفرنسية.

[3] يمكن للراغب في التوسع مراجعةُ عدد معابر المخصص لهذا الحكيم الهندي الكبير. (المحرِّر)

[4] وِيْ وُو وِيْ (1895-1986) اسم مستعار لفيلسوف ورحالة أيرلندي الأصل، درس مختلف مدارس الحكمة الشرقية، ولاسيما التاوية والبوذية والـتشان، وتتلمذ فترة على الحكيم الهندي شري رامانا مهارشي، مستلِهمًا هذه الخبرات جميعًا في الكتب التي وضعها، وأولُها: أصابع تشير إلى القمر (1958). (المحرِّر)

[5] د.ت. سوزوكي (1870-1966) حكيم وعالِم أديان ياباني، يُعد أول مَن عرَّف ببوذية زِنْ في الغرب في كتب ممتازة، من أهمها: مقالات في بوذية زِنْ في ثلاثة أجزاء والروحانية اليابانية. (المحرِّر)

[6] ديفيد بوهم (1917-1992) فيزيائي كوانتي أمريكي، قدم إسهامات بارزة في مجالات الفيزياء النظرية والفلسفة وعلم النفس العصبي. من أشهر كتبه: الكلية والنظام المنطوي. تعرَّف إلى كريشنامورتي وعقد معه حواراتٍ معمقة عديدة، نُشِرَ بعضُها في كتب، منها: إنهاء الزمن. (المحرِّر)

[7] ألكسندرا دافيد نيل (1868-1969) رحالة فرنسية وحجة في البوذية، كانت أول أوروبية تستكشف مدينة لهاسَّا، عاصمة التيبت. ألَّفتْ كتبًا عديدة في البوذية التيبتية، وترجمت نصوصًا من التراث الروحي الهندي وأخرى تيبتية ضاعت أصولُها السنسكريتية. (المحرِّر)

[8] جان هِربير (1897-1980) مستشرق فرنسي كبير، اختصاصي في الهند، ومترجم مرموق في الأمم المتحدة. عرَّف للناطقين بالفرنسية، عبر مؤلَّفات وترجمات بديعة، بأكابر الحكماء الهنود (شري راماكرشنا وتلميذه سوامي فيفيكانندا، شري رامانا مهارشي، شري أوروبندو، سوامي رام داس، أنندا ماي ما) وبالروحانية الهندية إجمالاً، متتلمذًا على شري أوروبندو. من أهم كتبه: الروحانية الهندوسية. (المحرِّر)

[9] كارلو سوارِش (1892-1976) عالِم كبير في الكتاب المقدس واختصاصي أصيل في القبالة العبرية، رأى، من خلال رؤيا تأويلية جديدة، أنها علم الطاقة وبنية الوعي، مقدمًا التراث القديم بلغة حديثة. من كتبه: شيفرة التكوين والمجيء الثاني للرابي يشوع. من أوائل مترجِمي كريشنامورتي إلى الفرنسية. (المحرِّر)

[10] دوگلاس هاردِنْگ (1909- ) كاتب وفيلسوف ومتصوف إنكليزي كبير، أرَّقتْه مسألةُ معرفة النفس وتوصَّل إلى جواب عليها من خلال الرصد الداخلي وليس التفكير، مبتكرًا فيما بعد عددًا من التمرينات العملية الهادفة إلى التحقق الاختباري من خواء الذات من الأنية. من كتبه: في غياب الرأس وتراتبية السماء والأرض. (المحرِّر)

[11] الدكتور روجيه غودِل طبيب وفيلسوف، عالج في أبحاثه العديدة مسائل الخبرة الداخلية والوحدة الأصلية للوجود والكون من خلال معرفته المدهشة بالحكمة الشرقية والفلسفة اليونانية (استفاد بصفة خاصة من منهج الحوار والتوليد السقراطي) والعلوم. من أهم كتبه: مقالة في الخبرة المحرِّرة. (المحرِّر)

[12] ستيفان لوپاسكو (1900-1988) فيلسوف وإپستمولوجي فرنسي روماني الأصل، طور "منطق التناقض" اللاأرسطي مستبدلاً بحدِّ "الثالث المرفوع" الشهير في المنطق الأرسطي حدَّ "الثالث المشمول". من كتبه الهامة: مبدأ المناوأة ومنطق الطاقة، المادات الثلاث، الطاقة والمادة الحية. (المحرِّر)

[13] رونيه فويريه (1904-1990) فيلسوف وباحث فرنسي، يتميز بتحليله الرصين المعمق، في ضوء تعاليم كريشنامورتي، لسيرورة الأنية، من نشأتها حتى موتها في الخبرة المحرِّرة، بالإضافة إلى كونه مرجعًا في قضايا "الأجسام الطائرة المجهولة الهوية". أهم كتبه: ثورة الحقيقة: كريشنامورتي. (المحرِّر)

[14] راجع مثلاً كتابه التأمل الحقيقي: يحاول المؤلِّف فيه تفكيك آليات التفكير والإجابة عن أسئلة: "لماذا نفكر؟"، "ما هو التفكير؟"، وخاصة "مَن يفكر؟"، ليخلص إلى وصف منوِّر للتأمل.

[15] راجع مثلاً كتابيه معنى الزِنْ والبوذية والتاوية والزِنْ: كتابان ميسَّران وممتعان للغاية حول الزِنْ وعلاقته مع الثقافة الحديثة.

[16] راجع مثلاً كتابيه كريشنامورتي: عالِم نفس العهد الجديد وكريشنامورتي: بشير الألفية الثالثة: الأول عبارة عن عرض بالغ الوضوح لتعاليم كريشنامورتي، لكنه للأسف نافد. إن لنسن يستلهم كريشنامورتي في سائر كتبه، لكن هذين الكتابين هما الأبلغ تمثيلاً.

[17] راجع مثلاً كتابيه الطفرة الروحية للألفية الثالثة (عرَّبه الأستاذ ندره اليازجي بعنوان التطور النفسي في الألف القادمة وأصدره عن دار الغربال بدمشق في الثمانينيات) والتأمل الحقيقي.

[18] راجع مثلاً كتبه روحانية المادة والعلم والروحانية وفيما يتعدى المصادفة والمصادفة المضادة: يتصدى لنسن فيها لعدة ثيمات علمية وروحية، ليبرهن برهانًا نيِّرًا أن المادة والروح ليستا غير مظهرين لوحدة الأعماق الواحدة عينها.

[19] فيزيائي كوانتي أمريكي ومبسِّط بارع للعلوم، اهتم بالفحص عن النتائج الفلسفية والاجتماعية للعلم الحديث في ضوء نظرية المنظومات. مؤلِّف كتب: تاو الفيزياء (1975)، نقطة الانعطاف (1982)، حكمة غير شائعة (1988)، وشبكة الحياة (1996). (المحرِّر)

[20] راجع مثلاً ديوانه الفتنة الإلهية. استعمل روبير لنسن في كتاباته أسماء مستعارة عدة، نذكر منها: إيفان خوفسكي، البروفسور لوبِلييه، رام نيرمايَنندا دورجِهْ، رام لنسن، إلخ.

[21] راجع مثلاً كتابه فيما يتعدى سراب الأنية: تفضي سيرورات تنظيم المادة إلى "ملياردير الذاكرة"، هذا الذي يشكل هويتنا، وإلى ما يتعداه.

[22] راجع مثلاً كتاب الروحانية الكوانتية، وفيه يسرد لنسن بضعة من خبرات شبابه الروحية.

[23] نِسارغاداتا مهاراج (1897-1981) حكيم هندوسي متحقِّق بالـجنانا يوگا (يوگا العرفان) من مذهب الأدفايتا فيدنتا (اللاثنوية المطلقة). أشهر كتبه – أنا هو ذاك – عبارة عن حوارات مطولة أجراها معه الباحث الروحي موريس فريدمان. (المحرِّر)

[24] ينتهز المترجم هذه المناسبة ليشكر رام على استقباله والصديقَ د. نبيل محسن بكلِّ محبة وأريحية في دارته الجميلة وسط غابة ترفورِن في بلجيكا، وكأنه يعرفهما منذ أمد بعيد. ساعتان من الحديث في صميم الأمور الباطنية، ولاسيما حول مسألة سيرورة تكوُّن الأنية وتجاوُزها في اليقظة الروحية، أجاب خلالهما لنسن عن تساؤلاتهما بكلِّ صبر وأناة، على الرغم من تجاوُزه التسعين من العمر – ساعتان انقضتا وكأنهما دقيقتان، شعر بعدهما الزائران بفيض من البركة والانتعاش الروحي العميق. ومما انتقش في نفس المترجم يومذاك قول رام في بساطة شديدة: "إن من أعتى العقبات في سبيل اليقظة الروحية توهُّمنا أننا لسنا أيقاظًا في الأصل." (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود