عن العولمة والتديُّن وسقوط الإيديولوجيات

 

جيروم شاهين

 

أيُّ ثقافة دينية في ظلِّ صراع العولمة والخصوصيات؟ إنه سؤال ملحٌّ، مطروح على النُّخَب الثقافية في جميع بلدان العالم الثالث، ولاسيما في بلداننا العربية. فما هو الإطار الزمني والإيديولوجي العام الذي تُطرَح فيه مسألةُ تحديد هوية الثقافة الدينية؟ الإطار الزمني والإيديولوجي العام هو زمن العولمة. العولمة، كما هو معروف، لها أوجُه عدة: اقتصادية وسياسية وثقافية وإعلامية. أتوقف هنا عند بعض وجوه العولمة. فهناك، أولاً، العولمة الإعلامية: وأصبح الإعلام اليوم، مع هذه العولمة، السلطة الثانية، بعد الاقتصاد وقبل السياسة، بعد أن كان السلطة الرابعة. أي ثقافة كنَّا نتلقَّى قبل ظهور وانتشار "وسائل الإعلام الجماهيرية"، وأي ثقافة نتلقَّى اليوم مع العولمة الإعلامية؟ في الماضي كانت ثقافتنا تقليدية، ونكتسبها بشكل أساسي من العائلة والمدرسة والمؤسَّسة الدينية. وكانت تعطينا تلك الثقافة مبادئ عامة ثابتة، تتفرَّع عنها مبادئ ثانوية، في سياق تَرَاتُبي ومنطقي منسجم؛ وكان سلوكنا، الفردي والجماعي، ينتظم وفقًا لتلك المبادئ. وكانت تلك الثقافة النَّقْلية أشبه بآلة الـ"الجيروسكوب" التي تُستخدَم في السفن لتحديد الاتجاه والمسار. واليوم، مع العولمة الإعلامية، وخصوصًا محطات التلفزيون الأرضية والفضائية والإنترنت، تراجعتْ مؤسَّسات العائلة والمدرسة والدين في وظيفة تثقيف الناس، ولاسيما الأطفال والشبيبة، وأضحى مصدر الثقافة، بشكل أساسي، هو الإعلام الجماهيري. إلا أن الثقافة التي تعطيها وسائل الإعلام هذه هي ثقافة "فسيفسائية" و"انسيكلوبيدية" تتألف من شيء قليل من كلِّ شيء. نتلقاها كيفما اتَّفَقَ، وأينما كان. إنها ثقافة واهية، ظرفية، غير مكتملة، تحث على الاستزادة في الاستهلاك. تجعل من الزميل والجار والرفيق مثالاً نحتذي به، أو نتبارى معه، في استهلاك ما هو رائج من أفكار وقيم وعادات. تلك الثقافة هي أشبه، ليس بآلة "الجيروسكوب"، بل بـ"الرادار"، الذي يلتقط كلَّ ما يدور حوله، ولكنه لا يقوم بتوجيه المسار.

هذا وجه من العولمة وهو يشكل خطرًا على الهويات المحلية لاسيما في دول العالم الثالث أو دول الجنوب التي تتقبل، رغمًا عنها، ما يسمَّى بالتدفق الإعلامي الحر ذي الاتجاه الواحد الذي تنتجه دول الشمال وتصدّره لدول الجنوب. الوجه الآخر، غير الاقتصادي أيضًا للعولمة، يتمثَّل بما سُمِّيَ سقوط الإيديولوجيات، ابتداءً من انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي. فالعولمة، منذ ذلك التاريخ، راحت تبشِّر بسقوط الأممية الشيوعية، والقوميات، والاشتراكية، وحتى الرأسمالية الليبرالية والعلمانية.

لربما أن التبشير بسقوط الإيديولوجيات ليس إلا إيديولوجيا جديدة تشرعن تحولات الزمن الراهن. ومن تلك التحولات: اقتصاد السوق، وانتفاء الحدود في الجغرافيا والتاريخ والسيادة الوطنية والثقافة القومية والهوية الخاصة، وفَتْح الباب على مصراعيه أمام حقِّ القوة على حساب قوة الحق وتوازنات القوى والتعددية المتفلِّتة من القيم المعيارية.

السمة الأخيرة للقرن الحادي والعشرين، أقلَّه منذ بدايته حتى اليوم، قيل عنها إنها عودة المقدس أو عودة التديُّن. في الواقع، لقد تميَّز القرن العشرون بأنه كان قرن سيادة التيار "الإنسانوي" على التيار "اللاهوتاني". أما مع نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، فقد عَلَتْ أصواتٌ تنادي بعودة الدين إلى جميع مرافق الحياة، الخاصة والعامة. فماذا باستطاعتنا أن نتوقع للقرن الحادي والعشرين؟ هل سيكون عصر عودة الديانات التقليدية الكبرى، أم عصر تفتُّت تماسُك تلك الديانات لحساب الإيمان الفرديِّ والمعتقَد المفصَّل على قياس كلِّ شخص، وعصر تفشِّي المِلَل والنِّحَل الغرائبية "الإيكزوتيكية"؟

نستخلص من تحليلات مختلفة، من هنا وهناك، أن الواقع، في هذا الأمر، يتخذ اتجاهات ثلاثة:

1.    فيما مضى، يسود اعتقاد بأن العقلانية الحديثة ستُزيل التساؤل الإنساني حول الـ"لماذا" لحساب تساؤل الناس الحصري حول الـ"كيف". لقد أخطأ هؤلاء. فإنسان القرن الحادي والعشرين عاد يتساءل: لماذا أنا في الوجود؟ ما معنى وجودي؟ ما معنى كلِّ هذا التقدم التكنولوجي؟ ماذا بعد الحياة الدنيا؟

2.    كما أن التديُّن (أو ممارسة الدين) يتخذ شكلاً "مفتوحًا"، يسمح للمؤمن أن يتحرَّر بعض الشيء من "الدوغماطية" التقليدية، ليكيِّف معتقداته والأسُس الأخلاقية لسلوكه بحسب أوضاعه الراهنة. ونجد ممارسة هذا الشكل في جميع الحركات "الكاريزمية" في أوروبا، وخصوصًا أميركا.

3.    في الوقت نفسه، وعلى خطٍّ مُوَاز، نشهد اليوم أشكال تديُّن "مغلقة"، تمارسها جماعاتٌ منظَّمة، تعبِّر عن إيمانها بتأكيدات ثابتة وأخلاقية صارمة. وتكون وظيفة هذا الشكل إعطاء المؤمن قناعات ومبادئ ثابتة ومُطَمْئِنَة، في ظلِّ عولمة تُمحى فيها كلُّ الحدود، وتتفسَّخ الهويات، ويبقى فيها الإنسانُ دائمًا عرضة لما هو محتمل.

*** *** ***

المستقبل

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود