|
المستقبل متضمَّن في الحاضر
يخاطب تيك ناث هَنْه، وهو جالسٌ تحت شجرة بودهي في بودغايا، من أعمال الهند، حلقةً من المريدين. يقال إن البوذا (المستنير) غوتاما قد أدرك اليقظة هاهنا، مثل جميع البوذاوات في الماضي وفي المستقبل. وعلى مقربة من المكان يقوم معبد ماهابودهي الذي بناه الإمبراطور أشوكا منذ ألفين من السنين. هناك يُشاهَدُ الحجَّاج التيبتيون يتمِّمون طوافهم ويسجدون مئات الآلاف من السَّجدات. فالممارسون البوذيون يأتون إلى هنا من أنحاء العالم كلِّها بحثًا عن حالة اليقظة التي تجسِّد حياةُ البوذا مثالَها الحي. هذا المقام هو، منذ خمسمائة وألفين من السنين، منارةٌ لجميع الذين يجتهدون في فهم روحهم. واليوم يحدِّثنا تيك ناث هَنْه، أو تهاي كما يسمِّيه مريدوه في مودة، عن التواكل المتبادل interdépendance، أو عن "ناموس العلل المتواكِلة والمتزامنة". وهذا كان واحدًا من المواضيع الأثيرة إلى قلب البوذا، بل ربما حتى الحجر الأساس في تعليمه. لقد كرَّس فقهاءٌ كبار حياتَهم لدراسة عقيدته، نظرية الاثنتي عشرة علَّة للتواكل المتبادل في جميع أوجُه الحياة.
يُقدِّم تيك ناث هَنْه الكائن البيني inter-être في بساطة وأناقة تسمحان بأن يفهمه الجميع، حتى المبتدئون منهم. إنه يسأل: "هل في إمكانكم رؤية الشمس في حبة رز؟ – فلو لم تكن الشمس تسطع فوق حقول الرز لما كان هناك رز. هل في إمكانكم رؤية الغيمة في طاولة خشبية؟ – لأنه من دون الغيم لما كان هناك مطرٌ يروي الشجر، ولما كان هناك خشبٌ لصنع الطاولة." وبينا كنت أصغي أليه يتكلَّم، نظرت إلى فريق الأصدقاء والمريدين الجالسين مع تهاي، الذين كانوا يرافقونه في هذا الحجِّ الشهري المكرَّس لزيارة الأماكن السبعة المقدَّسة للبوذية. كان نصف الفريق مؤلَّفًا من لاجئين فييتناميين، فيما النصف الآخر من الغربيين، وغالبيتُهم من الأمريكيين. ومع كوننا آتين من بلاد متباعدة آلاف الكيلومترات، كنَّا مرتبطين تمامًا بعضنا ببعض. فما هي الروابط التي كانت توحِّدنا إذًا؟ أية روابط ألم؟ أية روابط فهم؟ وأية قوًى كانت تجمعنا تحت شجرة بودهي للإصغاء إلى حديث عن التواكل المتبادل، بينما كان يراقبنا فريقٌ من رهبان تيبتيين شبان وهم يقهقهون ضاحكين وامرأة تيبتيةٌ عجوز ترقص كالمجنونة أمام المعابد؟ *** ما جَمَعَنا في هذا المكان كان يقينًا حضورُ تيك ناث هَنْه. فعبر طريقته المباشرة في عَرْض الدهرما، أصبح ناث هَنْه – وهو معلِّم الزِنْ والشاعر والمدافع الغيور عن السلام – واحدًا من أهمِّ المعلِّمين البوذيين المقيمين في الغرب. إن حضوره، الذي يشبه حضور أحد الإلْفان[1]، ينم مع ذلك عن قوة حقيقية، زائلة بقدر ما هي متجذِّرة، مثله كمثل الشجرة. لقد قال عنه ريتشارد بيكر روشي [راهب زِنْ أمريكي] إنه "يجمع بين الغيمة والبزاقة وآلية صناعة ثقيلة". وُلِد تيك ناث هَنْه في الحادي عشر من تشرين الأول من العام 1926 في قرية تقع في قلب الفييتنام. وبعد أن أمضى طفولة سعيدة محاطًا بعطف والدته، أصبح راهبًا في عمر السادسة عشرة مع أربعة من أصدقائه المقربين، المقتنعين، نظيره، بأنه "أمرٌ مرغوب". وفيما بعد، اتخذ اسم تيك ناث هَنْه البوذي. وكلمة تيك هي ترجمة لكلمة شاكـ(ـيا) Shak(ya)، اسم عائلة البوذا (في فييتنام يتخذ جميع الرهبان والراهبات هذا الاسم)؛ أما ناث هَنْه فتعني "فعل". ثابر الراهب الشاب تيك ناث هَنْه على دراسة طريق الوعي الكامل: فقد طفق يرصد في انتباه كلَّ حركة من حركات جسمه وذهنه ويمارس التأمل كي يستعين بذلك على العودة إلى اللحظة الحاضرة. وقد بدا له نظامُ الدراسة في الدير باليًا، فطرح فعلاً على رؤسائه أن يكملوا برنامج الدراسة بتدريس الفلسفة والعلوم والأدب، ولما تبيَّن له أنه لن يلقى جوابًا، قرَّر، مع بعض رفاقه، مغادرة الدير والذهاب للعيش في معبد مهجور في سايغون. اهتمَّ ناث هَنْه بمختلف المجلات، ومنها المجلة الشهرية الرسمية للجمعيات البوذية الستِّ الكبرى في الفييتنام. وقد نشر أربعة كتب قبل عيد ميلاده العشرين، من بينها مقالة ناقدة بعنوان بوذية معاصرة، وكَتَبَ أربع روايات أو مجموعات قصصية في وقت كان هذا النشاط محظورًا على الرهبان. ويعود تاريخُ ديوانيه الشعريين – ناي الخريف وتعاليم بوذية في هيئة قصائد شعبية – إلى الفترة نفسها. وفي الخمسينات، أسَّس تيك ناث هَنْه أول ثانوية بوذية في الفييتنام في موازاة المنظومة التربوية الاستعمارية الفرنسية. كما أسَّس ديرًا في وسط الفييتنام، يستطيع الرهبان والراهبات والعلمانيون أن يُقبِلوا عليه للتزوُّد. وفي غضون بضع سنوات، بدأ مسؤولو الكنيسة[2] بالاهتمام ببرنامج الدراسات الذي اقترحه ناث هَنْه وعرضوا عليه أن يكون أحد مؤسِّسي جامعة فان هَنْه البوذية في سايغون. وفي العام 1961، ترك تيك ناث هَنْه، وعمره آنذاك 35 عامًا، الفييتنام للمرة الأولى، مغادرًا إلى الولايات المتحدة ليدرس الدين المقارن في برنستون وفي كولومبيا. وقد راقت له كثيرًا دراساتُه وعمله كأستاذ مساعد؛ بيد أن رفاقه الرهبان في فييتنام طلبوا منه بعد عامين ونصف العودة إلى فييتنام لمساعدتهم على العمل من أجل السلام. وعاد ناث هَنْه ليجد بلدًا عاثت فيه الحربُ دمارًا. وفي العام 1963، ألَّف تيك ناث هَنْه كتابًا بعنوان البوذية الملتزمة – وهو تعبيرٌ ابتكره بنفسه ليصف العمل البوذيَّ اللاعنفيَّ في سبيل السلام والعدالة الاجتماعية. وهكذا فإن الرهبان والراهبات الذين كان عليهم أن يختاروا بين البقاء في معابدهم مستمرين في التأمل وبين مدِّ يدٍ مُسْعِفة لضحايا النزاع، اختاروا القيام بالأمرين معًا: أن يتأملوا وأن يكونوا في الوقت نفسه نافعين. وأسَّس ناث هَنْه في العام 1964، بمساعدة العديد من الشباب، "مدرسة الخدمة الاجتماعية للشبيبة" التي ضمَّت فيما بعد عشرة آلاف عضو في العام 1975. وبرعاية هذه المدرسة، انتشر عددٌ من الرهبان والراهبات والطلاب في الريف، من أجل غايات تربوية وصحية بدايةً، وفيما بعد من أجل العناية بالجرحى والمساعدة في إعادة بناء القرى التي دمَّرها القصف. وهكذا كان عليهم أن يعيدوا بناء إحدى القرى أربع مرات! وفي العام 1966، انطلق ناث هَنْه، بدعوة من "الحركة الدولية للمصالحة" ومن جامعة كورنيل، ليلقي سلسلة من المحاضرات في الولايات المتحدة، مؤديًا شهادته على الحرب وداعيًا إلى وقف المعارك. وقد قابل وزير الدفاع روبرت ماكنامارا والراهب السكوتي (اللَّترابي) الشهير توماس مِرْتون، وكلاً من السيناتورين وليام فولبرايت وإدوارد كيندي، كما التقى خصوصًا بمارتن لوثر كنغ. وكانت إحدى ثمار هذه الزيارة نشر كتاب فييتنام: زهرة لوتس في بحر من نار بالإنكليزية، وهو كتابٌ سرعان ما أصبح كتابًا كلاسيكيًّا يمرَّر خفيةً في حركات المعارضة الأمريكية والفييتنامية بحثًا عن حلٍّ سلميٍّ حقيقيٍّ للنزاع. وَسَمَ اللقاءُ مع مارتن لوثر كنغ بداية صداقة مطبوعة على الاحترام المتبادل. وبُعيد أول اجتماع بينهما، اتخذ مارتن لوثر كنغ موقفًا مناهضًا لحرب فييتنام، الأمر الذي جعله عرضةً لانتقادات من قاعدته – التي شكَّلتْ في نظرها قضيةُ فييتنام خروجًا عن قضية النضال في سبيل الحقوق المدنية – وعلى حدٍّ سواء من خصومه – الذين اعتبروا مجرد التشكيك في دور الحكومة الأمريكية خيانةً. أما كنغ فقد تابع بالطبع الدفاع عن السلام دون أن يثبط ذلك من همَّته، مع علمه أن مواقفه تلك ستعرِّضه لمزيد من المخاطر أيضًا. وفي كانون الثاني من العام 1967، اقترح مارتن لوثر كنغ مَنْحَ جائزة نوبل للسلام لتيك ناث هَنْه، قائلاً: "لا أحد، على ما أعلم، يستحق جائزة نوبل للسلام غير هذا الراهب البوذي اللطيف من فييتنام." بيد أن صراحة طروحات تيك ناث هَنْه، في أمريكا كما في أوروبا، حيث قابل البابا بولس السادس، منعتْه من العودة إلى فييتنام، حيث كانت عودتُه ستعرِّضه للاعتقال الفوري. وهكذا أمسى يعيش منفيًّا منذ ثلاثة وثلاثين عامًا في فرنسا التي حصل فيها على حقِّ اللجوء. ولدى انتهاء الحرب، حاول تيك ناث هَنْه مساعدة مواطنيه، سواء الذين ظلوا منهم في فييتنام وعاشوا في أقصى حالات الفقر أو الذين فروا من البلد. لقد أرسل معونات للأطفال سيئي التغذية، وأنشأ شبكة من العاملين الاجتماعيين البوذيين الذين يوزِّعون الغذاء، مجازفين بأن يُعتقَلوا، وحاول إنقاذ من يُعرَفون بـ"قوم القوارب" boat people في خليج تايلاند، لكن جهوده باءت بالفشل، كما يشرح الأمر في المقابلة أدناه. وإذ لم يعد تيك ناث هَنْه يعرف كيف يواصل عمله، قرَّر الانسحاب إلى منسك صغير في فرنسا، حيث عاش خمس سنوات مكرِّسًا نفسه للتأمل والبستنة والكتابة واستقبال الناس الذين يتفق لهم أن يزوروه. ومع استمرار تلقِّيه الأخبار عن انتهاكات حقوق الإنسان في فييتنام، شجَّع أصدقاءه على تنبيه الرأي العام العالميِّ. والتزامُه بقضية حقوق الإنسان قد جعل جزءًا كبيرًا من الشعب الفييتنامي يكنُّ له الاحترام، حيث أصبح رمزًا للإلهام بنظر شعبه. أما الحكومة الفييتنامية فقد رأتْ في تيك ناث هَنْه تهديدًا؛ وقد أذاعت في مناسبتين مختلفتين نبأ وفاته: الأولى في العام 1982، قبل أن تسعى الحكومة إلى إقامة كنيستها البوذية الخاصة، والثانية في العام 1984، قبيل شنِّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف الرهبان والراهبات وأهم الكتَّاب. وفي العام 1982، عاد تيك ناث هَنْه إلى الولايات المتحدة ملقيًا سلسلةً من المحاضرات. وإذ تأثر بالاهتمام الكبير الذي أبداه الأمريكيون بالبوذية، قرَّر الرجوع في العام التالي لكي يقود خلواتٍ تأملية ويلقي محاضرات عامة جديدة. وقد وَسَمَتْ زيارتُه التالية للولايات المتحدة بداية مرحلة جديدة في حياته، حيث أصبح في الغرب والشرق على حدٍّ سواء ملهِم "البوذية الملتزمة". وفيما هو يعلِّم التأمل، قعودًا ومشيًا، والتنفس والابتسام عن وعي، يحثُّ تيك ناث هَنْه مريديه على البقاء يقظين في أثناء عملهم في العالم، سواء كان ذلك في مساعدتهم الآخرين أو في تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، وعلى وعي التواكل المتبادل لوجوداتنا. وقد بدأ تعليمه عندئذٍ يجتذب آلاف المريدين، تلهمهم بساطتُه وجلاءُ آرائه، كما وقوة شخصه الهادئة، حين يقول على سبيل المثال: "ليست المعجزة الحقيقية هي المشي على الماء أو التحليق في الجو، بل المشي على الأرض." كانت المرة الأولى التي قابلتُه فيها في العام 1983 في أثناء إقامته الثانية في الولايات المتحدة، بمناسبة مقابلةٍ خصَّني بها في مركز جبل تمبر للزِنْ في نيويورك. وقد واظبت بعدئذٍ على الاهتمام بتعاليمه (عبر أصدقاء) وبكتاباته (عبر كتبه العديدة). وقد سرَّني كثيرًا على وجه الخصوص أن أقوم برحلة إلى بودغايا في الهند في تشرين الثاني من العام 1988 لمقابلته مرةً ثانية وللانضمام مدة أسبوع إلى فريق الحجَّاج البوذيين الذين كانوا في صحبته. وقد تناقشنا طوال ساعة تقريبًا في الغرفة التي كان يشغلها في المعبد الفييتنامي. يبلغ ناث هَنْه الثالثة والستِّين من العمر اليوم؛ ولقد صعُبَ عليَّ أن أصدِّق ذلك وأنا أراه من فرط ما تجعله نضارةُ وجهه وحركاتُه يبدو أصغر سنًّا بخمسة عشر عامًا على الأقل. لكن كلامه ينم تمامًا عن حكمة عمره. إنه يتكلَّم في شاعرية، حتى في لغة ليست لغته – وإنه لشعرٌ يصدر عن سكينته الداخلية. كاثرين إنغرام ***
مقابلة تيك ناث هَنْه بودغايا، الهند، 10 تشرين الثاني 1988
كاثرين إنغرام: لقد شرحت لي، يا تهاي، إبان حديثنا الأخير أن الموز الذي يُزرَع في فييتنام استُخدِمَ كعملة للمبادلة من أجل شراء السلاح من الروس. هل تستطيع أن تعطيَنا أمثلةً أخرى عن التواكل المتبادل على المستويين الاجتماعي والسياسي، حيث تستغل القوى العظمى بلادًا من العالم الثالث؟ تيك ناث هنه: تناوُل اللحوم وشُرْب الكحول، على سبيل المثال. فبتخفيف استهلاك اللحوم والكحول بمقدار النصف بالإمكان تغيير الوضع في العالم الثالث، إذ يتوفر المزيد من الحبوب التي يمكن تقاسمُها. إن أشياء صغيرة جدًّا لترتبط بهذا الاستغلال، سواء في طريقتنا في تناوُل الشاي، في استخدام ورق التواليت، أو في شراء الجرائد. هل تعلمين أن طبعة يوم الأحد من صحيفة الـNew York Times هي من الضخامة بحيث لا بدَّ من تدمير غابة برمَّتها من أجل طباعتها؟! بيد أن العالم الثالث يحاول هو الآخر استغلال العالم الأول. إن كلاً منهما لَيجتهد في استغلال الآخر. والفائز هو مَن يفوق الآخر حيلة للوصول إلى مأربه. كاثرين: إن هذا الإحساس بأن الناس يحاولون استغلالنا هو أمرٌ كثيرًا ما نراه هنا في الهند. تيك: هذا صحيح. علينا أن نتعلَّم جميعًا الانتفاع بما يمكن للغير أن يقدِّمه لنا من طيِّب الأمور، إنما من غير أن نجعلهم يشقَوْن. إن أمام العالم الأول الكثير من الأشياء التي يمكن له أن "يستغلَّها" في العالم الثالث. فالناس هنا في الهند، على سبيل المثال، مدقعو الفقر؛ أما الغربيون فهم، حين يأتون إلى هنا، يميلون إلى الظنِّ بأنهم متفوقون. لكننا، إذ نمارس "النظر العميق"، نرى أن أصحاب الموقف المتفوِّق هؤلاء لا يتمتعون، ربما، بسعادة أولئك الذين يعيشون في الفقر المدقع. في أحد الأيام شاهدت شابًّا في بنارِس يحاول جاهدًا بيع شيء ما لشخص غربيٍّ، حتى ليخال المشاهِد أنه ميت لا محالة إنْ لم ينجح في الوصول لغايته! لكنني لحظت أنه في نهاية الأمر، على الرغم من إخفاقه، انطلق مغنِّيًا. واقع الحال أنه لم يكن حزينًا أبدًا. كاثرين: انطلق مغنيًا؟! تيك: أجل. كما لو أن الأمر لم يكن غير نوع من التمثيلية! وحين وصلت إلى المطار، ألقى موظف الهجرة نظرة سريعة على جواز سفري قبل أن يلتفت إلى مكان آخر ويشرع في ثرثرة مع زميل له على الطرف الآخر من المكتب. بعدئذٍ أنشد أغنيتين قبل أن يختم جواز سفري. [يضحك.] في الغرب، هناك أشخاصٌ ينتحرون لأنهم يعانون من مشكلات عاطفية أو بسبب ضغوط المعيشة. أما هنا فيبدو الناس أكثر ارتياحًا، وهم لا يركضون كالمجانين. إنهم قادرون أن يكونوا سعداء بقليل جدًّا من الأشياء. لو كان في إمكان العالم الأول استغلال موقف العالم الثالث هذا لكان ذلك رائعًا. هنا في الهند، أجدني أتحسَّس حال الأطفال خصوصًا. أعتقد أنه من أجل مساعدتهم لا يكفي أن نعطيهم بضع روبيات، بل أن نستطيع مساعدتهم بأشياء من قبيل تنظيم الأسرة، بحيث لا تضطر النسوة إلى إنجاب عدد من الأطفال يفوق ما يقدرن على تربيته. لو كان الأطفال يَلْقَوْن عنايةً أفضل، لاسيما بفضل الطبِّ الوقائي، لكان الناس هنا أسعد بكثير مما هم في الغرب، على ما أظن. فمع التنظيم الأسري والطب من أجل الفقراء تصير الحياة هنا أهنأ بكثير. والأطفال، بطبيعة الحال، يحاولون استغلال السائحين على طريقتهم. ليس الغربيون وحدهم الذين يستغلون الآخرين. فالناس يستغل بعضُهم بعضًا. هناك العديد جدًّا من الطرق الأخرى للاستغلال. إننا نستغل الأرض، لكننا نستطيع أن نحميها أيضًا. الفلاح يستغل الأرض أيضًا. ثمة إذًا طريقتان للقيام بالأمر، وإحداهما أفضل من الأخرى لأنها تردُّ للأرض عطاءها. فلكي نعيش سعداء مع الآخرين أو مع الطبيعة يجب الحفاظ على جمالها وعلى مواردها. يسري الأمر أيضًا على التسول. تعلمين أنني أنا متسولٌ أيضًا. إن كلمة بيكهو تعني "متسول" في البالِّية[3]. إننا نستعطي غذاءنا، ونحن بذلك إنما ننمِّي إنسانيتنا وتواضعنا. إننا نحاول أن نتعلَّم وأن نمارس روح المساواة، لأننا بالتسول لا نملك الحقَّ في أن نختار البيوت الغنية فقط. لقد أشار البوذا على حوارييه أن ينظروا إلى البيوت المختلفة نظرةً واحدة. علينا أن نتوقف عند أحد البيوت، ثم أن نمضي إلى التالي، لا فرق إن كان غنيًّا أم فقيرًا؛ فربما نقابل هناك أناسًا نتقاسم وإياهم الدهرما[4]. ينطوي فعل الاستعطاء على خصائص أخرى أيضًا. يمكن للاستعطاء أن يجعل الحياة جميلةً جدًّا. إننا لا ندين التسول؛ فما يهم هو طريقة التسول. كاثرين: دافع المتسول أو المتسوِّلة... تيك: أجل. ولهذا أعتقد أنه لا يجدر بالسائحين اتخاذ موقف يشجِّع الأطفال على التسول. إن الأشياء ليست حسنةً أو سيئةً في حدِّ ذاتها؛ فنحن مَن يجعلها هكذا أو كذلك. كاثرين: بحسب نوايانا... تيك: نعم. أو بحسب نقص نظرنا العميق. إننا، بجعلنا الآخر فقيرًا، نُفقِر أنفسنا أيضًا. وإذا ما أهدرنا كرامةَ الآخر أهدرنا كرامتَنا. كاثرين: تواجهُنا أشكالٌ أخرى من الاستغلال أيضًا: على سبيل المثال، عندما تطرحُ الشركاتُ الصيدلانية والكيميائية الكبرى في أسواق الدول الفقيرة – بأسعار متهاودة – أدويةً ومنتجاتٍ كيميائية محظورةً في البلدان الغربية. هناك أيضًا مسألة حليب الرضاعة الصنعية[5]. يقال لجميع النساء في العالم الثالث إن عليهن أن يعطينَ أطفالهن حليبًا صناعيًّا كي يتمتعوا بصحة طيبة. بيد أن الأمهات يذوِّبنَ هذا الحليب الغالي الثمن في ماء ملوَّث لأنهن، في كثير من الأحوال، لا يجدنَ ماءً عذبًا، ويموت الأطفال من جرَّاء ذلك، في حين أن حليب الأم كان سيزوِّدهم بالمناعة الطبيعية التي يحتاجون إليها. إن أنواع الحليب المصنَّع مسؤولةٌ مسؤولية كبيرة عن وفيات الأطفال في العالم الثالث. وقد ظهرتْ حركاتُ مقاطعة في الغرب من أجل وضع حدٍّ لهذه الممارسات، لكن أنواع الحليب المصنَّع هذه تعود كتقليعة من جديد، على ما يبدو. يمكن لي أن أطرح أمثلةً أخرى كي أبيِّن جشع الشركات المتعددة الجنسيات، على سبيل المثال، في استغلال المجتمعات الفقيرة والأقل حظًّا من التعليم. تيك: يتعلَّق الأمر في الواقع بأخلاق الاستهلاك. إننا في استهلاكنا نشارك في هذا النوع من التخريب والاستغلال. وإن ممارسة الوعي الكامل في طريقة استهلاكنا هو، في نظري، فعل عدالةٍ اجتماعيةٍ جوهري. فاستغلال الأسواق في الدول النامية هو أمرٌ نقوم به جميعًا. والحال، فإن المستهلكين يستطيعون أن يلعبوا دورًا شديد الأهمية إن وعَوا حقيقة الموقف. فبتعلُّمهم الاستهلاك السليم، يستطيعون وضع حدٍّ لهذا النوع من الاستغلال. ولذا لا ينفع الاحتجاج بترداد كلماتٍ من نحو: "يجب عدم استغلال سكان العالم الثالث" أو "يجب ألا تلوِّثوا البيئة". مثل هذه العبارات لا تفيد في شيء. إننا لا نستطيع تغيير الأمور إلا بمعالجة المشكلة من جذورها، بتربية صحيحة للاستهلاك. كاثرين: ربما يجب مقاطعة بعض المنتجات؟ تيك: أعتقد أن علينا أن نتحلَّى بأكبر قدر ممكن من الحذر في اختيار المنتجات التي نستهلكها، كما أن علينا أن نتعلَّم كيف نستهلك أقل. إنه تعليم البوذا. يمكنكِ أن تكوني سعيدةً بالقليل من الأشياء. السعادة ليست شأنًا فرديًّا. لا تستطيعين أن تكوني سعيدة وحدك. دونك مثال زوج وزوجته. هل يستطيع أحد الشريكين أن يكون سعيدًا مادام الآخر ليس كذلك؟ إنه لأمرٌ على غاية من الوضوح. إن الطريقة الوحيدة لسعادة الواحد هي إسعاد الآخر. إن حالَنا في العالم لمشابهةٌ تمامًا. يعرف الناس جيدًا أن العالم الثالث، إن انهار وعجز عن تسديد ديونه، لا بدَّ أن يستجر انهيار النظام النقديِّ كلِّه، بما في ذلك العالم الأول. ولهذا السبب، بالانتباه إلى عدم استغلال العالم الثالث وبمحاولة مساعدته على التوصل إلى الاكتفاء، نساعد العالم الأول أيضًا. السعادة ليست شأنًا فرديًّا. إنه أمرٌ يستوعبه الكثيرون. ولكن كيف نتجاوز الفهم إلى الممارسة؟ علينا أن نجتمع معًا كي نجد سويةً طريقةً لتربية أنفسنا وتربية أصدقائنا وأطفالنا. كاثرين: لقد تحدثت إبان لقائنا الأخير عن نوع من الـكرما بين بلادك وبلادي، فييتنام والولايات المتحدة. هناك العديد من الفييتناميين والأمريكيين في هذا الحج. وقريبًا ستقوم بإحياء خلوة روحية لمحاربين قدماء في الفييتنام. هل لك أن تعمِّق فكرة الـكرما هذه بين بلدينا؟ هل تعتقد أن ثمة شفاءً ممكنًا؟ تيك: إن الشفاء هو حصرًا موضوع الخلوة. فيما يخصني، لا أشعر بحاجة لأن أتصالح مع الأمريكيين لأنني لا أشعر بأية ضغينة تجاههم. أرى بكلِّ بساطة أن كلا البلدين ضحية لإدراك مغلوط لحقيقة الآخر. فالفييتناميون لا يفهمون الأمريكيين والأمريكيون لا يفهمون الفييتناميين. ولعل كلَّ طرف يسبب شقاءً للطرف الآخر بسبب رغبته في مساعدته، كما في حال الزوج وزوجته! [يضحك.] تحبين الآخر لكنك تسبِّبين له الشقاء! تقولين له: "كي تكون سعيدًا عليك أن تكون كذا أو كذلك." أو: "من واجبنا أن نحرِّرك." ليس بيت القصيد إذًا هو أن نُصالِح، بل أن نشفي. أن نشفي وأن نحاول أن نرى في عمق أكبر جذورَ شقائنا، لأن الألم مستمر في فييتنام كما في الولايات المتحدة، وهو يهدِّد بأن يستمر طويلاً بعدُ، إن لم نقمْ بتشخيصٍ كي نعرف أيَّ بلسم علينا أن نضع. إن مثل هذه الخلوة هي فرصةٌ كي نجلس معًا، نتنفَّس معًا، نمشي معًا، كي ننظر إلى ما ورائنا. لا بمعنى أن ننظر إلى الماضي، بل أن ننظر في نفوسنا، لأننا بالنظر عميقًا في أنفسنا إنما نرى الجذور كلَّها – الماضي والمستقبل – بحيث لا نكون قادرين على الاستمرار في تبادل الاتهامات أو ننحو باللائمة على هذا الطرف أو ذاك، لأننا نرى في وضوح أننا، من جراء نقص التفهُّم، سبَّبنا الألم في أنفسنا ومن حولنا. سُئلتُ يومًا عن رأيي بخصوص الوضع في أمريكا الوسطى والدور الذي يجب أن تلعبه أمريكا. أجبت: "طيب، حاولوا هذه المرة ألا تساندوا معارضي الشيوعية، بل بالأحرى أن تساندوا الشيوعيين، لأن أموالكم إنما تفيد في تدمير الناس الذين تودون مساعدتهم. لقد صارت الحكومة المعادية للشيوعية في فييتنام الجنوبي حكومةً فاسدة بسبب أموالكم؛ فحاولوا في هذه المرة أن تتصرفوا تصرفًا مختلفًا: أعطوا أموالكم للشيوعيين، فيُفسِدهم المال، فيفوز الطرف الآخر!" ربما قلت ذلك على سبيل الفكاهة، لكن هناك عمقًا من الحقيقة في هذا كلِّه، دعوةً لأن ننظر وراءنا. لا تكونوا على هذا القدر من التعلق بأموالكم وبتكنولوجياكم، وحاولوا أن تكونوا متواضعين في طريقة رؤيتكم. واعلموا أن نظرتكم لما يحدث قد تكون مغلوطةً. حاولوا أن تنظروا نظرة أعمق. خذوا على سبيل المثال حكومةً تحيق بها الضغوط والمشاكل. إنكم، بمحاولتكم أن تعرفوا ما تحتاج إليه هذه الحكومة حقًّا، إنما تستطيعون التصرف حيالها بقلبكم وتقديم المشورة لها بحيث تكون قادرة على الإصغاء. أحبوا حكومتكم: هذا أهم ما عليكم أن تقوموا به. غير أن حركة السلام لا تفعل على الأغلب سوى أن تكره الحكومة، بالصراخ وبمحاولة... كاثرين: ... إسقاطها. تيك: أجل. أما لو حاولنا، بدلاً من ذلك، أن نحبَّ حكومتنا، فإن كلَّ ما نود أن نقوله لها أو أن نكتبه سوف يُعبَّر عنه بلُغةٍ تستطيع أن تفهمها. والحال، إذا كان ما نقوله مهمًّا فإن على حكومتنا أن تصغي، لا لكوننا نهدِّدها، بل لأننا مصدر طاقةٍ نستطيع مساعدتها لوعي بعض المسائل الهامة. يجب أن يتحول هذا إلى حركة شعبية. كاثرين: هل تعتقد أن الحكومة تواجه دومًا هذا القدر من الامتعاض؟ لقد كانت الحال كذلك في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات؛ لكن عندي انطباعًا بأن هناك المزيد من اللامبالاة حاليًّا. هل تعتقد بوجود شقة دائمة بين الحركة السِّلمية والحكومة الأمريكية، وأن الحركة السِّلمية لم تتعلَّم أن "تكون في سلام"؟ تيك: برأيكِ، هل أظهرت المنظماتُ السِّلميةُ إيجابيَّتها حيال الحكومة؟ هل حاولت أن تسدي لها النصح فيما يجب أن تفعل أو لا تفعل بروح سلامية؟ إن كانت هذه هي الحال فهناك فرقٌ إذًا. ثمة أشخاصٌ يرَوْنَ الأمر على هذا النحو. علينا أن نجمع فيما بينهم كي نحتسي الشاي معًا، نمارس التأمل مشيًا، نبتسم ونتنفس، بحيث يمكن لنا التبصر في الأشياء من هذه الزاوية. كاثرين: أعلم أنك أثَّرت على مارتن لوثر كنغ في طريقة فهمه لفييتنام وما كان يجري فيه. فما هو التأثير الذي كان له عليك؟ تيك: حتى قبل لقائنا الأول في شيكاغو، حيث عقدنا مؤتمرًا صحفيًّا مشتركًا، كنت قد كتبت له رسالة من فييتنام، نُشِرتْ في الصحافة تحت عنوان: "بحثًا عن العدوِّ في الإنسان". بعد عام من ذلك، اتخذ القرار بمعارضة حرب فييتنام، على الرغم من أن عددًا لا يستهان به من أصدقائه كان يظن بأن ذلك غير معقول. بعد ذلك صرنا قريبين جدًّا واحدُنا من الآخر. كانت آخر مرة رأيته فيها في جنيف، بمناسبة مؤتمر "على الأرض السلام" Pacem en Terris. دعاني في صباح أحد الأيام لتناول الفطور معه، وجرت بيننا محادثةٌ طويلة. قلت له: "أنت تعلم، مارتن، أنك، في فييتنام، تُعتبَر مثل بودهيساتفا[6]." ولقد كنتُ سعيدًا لأني استطعت أن أقول له ذلك لأنه اغتيل بعد ثلاثة أشهر من لقائنا. وفي اليوم الذي تبلَّغتُ فيه خبرَ اغتياله، شعرت بالغضب لأننا نعمنا بشخص مثله ولم نعرف كيف نحافظ عليه. كان التواصُل مع مارتن أمرًا سهلاً. كان يفهم على الفور ما لم يكن يقال. بالمثل، كنت شديد التأثر بفهمه للاَّعنف دون أن يمرَّ ذلك عبر الكلمات. إن حماسه وإخلاصه وحضوره أمورٌ جعلتني أؤمن بطريق العمل اللاعنفي. يتملَّكني شعور، بوجهٍ عام، أن الناس يملكون فهمًا شديد السطحية للاَّعنف، كما لو كان الأمر يتعلق بتقنيةِ عملٍ أكثر مما يتعلق بمصدر قوة. يُغالى في التشديد على التمييز بين اللاعنف والعنف، بين الناس غير العنيفين وبين العنيفين. لكننا لا نستطيع في الحقيقة أن ننحاز بهذا القدر من السهولة. لا نستطيع أبدًا أن نكون أكيدين من كون هذا الشخص على نحو كامل مع اللاعنف أو من كون شخص آخر على نحو كامل مع العنف. اللاعنف هو اتجاه، وليس خطًّا فاصلاً. ليس للاَّعنف من حدود. لو كنت نباتيًّا، يمكن لي أن أظن بأني لاعنفي في طريقة طعامي. إنني لا آكل كائناتٍ حية، كلحم الدجاج أو البقر، ولعلي أشعر بشيء من الاعتزاز لكوني لا أتناول غير الخضار. ولكن بالنظر إلى الأشياء نظرةً أعمق، أجد أن موقفي ليس لاعنفيًّا في شكل كامل. فعندما أطبخ الخضار، أقضي على آلاف الكائنات الحية. فعلى كوني نباتيًّا، في طريقي لأن أكون أكثر لاعنفية وأقل عنفًا، لا أستطيع أن أزعم بأني لاعنفي على نحوٍ كامل. حتى البوذا لم يكن يستطيع، وهو يمشي أو يشرب أو يأكل، أن يكون غير عنيف في شكل كامل لسبب من داعي الحياة نفسها. ليس من الصحيح إذًا أن نعتبر البنتاغون أو الجيش كعدوٍّ لنا؛ فهذا غير صحيح. هناك جنرالات أو قادة يقودون العمليات العسكرية متجنِّبين ارتكاب المجازر بحقِّ الأبرياء، وآخرون، بسببٍ من طموحهم، مستعدون للتضحية بما يلزم من المدنيين لتحقيق مآربهم. فمن البيِّن أن هناك بين هذين الشخصين مَن هو أعنف من الآخر، وأن من الممكن على الدوام، حتى لضابط في الجيش، أن يمارس اللاعنف. لماذا لا نصبح أصدقاء للجيش بغية مساعدته على ارتكاب عنف أقل؟ ينطبق الأمر أيضًا على العلاقة مع رئيس جمهوريتك أو ممثِّلك في مجلس النواب. إنك لا تستطيعين أن ترسمي خطًّا فاصلاً نهائيًّا بين الناس الذين تعارضينهم، من جانب، والذين تدافعين عنهم، من الجانب آخر. كاثرين: الأمر الذي يعني في المآل أننا نساهم جميعًا بدرجاتٍ مختلفة من العنف ومن اللاعنف، كلٌّ في المستوى الذي يوجد عنده، وما من فارق كبير بين أحد وآخر. تيك: نعم، ولهذا السبب يجب ألا نستبعد أحدًا، وألا نعتبر الآخر كعدوٍّ، بل بالأحرى كشخص عنيف جدًّا. علينا أن نذهب إليه. وإلا فمَن سيساعده على أن يصبح أقل عنفًا؟ إذا دافعنا عن اللاعنف على أساس الغضب نكون ماضين في اتجاه مخالف لأنفسنا. تعلمين أنه يُفترَض في الحركة السِّلمية أن تكون لاعنفية، بيد أنها، بكيفية ما، تستخدم القوة عبر غضبها. إن كنتِ غاضبةً، فإن في إمكانك الصراخ، إلخ، لكن ما من سلام في هذا كلِّه، لأن السلام طريقٌ، وليس هدفًا أو غاية. تخطئين إن كنتِ تظنين أن كيفيات العمل غير العنفي تجلب السلام. إنما تصبح الحركة السِّلمية قويةً باستنادها إلى النظر العميق وإلى الفهم اللذين يشكلان أساس المحبة والحرص على مصلحة الآخرين. يجب أن يكون في هذه الحركة أناسٌ يعيشون النظر العميق حقًّا، الأمر الذي يتعذر تحقيقه إن كان المرء شديد الانشغال. لا يعني هذا أن عليهم أن يصرفوا وقتهم كلَّه في قاعة التأمل، بل إن عليهم أن يمارسوا النظر العميق في كتاباتهم، في مآتيهم، وفي طريقة رؤيتهم الأشياء. كاثرين: بِمَ أثَّر عليك غاندي؟ تيك: لو لم ينجح غاندي، لما كان له ربما مثل هذا التأثير عليَّ، على الأقل في البداية. لقد أثَّر عليَّ بنجاحه أكثر مما أثَّر بنظريته أو بفهمه – وليس هذا النوع من التأثير هو الأعمق. لا نستطيع في الواقع أن نحكم على قيمة عمل بناءً على نجاحه، بل بالنظر إلى العمل في حدِّ ذاته. وهذا أمرٌ لم يكن بمستطاعي آنذاك؛ وهذا ما يفسِّر هذا الشكل من التأثير السطحيِّ نوعًا ما. إنه أمرٌ غير مستحسن جدًّا. أعتقد أننا حتى لو أخفقنا في جهودنا، ففي إمكاننا النجاح في العمل الصائب حين يكون لاعنفيًّا حقًّا، مؤسَّسًا على الفهم والمحبة. إنما يلزم في بعض الأحيان المزيد من الشروط من أجل النجاح، وإننا نخفق إن كان الوقت لم يَحِنْ بعد. على سبيل المثال، ساهم الشباب في فييتنام – وبينهم أعداد كبيرة من الطلاب – في أعمالنا اللاعنفية من أجل السلام. وفي بعض الأحيان، أخذنا على عاتقنا الألم من أجل تحريك الآخرين، حين قدَّم إخوانٌ رهبانٌ أنفسهم كأضاحٍ للنار، إلخ. بيد أننا كنَّا واقعين بين فكَّي كماشة القوتين العالميتين الكبريين. وحتى حين استطاعت أصواتُنا أن تجد أذنًا مصغية في الخارج بين وقت وآخر، كان أولئك الذين يتمتعون بالقوة الكافية لمساندتنا منقسمين هم أنفسهم. كان على الناس في الولايات المتحدة أن يتخذوا موقفًا مع الحرب أو ضدها. كان الناس يريدون السلام، لكنهم كانوا يظنون أن انتصار أحد الجانبين سيجلب هذا السلام جلبًا أسرع. والحال فلقد شعرنا قليلاً بأننا وحدنا، وكنَّا نحتاج إلى المزيد من الشروط، مثل مساندتك، من أجل النجاح. حين أنظر إلى الوراء، تبدو لي الحركةُ اللاعنفية من أجل السلام في فييتنام جميلةً جدًّا. وهي إن لم تصل إلى غايتها حقًّا فليس لأنها كانت على ضلال، بل لأن جميع الشروط لمَّا تجتمع. كاثرين: الأمر الذي لم يكن كذلك في حالة غاندي. كانت شروطٌ عديدة مجتمعةً في زمنه. تيك: نعم، على عكس ما جرى في العام 1977، حين حاولتُ إنقاذ "أقوام قوارب" في عرض البحر عند شواطئ الهند الصينية. في ذلك الوقت قلما كان يجري الحديث عنهم، لكننا كنَّا على اطلاع على وضعهم، ولقد بدأنا باستئجار مراكب لإسعاف اللاَّجئين، على غفلةٍ من حكومات سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا التي ما كانت لتدعنا نقوم بالأمر. لقد أنقذنا المئات من اللاجئين، على أمل أن نجعلهم يعبرون خفيةً إلى كُوام أو أستراليا. كنَّا ننوي إعلام الصحافة كيما يهتمَّ العالم بمصير هؤلاء، ولكيلا يُعادوا إلى بلدهم على نفس المراكب التي أتَوا عليها، كما حصل في ماليزيا وفي إندونيسيا وفي بلدان أخرى، حيث أعيد الآلاف من الناس إلى عرض البحر لكي يهلكوا غارقين في آخر المطاف. كنَّا على وشك النجاح، لكن معلومات تسرَّبتْ؛ وقد علمنا أن واحدًا من أصدقائنا كان قد كلَّم الصحافيين. وعلى إثر المقال الذي نُشِرَ عنَّا في الصحف، جاءت الشرطة لاعتقالنا في منتصف الليل. كان عليَّ أن أضع اللاجئين بين أيدي UNHCR [المفوضية السامية للاجئين في الأمم المتحدة]، ولقد لبثوا في مخيمات في ماليزيا شهورًا وسنوات. كان ذلك مصدر معاناة كبيرة – مع أننا قمنا بهذه العمليات تأملاً. كنَّا نعيش، إذا جاز لي القول، كالقديسين، مصلين ومتأمِّلين في كلِّ لحظة، عالمين أنَّ حياة بشرٍ كانت معلَّقة بكمال وعينا. ولو لم نكن في كامل وعينا، لكان هناك المزيد من الوفيات. كنَّا نبقى جالسين حتى وقت متأخر من الليل، ثم ننشد سوترا القلب، كما لو كنَّا في أحد الأديرة. ليس لي أن أعيد النظر في العمليات التي قمنا بها، بيد أن الشروط لم تكن مؤاتية. الصحافة مستخفة جدًّا في بعض الأحيان؛ فما يهمها هو السبق الصحفي. كاثرين: إنها لا تهتم بحياة بشر يُضحَّى بهم. إن الأمر لمدعاةٌ للحزن الشديد. إننا نعيش حقبةً خطرة: تهديداتٌ عديدة تخيِّم على عالمنا، سواء تعلَّق الأمر بالبيئة، أو بالتوترات السياسية بين الدول التي تملك أسلحة قادرة على تدمير غير مسبوق، أو بالعدد المتزايد، على مستوى الكوكب، من الأشخاص المعوزين. في الوقت نفسه، يزدهر الدهرما. فعديدون هم الناس الذين يبحثون عن النور في العتمة. ما هو شعورك فيما يخص مستقبل الكوكب؟ كيف ترى الأمور؟ أعلم أنك تمارس الحضور في اللحظة، ولكن هل يتفق لك أن تفكر في المستقبل أيضًا؟ هل تعتقد أن هناك مستقبلاً ممكنًا؟ تيك: للإجابة على هذا السؤال يكفي النظر في بساطة إلى الحاضر. المستقبل متضمَّنٌ في الحاضر. نستطيع أن نعي أن أسلوب عيشنا، ما نحن إياه وما سنصيره، هو نتيجة ما نحن عليه وأسلوب حياتنا الحالي. كاثرين: ليس شخصي ولا شخصك هما ما يشغل بالي... تيك: أعلم تمامًا. كاثرين: ... بقدر ما يشغله مستقبلُنا كجنسٍ بشري. هناك عدد كبير من الأشخاص اليوم مدفوعون بالجشع والبغضاء والأوهام، في حوزتهم وسائل قمينة أن تطيح بنا جميعًا على نحو لم يشهده تاريخُنا قط. تيك: لا جدوى في أن يقول بعضنا لبعض إن لنا أو ليس لنا مستقبل. في جميع الأحوال، لا يفيد ذلك شيئًا. فقولنا إن هناك مستقبلاً يمكن أن يعطي آمالاً زائفة للناس. وما هذا بِحَسَن. أما لو قلنا إنه ليس هناك من مستقبل، فإن الناس سيصيرون أكثر يأسًا أيضًا، وهو أمرٌ غير حسنٍ أيضًا. ولهذا السبب، أفضِّل القول إن المستقبل كامنٌ في الحاضر. فانظروا وعاينوا بأنفسكم. فما يهم هو أن تحاولوا العيش سعداء في اللحظة الحاضرة، وإذا كانت السعادة موجودةً هنا حقًّا فسيكون لنا مستقبل.
يعتقد الناس بأنهم يصيرون سعداء بأن يستهلكوا كثيرًا وبأن يصيروا أغنياء؛ لذا علينا أن نساعدهم أيضًا على أن يرَوا كيف لا تجعلهم حياةٌ كهذه بالضرورة سعداء، وأن يجدوا السعادة الحقيقية بأن ينظروا حقًّا إلى السماء الزرقاء، إلى طفل، أو إلى زهرة. عندما يكون لدى الناس قاعدة من السعادة الحقيقية فسوف ينبذون الأشياء الأخرى. فلعل هذا هو أهم ما يجب فعله، ربما، إن أردنا أن يكون لنا الحاضر والمستقبل. إن كان لنا الحاضر فلنا كذلك المستقبل. كاثرين: بعبارة أخرى، بدءًا من اللحظة التي يستوعب فيها الناس ما الذي يقود حقًّا إلى السعادة وإلى سلام الروح... تيك:... فإنهم ينبذون ما يهدم. كاثرين: هل نلت وعيًا جديدًا في وجودك على أرض البوذا هذه، في المكان نفسه الذي أدرك فيه البوذا اليقظة؟ مشاعر أو لحظات أُخَر من الـساتوري[7]؟ تيك: أحاول أن أكون بسيطًا. كانت المرة الأخيرة التي جئت فيها إلى هذا المكان منذ عشرين سنة مضت، وكان الأمر أبسط. كنت أفضل ذلك. كان الأطفال أبسط، لا كما نرى اليوم. قلتُ هذا الصباح إن أصعب ما في الأمر هو شق طريق بين الأطفال المتسولين وصولاً إلى شجرة بودهي! بيد أنكِ إن لم تري الأطفال فلن تري البوذا. لقد شرحتُ للناس أن كلاً من هؤلاء الأطفال هو بوذا حي، لكنه بوذا يصعب الاقتراب منه لأننا نضعه في مستوًى يعتِّم طبيعة البوذا فيه. إن أحد موضوعاتي في التأمل هو أن أعرف كيفية الوصول إلى أرض البوذا، وتذوق البوذا دون أن أخرب الأطفال أو البوذية. لقد بلغني أن فندقًا من فنادق سلسلة Holiday Inn سوف يُفتتَح قريبًا في بودغايا. هذه أمورٌ ترعبني. فهذا لن يساعد الأطفال. ومع أنه قد يوفر بعض فرص العمل، إلا أنه لا يعوِّض أبدًا الأضرار التي يتسبب فيها. لقد آن أوانُ عودة البوذية إلى الهند – لا أي نوعٍ من البوذية، بل ذلك النوع من البوذية الذي تحتاج إليه الهند الآن، لأن البوذية دينٌ عالمي. في الماضي كانت البوذية هنديةً وحسب. بيد أنها أخذت، مذ ذاك، بُعدًا عالميًّا. إن على مختبرات البحوث في الغرب أن تنكب على دراسة فعاليتها في الحياة العصرية وقدرتها على مساعدة الناس في زماننا على حلِّ مشكلاتهم الاجتماعية والسياسية والنفسية. وبالتوصل إلى تطوير هذا النوع من البوذية، إنما نستطيع أن نعيد البوذية إلى الهند. كاثرين: ما أغرب قولنا إن البوذية تحتاج أن يُعادَ إدخالُها إلى بلدها الأصلي! تيك: نعم، لأن المثقفين والهنود الشباب مختلفون، وهم في حاجة إلى بوذية مختلفة عن بوذية الماضي. كاثرين: منذ مقابلتنا الأخيرة، تجذَّرت البوذيةُ تجذرًا كبيرًا في الولايات المتحدة. ما هو برأيك المذاق الخاص للبوذية في أمريكا؟ وما هو تأثيره على البوذية؟ تيك: المدارس المختلفة للبوذية مزدهرةٌ في الولايات المتحدة، وإنه لَبلدٌ يمكن للمرء فيه أن يدرس في منقولات مختلفة. لقد قلت في العام الماضي في أثناء خلوة روحية في جبل مادونا في كاليفورنيا مع الـ"سنغها[8] المتنقِّل" إن البوذية الأمريكية يمكن أن تكون مركَّبةً من أغلبية علمانية. على العائلة أن تصبح حقلاً للممارسة، ويصبح المركز البوذي مكانًا تستطيع العائلات أن تقصده للممارسة. ولا يعني هذا أنه يجب ألا تكون هناك بوذية رهبانية، بل إن عليها أن تكون موجودةً في صلة وثيقة مع أشكال أخرى من البوذية. على الديموقراطية والعلم والفنون أن تقدِّم إسهامها أيضًا. علينا أن نبني البوذية انطلاقًا مما هو موجود محليًّا. ثمة في بلادكم أشياء كثيرة يمكن لها أن تفيد في بناء البوذية. كاثرين: على سبيل المثال؟ تيك: كل شيء: الموسيقى، الأدب، الفنون – كل شيء. قلت هذا الصباح إن البوذية مصنوعة من عناصر غير بوذية. ومع الوعي الكامل، تعرفين على أيِّ شيء تستطيعين أن تعتمدي. تستدعين مصادرك الخاصة من أجل بناء البوذية. دونك الهاتف، مثلاً. إن رنين الهاتف غير مستحبٍّ كثيرًا، بيد أنني أدخلت عليه بُعدًا بوذيًّا.[9] و"التأمل خلف المِقْوَد" فعال جدًّا أيضًا. لقد أحبَّه جميع الذين مارسوه. إنهم يقولون إنهم يشعرون بحال أفضل بعد ممارسته. في نيويورك، طبَّقنا "تأمل المترو" في الذهاب من قاعة التأمل إلى الحديقة المركزية. لقد ابتكرت تأمل المترو حتى لا يكره الناس وسيلة النقل هذه، وكيما يتمتعوا بها. نجح ذلك نجاحًا ملحوظًا. قال لي أحدهم إنه يستقل المترو منذ 25 عامًا وإنه للمرة الأولى كان يتذوقه. والأمر مشابهٌ بالنسبة للأشياء الأخرى كلِّها: إذا ما قمتِ بها بوعي كامل، بكلِّ انتباهك، فستكون على الدوام ممتعة. كاثرين: هل تظن أن الرهبانية monachisme ما يزال لها مكانٌ في هذه الحقبة من التاريخ، وأنه ما يزال على الناس أن ينسحبوا من العالم كي يكرِّسوا نفسهم للتأمل؟ تيك: هناك الكثير من الناس النشيطين جدًّا والملتزمين؛ ولكن إن لم يكونوا في سلام وسعداء، فإن النشاطات التي يقومون بها لا تؤدِّي إلا إلى خلق المزيد من المشكلات ومن الغضب، الأمر الذي يُفاقِم من خطورة الوضع. وبدلاً من القول: "لا تظلوا جلوسًا، بل اعملوا"، يجب قول العكس: "توقفوا واجلسوا." إن الجلوس ليجعلنا أصفى، أكثر سكينة، وهو يقوِّي رحمتنا، بما يجعل نشاطاتنا في العالم أكثر فاعلية. ومن ثمَّ فإن الكينونة والفعل لا يعودان مختلفين. إن كنتِ تجتازين المحيط في ليلة عاصفة على متن مركب صغير، ثم أصيب الجميع بالذعر، فإن القارب سيغرق. لكن حسب وجود شخص واحد يحتفظ برباطة جأشه ليشيع الثقة، وبذلك ينجو القارب من الخطر. ذاك هو جوهر اليقظة أو التأمل. كاثرين: تعيش منفيًّا عن وطنك منذ زمن طويل جدًّا. ولقد تعلَّمتَ كراهب عدم التعلق؛ وكما ذكَّرت منذ لحظات، يدعونا البوذا إلى النظر إلى كلِّ بيت بالطريقة ذاتها. هل تشعر في بعض الأحيان بالحنين إلى الفييتنام؟ هل تفتقد وطنك كثيرًا؟ لقد تحدثتُ منذ وقت قصير مع تبتيين في منفاهم في دهارَمْسَلا [النيبال]. إنهم لا يشعرون أنهم في وطنهم حقًّا في الهند، مع أنهم يعيشون فيها منذ ما يقرب من الثلاثين عامًا. ما هو شعورك كلاجئ؟ تيك: بطريقة ما أفتقد وطني كثيرًا، لأنَّني عملت دومًا تقريبًا مع فييتناميين. لقد وضعت كتبًا من أجل الفييتناميين، وصرفت وقتًا في مدارس فييتنامية في جوار رهبان وراهبات من المبتدئين. إنها عادة إذًا. كثيرًا ما حلمت خلال سنتي الأولى في الخارج بالعودة إلى وطني، لكن ثمة شيئًا ما في حلمي كان يمنعني من العودة إلى ديري. ولقد تكرر هذا الحلم مراتٍ عديدة، لكني تابعت الممارسة. إنني أرى الآن روعة الأماكن الأخرى. الفرنسيون والبريطانيون والأمريكيون في غاية اللطف معي، وهم يرغبون بقوة في تعلُّم الدهرما. ولقد تعلَّمت التمتُّع بالأعشاب العطرية التي نجدها هنا في الغرب. أقول لنفسي إنني محظوظٌ بالحياة مع أشجار لا توجد في فييتنام، كشجر الماغنوليا. كففت، مع الوقت، عن الحلم بالعودة إلى فييتنام. إنني أشعر وكأنني في وطني في المكان الذي أعيش فيه اليوم. لكن عندي ميزة، وهي أني حاضرٌ جدًّا على الدوام في فييتنام، حيث يستمر الناس في قراءة كتبي. وحتى في ظلِّ النظام الشيوعي، استطعنا أن نرسل لهم كتبي باللغة الفييتنامية. كاثرين: هل هي مسموحةٌ أو أنها تُمرَّر خلسة؟ تيك: ينسخها الناس باليد لكي يوزِّعوها خلسة. يتيح لي هذا الاستمرارَ في تقديم رؤيتي وتعليمي في ممارسة البوذية في فييتنام، وفي مساعدة الناس الذين يتألَّمون بسبب من النظام الحالي. هذا يجعلهم يقدِّرون تعاليمي أكثر. أشعر أنني حاضرٌ جدًّا في بلدي. مازلت في فييتنام، وفييتنام حي في تهاي. إنني لا أشعر والحال بألم الخسارة، ولكن لم يصل جميع مواطنيَّ إلى نفس الحال من السلام. ما يزال الكثيرون منهم يتألَّمون. كاثرين: ما هي النصيحة التي يمكن لك أن تسديها لهم، وأبعد من ذلك، ما هي النصائح التي تسديها لجميع اللاجئين، الكمبوديين والتبتيين ومواطني أمريكا الوسطى؟ يتزايد اليوم عدد الأشخاص الذين لا أمل حقيقيًّا لهم في العودة إلى بلدهم يومًا، وقلة منهم يحالفهم الحظ بأن يستطيعوا – نظيرك – الشعور أنهم في وطنهم في المكان الذي يوجدون فيه وأن يمارسوا الدهرما. غالبًا ما يكونون من مذاهب عقائدية مختلفة عن مذاهب البلدان التي تستقبلهم. كراهب ولاجئ استطاع أن يتكيَّف تكيفًا جيدًا، ما النصائح التي تسديها لهم؟ تيك: أعتقد أن أفضل ما يُعمَل هو أن أشاركهم خبرتي وألمي إبان أول سنتين، والطريقة التي تكيَّفت بواسطتها في نهاية الأمر، بتعلُّمي أن أرى أن الأرض كلَّها هي وطني، لا جزءًا من الأرض فحسب. هذا ممكن. في قصة قصيرة عنوانها البامبو الذي صعد إلى القمر رويت قصة صبية استغلَّتْها حماتُها، وصلتْ يومًا إلى القمر بعد أن تسلَّقتْ جذع بامبو، وهناك تزوَّجتْ. بيد أن حبيبها القديم على الأرض الذي أضناه حبُّه لها لَحِقَ بها على القمر وتوصَّل إلى إقناعها بالعودة معه إلى الأرض. إذ ذاك جاء دورُ الزوجُ القمري لكي يحنَّ إلى زوجته الشابة. وهكذا أصبح القمر والأرض رمزين لفييتنام والخارج. لقد كتبت هذه القصة من أجل اللاجئين. عند هذه اللحظة من المقابلة، سمعنا صوت الصنج الداعي إلى الوعي الكامل ولبثنا جالسين صامتين لمدة ثلاثة أنفاس. ولقد سمعناه يقرع في أوقات مختلفة من النهار طوال الحج. تيك: أعتقد أن على كلِّ واحد منَّا أن يرى أنه هو نفسه وطن نفسه، أن لحمه وعظمه هما أمَّته. بالتكيف مع قِيَمِ هذا الوطن في المكان الذي يحيا فيه، سوف يجد هذه الأشياء الجميلة من جديد. إنها طريقة لأن يكون المرء سعيدًا ويسهم في غنى البلد الذي يعيش فيه. *** *** *** ترجمة: أديب الخوري [1] اجتهادنا لجمع إلْف elfe، وهو كائن من الجنِّ في الميثولوجيا الإسكندنافية. ولعل في التشبيه إشارة إلى قصر قامته؛ إذ إنِّ الإلف هو جنِّي صغير عادة. (المترجم) [2] المقصود بالكلمة هنا المؤسَّسة التي تنتظم الطائفة البوذية في البلد؛ ولا علاقة لها بالكنائس المسيحية على اختلاف طوائفها. (م) [3] تشير كلمة بيكهو عمومًا إلى الراهب البوذي. ففي أغلب التقاليد البوذية، لا يحصل الرهبان على غذائهم إلا مما يقدَّمه لهم العلمانيون. أما البالِّية فهي واحدة من اللغات المحكية في عهد البوذا. [4] دهرما كلمة سنسكريتية تعني، فيما تعني، "الحقيقة" أو "الناموس". [5] حليب مجفَّف حيواني المصدر، يزوَّد بخواص حليب الأمِّ المرضع. (م) [6] في الحكمة البوذية، كائن نذر نفسه لتحقيق الاستنارة وتخليص المخلوقات جميعًا من الألم. (المحرِّر) [7] ساتوري مصطلح زِنْ ياباني يشير إلى خبرة اليقظة. وفي السياق الذي بين أيدينا تُقصَد به لحظةٌ قوية من حالة الوعي. [8] الـسنغها هو الرهبنة التي أسَّسها البوذا؛ وهو، إلى جانب البوذا والدهرما، أحد الأركان الثلاثة للبوذية التي يتخذها المريدُ الباحث عن الخلاص من الألم ملجأً. (المحرِّر) [9] يمكن لرنين الهاتف أن يكون طريقةً لإعادتنا إلى حالة الوعي الكامل. إن ممارسة "تأمل الهاتف" التي يقترحها تيك ناث هَنْه تقوم على ترك الهاتف يرن ثلاث مرات قبل الرد، وعلى التنفس والابتسام بهدوء ووعي. "إنه لأمرٌ قابل للتحقيق على نحوٍ كامل، يقول ناث هَنْه؛ فإن كان لدى الطرف الآخر أمرًا مهمًّا يريد قوله فلسوف ينتظر زمن ثلاث رنَّاتٍ على الأقل. إن مثل هذه الممارسة لتحسِّن نوعية حديثنا الهاتفي تحسينًا ملحوظًا." |
|
|