الاغتراب والوعي والأصالة لدى لوكاش وهيدغِّر

هشام شرابي

 

1

في حين يصعب القيامُ بتحديد دقيق لمدى تأثير جيورجي لوكاش ومارتن هيدغِّر على الفكر الاجتماعي والسياسي الغربي في القرن العشرين، لا يرقى شك إلى أن هذا التأثير كان نفَّاذًا. فقد تمكن لوكاش، أحد المفكرين الماركسيين الأبعد غورًا والأعقد في القرن العشرين، في كتابه التاريخ والوعي الطبقي (1922)، من توفير أحد التحليلات الماركسية الأكثر اتساقًا لسبر غور دور الوعي في الممارسة الاجتماعية؛ فيما وصف هابرماس كتاب هيدغِّر الوجود والزمان (1927) بأنه أهم مؤلَّف فلسفي منذ ظهور فينومينولوجيا الروح لهيغل. وإن الماركسية الغربية، كنظرية اجتماعية متماسكة، ما كان لها على الأرجح أن تكون ما هي عليه اليوم لولا حركة التاريخ وتحول الوعي الاجتماعي؛ وإن الوجودية والظواهرية والبنيوية ما كان لها أن تتخذ شكلها وتدرُّجها الحاليين لولا مساهمة هيدغِّر الأساسية.

انتمى هذان المفكران إلى الجيل نفسه، وتجذَّر فكراهما في موقفين مختلفين من هيغل والمثالية الألمانية. كان هيدغِّر أستاذًا جامعيًّا طوال حياته النشطة، يعيش منزويًا في فرايبُرغ، على مقربة من قريته القريبة من الغابة السوداء. أما لوكاش، الذي لم يوفَّق إلى الحصول على منصب تعليميٍّ في بوداپشت، فإنه انغمس في السياسة وانضم باكرًا إلى الحزب الشيوعي المجري. وقبل انضمامه، عاش في هيدلبرغ، حيث نعم بحماية ماكس ڤيبر، فانخرط في حلقته التي كانت تضم زوجته وڤيلهلم ڤيندلبند وإرنست ترولتش وإميل لاسك وألفرد ڤيبر وآخرين. ومن خلال اتصاله هذا بعدد من رواد الفلسفة والتاريخ الألماني، اكتسب لوكاش معرفةً وثيقةً بالفكر التاريخي والاجتماعي العلمي الأسطع نفوذًا في ألمانيا ما قبل الحرب العالمية الأولى.

بذا فإن لوكاش، مسلحًا، ربما، بما لم يحظَ به أي فيلسوف ماركسي قبله من فهم مؤصَّل لمنهج النظرية الاجتماعية الألمانية وبنيتها، قد أمدَّ الماركسية بثقافة علمية وفكرية عالية. ثم انقضَّ في ما بعد على تجربته في هيدلبرغ وعلى ما سماه "الطبيعة التأملية للفكر البرجوازي"، إذ رأى أن "العالم اللاعقلاني عذاب لا ضرورة له، وعدم مساواة بلا عقاب، وسخافة لا أمل يُرجى منها"، على ما وصفه ماكس ڤيبر. هذا العالم يجب أن يتم تجاوزُه فعليًّا، وإلا يكون مسألةً للفهم فحسب. وقد رأى لوكاش أن المنهجية المعرفية القائمة على مجرَّد الفهم وعدم مقاومتها الفعلية للشرِّ في العالم قد عكست الفكر المادي والوجود الاغترابي للمجتمع الرأسمالي في شكل عام.

2

سأسعى في إيجاز إلى شرح بعض تبعات هذا الموقف في خصوص إشكالية الوعي من منظار الوجود والزمان والتاريخ والوعي الطبقي.

إن مقولة "الوجود في العالم" لدى هيدغِّر هي الأساس الذي يحدد "ظاهرة الحقيقة". أما لدى لوكاش فأساس الوجود في العالم هو الوجود الاجتماعي، والحقيقة نتاجٌ اجتماعي.

رأى هيدغِّر أن حقيقة الوعي هي محتوى مثالي، أي إنتاج الحكم على الحقيقي: "في الحكم، على المرء أن يميِّز بين السياق الحقيقي والمحتوى المثالي؛ فهذا المحتوى هو الحقيقة." (هيدغِّر، ص 216) أما لوكاش، فرأى أن الحقيقة تنتمي إلى سياق متميز كليًّا. يقول إن مسألة هل الفكر البشري قادر على التوصل إلى الحقيقة الموضوعية ليست مسألة نظرية، بل مسألة عملية: "على المرء أن يبرهن عن الصدق، أي عن الحقيقة والقوة، عن هذه الأحادية لفكره في الممارسة." عنده كان الخلاف الناشب على حقيقة الفكر أو بطلانها في معزل عن الممارسة هو خلاف نظري محض (لوكاش، ص 198).

جيورجي لوكاش (1885-1971)

آمن هيدغِّر بأن معرفة العالم هو نمط من "الوجود في العالم": معرفة العالم، أو بالأحرى أن يخاطب المرءُ "العالم" ويناقشه (كما فعل الإغريق)، هي وظيفة النمط الأساسي للوجود في الكون (هيدغِّر، ص 85).

"الحقيقة" و"الوجود" يشيران إلى مستويين مختلفين للوجود: التجربة المباشرة، والكلِّية الوجودية. فعلى مستوى التجربة المباشرة، يفقد الوجودُ بعض خاصيته الأساسية: إنه "يكتسب معنى الحقيقة" (هيدغِّر، ص 201)؛ أما على مستوى الكلِّية الوجودية، فإن وجود الكلِّيات يُفسَّر بمعايير بدائية أساسية ينهض عليها نظامُ هيدغِّر الوجودي برمَّته.

من هنا، فإن المعرفة والفعل، في عرف هيدغِّر، ينتميان إلى النمط نفسه من الوجود. ففي الوجود والزمان، الفعل فكرة عن العمل فحسب (انظر: لوسيان غولدمان، هيدغِّر ولوكاش، ص 38).

إلا أن هيدغِّر يقول أيضًا إن للمعرفة الفكرية تبعاتٍ علمية، وإن النظرية، في شكل التجربة الواعية والمستوعَبة، هي في جوهرها ما يؤلِّف الحقيقة التي تحدِّد "المسلك" أو الفعل.

ليس للمعرفة الفكرية، كونها مقولةً مجرَّدة، المسلك العملي نفسه الذي تحظى به محصِّلتها النهائية. المعرفة الفكرية هي، في حدِّ ذاتها، مسلك يبقى موجودًا، ليس بفضل كينونة خاصة، بل بفضل الوجود نفسه. فـ"التفكير بالعدم" لا يعني، بالتالي، إنتاج "أفكار فحسب" في ذهن المرء، بصفته مجرَّد متفرج ينسحب من الواقع؛ بل إن التفكير بالعدم يعني الوقوف في الماهية، حيث كل فعل وكل حقيقة في هذه الحقبة من التاريخ الغربي يتلقفان مكانهما وزمانهما، وجودهما وخلفيتهما، سلبهما وغاياتهما، نظامهما وتبريرهما، ثباتهما وزعزعتهما، – باختصار حقيقتهما (هيدغِّر، نيتشه، ج 14، ص 15).

وعليه، فالمجتمع، في عرف هيدغِّر، ليس سوى كينونة تجربة مباشرة مغايرة، حيث عالم الـ"هم" ("الناس") الذي يختبر فيه الفرد ("الذات")، فضلاً عن وقوعه على إشباع الرغبة، "السقوط" وفقدان الأصالة. إن الوجود اليومي وجودٌ يغيِّب الأصالة، وفقط حين يبرِّئ المرءُ نفسه من الـ"الناس" يتوصل إلى "أصالته".

مارتن هيدغِّر (1889-1976)

ففي حين ينصبُّ اهتمامُ هيدغِّر على الوجود الجوهري الكلِّي (قضية الوجود)، يهتم لوكاش بالوجود الاجتماعي، وجود التجربة المباشرة. أليس ثمة إمكان لوضع هذين المذهبين على مسار يفسح المجال للأصالة والالتزام في آنٍ واحد؟ أم أن التعارض فيما بينهما غير قابل للحسم (على ما يرى لوسيان غولدمان)؟

سأعالج هذه المسألة في خاتمة المقال. أما الآن، فإني سأسعى في إيجاز إلى عرض تصوُّر لوكاش للوعي في علاقته بالممارسة الاجتماعية (بالوجود في المجتمع).

3

تظهر فكرة هيدغِّر عن "الوجود–في–العالم" في نظر لوكاش أنها مسألة اجتماعية تاريخية يندرج فيها الوعيُ بوصفه مقولةَ فهم اجتماعية وتاريخية، وليست تحليلاً معرفيًّا أو نفسانيًّا. الوعي لدى لوكاش، في المقام الأول، وعيٌ طبقي، له بذلك "وظيفة عملية وتاريخانية". ويقوم التميز بين الوعي الطبقي (على أنه وعي تجريبي نفساني) وبين الوعي "المرجعي"؛ وهذا التميز هو المفتاح الأساس لفهم الوظيفة التاريخية التي يعزوها لوكاش إليه: التميز قائم بين ما يفكِّر فيه ويحس به فعليًّا الأفرادُ والجماعاتُ ("الوعي المباشر الحقيقي") وبين ما يفكِّرون فيه ويحسون به "فيما لو كانوا قادرين في آنٍ واحد على استيعاب موقعهم في المجتمع ومصالحهم النابعة منه من خلال تأثيرهم على الفعل المباشر وعلى بنية المجتمع برمته" (لوكاش، ص 51). وهذا هو المقصود بكلام إريك هوپسباوم على "نمط نظري للمجتمع، وليس على تعميم تجريبي لما يعتقده الناس فعليًّا" (انظر: استڤان ميجاروس، مناحي التاريخ والوعي الطبقي، ص 6).

صوغ لوكاش هنا هيغلي في جوهره: يتميز الوعي المُعطى عن الوعي "المرجعي" بالطريقة نفسها التي يتميز فيها الكائنُ "في ذاته" عما هو "لذاته". هذا الوعي "في ذاته، هو الوعي المرجعي الملائم والعقلاني لموضع مثاليٍّ وخاصٍّ في سياق الإنتاج"، وليس "هو المجموع العام أو المعدل لما يشعر به المرء أو يفكر فيه ما يشكِّل الطبقة" (لوكاش، ص 51). وعليه، فحين يصبح الكائن "في ذاته" ما هو "لذاته"، أي حين تكتسب الطبقةُ المعنيةُ الوعي المنطبق لوضعها الاجتماعي التاريخي، تتحول هذه الطبقة (الپروليتاريا) إلى أداة قائمة بذاتها لتحرير المجتمع.

حافز لوكاش، إذن، تحريري، يدعو إلى الخلاص. ذلك أن همَّه منحُ التحرر العالمي قالبًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا يتجذَّر في جدلية موضوعية. لقد رأى أن لمسألة الوعي أولويةً على الظروف المادية: "اليوم أصبحت هذه المسألة حقيقية وأساسية لطبقة بأسرها: إنها مسألة التحول الداخلي للپروليتاريا، لتطورها إلى مرحلة تواكِبُ رسالتها التاريخية الموضوعية. إنها أزمة عقائدية ينبغي حلُّها قبل التوصل إلى حلٍّ عملي للأزمة الاقتصادية العالمية." (التاريخ والوعي الطبقي، ص 79)

هنا، نحن إزاء تصور أوليٍّ يشبه إلى حدٍّ بعيد نظرية "الثورة الثقافية" التي طوَّرها هربرت ماركوزي في كتابه الصادر في العام 1970 تحت عنوان في التحرير بعد صدور التاريخ والوعي الطبقي بعدة سنين. وعندما انحسر المدُّ الثوري في أوروبا أمام صعود الفاشية، كان أنطونيو غرامشي يكتب في سجون موسوليني ما يدعم رؤية لوكاش في تصوُّره للهيمنة الإيديولوجية التي أظهرت كيف يتكاتف زيف الوعي الپروليتاري لدى تبنِّيه مع قيم الفكر البرجوازي السائد وأهدافه لمواجهة قوى الثورة المضادة في المجتمع.

4

لننتقل إلى مسألة الأصالة والالتزام التي أثرتُها سابقًا. قُبيل وفاته المفاجئة، عالج ماكس ڤيبر هذه المسألة في محاضرة ألقاها في ميونخ في العام 1921 وميَّز فيها بين ما دعاه "أخلاقية الأهداف السامية" (مثال القديس فرنسيس في عزوفه عن الثروة والجاه ولحاقه بالمسيح) و"أخلاقية المسؤولية" (اتخاذ قرار واعٍ لعواقبه). هذا التمييز أُسُّ التناقض بين الوجود الاجتماعي والذاتية المحض (الخيار بين خلاص الروح والوفاء بالغايات الاجتماعية). موقف لوكاش واضح وغير مساوم: الالتزام الاجتماعي ودحض الذاتية.

والأصالة لدى هيدغِّر (أن يكون المرء نفسه) لا تشتمل بالضرورة على انسحاب من المجتمع أو الارتداد عن الفعل أو الالتزام الاجتماعي. فبقدر ما يكون تصميم المرء صادقًا – أي متفهمًا نفسه في توقُّعه الموت من دون أيِّ غموض عبر إمكاناته الذاتية الصحيحة – يكون قادرًا على ممارسة الاختيار الحاسم ومعرفة إمكاناته الحياتية الأصيلة وتلافي المصادفة. ومتى استوعب المرءُ محدوديةَ وجوده، ابتعد عن الخيارات السهلة والقريبة منه – رغد العيش، تجنب المواجهات، اللامبالاة – وارتدَّ إلى بساطة مصيره (هيدغِّر، ص 384).

وكان سورِن كيركِغور – وهو أحد الفلاسفة الفاعلين في تحوُّل هيدغِّر عن مثالية هيغل، وبالتالي رفضها – قد نصَّب الذاتية الأساس الأوحد الأصيل للفرد الكائن. ومما يسترعي الانتباه أن معارضة لوكاش لموقف هيدغِّر الوجودي اتخذت قالبًا مماثلاً لمعارضة كيركِغور لمثالية هيغل، إذ فهم الأصالة في إطارها الاجتماعي التاريخي، وليس في جَوانيَّتها وذاتيتها.

رأى لوكاش أن غياب الأصالة، أي الوجود الاغترابي، لم ينتج من التموضع فحسب، بل من نفي خاص للتموضع، أي من أشكال متموضعة للمجتمع تكتسب وظائف تدفع بجوهر المرء إلى النزاع مع وجوده، "مما يخلق الأوضاع الاجتماعية الموضوعية للاغتراب، وكنتيجة لا مفرَّ منها، جميع الملامح الذاتية للاغتراب الداخلي" (التاريخ والوعي الطبقي، ص 112).

وعليه، فإن كسر طوق الاغتراب قائم على تفتيت التأليه الإيديولوجي لبنية السلعة وعلى الكشف عن عالم الأصالة في العلاقات البشرية. ويعني هذا "الكشف" استيعاب نمط جديد للوعي، نمط "معرفة مغرقة في الفكر" توفِّر إمكانات جديدة للعلاقات البشرية. وللتوصل إلى الوجود الأصيل (اللامغترب) ثمة حاجة إلى ما هو أكثر من "وعي" أو ذاتية (جَوانية) فحسب. أن يبقى المرء على ما هو، لا فائدة ترجى من ذلك. فالمستغل والمضطهد في المنحى الهيدغِّري قضية أساسية يتخذها ثيودور أدورنو في نقده لهيدغِّر. وفي نظر كلٍّ من لوكاش وأدورنو (ومجمل جماعة مدرسة فرانكفورت) فإن الاعتراض الأساسي يرتكز على الحقيقة القائلة بأن لا أحد يقوى على تحقيق عيش الأصالة ويعقد الصفقة مع اليأس الاجتماعي بانسحابه من المجتمع وتخلِّيه عن الالتزام. إن الوجود المتمحور على الذات يهمل الحقيقة الاجتماعية بدفع كلفة سياسية باهظة.

أن يكون المرء متوافقًا مع نفسه، سواءٌ بالبحث عن ذاته الأصيلة أم بالالتزام الاجتماعي، يشكِّل خطوة حاسمة في فلسفتَي كلٍّ من لوكاش وهيدغِّر. رغبتهما الواحدة تكمن في إضفاء التسامي على الوجود كما هو معطى مباشرة، إن اجتماعيًّا أو معرفيًّا.

*** *** ***

ترجمة: محمود شريح

 

مراجع البحث الأساسية

-          Goldman, Lucien, Heidegger and Lukács, London : Routledge & Kegan Paul, 1977.

-          Heidegger, Martin, Being and Time, trans. by John Macquarrie & Edward Robinson, New York : Harper & Row, 1962.

-          Lukács, George, History and Class Consciousness, trans. by Rodney Livingstone, Cambridge , Mass: MIT Press, 1968.

-          Mészáros, István (ed.), Aspects of History and Class Consciousness, New York : Seabury Press, 1979.

-          Western Marxism: A Critical Reader, London : New Left Review, 1983.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود