|
المُسْــنـَد إليـه
تمهيد يطرح هذا المقال قضيةَ التضادّ المطلق بين القَسِيمَيْن النفسانيين للأنا: قَسِيمِ الأنا الموضوعي في إطار تمثيلها الواعي وقَسِيمِ الأنا الذاتي في إطار تمثيلها اللاواعي، ليصار إلى سَبْر أغوار تضميناتهما في التحليل النفسي باعتباره فرعًا من فروع الدراسة معنيًّا في نهاية المطاف بشخص مُفرَد ومحدَّد. وهكذا، سيناقش المقال كيفية الترادف بين معنى القَسِيم الذاتي للأنا (اللاواعية) وبين معنى ذلك الشخص المُفرَد والمحدَّد بوصفه تعميمًا أو تجريدًا، يُشار إليه في التنظير اللاكاني، على الإجمال، بمصطلح "المُسْنَد إليه" the subject. سيتطرّق المقال، عندئذٍ، إلى المضمونين "السلوكيين" المتضادّين لهذا المصطلح: المضمون الفاعلي والمضمون المنفعلي، وسيتطرّق، من ثمّ، إلى وِضْعَته النظرية غير المبتوت في أمرها في مؤلفات فرويد، الأمر الذي كان، على الأرجح، داعيًا أساسيًا لأن يحتلّ المصطلحُ مكانَ صدارة في مؤلفات لاكان. فمن وجهتي النظر الفلسفية واللغوية كلتيهما، سيعرض المقال الأنواعَ الثلاثة المتميزة من المُسند إليه: المسند إليه اللاشخصي، والمسند إليه غير المعرَّف (أو غير المسمَّى)، والمسند إليه الشخصي، وسيحاول أن يروزَ مفاهيمَ هذه الأنواع الثلاثة، وذلك بالاستناد إلى المسألة المنطقية التي يضعها لاكان بوصفها مغالطةً جديدة new sophism. وعلى ذلك، سيشدّد المقال تشديدًا خاصًّا على مفهوم المسند إليه الشخصي (بالإضافة إلى مفهوم الأنا "الشخصية" التي تستكنّ فيه)، فيدلّ بذلك على المقايسة الثنائية بين القَسِيمَيْن الموضوعي والذاتي للأنا وبين التمثيلين الواعي واللاواعي للمسند إليه (من حيث كونه الشخصَ الناطقَ بلسان ضمير المتكلم المُفرَد "أنا")، على الترتيب. وسيعمد المقال، أيضًا، للإشارة إلى الفارق المفهومي بين كلّ من يعقوبسون ولاكان في تعريف ضمير المتكلم المُفرَد "أنا" على أنه "مُتغيِّرٌ (ضميريٌّ)" shifter: ففي حين ينظر يعقوبسون إلى المتغيّر (الضميري) هذا باعتباره "رمزًا قرائنيًّا" indexical symbol، ينظر لاكان إليه باعتباره "دالاً قرائنيًّا" indexical signifier، فيضع التوكيد، والحالة هذه، على التناقض الكامل بين البيان التصريحي statement والبيان التلفُّظي enunciation للمسند إليه. سيتضح، إذن، أن هذا التناقض الكامل بين البيانين لمتطلَّبٌ ضروري يحدو بالمسند إليه إلى تردُّده المتأصِّل، ومن ثمّ إلى انقسامه الراسخ، بين ضمير المتكلم المُفرَد الواعي في البيان التصريحي، من جهة، وبين ضمير المتكلم المُفرَد اللاواعي في البيان التلفُّظي، من جهة أخرى: إذ يظهر أن فكرة انقسام المسند إليه بهذا المعنى، أو انشطاره بالحري، لمردُّها في الأصل إلى مفهوم فرويد عن ماهية "الأنا المنشطرة" split ego (أو "ضمير المتكلم المُفرَد المنشطر" split-I، على حدّ تعبيره). أخيرًا، سيبيّن المقال أن التردُّد المتأصِّل للمسند إليه وانقسامه الراسخ هاذين لَسِمَتان ناجمتان عن انسلابه واغترابه المقدَّرين قَبْليًّا من خلال تمثيل اللغة المستديم لوجوده وتفكيره على حدٍّ سِوىً، اللغةِ التي تبتكر عالمَ الأشياء، من طرف، والتي يَبُثُّها الدالُّ signifier بوصفه وسيطَها الرئيسي في عالم الأفكار، من طرف ثانٍ. الشرح كما تمّت مناقشته في مقال سابق[1]، تمور النفس الإنسانية، على ما يبدو، في تمزُّق مستديمٍ أمامَ ذلك التنافر (أو الاختصام) المستمرّ ببقائه بين مبدأ الواقع، بكونه المبدأ الذي يرشد أعمالَ الأنا (الشاهدة)، وبين مبدأ اللذّة، بكونه المبدأ الذي يوجّه أعمالَ الأنا الغائبة، تنافرٍ (أو اختصامٍ) قد تفاقمه تلك القسوةُ "بتعسُّفها" وتلك الصرامةُ "بتقشُّفها" اللتين يقضي بهما مبدأ الخُلْق، باعتباره المبدأ الذي يحكم أعمالَ الأنا العليا. وممّا لاريب فيه أنّ التنافر (أو الاختصام) المتواصل هذا لَتتأصّل جذوره في ميول الجهاز النفساني، عمومًا، إلى التشبُّث الحَرون بمصادر إشباع الرغبة الحسّية/اللبيدية في الحيازة على اللذّة (سواء كانت هذه المصادرُ "جنسيةً" بمعناها الحرفي أم غيرَ ذلك من معاني الإسنادات المجازية)، من جهة، و(تتأصّل جذوره) في الجَهْد الجَهيد الذي يكابده الجهاز النفساني عينُه إزاءَ الارتداد عن تلك المصادر، من جهة أخرى. فإذا وَهُن مبدأ الخُلْق في سَرَيان تأثيره وَهَنًا أخلاقيًا، ثمّ أصبح، فيما بعدُ، عاجزًا عن "رقابة" مبدأ اللذّة، فللوَهَن الأخلاقي، آنئذٍ، أن "يَسْريَ" إلى مبدأ الواقع، إن جاز القول، وأن يجدَ هذا المبدأ ذاتَه، بدوره، قائمًا قُبالةَ واحدٍ من مصيرين بديلين محتملين (أو كليهما): - أولاً، مصيرٌ يعتريه خسرانُ مبدأ الواقعِ الكاملُ لقدرته على صَوْن التوازن الرَغَبي والمِنْيَوي (نسبة إلى المِنْية)، بوصفه توازنًا لاغنىً عنه في الإمتاع الذاتي للأنا (الشاهدة). - وثانيًا، مصيرٌ يعتوره إذعانُ عقلانيةِ المبدأ نفسهِ المطلقُ للشطحات (الخيالية) اللاعقلانية التي تطلقها اللزوبية الجنسية، أو اللبيدية، في الأنا الغائبة، نظرًا لكون تلك العقلانية، على ما يظهر، عقلانيةً قد وَهُنت كذلك وَهَنًا أخلاقيًا عن طريق "السَرَيان" المنوَّه عنه. فمن جرّاء العواقب النفسانية لهذين المصيرين المحتملين وقابليةِ إدراكها، تمور النفس الإنسانية في تمزُّق أشدَّ ضراوة ً بين الأنا (الشاهدة)، من ناحية، حينما تنجرف في تيّار العالم الشواشي الذي يكمن في الأنا الغائبة (إذ تتكشّف الماهية النفسانية الأولى، والحالة هذه، عن طبيعة غير منسَّقة كطبيعة الماهية النفسانية الأخيرة) وبين الأنا (الشاهدة) عينها، من ناحية أخرى، ولكن عندما تنغمس انغماسًا ذاتيًّا في الإشباع اللاموجّه للنزوعات الرَغَبية التي تضمرها الأنا الغائبة (إذ تنجلي الماهية النفسانية الأولى، والحالة هذه، عن طبيعة شَهْوية كطبيعة الماهية النفسانية الأخيرة). وفي كلّ من الحالتين، إذن، لاشيءَ ثمّة، فيما يبدو، يُخلي سبيلَ الانفلاتِ لخلاص الأنا (الشاهدة) من المَوْر في التمزُّق المستديم الآنف ذكره، لأنّ الماهية النفسانية هذه، من حيث تشبيهها بـ"من يمتطي صهوة حصان، في إطار علاقتها بالأنا الغائبة"، سيكون حكمها وإدانتها إما النسيانَ الاجتماعي (بموجب المصير الأوّل) وإما النبذَ الاجتماعي (بموجب المصير الثاني). علاوة على ذلك، حتى في حال "نجاة" الأنا (الشاهدة) من كلا المصيرين، إذ لا يَوْهُن مبدأ الخُلْق، والحال هذه، وَهَنًا أخلاقيًا، ستبقى النفس الإنسانية مائرةً في تمزُّقها المستديم يتعاورها تناقضٌ مطلقٌ لا مناصَ منه، ذلك التناقضُ الكاملُ بين الأحكام الخاطئة التي تطلقها الأنا (الشاهدة) إطلاقًا "واعيًا" وبين الأحكام الصائبة التي تطلقها الأنا الغائبة إطلاقًا لاواعيًا، بحيث إنّ الخطأ الصريحَ يوحي إلى القَسِيم الموضوعي للأنا الواعية، من طرف، وإنّ الصواب الضمني يلمع إلى القَسِيم الذاتي للأنا اللاواعية، من طرف آخر. يتبيّن ممّا تقدّم، إذن، أنّ النفس الإنسانية، لدى مِساسها بأدنى تجلٍّ من تجلِّيات ذلك التناقض الكامل بين الأحكام الخاطئة والأحكام الصائبة، ستغدو نفسًا مركّبة تتضمّن ماهيّاتٍ نفسانيةً متعاضدةً ثلاثًا: الأنا الغائبة وشَفَفَها عن طبيعة شَهْوية، والأنا (الشاهدة) وطيَّها على طبيعة عقلانية، والأنا العليا ونمَّها عن طبيعة رقيبة. وفضلاً عن ذلك، تتكشّف الأنا (الشاهدة) بطبيعتها العقلانية، بدورها هي الأخرى، عن قَسِيمها الموضوعي في إطار تمثيلها الواعي وعن قَسِيمها الذاتي في إطار تمثيلها اللاواعي. وينجلي هذا التمثيل الأخير، بدوره هو الآخر، عن مواءمته وذلك التشابه (الجوهري) الحاسم بين الأنا الغائبة، باعتبارها ماهية نفسانية فطرية، وبين الأنا (الشاهدة)، باعتبارها ماهية نفسانية فطرية-مكتسبة، لدى الحضور الناشئ للأنا العليا، على أنّها ماهية نفسانية مكتسبة. فإذا كان القسيم الذاتي للأنا (الشاهدة) في إطار تمثيلها اللاواعي يرادف بمعناه معنى الهوية المُنوَّه عنه في مقال سابق[2]، وإذا كان التحليل النفسي، سواء من حيث جانبه النظري أم من حيث جانبه العملي، فرعًا من فروع الدراسة معنيًّا في الأساس بشخص مُفرَد ومحدّد، فإنّ القسيم الذاتي للأنا (الشاهدة) في إطار تمثيلها اللاواعي، عندئذٍ، لَيرادف بمعناه معنى ذلك الشخص المفرد والمحدّد بوصفه تعميمًا أو تجريدًا، يُشار إليه في التنظير اللاكاني، على الإجمال، بمصطلح "المُسْنـَد إليه" the subject، شخصٍ مفرد ومحدّد يتمثّل تخصيصه أو تمديته (أي جعله مادّيًّا) في الطفل أو في المريض[3]. ومن القمين بالذكر، في هذا الصدد، أنّ فرويد نفسَه لا يستخدم مصطلح "المُسْنـَد إليه" على اعتباره مُبْتنىً (أو مُنْشَأً) نظريًّا بحكم استحقاقه التنظيري، بل يجزم بقوله مستدرِكًا بأنّ النفس الإنسانية، بكلّيتها الثلاثية، لا تزال تخضع لأحكامِ ثلاثٍ من الثنائيات التضادّية المتميّزة، أيضًا، ألا وهي: "الذات- الموضوع" subject-object، و"اللذّة- اللالذّة" pleasure-unpleasure، و"الفاعل- المنفعل"active-passive . فمن الثنائية التضادّية "الذات- الموضوع"، إذن، يقصد فرويد، ببساطةٍ، التفاعلَ المتعدّد الأشكال إلى حدّ بعيد بين الأنا (الشاهدة) وبين ما يسمّيه بـ "اللاأنا" (الحاضرة)، فيدلّ بذلك القصد على موازاة مفهومية بين الأنا (الشاهدة) والذات، أي ذاتِ "المُسْنـَد إليه"، من طرف، وعلى موازاة مفهومية بين اللاأنا (الحاضرة) والموضوع، أي موضوع العالم الظاهري، من طرف آخر. وعلى حدّ تعبير فرويد، من هذا الخصوص، فإنّ الثنائية التضادّية هذه "يتمّ إقحامها بالإكراه في [دخيلة] الفرد/المتعضّي في مرحلة مبكّرة"، فيصار من ثمّ إلى "إبقائها، فوق كلّ شيء، مهيمنةً على نشاطنا الفكري" في مرحلة متأخّرة[4]. وبصرف النظر عن الثنائية التضادّية "اللذّة- اللالذّة"، تلك الثنائية التي تقرّر ضروبَ النشاط الإنساني (كالنيابة أو الإرادة الإنسانيتين)، والتي تقترن بالمدى المعياري المقرِّر للمشاعر والأحاسيس الدفينة، تروم الثنائية التضادّيةُ "الفاعل- المنفعل" التوكيدَ على الطبيعة المزدوجة لذات "المُسْنـَد إليه" في إطار علاقتها "السلوكية" بموضوع العالم الظاهري: ففي مقام أوّلي، يتجسّد المُسْنـَد إليه كائنًا منفعلاً، أو "مستقبِلاً متلقّيًا"، مادامت تحفّزه معطيات العالم الظاهري؛ وفي مقام ثانوي، يتجسّم المُسْنـَد إليه كائنًا فاعلاً، أو "مرسِلاً منتِجًا"، إن كان يستجيب لمعطيات العالم نفسه. وهكذا، فيما يظهر، من المحتمل جدًّا أن تكون الطبيعة المزدوجة للمسند إليه هذه، من خلال تمثيلها في شكل تفاضلي لثنائية تضادّية، ومن جرّاء وِضْعتها النظرية غير المبتوت في أمرها في مؤلفات فرويد، باعثًا رئيسيًّا على أن يحتلّ المصطلحُ ومُبْتناه (أو مُنْشَأه) النظري، برمّته، مكانَ صدارة في مؤلفات لاكان. وفي هذه القرينة، فإن ما يمكن استنباطه بسهولة ويسر من تنظير لاكان حول مُبْتنى المسند إليه كتعميم أو كتجريد، هو أنه يتسم، قبل كل شيء، بسمة الكائن الشخصي personal، على خلاف كل من المبتنى الذي يتكشف عن سمة الكائن اللاشخصي impersonal والمبتنى الذي ينجلي عن سمة الكائن غير المعرّف undefined (أو غير المسمّى anonymous). ومن حيثية الرأي الذي ارتآه لاكان عن روية في مؤلفاته الأخيرة، ذلك الرأي القائل بأن "المسند إليه [على سجيّته] لن يكون أكثر من كائن مفترَض "فيما له مِساس بتلك السجيّة[5]، يتبين أن أنواع المسند إليه الثلاثة هذه ليسيرة ُ الاستدراك بمبانيها ولكنها عسيرة الإدراك بمعانيها، نظرًا لعمق دلالاتها الفلسفية واللغوية على حد سواء. لهذا السبب، سيُعمد في هذا المقال إلى محاولة في استكناه ما تنطوي عليه تلك المبتنيات من فحاو بالغةٍ من التعقيد مبلغًا، وذلك بالإشارة إلى مقال لاكان الزمن المنطقي وتوكيد اليقين المُرْتَقَب: مغالطة جديدة، ذلك المقال الألمعي الذي يحفل بالإثارة الفكرية، على الرغم من غلوائه في الغموض والإبهام[6]. في هذا المقال، يطرح لاكان مسألة منطقية على بساط البحث بوصفها مغالطة جديدة new sophism، مسألةً يمكن عَرْضها بوجيز العبارة على النحو التالي: دعا سجّانٌ سجناءَ ثلاثةً من اختياره، ثم أعلن لهم تمتّعَه بمطلق الصلاحية في إخلاء سبيل أحدهم. ولكن، قبل أن يتخذ السجانُ قرارَ إخلاء السبيل هذا، أراد أن يعهد بالنتيجة إلى اختبار مشروط، وأن يُجريَ هذا الاختبار على السجناء الثلاثة بموافقتهم. يقتضي الاختبار أن قرصًا واحدًا مجهولاً يتمّ توخّيه من بين أقراص خمسة معلومة، أقراص متماثلة تمامًا لا تختلف عن بعضها البعض إلاّ باللون (ثلاثة بيضاء واثنين أسودين)، ليصار إلى تثبيته بين كتفي كل من السجناء الثلاثة، بحيث يتوضّع القرص في موضع يقع خارج مجال الرؤية المباشرة. ويستلزم الاختبار، أيضًا، منعَ كافّة الوسائل غير المباشرة لرؤية كل من السجناء الثلاثة انعكاسَه، ويستلزم، كذلك، استثناءَ جميع أشكال الحديث المتبادَل بينهم، بطبيعة الحال: إذ إن أوّل سجين في مقدوره أن يخرج من الزنزانة، وأن يستدلَّ على معرفة لون قرصه، سيفيد من قرار إطلاق السراح. فقام السجان، عندئذٍ، بتثبيت كل من الأقراص البيضاء الثلاثة بين كتفي كل من السجناء الثلاثة، كما هو مسنون. وبعد أن تأمّل السجناء الثلاثة بعضهم بعضًا لـ"زمن محدّد"، خرجوا جميعًا من الزنزانة في آن واحد، وأدلى كلٌّ على حدة بصيغة البرهان التامّ على المسألة المنطقية. من هنا، يعيد لاكان صياغة البرهان التامّ هذا بقوله: إن لونَ قرصِي أبيضُ، وإليك كيفية معرفتي إيّاه: بما أن لونَي قرصَي صاحبيَّ أبيضان، زعمت لنفسي أنه لو كان لونُ قرصِي أسودَ لكان بوسع كل منهما أن يستنتج ما يلي: "لو كان لونُ قرصِي أسودَ، أيضًا، لأدرك الآخر بلا تردّد أن لونَ قرصه أبيضُ، بالضرورة، ولغادر [الزنزانة] لتوّه. إذن، لونُ قرصِي ليس أسودَ". و[لو كان لونُ قرصِي أسودَ، أيضًا،] لغادر الاثنان [الزنزانة] معًا، وهما على يقين من أن لونَي قرصَيهما أبيضان. وبما أنهما لم يقوما بهذا الفعل [أي بما أنهما تردّدا فيه]، لا بدّ من أن يكون لونُ قرصِي أبيضَ كلونَي قرصَيهما. حينذاك، يمّمت وجهي شطرَ الباب لكي أدلي باستنتاجي. وهكذا، خرج [السجناء] الثلاثة في آن واحد محصّنين بدواعي الاستنتاج ذاتها[7]. فبالنظر إلى المسألة المنطقية هذه وبرهانها التامّ، يتضح، فيما يظهر، أن ثمّة حركتين مُرْجَأتين اثنتين دونما ترتيبٌ مكاني، حركتين تمكّنان السجناءَ الثلاثة (سمِّهم من الآن فصاعدًا "المسند إليهم: آ، ب، ج") من الإدلاء باستنتاجاتهم في غير التباس، على الرغم من أن الدالَّتين الحاسمتين لهاتين الحركتين لدالّتان جوهريتان في الالتباس المنطقي. فأما الحركة المُرْجَأة الأولى، من جهة، فتتمثل في كيفية الاستدلال المنطقي الذي كان المسند إليه- آ سيعزوه إما إلى المسند إليه- ب وإما إلى المسند إليه- ج، لو كان لونُ قرص المسند إليه- آ أسودَ: فلو كان لونُ قرص المسند إليه- ب أسودَ، أيضًا، لكان في مقدور المسند إليه- ج أن يرى قرصين بلونين أسودين أمامه، قرصَ المسند إليه- آ وقرصَ المسند إليه- ب، ولأدرك أن لونَ قرصه أبيضُ بلا تردَد، والعكس بالعكس فيما يتعلق بالمسند إليه- ج. إن ما يحدد الحركة المُرْجَأة الأولى، إذن، هو تخييرٌ بين تردّدين متقاطعين: إما أن يكون تردّدُ المسند إليه- ب قد مكّن المسند إليه- ج من إدراك أن لونَ قرصه أبيضُ، وإما أن يكون تردّدُ المسند إليه- ج قد مكّن المسند إليه- ب من إدراك أن لونَ قرصه أبيضُ، أيضًا. ووفقًا لذلك، تتحدد الحركة المُرْجَأة الأولى، والحال هذه، في حدوث تردّدٍ من نوع ما، تمكن تسميته بـ"التردّد التخييري" hesitation disjunctive. وأما الحركة المُرْجَأة الثانية، من جهة أخرى، فتتمثل في كيفية الاستدلال المنطقي الذي كان المسند إليه- آ سيعزوه إلى المسند إليه- ب والمسند إليه- ج معًا، لو كان لونُ قرص المسند إليه- آ أسودَ: فلو أدرك المسند إليه- ب والمسند إليه- ج كلاهما أن لونَي قرصَيهما أبيضان بالاستناد إلى الحركة المُرْجَأة الأولى، الحركة التي يحددها التردد التخييري المنوَّه عنه، لغادر الاثنان الزنزانة في آن واحد وبلا تردد. إن ما يحدد الحركة المُرْجَأة الثانية، إذن، هو تعطيفٌ بين تردّدين متوازيين، هذه المرة: إذ إن الإدراك "المتوازي" لكل من المسند إليه- ب والمسند إليه- ج، إدراكَ أن لونَ قرص المسند إليه- آ أبيضُ، فعلاً، لهو الذي جعل كلاً من المسند إليه- ب والمسند إليه- ج يتردد فيما إذا كان لونُ قرصه أبيضَ، بالفعل. لهذا السبب، تتحدد الحركة المُرْجَأة الثانية، والحال هذه، في حدوث تردّدٍ من نوع آخرَ، تمكن تسميته بـ"التردّد التعطيفي" hesitation conjunctive، بدلاً من التردّد التخييري. وبما أن المسند إليهم جميعَهم كانوا قد أدركوا، حقًّا، أن ألوانَ أقراصهم بيضاءُ من أثر تأمّلهم بعضهم بعضًا لـ"زمن معيّن"، وأنهم، فيما بعد، خرجوا من الزنزانة في آن واحد محصَّنين بأسباب هذا اليقين، فإن كلاً من المسند إليهم هؤلاء كان قد مكّنته الحركتان المُرْجَأتان كلتاهما من الاستدلال على البرهان التامّ للمسألة المنطقية. وهكذا، يبدو أن الحركتين المُرْجَأتين هاتين قد أدّتا وظيفة َ ما تمكن تسميته الآن بـ"الدالّ التَيْهاوي" aporetic signifier (نسبة إلى التَيْهاء)[8]، الدالّ الذي يؤدّي، بدوره، وظيفةَ ما يدعى بـ"النقطة العمياء" blind spot في البصريات، لمجرّد أن الاستدلالات المتزامنة التي استدلّ بها المسندُ إليهم لم يتمَّ بناؤها على أساس ما كانوا يرونه في الحقيقة (أي الأقراص البيضاء الثلاثة)، بل تمّ بناؤها على أساس ما لم يكونوا يرونه (أي القرصين الأسودين). وبالتالي، تتبدّى ثلاثُ توافقياتٍ باحتمالاتها المنطقية (••ە، •ەە، ەەە)، وتتفرّد منها توافقيتان اثنتان (••ە، •ەە)، تانك التوافقيتان اللتان لم يكن لهما وجودٌ سوى "وجود" دالَّين تيهاويين (أو نقطتين عمياوين)، ولكنهما، مع ذلك، حَدَتا بالمسند إليهم جميعهم إلى الاستدلال الصحيح على التوافقية الوحيدة، والوحيدة فقط (ەەە)، بوصفها مُعْطىً من المعطيات القَبْلية[9]. وبالنظر إلى الحركتين المُرْجَأتين هاتين وعمليهما كدالَّين تيهاويين، يتبيّن الآن، فيما يبدو، أن ثمّة لحظاتٍ برهانيةً ثلاثًا دونما ترتيبٌ زماني، لحظاتٍ تحدو بالمسند إليه (سواء تمثَّل في المسند إليه- آ أم في المسند إليه- ب أم في المسند إليه- ج) إلى الإدلاء باستنتاجه من غير التباس، إذ إن القيم المنطقية لهذه اللحظات البرهانية تنطوي على أشكال مختلفة وتراتيبَ تصاعدية. فأما اللحظة البرهانية الأولى، فيحدّدها الاستدلال المنطقي الذي ينبني على أساس التوافقية الأولى (••ە) بوصفها بيانًا شرطيًّا احتماليًًّا، أي قابلاً للوقوع، نحو: "إن كان أحدهم رأى قرصين بلونين أسودين فسيعلم أن لونَ قرصه أبيضُ": إذ يدلّ البيان الشرطي الاحتمالي، والحال هذه، على "الاستثناء المنطقي"، أي أن التوافقية (•••) مستثناة استثناءً منطقيًّا. تتمثل اللحظة البرهانية الأولى، إذن، في لحظة الارتجال (المُضْمَر) glancing moment، لأن جملة الشرط كمعطىً قَبْلي في البيان الشرطي الاحتمالي (أي "إن كان أحدهم رأى قرصين بلونين أسودين") يتمّ تحويلها إلى جواب الشرط كمعطىً "بَعْدي" في البيان الشرطي ذاته (أي "فسيعلم أن لونَ قرصه أبيضُ"). ووفقًا لذلك، فإن المسند إليه الذي يتبنى جواب الشرط في البيان الشرطي الاحتمالي ليلمع إلى المسند إليه اللاشخصي في هيئة عبارةٍ تبعيضية لاتشخيصية، نحو: "يعلم أحدهم أن....". وأما اللحظة البرهانية الثانية، فيحدّدها الاستدلال المنطقي الذي ينبني على أساس التوافقية الثانية (•ەە) بوصفها بيانًا شرطيًّا امتناعيًّا، أي غيرَ قابل للوقوع، بدلاً من البيان الشرطي الاحتمالي، نحو: "لو كان لونُ قرص أحدهم أسودَ، لعلم الآخران اللذان يراهما علم اليقين أن لوني قرصيهما أبيضان (بلا تردّد).": إذ يدلّ البيان الشرطي الامتناعي، والحال هذه، على "معرفة حدسية" بشيء ما لا ينتمي إلى نطاق المعطيات الحقيقية، أي رؤية قرصين بلونين أبيضين ضمن التوافقية (ەە). تتجلَّى اللحظة البرهانية الثانية، إذن، في لحظة الإدراك (المُضْمَر) comprehending moment، لحظةٍ تحتوي على اللحظة البرهانية الأولى، أي لحظة الارتجال (المُضْمَر)، لأن كلاً من المسند إليهما الآخريَن ذوَي القرصين الأبيضين سيرى أمامه قرصًا أسود وقرصًا أبيض ضمن التوافقية (•ە)، وسيعلم، من ثمّ، أن لونَ قرصه أبيضُ استنادًا إلى تردّد شبيهه الآخر. وتبعًا لذلك، فإن المسند إليه الذي ترجىء استنتاجَه سببيةٌ تبادلية حيالَ تبنِّيه جوابَ الشرط في البيان الشرطي الامتناعي، ليوحي إلى المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى) في صورة عبارةٍ تعاضدية لاتعريفية (أو غُفْلِية)، نحو: "يعلم أحدهم لدى علم الآخر أن....". وأما اللحظة البرهانية الثالثة، فيحدّدها الاستدلال المنطقي الذي ينبني على أساس التوافقية الثالثة (ەەە) بكونها بيانًا لاشرطيًّا إراديًّا، هذه المرّة، نحو: "يريد أحدهم أن يعلن أنّ لونَ قرصه أبيضُ قبل أن يريد الشبيهان الآخران أن يعلنا أنّ لوني قرصيهما أبيضان.": فيدلّ البيان اللاشرطي الإرادي، في هذه الحالة، على "توكيد حُكْمي/قراري" أو على "أصالة منطقية"، نظرًا لاستمرار اللحظة البرهانية الثانية، أي لحظة الإدراك (المُضْمَر)، في الزمن الذي تستغرقه عملية التفكير. تتبدّى اللحظة البرهانية الثالثة، إذن، في لحظة الاستنتاج (المُضْمَر) concluding moment، لحظةٍ تتأوَّج في الاستدلال الصحيح على برهان المسألة المنطقية، لأن كلاً من المسند إليهم الثلاثة ذوي الأقراص البيضاء يستند بحكمه أو قراره إلى تردّد شبيهَيْه الآخرَيْن. وبناء على ذلك، فإن المسند إليه الذي يتبنى البيان اللاشرطي الإرادي، بكلِّيته، ليشير إلى المسند إليه الشخصي في شكل عبارةٍ تفرُّدية تشخيصية، نحو: "أعلم أن....". فيما يتعلق بالمسند إليه اللاشخصي، المسندِ إليه الذي يمكن الآن استشفافه من جواب الشرط في البيان الشرطي الاحتمالي في هيئة عبارةٍ تبعيضية لاتشخيصية، نحو: "يعلم أحدهم أن...."، فإن المبتنى النظري لهذا المصطلح يتمّ تعليله بلغة ما هو معروف بالمسند إليه "التعقُّلي" noetic أو "التفكُّري" cogitative [10]. وحسبما يدلّ عليه "التعقُّل" أو "التفكُّر" من دلالة أو دلالات فلسفية، يظهر أن المبتنى النظري للمسند إليه اللاشخصي يلفت الانتباه إلى الأهمّية الكبرى التي تكتسبها العمليات الذهنية من جراء استخدامها الواعي في الإدراك وفي التفكير، على الأخصّ حين تسير هذه العمليات الذهنية بمعزل عن مسار عمليات ذهنية أخرى، عمليات تشابهها في الطريقة أو الطرائق الاستدلالية ولكنها تختلف عنها في النطاق التعقُّلي أو التفكُّري. قياسًا على ذلك، يتضمّن المبتنى النظري للمسند إليه اللاشخصي معنى الاستقلال النفساني الذي تمتاز به النيابة الإنسانية المعنية عن أية نيابة إنسانية أخرى، بحيث يُعبَّر عن هذه النيابة الإنسانية الأخيرة بكلمة "الآخَر" ليس غير، الآخر الذي يمتاز، بدوره، باستقلال نفساني خاصّ به. وعلى ضوء العبارة التبعيضية اللاتشخيصية "يعلم أحدهم أن...."، فإن القصد من معنى "لاتشخيصية" المسند إليه، إذن، هو أن تكون النيابة الإنسانية المعنية على علم بذاتها، ولكن ليس لها علمٌ بذات الآخَر في اللحظة البرهانية الأولى، أي لحظة الارتجال (المُضْمَر). من هذه الزاوية، لعلّ أقرب تمثيل بنيوي يمكن له أن يحمل دلالة "التعقُّل" أو "التفكُّر" التي يدلّ عليها المبتنى النظري للمسند إليه اللاشخصي، هو ما يُسمّى ببنية "المجهول اللاشخصي" impersonal passive في اللسانيات، كما هي الحال في البيان التصريحي الآتي، ذلك البيانِ القابل للتفاهم بأيٍّ من الأساليب المحسوسة للغة، سواء كان هذا الأسلوبُ أسلوبًا فونيميًّا phonemic في الكلام أم أسلوبًا غرافيميًّا graphemic في الكتابة، نحو: قيلَ إنّ لاكانَ قد يكون، أو قد لا يكون، مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور. وهكذا، فإن الشخص الوحيد، أو المسندَ إليه اللاشخصي، بالأحرى، الذي أمكن له أن يصدر هذا البيان التصريحي، حقًّا، ليقبع في مكان ما من "دُكْنة" ذلك المكوِّن الذي يعمل نائبَ فاعلٍٍ acting agent للفعل المجهول اللاشخصي "قيلَ إن" بمعناه النحوي الصرف، أي ضمير الغائب المفرد المذكر المستتر "هو". ومن ثمّ، يقوم نائب الفاعل هذا مقامَ ما يُعرف بالحاشي الاسمي nominal expletive [11]، الحاشي الذي يقبل الاستبدالَ بمثال من أمثلة ما يُدعى بالمُكَمِّم التبعيضي partitive quantifier، نحو: "أحدهم"[12]، مثالٍ بوصفه الشخص الذي يصدر البيان التصريحي إصدارًا مباشرًا، دونما تأثيرٌ مباشر أو غيرُ مباشر على غياب المعرفة الذاتية لذلك الشخص، نحو: قال أحدهم إنّ لاكانَ قد يكون، أو قد لا يكون، مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور. من هنا، يتضح أن المسند إليه اللاشخصي يحتوي على أنا لاشخصيةٍ كذلك، أنا لا تبدي أيًّا من مضموني الفاعلية والمنفعلية اللذين أشير إليهما آنفًا، بحسب تنظير فرويد، إذ لا توجدُ ثمّةَ أنا أخرى لكي تقيمَ معها القسيمَ النفسانيَّ للتفاعل بين الحافز والاستجابة، ذلك التفاعل الذي يتمثّل تمثُّلاً "سلوكيًّا" في الثنائية التضادّية الثالثة "الفاعل- المنفعل" active-passive، كما ذكر. وفيما يخصّ المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى)، المسندَ إليه الذي يمكن الآن فهمه من جواب الشرط في البيان الشرطي الامتناعي في صورة عبارةٍ تعاضدية لاتعريفية (أو غُفْلِية)، نحو: "يعلم أحدهم لدى علم الآخر أن...."، فإن المبتنى النظري لهذا المصطلح يتمّ تفسيره بلغة ما هو معروف بالمسند إليه ذي الطابع التبادلي المحض، المسندِ إليه الذي يقدّم كينونته كما يقدّم كينونة الآخر في حدّ ذاته[13]. على هذا الأساس، لن يكون بوسع المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى) أن يميّز ذاته إلاّ من حيثية ذات الآخر، ولن يكون في مقدوره، من ثمّ، أن يكتنه استقلاله النفساني، أو "معنى" هُويّته المُدْرَك بالحري، إلاّ من خلال التكافؤ المطلق بين ذاته وبين ذات الآخر. يدلّ ذلك على أن النيابة الإنسانية المعنية، بمقتضى طابعها التبادلي المحض، لتتماثل كلَّ التماثل مع أية نيابة إنسانية أخرى، بحيث يمكن إحلال النيابة الإنسانية الأولى محلَّ النيابة الإنسانية الأخيرة، دونما إجحافٌ بكينونة أيٍّ منهما. لهذا السبب، يبدو أن المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى) لا يَحيد حُيودًا مفهوميًّا عن المسند إليه اللاشخصي، في الجوهر، لأن كلاً من المبتنيين النظريين هاذين يفترض كمونًا "انتقاليًّا" transitional، إذا جاز التعبير، أو كمونًا "متعدّيًا" transitive، على حدّ تعبير لاكان، ذلك المصطلح الذي يتضمّن معنى "الانتقال" بحرفيّته، من طرف، ويتضمّن كذلك معنى "التعدية" بمنظورها اللغوي، من طرف ثانٍ. فقد يمتّ المصطلح بمعناه الأخير، إذن، بصلة ما إلى المعنى الجذري لمصطلح "الدمج" (= التماهي) identification في إطار سياقه المتعدّي الثنائي، تحديدًا، ذلك المعنى الذي يدلّ على علاقة المماثلة أو المطابقة بين شخصين أو شيئين، كما تمّت الإشارة إليه في مقال سابق[14]. وعلى ضوء العبارة التعاضدية اللاتعريفية (أو الغُفْلِية) "يعلم أحدهم لدى علم الآخر أن...."، فإن القصد من معنى "لاتعريفية (أو غُفْلِية)" المسند إليه، إذن، هو أن تكون النيابة الإنسانية المعنية على معرفة من ذاتها، أيضًا، ولكن لهذه المعرفة الذاتية أن تسلك مسلكًا مرهونًا بمسلك المعرفة الذاتية للآخَر في اللحظة البرهانية الثانية، أي لحظة الإدراك (المُضْمَر)، والعكس بالعكس بالنسبة إلى هذا الآخَر، بطبيعة الحال، نظرًا لاتسامه بالتبادلية المحض كذلك. مرّة أخرى، لعلّ أقرب تمثيل بنيوي يمكن له أن يضمر دلالة "التبادلية المحض" التي يدلّ عليها المبتنى النظري للمسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى)، هو ما يُدعى ببنية "المعلوم اللاشخصي" impersonal active في اللسانيات، خلافًا لبنية "المجهول اللاشخصي" في حالة المسند إليه اللاشخصي. إذ يمكن رصدُ التمثيل البنيوي التقريبي هذا في استعمالِ واحدٍ من نوعين محدَّدين من أنواع المُكَمِّمات، هما: المُكَمِّم الإفرادي distributive quantifier، نحو: "كلّ منهم"، والمُكَمِّم الشمولي universal quantifier، نحو: "كلّهم"[15]، بوصفهما النيابتين اللتين تصدران البيان التصريحي إصدارًا مباشرًا، كما يتبين ذلك من البيانين التصريحيين التاليين، نحو: قال كلّ منهم إنّ لاكانَ قد يكون، أو قد لا يكون، مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور. قال كلّهم إنّ لاكانَ قد يكون، أو قد لا يكون، مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور. وبصورة مشابهة، يتضح، أيضًا، أن المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى) يحتوي على أنا غير معرّفةٍ (أو غير مسمّاةٍ) كذلك، أنا لا تُظهر أيًّا من مضموني الفاعلية والمنفعلية اللذين أشير إليهما آنفًا، بحسب تنظير فرويد، لأن كافّة الأنوات الأخرى، والحالة هذه، لأنواتٌ منفصلة (انفصالاً نفسانيًّا) عن تلك الأنا. وبالتالي، فإن كافّة الأنوات الأخرى ستقيم مع تلك الأنا مُجْمَلَ الأقسماء النفسانية للتفاعل بين الحافز والاستجابة، ذلك التفاعل الذي يتمثـّل تمثُّلاً "سلوكيًّا" في الثنائية التضادّية الثالثة "الفاعل- المنفعل" active-passive، كما ذكر أيضًا. وفيما له مِساسٌ بالمسند إليه الشخصي، على النقيض من ذلك، المسندِ إليه الذي يمكن الآن إدراكه من البيان اللاشرطي الإرادي، برمّته، في شكل عبارةٍ تفرُّدية تشخيصية، نحو: "أعلم أن...."، فإن المبتنى النظري لهذا المصطلح يتمّ تعريفه بالمسند إليه ذي الأصالة المنطقية، المسندِ إليه العارف الذي "ينتحل" كلاً من كينونة المسند إليه اللاشخصي وكينونة المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى) في كلّ من اللحظتين البرهانيتين الأوليين: لحظة الارتجال (المُضْمَر) ولحظة الإدراك (المُضْمَر)[16]. ووفقًا لذلك، فللمسند إليه الشخصي، في كلّ من اللحظتين البرهانيتين تينك أو كلتيهما، على وجه التحديد، أن يؤسِّس استقلاله النفساني عن كينونة الآخَر، كما هي الحال في المسند إليه اللاشخصي، وأن يجسِّد كذلك مدى التكافؤ المطلق، ومن ثمّ مدى قابلية الاستبدال المتساوي، بين ذاته وبين ذات الآخَر، كما هي الحالة في المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى). من وجهة النظر هذه، إذن، يظهر أن اجتماعَ صفتي الاستقلال النفساني والتكافؤ المطلق ذينك، في كينونة المسند إليه الشخصي، لَيتجلَّى بمثابة دليلٍ استهلالي من دلائل انقسامه الراسخ، أو انشطاره بالحري، كما سيتمّ إيضاحه بعد قليل. غير أن كينونة المسند إليه الشخصي تختلف اختلافًا جوهريًّا عن كلّ من كينونة المسند إليه اللاشخصي وكينونة المسند إليه غير المعرّف (أو غير المسمّى) في اللحظة البرهانية الثالثة، أي لحظة الاستنتاج (المُضْمَر)، إذ ليس في مقدور أيٍّ من المسند إليهما الأخيرين أن "ينتحل" كينونة المسند إليه الشخصي في أية لحظة من اللحظات البرهانية الثلاث، وذلك بمقتضى افتراضه كمونًا لاانتقاليًّا non-transitional، أو كمونًا لامتعدِّيًا non-transitive، بالقياس إلى مصطلح "التعدية"، بحسب مفهوم لاكان. يعني ذلك أن "التوكيد الحُكْمي/القراري"، الآنف الذكر، لتوكيدٌ يعبّر به المسندُ إليه الشخصيُّ عن ذاته، دون سواه، في لحظة الاستنتاج (المُضْمَر): فهو، من ثمّ، توكيدٌ يستحيل على أيٍّ من المسند إليهما الآخَرَين استحالة قطعية أن يعزوَه إليه (أي المسند إليه الشخصي) من ذاته، سواء كان هذا العزوُ متحفظًا أم غيرَ متحفظ. إن ما يمكن عزوُه إلى المسند إليه الشخصي، إذن، هو استحالة العزوِ عينُها، نظرًا لخصوصيته المُدْرَكة وفذاذته القابلة للإدراك، تينك السجيّتين أو "النسبتين" اللتين تكتسبهما النيابة الإنسانية المعنية على أنهما نشاطان "غيرُ متعمَّدين" من نشاطات توكيد الذات أو حتى تقرير المصير. وعلى ضوء العبارة التفرُّدية التشخيصية "أعلم أن...."، فإن القصد من معنى "تشخيصية" المسند إليه، والحال هذه، هو أن تكون النيابة الإنسانية المعنية على معرفة من ذاتها، أو لا تكون، سواء كانت هذه الذات مجهولة للآخَر في اللحظة البرهانية الأولى، أي لحظة الارتجال (المُضْمَر)، أم معلومة لذاتها في مسار مرهون بمسار المعرفة الذاتية للآخَر في اللحظة البرهانية الثانية، أي لحظة الإدراك (المُضْمَر). لهذا السبب، لعلّ أقرب تمثيل بنيوي يمكن له أن يلمّح إلى ذينك النشاطين "غير المتعمَّدين" لتوكيد الذات أو تقرير المصير، هو دالٌّ signifier ذو ميزة دلالية معيّنة، فيما يبدو، دالٌّ لا بدّ له من أن ينفيَ نفيًا لاواعيًا ذلك البيانَ التلفُّظيَّ enunciation الذي تصدره (إصدارًا باطنيًّا) تلك النيابةُ الإنسانية المعنية لدى استخدامها المباشر لأحد الضمائر الشخصية المتصلة، كتاء الفاعل المتحرّكة، بحيث يتبدّى كلٌّ من هذه الضمائر وكأنه نيابة إنسانية أخرى، نيابة تصدر (إصدارًا ظاهريًّا) ذلك البيانَ التصريحيَّ statement الذي تمّ الاستشهاد به من قبل، نحو: قلت إنّ لاكانَ قد يكون، أو قد لا يكون، مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور. من هنا، يتبيّن أن المسند إليه الشخصي، على العكس من كلّ من المسند إليهما الآخَرَين، يحتوي على أنا شخصيةٍ كذلك، أنا تقتضي كلاً من مضموني الفاعلية والمنفعلية اللذين أشير إليهما آنفًا، بحسب تنظير فرويد: إذ ليست كلُّ "نيابات" الأنوات الأخرى، رغمَ كونها أنواتٍ منفصلةً (انفصالاً نفسانيًّا) عن تلك الأنا، نياباتٍ تقيم معها (أي تلك الأنا) مُجْمَلَ الأقسماء النفسانية للتفاعل بين الحافز والاستجابة، ذلك التفاعل الذي يتمثّل تمثُّلاً "سلوكيًّا" في الثنائية التضادّية الثالثة "الفاعل- المنفعل" active-passive، كما تمّ ذكره أيضًا. ينتج عمّا تقدّم، إذن، أن الدالَّ الذي لا بدّ له من أن ينفيَ البيانَ التلفُّظيَّ للمسند إليه نفيًا لاواعيًا لدالٌّ ليس له دليلٌ مرئي ولا مسموع في أيٍّ من مكوّنات البيان التصريحي المستشهَد به قبل قليل. وذلك لأن الضمير الشخصي المتصل، أي تاء الفاعل المتحرّكة، يوحي إلى ما يسمّيه يعقوبسون بمصطلح "المتغيّر (الضميري)" shifter، ذلك المصطلح الذي استعاره من يَسْبَرسون[17] لكي يلفت الانتباه إلى النيابة الإنسانية المعنية من حيث كونها الشخصَ الناطق بلسان ضمير المتكلم المُفرَد "أنا"، ولكي يضع التوكيد، من ثمّ، على الوظيفة الثنائية للمتغيّر (الضميري) بوصفه قرينة ورمزًا، على حدّ سواء، ضمن نطاق عالم "الرموز القرائنية" indexical symbols [18]. ناهيك، بطبيعة الحال، عن الفارق المفهومي الهشّ، ولو أنه فارقٌ ذو أهمّية جلية، بين مصطلحي "القرينة" و"الرمز" في الدالوليات (= السيمائيات): ففي حين أن مصطلح "القرينة" يدلّ على فكرة الدالول sign عند بيرس، تلك الفكرة التي تشدّد على ترسيخ علاقة التجاور contiguity بين الدالول والمدلول عليه referent، كما هي الحال في دخان متصاعدٍ على اعتباره قرينة (أي نذيرًا متجاورًا) لنار خبيئة، يشير مصطلح "الرمز" إلى فكرة الدالول عند دو سوسور، تلك الفكرة التي تؤكد على تأسيس علاقة اللاتجاور discontiguity بين الدالول والمدلول عليه، بدلاً من علاقة التجاور، كما هي الحالة في احمرار بقعةٍ من الجلد بوصفها رمزًا (أي نذيرًا لامتجاورًا) لأمراض مختلفة[19]. من هنا، يبدو أن لاكان يميل إلى العكس المفهومي لمصطلح "القرينة" من خلال مغايرته بمصطلح "الدالّ"، لا بمصطلح "الرمز" في حدّ ذاته، لكي يضع التوكيد، بدوره، على التضادّ بين وظيفة العَرَض باعتباره قرينةَ مرضٍ جسمي، أو أكثر، في مجال الطب البشري، من طرف، وبين وظيفة العَرَض بوصفه دالَّ مرضٍ نفسي ما، أو دالاً عَرَضيًّا، في إطار التحليل النفسي، من طرف ثان (انظر الحاشية: 9)[20]. لهذا السبب، يعرّف لاكانُ المتغيّرَ (الضميري) بما يدعوه بـ"الدالّ القرائني" indexical signifier، وليس بـ"الرمز القرائني"، بحسب مفهوم يعقوبسون، لكي يسلط الضوء على فارق مفهومي آخرَ بين البيان التلفُّظي، من حيث كونه مجموعة من القرائن، وبين البيان التصريحي، من حيث كونه مجموعة من الدوالّ، في المقابل، ذينك البيانين اللذين يصدرهما المسند إليه إصدارًا باطنيًّا وإصدارًا ظاهريًّا، على الترتيب، فيوحيا بضرورة تردّده أو ارتيابه المتأصِّل، إزاء منابه عن الشخص الناطق بلسان ضمير المتكلم المُفرَد "أنا". وعلى ذلك، يضرب لاكان المثال التالي: "أنا أكذب."، من قبيل إيضاح هذا الفارق، المثالَ الذي يتفوَّه فيه المسندُ إليه بنيّةِ الكذب والخداع تفوُّهًا ضمنيًّا في البيان التلفُّظي، من جهة، ويتقوَّل فيه القولَ الفعلي تقوُّلاً صريحًا في البيان التصريحي، من جهة ثانية: يعني ذلك أن قرينة البيان التلفُّظي غائبة وأن دالَّ البيان التصريحي حاضر، على النقيض[21]. وهكذا، فإن التمثيل البنيوي الوحيد الذي يمكن له أن "يتفوَّه" بقرينة البيان التلفُّظي، في اللغة الفرنسية، هو الإقحام الدالّي لأداة النفي ne (= لا/ما....إلاّ) قبل الصيغة الفعلية soit avéré (= يثبُت) في المثال الشهير الذي يورده لاكان من هذا الخصوص، ذلك المثال الذي تمّ الاستشهاد به في أحايين كثيرة، نحو: avant qu’il soit avéré qu’ils n’y comprennent rien. (= قبل أن يثبُت أنهم لا يفهمون شيئًا.) يتبيّن من هذا المثال، إذن، أن الإسقاط الدالّي لأداة النفي ne (= لا/ما....إلاّ) من المحلّ الذي يسبق الصيغة الفعلية soit avéré (= يثبُت) لإسقاطٌ يضفي على المحتوى الدلالي للبيان التصريحي مقصودية قوةٍ حيادية neutral force، أي أن قصد المتكلم من نقل عبارة "لا يفهمون شيئًا" إلى المخاطَب لا يقتضي من الأوّل أن يضمر تغرُّضًا ولا سوءَ نيّة. ولكن، إذا تمّ الإقحام الدالّي لأداة النفي ne في المحلّ نفسه، فللمحتوى الدلالي، عندئذٍ، أن يتضمّن مقصودية قوةٍ ازدرائية pejorative force، أي أن القصد من عبارة "لا يفهمون شيئًا" يقتضي إضمارَ تغرُّض أو سوءِ نيّة أو كليهما. يدلّ ذلك على أن ثمّة نيابة إنسانية خفيةً تكمن وراء أداة النفي ne، والحال هذه، وأن هذه النيابة الإنسانية تتفوَّه بمقصودية القوة الازدرائية تفوُّهًا ضمنيًّا في البيان التلفُّظي المقابل للبيان التصريحي ذاته. بيد أن اللغة العربية (أو اللغة الإنكليزية، بقدر ما يتعلق الأمر بها كذلك) تفتقر إلى التمثيل البنيوي لأداة النفي ne في المستوى النحوي، الأمر الذي يستلزم تمثيلاً بنيويًّا آخر لعبارة "لا يفهمون شيئًا" في المستوى المفرداتي، نحو: "لا يفقهون شيئًا (البتة)"، بغية الحفاظ على مقصودية القوة الازدرائية في المحتوى الدلالي لنظير البيان التصريحي في اللغة الفرنسية، نحو: avant qu’il ne soit avéré qu’ils n’y comprennent rien. (= قبل أن يثبُت أنهم لا يفقهون شيئًا (البتة) وهكذا، يتضح من هذا المثال ما يفسّر كيف أن الإقحام الدالّي لأداة النفي ne ينمّ عن حضور مقصودي للقوة الازدرائية، من طرف، وأن الإسقاط الدالّي لأداة النفي نفسها ينطوي على غياب مقصودي للقوة الازدرائية عينها، من طرف آخر[22]. وعلى الرغم من افتقار اللغة العربية (أو الإنكليزية) إلى التمثيل البنيوي لأداة النفي ne في اللغة الفرنسية، على هذا النحو، إلاّ أنه لا يعني افتقارها المطلقَ إلى التمثيل البنيوي لها، على نحو آخر. فمن خلال مقارنة أداة النفي ne هذه بأداة الاستثناء "إلاّ" (أو حرف الاستثناء، بمنظورها الإعرابي)، يبدو أن شبيهة الأداة الأخيرة تكُنُّ نيابة إنسانية خفيةً كذلك، نيابةً تتفوَّه بمقصودية قوةٍ إرغامية compulsive force تفوُّهًا ضمنيًّا في البيان التلفُّظي، خصوصًا حين يسبق تلك الأداةَ جملة أو شبهُ جملة منفية، نحو: "لا أقدِر إلاّ أن...."، "ما بوسعي إلاّ أن...."، إلخ[23]. قياسًا على ذلك، فإن الإقحام الدالّي لأداة الاستثناء "إلاّ" يتكشف عن حضور مقصودي للقوة الارغامية، من ناحية، وإن الإسقاط الدالّي لأداة الاستثناء نفسها ينجلي عن غياب مقصودي للقوة الارغامية عينها، من ناحية أخرى. وبالتالي، يظهر أن الكينونة الحقيقية للمسند إليه الشخصي لتقبع في مكان ما من "دُكْنة" أداة النفي ne في اللغة الفرنسية، كما في البيان التصريحي السابق، أو "دُكْنة" أداة الاستثناء "إلاّ" في اللغة العربية، إن تمثلت تمثلاً بنيويًّا في البيان التصريحي الذي تمّ الاستشهاد به من قبل، نحو: ما بوسعي إلاّ أن أقول إنّ لاكانَ قد يكون، أو قد لا يكون، مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور. وهكذا، أيضًا، يتضح من هذا المثال ما يفسّر كيف أن الإقحام الدالّي لأداة الاستثناء "إلاّ" يفترض افتراضًا قبليًّا محلَّ شبيهتها "الحاضرة"، فتقوم هذه الشبيهة مقام القرينة الغائبة، وتنوب هذه القرينة، بدورها، مناب النيابة الإنسانية الفعلية لدى تفوَّهها بمقصودية قوةٍ إرغامية. من هنا، يصبح التمثيل البنيوي للبيان التصريحي، برمّته، وسيلة لغوية ذات مدلولات signifieds دفينة، وسيلة تحتوي احتواء ضمنيًّا على التناقض الكامل بين ضمير المتكلم المفرد الواعي الذي يكمن وراء الدالّ بحضوره، أي الضمير الشخصي المتصل "ياء المتكلم"، في البيان التصريحي ذاته، من جهة، وبين ضمير المتكلم المفرد اللاواعي الذي يقبع في مكان ما من "دُكْنة" القرينة بغيابها، أي شبيهة أداة الاستثناء "إلاّ"، في البيان التلفظي، من جهة ثانية. على أساس هذا التناقض الكامل، إذن، يضع لاكان التوكيد على معنى المسند إليه الشخصي (بالإضافة إلى الأنا "الشخصية" التي تستكن فيه) من حيث كونه كائنًا قابلاً للاستشفاف من ضمير المتكلم المفرد اللاواعي الذي يقبع في مكان ما من "دُكْنة" القرينة، كائنًا على اعتباره تعميمًا أو تجريدًا[24]. ومن ثمّ، فإن الفارق المفهومي الآخر بين البيان التلفظي والبيان التصريحي للمسند إليه، كما تمّ ذكره توًّا، لا يوحي، فحسب، بضرورة تردّده أو ارتيابه المتأصِّل إزاء منابه عن الشخص الناطق بلسان ضمير المتكلم المُفرَد "أنا"، بل يدلّ، أيضًا، على ضرورة انقسامه أو انشطاره الراسخ، كما أشيرَ إليه آنفًا، بحيث إن القصد من هذه الدلالة الأخيرة هو انقسام المسند إليه أو انشطاره إلى ضمير المتكلم المفرد الواعي الذي يكمن وراء الدالّ، من طرف، وإلى ضمير المتكلم المفرد اللاواعي الذي يقبع في مكان ما من "دُكْنة" القرينة، من طرف ثانٍ. وفي حقيقة الأمر، إن انقسام المسند إليه أو انشطاره، بهذا المعنى، سبق الإلماع إليه من خلال اقتراح القسيمين النفسانيين للأنا، نظرًا للتضادّ المطلق بين الأحكام الخاطئة التي تطلقها الأنا (الشاهدة) وبين الأحكام الصائبة التي تطلقها الأنا الغائبة، كما نوِّه عنه في البداية[25]. ففي حين يتوافق قسيم الأنا الموضوعي في إطار تمثيلها الواعي مع ضمير المتكلم المفرد الواعي الذي يكمن وراء الدالّ، يتطابق قسيم الأنا الذاتي في إطار تمثيلها اللاواعي مع ضمير المتكلم المفرد اللاواعي الذي يقبع في مكان ما من "دُكْنة" القرينة. ويبدو، كذلك، أن هذا القسيم النفساني الأخير لوشيج الاتصال بالتشابه (الجوهري) الحاسم بين الأنا الغائبة، باعتبارها ماهية نفسانية فطرية، وبين الأنا (الشاهدة)، بوصفها ماهية نفسانية فطرية-مكتسبة، لدى الحضور الناشئ للأنا العليا، على أنّها ماهية نفسانية مكتسبة. علاوة على ذلك، فإن هذا التمييز بين ضمير المتكلم المفرد الواعي وضمير المتكلم المفرد اللاواعي ليتماثل، أيضًا، مع التمييز بين المسند إليه، بحسب مفهوم ديكارت، والنقيض المنطقي للمسند إليه نفسه: فبينما يتجسد المسند إليه الديكارتي كائنًا واعيًا وجودَه في لحظة التفكير ذاتها، كما هي الحال في المقول الشهير: (أنا أفكر. إذن، أنا موجود.)، يتجلى النقيض المنطقي لهذا المسند إليه كائنًا لاواعيًا "في اللحظة التي يتمّ إبانها إدراك الشك على أنه يقين"[26]، فيتضمن، بذلك، معنى التخيير "المُراد" بين لحظة التفكير ووعي الوجود، كما هي الحالة في المقول المقابل: (إما أنا (لا) أفكر وإما أنا (غير) موجود.). وهكذا، يظهر أن فكرة انقسام المسند إليه أو انشطاره عند لاكان لمردُّها في الأصل إلى مفهوم فرويد عن ماهية "الأنا المنشطرة" split ego (أو "ضمير المتكلم المُفرَد المنشطر" split-I، على حدّ تعبيره)، تلك الماهية التي تتمثل، بدورها، كنتيجة مشوَّهة من نتائج "الإنكار" disavowal، على اعتبار إمكانية تعليله ممرضاتِ (أو أسبابَ) عددٍ من الحالات المَرَضية النفسية. في البدء، يتكلم فرويد عن ماهية الأنا المنشطرة، بهذا المعنى، كلامًا مقتضبًا إلى حد ما، فيما يتعلق بالدراسات الميدانية لحالات العُصاب neurosis والذُّهان psychosis، الحالات التي "تعكس إخفاقًا في عمل الأنا (الشاهدة)" مادامت تميل هذه الماهية النفسانية ميلاً واعيًا إلى "اجتناب تمزُّق ما [....] عن طريق إحداث انشقاق أو انقسام في ذاتها"[27]. بعدئذٍ، يتحدث فرويد عن ماهية الأنا المنشطرة، بنفس المعنى، حديثًا مسهبًا، ولكن فيما يخص الدراسات الميدانية لحالات ما يسمى بـ"البُدِّية" fetishism، الحالات التي تنطوي على شكل من أشكال الانحراف الجنسي، والتي تجسّم انشطارًا في الأنا المكنونة في البُدِّي fetishist لأن أحد شطرَي هذه الأنا ينحو نحو رفضه عقدة الإخصاء (أو ما ينشأ عنها من حَصَر نفسي) - على خلاف شطرها الآخر الذي ينزع إلى قبوله العقدة ذاتها (أو ما ينجم عنها من حَصَر نفسي)[28]. وبتعبير آخر، تتبدى الأنا المكنونة في البُدِّي، حقيقية، كماهية نفسانية منشطرة بين جنسانية الذكورة وجنسانية الأنوثة، على الترتيب، نظرًا للفرق الحاسم بين الجنسانيتين في سلوكية الطفولة، كما تم شرحه في مقال سابق[29]. وعلى وجه القياس، فإن رأي لاكان الذي يؤكد على المسند إليه من حيث كونه كائنًا منقسمًا أو منشطرًا بين البيان التلفظي والبيان التصريحي، لرأي يدلّ دلالة واضحة على حتمية مدى الانقسام أو الانشطار بمدى فعل الكلام: المسندُ إليه كائنٌ منقسمٌ أو منشطرٌ "بقدر ما يتكلم ليس إلا"[30]. يعني ذلك أن "المسند إليه [كائنٌ] يحدِّد وجودَه عن طريق سَدِّ أو صَدِّ ما ينطقه من دوالٍّ"[31]. ويعني ذلك، أيضًا، أن المسند إليه كائنٌ يعتريه تردّد أو ارتياب متأصّل ويتعاوره من شطر إلى شطر لامحالَ، وأن ذلك كله مترتبٌ على انسلابه واغترابه المقدَّرين قبليًّا من خلال تمثيل اللغة المستديم لوجوده وتفكيره على حدٍّ سِوىً. إن هذا الانسلاب وهذا الاغتراب، إذن، لهما السجيّتان اللتان تربطهما علاقة وطيدة بذلك التحوُّل النفساني الذي تخضع له الأنا (الشاهدة) خضوعًا محتومًا حينما "تدمج" نفسها في أنا أخرى alter ego [32]. بناء على ذلك، فللدالّ القرائني، أو الدالّ، ببساطة، أن يميط اللثام عن كنون تلك السجايا المتأصّلة (أي سجايا الانقسام والتردّد والانسلاب) مثلما يكشف زللٌ، أو عملٌ زالٌّ parapraxis، النقابَ عن مكنون ما يقصده المسندُ إليه في الحقيقة (كزلة اللسان وزلة الأذن وزلة القلم، إلخ). من هنا، يشدّد رأيُ لاكانَ على المسند إليه، كذلك، من حيث كونه مبتنىً من مبتنيات اللاوعي (قا: ضمير المتكلم المفرد اللاواعي) لا مبتنىً من مبتنيات الوعي (قا: ضمير المتكلم المفرد الواعي)، كما هي الحال في المسند إليه الديكارتي. ومن هنا، أيضًا، ينظر لاكان إلى الحالات المَرَضية النفسية التي ذكرها فرويد (أي حالات العُصاب والذُّهان والانحراف الجنسي) باعتبارها البنى السريرية الثلاثَ الأهمَّ في الممارسة الفعلية للتحليل النفسي، بنىً يتفرَّد منها العُصابُ، تحديدًا، بوصفه البنية السريرية "السوية" (نفسانيًّا)، وذلك بمقتضى حدوث الانشطار في المسند إليه، أصلاً - على خلاف البنية السريرية للذُّهان، فهي بنية سريرية "غير سوية" (نفسانيًّا)، نظرًا لافتقارها إلى حدوث هذا الانشطار، فيما يبدو[33]. وبالتالي، فإن مبتنى المسند إليه كتعميم أو كتجريد ليدلّ، في الأساس، على كائن عصابي تتمخَّض عنه اللغة بكلّ أشكال التداعي، فتجسِّده كائنًا منقسمًا ومتردّدًا ومنسلبًا في ذات اللحظة التي ينطق إبانها الدالَّ signifier تعبيرًا عن ذاته الدفينة. خلاصة لإيجاز ما تقدم، تمور النفس الإنسانية في تمزقها المستديم بين طرفي نقيض: الأحكام الخاطئة التي تطلقها الأنا (الشاهدة) إطلاقًا "واعيًا" والأحكام الصائبة التي تطلقها الأنا الغائبة إطلاقًا لاواعيًا. إذ يناظر طرفي النقيض هاذين القسيمان النفسانيان للأنا: قسيم الأنا الموضوعي في إطار تمثيلها الواعي وقسيم الأنا الذاتي في إطار تمثيلها اللاواعي، على ضوء التشابه الحاسم بين الأنا الغائبة والأنا (الشاهدة) في كم معين من محتوى نظام اللاوعي. فإذا كان التحليل النفسي فرعًا من فروع الدراسة معنيًّا في نهاية المطاف بشخص مفرد ومحدد، فإن القسيم الذاتي للأنا (الشاهدة) يرادف بمعناه معنى ذلك الشخص المفرد والمحدد بوصفه تعميمًا أو تجريدًا، يُشار إليه في التنظير اللاكاني، إجمالاً، بمصطلح "المسند إليه". في الواقع، لا يستخدم فرويد هذا المصطلح على اعتباره مبتنىً نظريًّا بحكم استحقاقه التنظيري، بل يورده في مؤلفاته كنيابة "ذاتية" تقترن بـ"موضوعية" ما لتشكلا معًا واحدة من الثنائيات التضادّية الثلاث التي تهيمن على النفس الإنسانية بكليتها (أي الذات- الموضوع واللذة- اللالذة والفاعل- المنفعل)، فيضع التوكيد، بذلك، على الطبيعة المزدوجة لذات المسند إليه في إطار علاقتها "السلوكية" بموضوع العالم الظاهري (أي فاعلة ومنفعلة). فقد تكون الطبيعة المزدوجة لذات المسند إليه هذه، بالإضافة إلى وضعتها النظرية غير المبتوت في أمرها في مؤلفات فرويد، السببَ الرئيسي في أن يحتل المصطلح مكان صدارة في مؤلفات لاكان، حيث يمكن استشفاف ثلاثة أنواع من المسند إليه متميزة من خلال الإشارة إلى المسألة المنطقية التي يتم طرحها كمغالطة جديدة. أولاً، المسند إليه اللاشخصي الذي يفسَّر بلغة المسند إليه التعقلي، أو التفكري، بمعنى أن النيابة الإنسانية المعنية مستقلة استقلالاً نفسانيًّا عن أية نيابة إنسانية أخرى، وأن المسند إليه اللاشخصي على علم بذاته لا بذات الآخر، نحو: "قيل إن...."، "قال أحدهم إن...."، إلخ. ثانيًا، المسند إليه غير المعرف (أو غير المسمى) الذي يعلل بلغة المسند إليه ذي الطابع التبادلي المحض، بمعنى أن النيابة الإنسانية المعنية متكافئة تكافؤًا مطلقًا، إلى حد الاستبدال المتساوي، مع أية نيابة إنسانية أخرى، وأن المسند إليه غير المعرف (أو غير المسمى) على معرفة من ذاته في مسلك مرهون بمسلك المعرفة الذاتية للآخر، نحو: "قال كل منهم إن...."، "قال كلهم إن...."، إلخ. ثالثًا، المسند إليه الشخصي الذي يعرَّف بالمسند إليه ذي الأصالة المنطقية، المسند إليه العارف الذي "ينتحل" كينونتي المسند إليهما الأولين، ولكن كينونته تختلف اختلافًا جوهريًّا عن كل من كينونتيهما بفضل خصوصيته وفذاذته، تينك السجيتين اللتين تكتسبهما النيابة الإنسانية المعنية على أنهما نشاطان "غير متعمَّدين" من نشاطات توكيد الذات أو تقرير المصير: يعني ذلك أن يكون المسند إليه الشخصي على معرفة من ذاته، أو لا يكون، بقطع النظر عن المعرفة الذاتية للآخر، نحو: "قلت إن...."، إلخ. ففي حين يتضح أن الصيغة المثبتة للنيابة الإنسانية المعنية حاضرة في البيان التصريحي (أي ضمير المتكلم المفرد الواعي)، يتبين أن صيغتها المنفية غائبة في البيان التلفظي (أي ضمير المتكلم المفرد اللاواعي)، ولكنها تقبع في مكان ما من "دكنة" الشبيهة القرائنية لأداة الاستثناء "إلا" إن تمثلت تمثلاً بنيويًّا، نحو: "ما بوسعي إلا أن أقول إن...."، إلخ. من هنا، تتجلى الأهمية البالغة لفكرة المسند إليه كمبتنىً من مبتنيات اللاوعي في التنظير اللاكاني، بحيث إن التناقض الكامل بين البيان التصريحي والبيان التلفظي ينطوي على تردده المتأصل وانقسامه الراسخ. ومن هنا، يتضح، أيضًا، أن فكرة انقسام المسند إليه هذه تم اشتقاقها من مفهوم فرويد عن ماهية الأنا المنشطرة، فتم من ثم اعتبارها دليلاً على البنية السريرية "السوية" لحالات العصاب - خلافًا للبنية السريرية "غير السوية" لحالات الذهان التي لا تبدي حدوث الانقسام، فيما يبدو. وبالتالي، فإن مبتنى المسند إليه ككائن عصابي في البنية السريرية "السوية" ليدل، في الأساس، على كائن متردد ومنقسم ومنسلب من خلال تمثيل اللغة المستديم لوجوده وتفكيره على حدٍّ سوىً، اللغة التي تبتكر عالم الأشياء، والتي يبثها الدالُّ بوصفه وسيطها الرئيسي في عالم الأفكار. *** *** *** المراجع Fink, B. (1995): The Lacanian Subject: Between Language and Jouissance. Princeton: P.U.P. Freud, S. (1915): Instincts and Their Vicissitudes. P.F.L., vol. 11. Freud, S. (1921): Group Psychology and the Analysis of the Ego. P.F.L., vol. 12. Freud, S. (1923): Neurosis and Psychosis. P.F.L., vol. 10. Freud, S. (1927): Fetishism. P.F.L., vol. 7. Freud, S. (1938a): Splitting of the Ego in the Process of Defence. P.F.L., vol. 11. Freud, S. (1938b): An Outline of Psychoanalysis. P.F.L., vol. 15. Jakobson, R. (1957): Shifters, verbal categories, and the Russian verb. In his Selected Writings, vol. 2. The Hague: Mouton (1971:130-147). Jesperson, O. (1923): Language: Its Nature, Development, and Origin. New York. Lacan, J. (1955-6): The Seminar. Book III. The Psychoses. Trans. R. Grigg. Routledge (1993). Lacan, J. (1960-1): Le Séminaire. Livre VIII. Le Transfert. Paris: Seuil. Lacan, J. (1964): The Seminar. Book XI. The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis. Trans. A. Sheridan. Vintage (1998). Lacan, J. (1966a): Écrits: A Selection. Trans. A. Sheridan. Routledge (1997). Lacan, J. (1966b): Écrits. Trans. B. Fink. Norton (2006). Lacan, J. (1975-6): Le Séminaire. Liver XXIII. Le Sinthome. Est. J.-A. Miller, Ornicar?, vol. 6. el-Marzouk, Gh. (2007): الدمج / Identification. Damascus: Maaber. (In Arabic and English) el-Marzouk, Gh. (2008): الأنا / The ego. Damascus: Maaber. (In Arabic and English) Peirce, C. S. (1932): Elements of Logic. In his Collected Papers, vol. 2. Cambridge: H.U.P. [1] را: المرزوق، 2008. [2] را: المرزوق، 2007. [3] لاحظ، هنا، أن مصطلح "المسند إليه" بوصفه تعميمًا أو تجريدًا يشير إلى معنى تضمينه الشمولي universal، على سبيل الحصر. لهذا السبب، ينحو المصطلح نحو الدلالة على كينونة نفسانية لا مِساسَ لها بأيّ من معاني الإسنادات المتناهية لذلك الشخص المفرد والمحدّد، أي الطفل أو المريض في إطار معناه اللانوعي (= اللاجنسي) non-generic. فثمّة وجه شبه بين معنى التضمين الشمولي هذا وبين معنى فكرة العمومية generality عند لاكان، تلك الفكرة التي تتبدّى على طرفي نقيض مع فكرة الجمعية collectivity فيما يتعلّق بمفهومها المنطقي، على وجه الخصوص. يقول لاكان: "تُعرّف الجمعية على أنها زمرة تشكّلها علائقُ التبادل بين عدد متناه من الأفراد – على خلاف تعريف العمومية بوصفها فئةً تتضمّن عددًا لامتناهيًا من الأفراد، على نحو مجرّد" (قا: لاكان، 1966 ب، ص 174) . وهكذا، فإن تلميح لاكان إلى ما يسمّى بـ"علم النفس الجمعي" collective psychology ليذكّر بتنظير فرويد حول ما يدعى بـ"علم النفس الزُمَري" group psychology ، ذلك العلم الذي يصبّ جام اهتمامه على كيفية تكوين النفسانية الجمعية لزمرة ما على أساس جملة من تغيّرات تطرأ على النفسانيات الفردية لأعضاء تلك الزمرة – خلافًا لتنظير لو بون، حيث يضع التوكيد على "التغيّر [النفساني] الذي يخضع له الفرد إبان كونه [عضوًا] في زمرة ما" (قا: فرويد، 1921، ص 99). [4] قا: فرويد، 1915، ص 131. [5] قا: لاكان، 6- 1975. [6] قا: لاكان، 1966 ب، ص 161 وما يتبعها. [7] قا: لاكان، 1966 ب، ص 162. [8] من الحري بالذكر، في هذا السياق، أن الصيغة الاسمية aporia والصيغة النعتية aporetic في اللغة الإنكليزية تمّ اشتقاقهما في القرن السادس عشر من أصل دفين في اللغة اليونانية، ذلك الأصل الذي يعني بحرفيته "الأرض غير السالكة" أو "الطريق المسدودة"، والذي يعني بمجازيته "حالة نفسانية ينتابها الارتياب أو التحيّر أو كلاهما". لهذا السبب، عُمد إلى اختيار الصيغة الاسمية "تَيْهاء" والصيغة النعتية "تَيْهاوي/ تَيْهائي" في اللغة العربية، نظرًا لكون الاشتقاقين كليهما دفينين كذلك، من ناحية، ولكونهما يضمران كلاًًّ من المعنيين الحرفي والمجازي للأصل في اللغة اليونانية على الأقلّ، من ناحية ثانية. ومن القمين بالذكر، أيضًا، أن الأصل اليوناني بمعناه المجازي، على وجه التحديد، اكتسب أهمية اصطلاحية فيما يتعلق بالفلسفة القديمة (كفلسفة اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد)، فكان يشير إلى ذينك الارتياب والتحيّر اللذين ينجمان عن طرح بعض المسائل والقضايا دون الإدلاء ببراهين أو حلول لها، كما هي الحال في منهج سقراط (470 ق. م.- 399 ق. م.) الذي كان يُعرف بالمنهج التيهاوي the aporetic method. ثم اكتسب الأصل اليوناني بمعناه المجازي، فضلاً عن ذلك، أهمية اصطلاحية أكبر فيما يخصّ الفلسفة الحديثة (كفلسفة فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين)، فصار يوحي إلى صراع شواشي لا مَحِيصَ عنه بين البلاغة rhetoric والمنطق logic، صراعٍ مَتاهيّ تؤرِّثه كمونياتٌ عَصِيّة من الفجوات الدلالية في النص (سواء كان هذا النص مكتوبًا أم مَقولاً)، فتؤجّجه، من ثمّ، تجلياتٌ عفوية من التناقض الذاتي أو من حوائلَ توتُّريةٍ بين ما يعنيه النص طوعًا، من جهة، وبين ما يعنيه النص قسرًا، من جهة أخرى، كما هي الحالة في أشكال القراءات المتعدّدة لمذهب ما بعد البنيوية post-structuralism عند بارت (1915- 1980) وفوكو (1926- 1984) ودريدا (1930- 2004)، وغيرهم. [9] حتى هذه النقطة، لقد تمت الإشارة إلى أنواع ثلاثة من الدالّ signifier متميزة، يمكن عرضها من جديد في هذه الحاشية، على أمل أن يسهم هذا العرض في إنعاش الذاكرة، وذلك بمثابة تمهيد مفهومي لمقال لاحق حول ماهيتي الدالّ اللغوية والنفسية، على وجه التحديد. كما تمت مناقشته في مقال سابق (را: المرزوق، 2007)، يقوم الدامج (= المتماهي) identifier، إبان تخلُّل العكس الفعلي لعقدة أوديب، بدمج نفسه في سمة خاصة مُفرَدة من سمات المدموج (= المتماهى فيه) identified ليس غير، كما هي الحال في البنت الشابة دورا التي كانت تحاكي إصابة أبيها بالنزلة الشُّعَبية المعذِّبة. ففي الممارسة الفعلية للتحليل النفسي، يجري النظر إلى السمة الخاصة المُفرَدة هذه على أنها "دالٌّ" تمّ إشرابه، بعدئذٍ، تحت تأثير الدمج (= التماهي) الرمزي، ليدلَّ في نهاية المطاف على "دمج النفسِ (أي نفسِ الدامج) في العَرَض". يتبين، إذن، أن أول نوع من أنواع الدالّ الذي أُشيرَ إليه في ذلك المقال هو ما سُمّي بـ"الدالّ العَرَضي" symptomatic signifier (أي النزلة الشُّعَبية نفسها). على خلاف ذلك، فإن الشكل الأكثر بدائيةً لتحقُّق الذات المنعكس، ذلك الشكلَ الذي يدركه الطفل ويستوعبه حين يرى صورته في المرآة للمرَّة الأولى، ليجري النظر إليه على أنه "دالّ" كذلك، دالٌّ تمّ إشرابه، والحال هذه، تحت تأثير الدمج (= التماهي) الخيالي، بدلاً من الدمج (= التماهي) الرمزي، ليدلَّ في بداية المطاف على "دمج النفسِ (أي نفسِ الدامج) في الصورة المقدَّسة للذات (الـ imago أو الأمَجية المرئية)" في طور المرآة. يتضح، إذن، أن ثانيَ نوع من أنواع الدالّ الذي أُشيرَ إليه في المقال السابق هو ما دُعي بـ"الدالّ المرآوي" specular signifier (أي الأمَجية المرئية عينها)، وأن النوع الثالث الذي تمّ ذكره في النص، حتى تلك النقطة، هو ما أُطلق عليه اسم "الدالّ التَيْهاوي" aporetic signifier (أي الحركة المُرْجَأة ذاتها). ولكن، يتضح، أيضًا، أن كلاًّ من أنواع الدالّ الثلاثة هذه ليؤدّي عمله النفساني خارج النطاق المحدّد للغة، سواء كان الدالُّ عَرَضًا أم أمَجيةً مرئية أم حركةً مُرْجَأة. لهذا السبب، سيُعمد إلى تصنيف الأنواع الثلاثة تلك تحت ما تمكن تسميته بــ"الدوالّ الدونَ- لغوية" extra-linguistic signifiers، على النقيض ممّا تمكن تسميته بـ"الدوالّ الضمنَ- لغوية" intra-linguistic signifiers، تلك الدوالّ التي تؤدّي أعمالها النفسانية داخل النطاق المحدّد للغة، كما سيتمّ تفصيله في مقال لاحق. [10] قا: لاكان، 1966 ب، ص 170. [11] يُقصد بالحاشي الاسمي nominal expletive، في هذه القرينة، التمثيلُ البنيوي لأحد المكوّنات الاسمية "الصموتة" في تركيب الجملة، تلك المكوّنات التي تتصف بالخواء الدلالي semantic vacuity بشكل أو بآخر، ممّا يجعل وظائفها مقصورة على سَدّ الفراغ النحوي، تحديدًا (قا: حاشٍ: اسم الفاعل من حشا يحشو حشوًا، بمعنى سدّ فراغًا في الشيء). ثمة أمثلة على الحاشي الاسمي هذا في اللغة العربية توحي إلى ضمير الغائب المفرد المذكر المستتر "هو"، ذلك الضمير الذي يعمل عملَ الفاعل النحوي للفعل الرابط اللاشخصي (نحو: بدا أن، ظهر أن، إلخ) أو عملَ نائب الفاعل النحوي للفعل المجهول اللاشخصي (نحو: قيلَ إن، ظُنّ أن، إلخ)، كما أشير إليه في النص. ويقابل ضميرَ الغائب المفرد المذكر المستتر "هو" في اللغة العربية ضميرُ الغائب المفرد المحايد الظاهر it في اللغة الإنكليزية في كلتا الحالتين، مثلاً: it seemed/appeared that في حالة الفعل الرابط اللاشخصي، وit was said/thought that في حالة الفعل المجهول اللاشخصي. [12] يُراد بالمُكَمِّم التبعيضي partitive quantifier، في هذا السياق، التمثيلُ البنيوي لأحد المكوّنات الاسمية "المُبَعِّضة" أو "المجزِّئة" في تركيب الجملة، تلك المكوّنات التي تتسم بالالتباس الدلالي semantic ambiguity بشكل أو بآخر، فلا يُعرف مدلولها إلاّ ممّا تضاف إليه، ممّا يجعل وظائفها محصورة في التحديد "المجازي"، لا "الحرفي"، لكمية المدلول (قا: مُكَمِّم: اسم الفاعل من كمَّم يكمِّم تكميمًا، بمعنى حدّد كمية الشيء). ثمة أمثلة على المُكَمِّم التبعيضي هذا في اللغتين العربية والإنكليزية تلمع إلى ذلك المكوّن الاسمي الذي لا يدلّ على شيء في حدّ ذاته، فكان، من ثمّ، ملازمًا للإضافة على الأصحّ (نحو: أحدهم (some)one، أيّهم any(one)، بعضهم some (of them)، إلخ). [13] قا: لاكان، 1966 ب، ص 170. [14] را: المرزوق، 2007، الحاشية: 2، الحاشية: 3. [15] لاحظ، هنا، أن أحد أوجه الاختلاف الدلالي بين المُكمّم الإفرادي distributive quantifier والمُكمّم الشمولي universal quantifier يتجلى في إصدار البيانات التصريحية من زاوية المقصودية intentionality التي تستحثّها، ناهيك عن التشابه الدلالي الواضح بين المُكمّمين. فبينما يشير المُكمّم الإفرادي إلى التمثيل البنيوي لتلك المكوّنات الاسمية "المُفْرِدة" التي تخصّ كلَّ فرد من أفراد جماعة ما (نحو: كلّ امرئ everyone، كلّ شخص everybody، إلخ)، يوحي المُكمّم الشمولي إلى التمثيل البنيوي لتلك المكوّنات الاسمية "المُجْمِلة" التي تتعلق بأفراد الجماعة المعنية ككلّ (نحو: جميعهم all (of them)، كافّتهم all (of them)، إلخ). وهكذا، فإن هذا الاختلاف الدلالي بين المُكمّم الإفرادي والمُكمّم الشمولي، تحديدًا، ليذكّر بالفارق المفهومي الأساسي بين تنظير لو بون وتنظير فرويد، على الترتيب، حول ما يسمّى بعلم النفس الزُمَري أو الجمعي (انظر الحاشية: 3). [16] قا: لاكان، 1966 ب، ص 170. [17] قا: يَسْبَرسون، 1923. [18] قا: يعقوبسون، 1957، ص 132. [19] قا: بيرس، 1932. [20] قا: لاكان، 1966 آ، ص 129؛ لاكان، 1966 ب، ص 348. [21] قا: لاكان، 1964، ص 138 وما يتبعها. [22] قا: لاكان، 1966 آ، ص 298؛ لاكان، 1966 ب، ص 677. [23] من الجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن المحلِّل النفسي بروس فينك سبق له أن ألفت النظر إلى المقارنة "الدلالية" بين أداة النفي ne (= لا/ما....إلاّ) في اللغة الفرنسية، كما ترد في مثال لاكان المستشهَد به في النص، وبين أداة الظرف but (= إلاّ) في اللغة الإنكليزية، بالأخصّ حين يسبقها الفعل الناقص المنفي cannot (= ليس في وسع)، كما ترد في أمثلة معيّنة، نحو: I cannot but think that…. (= ليس في وسعي إلاّ أن أظنّ أنّ....). ففي مثال كهذا، إذن، ما يدعو فينك إلى الاعتقاد بأن أداة الظرف but في اللغة الإنكليزية، تحديدًا، لأداة تتصف بالخواء الدلالي، مما يجعلها قابلة للمقارنة "الدلالية" بأداة النفي ne في اللغة الفرنسية (قا: فينك، 1995، ص 39). وهكذا، يتبين أن ثمة تناقضًا ذاتيًّا سافرًا يقع فينك في شرَكه من جراء الخوض في غمار "تحليل لغوي" من هذا النوع: فمن جهة، يبدو أن فينك على صواب حينما يلفت النظر إلى قابلية المقارنة الدلالية بين أداتي النفي ne والظرف but تينك، كما هي الحال في أداة الاستثناء "إلاَ"، نظيرتهما في اللغة العربية؛ ومن جهة أخرى، يظهر أن فينك على خطأ صارخ عندما يزعم أن أداة الظرف but خاوية خواء دلاليًّا. ذلك لأن الإسقاط الدالِّي لهذه الأداة سيفضي، دونما شك، إلى غياب مقصودية القوة الإرغامية المنوَّه عنها في النص، سواء كان البيان التصريحي منفيًّا، نحو: I cannot think that…. (= ليس في وسعي أن أظنّ أنّ....) أم غيرَ منفي، نحو: I can think that…. (= في وسعي أن أظنّ أنّ....). [24] كما تم ذكره في حاشية سابقة، فإن مصطلح "المسند إليه" بوصفه تعميمًا أو تجريدًا يوحي إلى معنى تضمينه الشمولي universal ، حصرًا. ووفقًا لذلك، "تُعرّف" فكرة العمومية generality عند لاكان، خلافًا لفكرة الجمعية collectivity فيما يتعلّق بمفهومها المنطقي، تخصيصًا، "على أنها فئة تتضمّن عددًا لامتناهيًا من الأفراد، على نحو مجرّد" (انظر الحاشية: 3). وهكذا، فإن معنى الإسناد اللامتناهي الذي يُعرّف فكرة العمومية هذه لمعنىً يتم عزوُه إلى قابلية مدّ حدود المسألة المنطقية التي طرحها لاكان إلى ما لا نهاية له (أو قابلية تعميم معطياتها دونما حدّ، بالحري) عن طريق ما يسمى بعملية "التواتر" recurrence/recursion (أي التكرار الدَوْري) في الرياضيات. على هذا الأساس، تخوِّل هذه العملية الرياضية لتلك المسألة المنطقية تطبيقَ المغالطة المُشار إليها في النص على عدد لامتناهٍ من المسند إليهم، شريطة أن يكون عدد الأقراص السوداء مساويًا لعدد المسند إليهم إلاّ واحدًا. مثلاً، إذا دعا السجان سجناء أربعة من اختياره، هذه المرّة (سمّهم "المسند إليهم: آ، ب، ج، د")، وكان في حوزته سبعة أقراص (أربعة بيضاء وثلاثة سوداء)، فللبرهان التامّ على المسألة المنطقية أن يتواتر (أو يتكرّر تكرارًا دوريًّا) على النحو التالي: يعلم المسند إليه- آ أن لون قرصه أبيض. بما أن أقراص المسند إليهم: ب، ج، د، بيضاء، يزعم المسند إليه- آ لنفسه أنه لو كان لون قرصه أسود لكان بوسع كل منهم أن يستنتج ما يلي: يعلم المسند إليه- ب أن لون قرصه أبيض. بما أن قرصَي المسند إليهما: ج، د، أبيضان، يزعم المسند إليه- ب لنفسه أنه لو كان لون قرصه أسود، أيضًا، لكان بوسع كل منهما أن يستنتج ما يلي: "لو كان لون قرصِي أسود، أيضًا، لعلم الآخر أن لون قرصه أبيض، بلا تردد. إذن، لون قرصِي ليس أسود". وبما أن ثمة ترددًا قد استحوذ عليهم جميعًا، لا بد من أن يكون لون قرصِي أبيض كألوان أقراصهم. وهكذا دواليك (قا: لاكان، 1966 ب، ص 175، الحاشية: 4). [25] را: المرزوق، 2008. [26] قا: لاكان، 1964، ص 126. [27] قا: فرويد، 1923، ص 217. [28] قا: فرويد، 1927، ص 365؛ فرويد، 1938 آ، ص 463؛ فرويد، 1938 ب، ص 438 وما يتبعها. [29] را: المرزوق، 2007. [30] قا: لاكان، 1966 آ، ص 269؛ لاكان، 1966 ب، ص 530. [31] قا: لاكان، 1966 آ، ص 288؛ لاكان، 1966 ب، ص 581. [32] قا: لاكان، 6-1955، ص 23. [33] قا: لاكان، 6-1955، ص 174؛ لاكان، 1-1960، ص 374 وما يتبعها.
|
|
|