english

 

مفتاح الثيوصوفيا

 

هيلينا ب. بلافاتسكي

 

الباب الثالث عشر

 

عن التصورات المغلوطة حول الجمعية الثيوصوفية

_____

 

الثيوصوفيا والزهد

السائل: سمعت الناس يقولون إن قواعدكم تفرض على جميع الأعضاء أن يكونوا نباتيين، متبتِّلين، وزهَّادًا عتاة؛ غير أنك لم تخبرني بشيء من هذا القبيل بعدُ. فهل لك أن تخبرني بالحقيقة القاطعة حول هذا الأمر؟

الثيوصوفي: الحقيقة هي أن قواعدنا لا تفرض شيئًا من هذا القبيل. فالجمعية الثيوصوفية لا تنتظر حتى من أيٍّ من أعضائها – فما بالك أن تفرض عليه! – أن يزهد من أيِّ وجه – اللهم إلا إذا أسميت زُهدًا التزامَهم بمحاولة جلب النفع على غيرهم من الناس والاتصاف بالإيثار في حياتهم.

السائل: ومع ذلك فإن العديد من أعضائكم نباتيون متشددون، ويقرُّون علنًا بنيِّتهم البقاء غير متزوجين. وهذه أيضًا هي، في أغلب الأحيان، حال أولئك الذين يقومون بدور بارز فيما يتعلق بعمل جمعيتكم.

الثيوصوفي: هذا طبيعي للغاية، لأن غالبية عمَّالنا المخلصين حقًّا أعضاء في الشعبة الباطنة للجمعية التي سبق لي أن أخبرتك عنها.

السائل: آه! فأنتم، إذن، تفرضون رياضات زهدية في تلك الشعبة الباطنة؟

الثيوصوفي: لا، نحن لا نفرض عليهم ولا نحضُّهم حتى هناك. لكن يحسُن بي، فيما أرى، أن أقدِّم لك تعليلاً لنظراتنا في موضوع التزهُّد عمومًا، وعند ذاك سوف تفهم ما يتعلق بالحِمْية النباتية وهلمجرا.

السائل: رجاءً تفضل.

الثيوصوفي: كما سبق لي أن أخبرتك، يتمنَّى غالبية الأفراد الذين يصبحون حقًّا طلبة مخلصين للثيوصوفيا وعمالاً ناشطين في جمعيتنا أن يفعلوا أكثر من مجرَّد دراسة الحقائق التي نعلِّمها دراسة نظرية وحسب. يتمنون أن يعرفوا الحقيقة اختبارًا شخصيًّا مباشرًا، وأن يدرسوا الغيبيات بهدف تحصيل الحكمة والقدرة اللتين يشعرون أنهم في حاجة إليهما من أجل مساعدة الآخرين مساعدة ناجعة وحصيفة، لا عمياء وكيفما اتفق. لذا فإنهم، عاجلاً أم آجلاً، ينضمون إلى الشعبة الباطنة.

السائل: لكنك قلت إن "الرياضات" الزهدية ليست إجبارية، حتى في تلك الشعبة الباطنة؟

الثيوصوفي: هي ليست كذلك فعلاً. لكن أول أمر يتعلَّمه الأعضاء هناك هو تصورٌ صحيح عن علاقة الجسم – أو الغلاف الجسماني – بالإنسان الباطن، الإنسان الحق. فالعلاقة والتفاعل بين هذين المظهرين من مظاهر الطبيعة الإنسانية، يُعلَّلان ويبيَّنان لهم، بحيث إنهم سرعان ما يتحققون من كون الإنسان الباطن يفوق أهميةً قميصَه الخارجي أو الجسم. إنهم يتعلَّمون أن التزهُّد المغفَّل الأعمى هو ضرب من الجنون؛ أن سلوكًا من نحو سلوك القديس لابرو، الذي سبق لي أن أتيت على ذكره، أو سلوك فقراء الهند وزهَّاد الأدغال، الذين يشطبون أجسامهم ويحرقونها ويشوِّهونها بأقسى الطُّرُق وأشدها فظاعة، هو ببساطة تعذيبٌ للنفس لمقاصد أنانية – وأعني تنمية قوة الإرادة – لكنه عديم الفائدة تمامًا لغاية مساعدة النموِّ الروحي الحقيقي أو الثيوصوفي.[1]

السائل: أراك تعتبر الزهد المعنوي وحده ضروريًّا. إنه من قبيل الوسيلة إلى الغاية – بوصف هذه التوازن الكامل لطبيعة الإنسان الباطنة وبلوغ السيادة التامة على الجسم، بكلِّ أهوائه ورغباته.

الثيوصوفي: بالضبط. لكن هذه الوسائل يجب أن تُستعمَل استعمالاً فطينًا وحكيمًا، لا أعمى وأحمق – شأن العدَّاء الذي يتدرَّب ويستعد لسباق كبير، وليس كالبخيل الذي يجوِّع نفسه حتى المرض حتى يُشبِع هواه إلى الذهب.

السائل: بتُّ الآن أفهم فكرتك العامة؛ ولكن لِنَرَ كيف تطبِّقونها عمليًّا. ماذا عن الحِمْية النباتية، على سبيل المثال؟

الثيوصوفي: لقد بيَّن واحد من العلماء الألمان الكبار أن جميع أنواع الأنسجة الحيوانية، كيفما اتَّفق لك أن تطبخها، تستبقي مع ذلك بعض الخصائص البارزة للحيوان الذي استُلَّتْ منه – وهذه الخصائص يمكن التعرف إليها. وفضلاً عن ذلك، يعرف كلُّ أحد نوعَ اللحم الذي يأكله من طعمه. ونحن نمضي خطوةً إضافية قُدُمًا، ونبرهن أن لحم الحيوان، حين يتمثَّله المرءُ بوصفه طعامًا، يضفي عليه، فسيولوجيًّا، بعض خصائص الحيوان الذي استُلَّ منه. ناهيك أن العلم الغيبيَّ يعلِّم هذا لطلابه ويبرهن عليه لهم بالبرهان العياني، مبيِّنًا كذلك أن هذا الأثر "المجلِّف" أو "المُحَيْوِن" على الإنسان يكون أعظميًّا من جرَّاء لحم الحيوانات الجسيمة، وأقل منه للطيور، وأقل فأقل منه للسمك وغيره من الحيوانات ذوات الدم البارد، وأصغريًّا حين يكتفي بأكل الخضار.

السائل: ألعلَّه يحسُن به ألا يأكل على الإطلاق؟

الثيوصوفي: بالطبع – لو كان يستطيع أن يعيش من غير أن يأكل. لكن، بما أن الأمور على ما هي عليه، فلا بدَّ له من أن يأكل ليعيش. لذا ننصح للطلاب المخلصين حقًّا أن يأكلوا من الطعام ما من شأنه أن يثبِّط أدمغتهم وأجسامهم ويثقل عليها في الحدِّ الأدنى ويكون له أصغر الأثر على إعاقة نموِّ حَدْسهم وملَكاتهم وقدراتهم الباطنة وإبطائه.

السائل: أنتم، إذن، لا تتبنون سائر الحُجَج التي من عادة النباتيين بعامة أن يستعملوها؟

الثيوصوفي: قطعًا لا. فبعض حُجَجِهم ضعيفٌ جدًّا، ومرارًا ما تقوم على افتراضات مغلوطة تمامًا. لكن الكثير من الأمور التي يقولونها، من جانب آخر، صحيحة كلَّ الصحة. فعلى سبيل المثال، نحن نعتقد أن الكثير من الأمراض، وبخاصة الاستعداد الكبير للإصابة بالمرض الذي يصير من سمات زماننا البارزة، يعود في معظمه إلى أكل اللحم، ولاسيما اللحوم المعلَّبة. لكن من شأن تمحيص مسألة الحِمْية النباتية هذه بحيثيَّاتها تمحيصًا كاملاً أن يستغرق وقتًا طويلاً جدًّا؛ لذا فلننتقل إلى أمر آخر.

السائل: دعني أسألك سؤالاً آخر: ماذا يتعيَّن على أعضاء شعبتكم الباطنة أن يفعلوا فيما يخص طعامهم حين يمرضون؟

الثيوصوفي: بالطبع يتعيَّن عليهم أن يتبعوا أفضل نُصْح يمكن أن يُسدى إليهم. ألم تتفطَّن بعد إلى أننا لا نفرض أبدًا أية التزامات صارمة في هذا الخصوص؟ تذكَّر للمرة النهائية أننا في مثل هذه المسائل جميعًا نعتمد نظرة عقلانية إلى الأمور، لا نظرة متعصِّبة. إذا كان امرؤ لا يستطيع أن يستغني عن اللحم بسبب المرض أو دوام العادة، فلا يُحرَمنَّ من أكله بأيِّ حال من الأحوال. ليس هذا جرمًا – وإن كان سيؤخر تقدُّمه قليلاً وحسب. مهما قيل أو فُعِلَ، فإن الأفعال والوظائف الجسمانية الصرفة أقل أهمية بكثير مما يفكِّر فيه امرؤ ويشعر به، من الرغبات التي يفسح لها المجال في ذهنه ويسمح لها بالتجذُّر والنمو هناك.

السائل: فما قولك فيما يتعلق بِشُرْب الخمر والمشروبات الروحية؟ أظنكم لا تنصحون للناس بشربها.

الثيوصوفي: أثرُها أسوأ على نموِّ الإنسان الخُلُقي والروحي من اللحم؛ إذ إن للكحول، بأشكاله كلِّها، تأثيرًا مباشرًا، بارزًا، ومضرًّا جدًّا على حالة المرء النفسانية. غير أن معاقرة الخمر والمشروبات الكحولية أقل ضررًا على تنمية القدرات الباطنة من الإدمان على تعاطي الحشيش والأفيون والعقاقير المشابهة.

الثيوصوفيا والزواج

السائل: فننتقل الآن إلى سؤال آخر: هل يجب على المرء أن يتزوج أو أن يبقى عازبًا؟

الثيوصوفي: هذا يتوقف على نوعية المرء الذي تعنيه. إذا كنت تعني امرأً ينوي أن يعيش في العالم، امرأً، على كونه ثيوصوفيًّا طيبًا مخلصًا وعاملاً شديد التحمُّس لقضيتنا، مازال مشدودًا إلى العالم بقيود وأمنيات، امرأً، باختصار، لا يشعر أنه أنهى حساباته مع ما يسمِّيه البشر الحياة، لكنه يرغب في شيء واحد – وفي شيء واحد وحسب: معرفة الحقيقة، والقدرة على مساعدة الآخرين، إذ ذاك، أقول لمثل هذا المرء إنه لا مانع من أن يتزوج، إذا كان يودُّ أن يجازف في مخاطر هذا اليانصيب، حيث فُرَصُ الخسارة أكبر بكثير من فُرَصِ الربح. قطعًا لا يمكن لك أن تظنَّنا من السخف والتعصب بحيث نعظ بعدم الزواج إجمالاً؟ الزواج، على العكس – اللهم إلا في بضع حالات استثنائية تتعلَّق بالغيبيات العملية – هو الحصن الوحيد ضد الفسق.

السائل: ولكن لماذا لا يستطيع المرء أن يتحصَّل على هذه المعرفة والقدرة وهو يحيا حياة زوجية؟

الثيوصوفي: ليس هاهنا، سيدي العزيز، مقام الخوض معك في مسائل فسيولوجية؛ لكني أستطيع أن أعطيك جوابًا واضحًا، أظنُّه كافيًا، من شأنه أن يعلِّل لك الأسباب الخُلُقية التي نقدِّمها لذلك. هل يستطيع امرؤ أن يخدم سيِّدين؟ لا! كذلك يتعذَّر عليه، سواء بسواء، توزيع اهتمامه بين تعاطي الغيبيات وبين زوج. فإذا حاول ذلك، سيخفق لا محالة في القيام بكلا الأمرين على الوجه الصحيح. ودعني أذكِّرك بأن الغيبيات العملية دراسة أخطر شأنًا وأكثر جدِّية بكثير من أن يقوم بها امرؤ، ما لم يكن يتحرَّق إخلاصًا واستعدادًا للتضحية بـكلِّ شيء، بنفسه قبل كلِّ شيء، للفوز بغايته. لكن هذا لا ينطبق على أعضاء شعبتنا الباطنة. أنا أتكلَّم فقط على الذين عقدوا العزم على السير على درب المريدية، ذاك الذي يقود إلى الغاية الأسمى. أما أولئك الذين ينتسبون إلى شعبتنا الباطنة فهم، في معظمهم، إن لم نقل في غالبيتهم، مجرَّد مبتدئين، يستعدون في هذه الحياة للسير على تلك الدرب فعليًّا في أعمار مقبلة.

الثيوصوفيا والتربية

السائل: من أقوى حُجَجك على عدم ملاءمة الأشكال الحالية للدين في الغرب، وكذلك إلى حدٍّ ما الفلسفة المادية التي باتت الآن تتمتع بكثير من الشعبية – مع أنه يبدو أنك تعتبرها رجسًا من الخراب – حجة وجود هذا القدر الكبير من البؤس وسوء الحال، بما لا يمكن إنكاره، ولاسيما في مدننا الكبرى. لكنك يجب أن تعترف قطعًا بكلِّ ما تمَّ القيام به – وبما يتم القيام به – لتدارُك هذا الوضع بتعميم التعليم ونشر المعلومات.

الثيوصوفي: ستكاد الأجيال القادمة ألا تكون ممتنة لكم على مثل هذا "النشر للمعلومات"؛ وحتى تعليمكم الحالي لن يكون ذا فائدة تُذكَر للجماهير الفقيرة الجائعة.

السائل: آه، لكنك يجب أن تمنحنا الوقت لذلك. إذ لم ينقضِ غير بضعة سنوات على بدئنا بتعليم الناس.

الثيوصوفي: فقل لي، من فضلك، ماذا فعل دينُك المسيحي منذ القرن الخامس عشر، مادمت تعترف بأن تعليم الجماهير لم يُباشَر حتى الآن – العمل (إن كان يمكن له أن يوجد أصلاً!) الذي كان ينبغي على الكنيسة والشعب المسيحيين، أي أتباع المسيح، أن يقوما به؟

السائل: طيب، قد تكون على حق؛ ولكن الآن...

الثيوصوفي: دعنا وحسب ننظر في مسألة التعليم هذه من منظار أوسع، ولسوف أبرهن لك أنكم، بالعديد من تحسيناتكم التي تباهون بها، تضرون ولا تنفعون. صحيح أن المدارس المخصَّصة للأطفال الفقراء، على كونها أقل فائدة مما ينبغي أن تكون عليه بكثير، جيدة بالمقارنة مع البيئة الكريهة التي يحتِّمها عليهم مجتمعُكم العصري، إنما بثُّ القليل من الثيوصوفيا العملية من شأنه أن يساعد الجماهيرَ المعدمة الشقية في الحياة أكثر بمئة مرة من بثِّ المعلومات (عديمة الفائدة) هذا كلِّه.

السائل: ولكن، حقًّا...

الثيوصوفي: دعني أكمل، من فضلك. لقد فتحت موضوعًا يحزُّ في نفوسنا، نحن الثيوصوفيين، عميقًا، وينبغي أن أقول فيه رأيي. أوافقك كلَّ الموافقة أن هناك ميزة كبيرة لطفل صغير نشأ في الأحياء القذرة، وكان ملعبه مصارف المياه، وعاش وسط فحش مستمر، فعلاً وقولاً، أن يوضَع يوميًّا في صفٍّ مضاء نظيف، جدرانه مزينة باللوحات، وكثيرًا ما تُبْهِج منظرَه الزهور. هناك يلقَّن أن يصير نظيفًا، لطيفًا، ومرتبًا؛ هناك يتعلَّم الغناء واللعب؛ يتمتع بألعاب توقظ فطنته؛ يتعلَّم كيف يستعمل أصابعه بلباقة؛ يخاطَب بابتسامة بدلاً من العبوس في وجهه؛ يوبَّخ أو يُداجَن بلطف بدلاً من أن يُلعَن. هذا كلُّه يؤنْسِنُ الأطفال، ينشِّط أدمغتهم، ويجعلهم قابلين لشتى المؤثرات العقلية والخُلُقية. المدارس ليست على كلِّ ما يمكن لها وما ينبغي عليها أن تكونه؛ لكنها جِنان بالمقارنة مع البيوت؛ وهي تنعكس انعكاسًا بطيئًا على البيوت. ولئن صحَّ هذا على العديد من المدارس الداخلية، غير أن نظامكم يستحق أسوأ ما يمكن أن يقال فيه.

السائل: فليكن. تابع.

الثيوصوفي: ما هو الهدف الحقيقي للتعليم الحديث؟ هل هو تنشئة الذهن وتنميته في الاتجاه السليم؛ تعليم المحرومين والضعفاء من الناس احتمالَ عبء الحياة (الذي يقسِّطه لهم كرما) برباطة جأش؛ تقوية إرادتهم؛ تلقينهم محبة القريب والشعور بالتكافل والإخاء – وبذلك ترويض الطبع وتأهيله للحياة العملية؟ بتاتًا! ومع ذلك، لا ريب في أن هذه هي أهداف كلِّ تربية سليمة. لا أحد ينكر ذلك؛ جميع مربِّيكم يقرون به، ويطنبون فعلاً في الكلام على الموضوع. لكن ما هي نتيجة عملهم العملية؟ كلُّ فتى وصبي، لا بل كلُّ واحد من معلِّمي المدارس الشباب سوف يجيب: "هدف التربية الحديثة هو اجتياز الامتحانات" – نظام غير مؤهَّل لتنمية المنافسة الشريفة، بل لزرع بذور الغيرة، والحسد، والكراهية تقريبًا، في نفوس الشباب بعضهم حيال بعض، وبالتالي، ترويضهم على حياة من الأثرة الشرسة والصراع على المناصب والامتيازات، بدلاً من الشعور الودود.

السائل: لا بدَّ من الاعتراف بأنك على حقٍّ في هذا.

الثيوصوفي: وما هي هذه الامتحانات – رعب الصبا والشباب المعاصرين؟ إنها ببساطة منهج للتصنيف تتمُّ به جَدْوَلَةُ تعليمكم المدرسي. إنها، بعبارة أخرى، تشكِّل التطبيق العملي للمنهجية العلمية الحديثة على الجنس البشري، منظورًا إليه من منظار العَقْلَنَة. بيد أن "العلم" يعلِّم أن الفكر هو نتاج التفاعل الآلي لمادة المخ[2]؛ وبالتالي، فمن المنطقي تمامًا أن التربية الحديثة تكاد أن تكون برمَّتها آلية – نوعًا من الآلة الأوتوماتيكية لتصنيع الفكر بالأطنان! حسبنا القليل من الخبرة في الامتحانات لتبيان أن التربية الناجمة عنها ما هي إلا تدريب للذاكرة الجسمانية – وعاجلاً أم آجلاً سوف تصل مدارسُكم جميعًا إلى هذه الحال المزرية. أما التنشئة الحقيقية، المتينة، للتفكير وللعاقلة فهي ببساطة متعذرة لأن كلَّ شيء ينبغي أن يحاكَم بالنتائج كما تقيسها الامتحانات التنافسية. أجل، إن التأهيل المدرسي هو من الأهمية بمكان في تكوين الطبع، ولاسيما في معناه الخُلُقي. غير أن نظامكم الحديث، من أوَّله إلى آخره، يقوم على الكشوف العلمية المزعومة: "الصراع على الوجود" و"بقاء الأصلح".[3] كلُّ إنسان، طوال السنوات الأولى من حياته، يُحقَن بها، إنْ بالمثال والخبرة العمليين، أو بالتلقين المباشر، إلى أن يتعذَّر استئصالُ فكرة أن "الذات" – تلك الذات الدنيا، الشخصية، الحيوانية – هي الهدف الأقصى والجوهر النهائي للحياة من ذهنه. هاهنا مصدر المنشأ الرئيسي للعواقب التالية، بؤسًا، وجريمةً، وأثرةً لا رحمة فيها، التي تقر بها مثلما أفعل. فالأثرة، كما قيل مرارًا وتكرارًا، هي لعنة البشرية، والوالدة الخصبة لشرور هذه الحياة وجرائمها طرا – ومدارسُكم هي بؤر مثل هذه الأثرة.

السائل: ذاك كلُّه جيد من منظار العموميات، لكني أطالب ببضعة وقائع، وأود كذلك أن أعرف كيفية تدارُك ذلك.

الثيوصوفي: طيب جدًّا، سوف أحاول أن أرضيك. هناك ثلاثة تقسيمات كبرى للمؤسَّسات المدرسية: المدارس الداخلية، ومدارس الطبقة الوسطى، والمدارس الحكومية، تتدرَّج بين الأغلظ تجاريًّا وبين الكلاسيكي المثالي، يتخلَّلها الكثير من التقليبات والتداخلات. المدارس العملية التجارية تنمِّي الجانب الحديث، والمدارس الكلاسكية التقليدية القديمة تسحب محترميَّتها الثقيلة على المؤسَّسات التعليمية الحكومية لإعداد المعلِّمين. وهنا نرى بوضوح الجانبَ التجاري، العلميَّ والمادي، يحل محلَّ الجانب التقليدي والكلاسيكي البالي. ومعرفة السبب كذلك ليست بالأمر الصعب. فموضوعات فرع التربية هذا هي، إذن، الجنيهات والشلنات والقروش، بما هي جماع الخير في القرن التاسع عشر. بذلك فإن الطاقات التي تولِّدها الجزيئات الدماغية للذاهبين هذا المذهب متركزة جميعًا على نقطة واحدة؛ وهي، بالتالي، إلى حدٍّ ما، جيش منظَّم من العقول المتعلِّمة والنظرية لأقلية من البشر، مدرَّبة على السيطرة على حشود الجماهير الجاهلة والساذجة المحكوم عليهم بتطفل إخوانهم المتفوقين فكريًّا عليهم وباستغلالهم لهم وسحقهم. مثل هذا التأهيل ليس غير ثيوصوفي وحسب، بل هو غير مسيحي أيضًا. والنتيجة: العاقبة المباشرة لفرع التربية هذا هو إغراق السوق بآلات لكسب للمال، ببشر أنانيين قُساة – حيوانات – دُرِّبوا بكلِّ عناية تدريبًا يعدُّهم لافتراس رفاقهم واستغلال جهل إخوانهم الأضعف!

السائل: طيب، لكنك لا تستطيع أن تؤكد بأن ذلك يصح، على كلِّ حال، على مدارسنا الحكومية الكبرى؟

الثيوصوفي: ليس تمامًا، أوافقك. ولكن مع أن الشكل مختلف، فإن الروح المحرِّكة هي هي: غير ثيوصوفية وغير مسيحية، سواء خرَّجتْ إيتون وهارُّو[4] علماء أو رجال دين وعلماء لاهوت.

السائل: أنت حتمًا لا تقصد نعت إيتون وهارُّو بـ"التجارة"؟

الثيوصوفي: لا. النظام الكلاسيكي، بالطبع، هو، فوق كلِّ شيء، محترم، وهو في أيامنا هذه يثمر عن بعض الخير. وهي مازالت الأفضل بين مدارسنا الحكومية الكبرى، حيث لا يتم تحصيل تعليم فكري وحسب، بل تعليم اجتماعي أيضًا. لذا فإن من الأهمية بمكان أن يذهب أبناءُ الأسر الأرسطوقراطية الثرية البليدون إلى مثل تلك المدارس حتى يعاشروا بقية أقرانهم من شباب الطبقات "النبيلة" والميسورة. لكن، بكلِّ أسف، هناك منافسة شديدة على الدخول حتى؛ إذ إن الطبقات الميسورة في تزايد، والصبية الفقراء، لكن الأذكياء، يسعون إلى الحصول على منح من الأغنياء لدخول المدارس الحكومية، ومنها الانتساب إلى الجامعات.

السائل: بحسب هذه النظرة، على "البلداء" الأغنى أن يكدوا أكثر من رفاقهم الأفقر حتى؟

الثيوصوفي: هو كذلك. لكن الغريب في الأمر أن أصحاب عقيدة "بقاء الأصلح" لا يعملون بعقيدتهم؛ إذ تذهب جهودهم برمَّتها إلى جعل غير المؤهَّلين طبيعيًّا يحلون محلَّ المؤهلين. وبذلك فإنهم، عن طريق الرشاوى والمال الوفير، يُغرون خيرة الأساتذة بالتحول عن طلابهم الموهوبين لتلقين أبنائهم غير المؤهَّلين طبيعيًّا آليات مِهَنٍ تكتظ بهم من غير فائدة.

السائل: وإلامَ تعزو هذا كلَّه؟

الثيوصوفي: يعود هذا كلُّه إلى خبث نظام ينتج البضائع عند الطلب، بصرف النظر عن ميول الشباب ومواهبهم الطبيعية. والمرشحون الفقراء الصغار لهذا الفردوس التعليمي المبرمج يكاد أن يأتي مباشرة من دار الحضانة إلى الرتابة المملة للمدرسة الإعدادية لأبناء السادة. وهنا ينقضُّ عليه على الفور عمالُ المصنع المادي–الفكري، ويحشون دماغه حشوًا بقواعد صرف ونحو اللاتينية والفرنسية والإغريقية، بالتواريخ والجداول، بحيث، إذا كان موهوبًا قدرًا ما من العبقرية، فإنه هذه سرعان ما تُعتصَر منه بإمراره بين أسطوانات ما توفَّق كارلايل إلى تسميته بـ"المفردات الميتة".

السائل: لكنه قطعًا يُلقَّن شيئًا آخر غير "المفردات الميتة"، بل الكثير مما قد يقوده رأسًا إلى الثيوصوفيا، وحتى إلى الجمعية الثيوصوفية؟

الثيوصوفي: ليس الكثير. فمن التاريخ سوف يحصِّل ما يكفي من المعرفة عن أمَّته هو فقط، ليتدرَّع بدرع فولاذي من التحامُل على الشعوب الأخرى كافة، ولإغراقه في مجمع القاذورات الكريه للحقد القومي والتعطش إلى الدم المؤرَّخ – وأنت، قطعًا، لن تسمي ذلك ثيوصوفيا!

السائل: ما هي اعتراضاتكم الأخرى؟

الثيوصوفي: بالإضافة إلى هذا، هناك نبذة مختارة، على حدِّ زعمهم، من الوقائع الكتابية، التي يلغى من دراستها إعمالُ للعقل. إنه ببساطة درسٌ في الحفظ غيبًا، حيث تكتفي "لماذا" المدرِّس بتعليل الظروف، وليس الأسباب.

السائل: أجل، ولكني سمعتك تهنِّئ نفسك بالعدد المتزايد من اللاأدريين والملاحدة في يومنا هذا، بحيث يبدو أنه حتى الناس المدرَّبون في النظام الذي تسفِّهه بكلِّ هذا الحماس يتعلمون فعلاً أن يفكروا ويعقلوا بمفردهم.

الثيوصوفي: نعم، ولكن من جرَّاء ردَّة فعل صحية على ذلك النظام، وليس بفضل منه. ونحن، في جمعيتنا، نفضل بما لا يقاس اللاأدريين، وحتى عتاة الملاحدة، على المتزمِّتين، من أيِّ دين كانوا. فذهن اللاأدري مفتوح أبدًا للحقيقة؛ بينما الحقيقة تُعمي بَصَرَ المتزمِّت كما تُعمي الشمسُ بَصَرَ البومة. إن خيرة أعضائنا – أي أكثرهم حبًّا بالحقيقة، أكثرهم إحسانًا، وأصدقهم – كانوا، وهم الآن، لاأدريين وملحدين (غير مؤمنين بإله شخصي). ولكن ليس هناك شبان وشابات مفكرون أحرار من تلقاء نفوسهم، والتأهيل الباكر لا بدَّ عمومًا من أن يترك سِمَتَه على هيئة ذهن سقيم ومشوَّه. لا بدَّ لنظام تربوي سليم وصحيح أن يلد الذهن الأكثر حيوية وتحررًا، المدرَّب تدريبًا صارمًا على التفكير المنطقي الدقيق، وليس على الإيمان الأعمى. فكيف يمكن لك يومًا أن تتوقع نتائج طيبة، وأنت تُفسِد عاقلة أبنائك بحملهم على الإيمان بمعجزات الكتاب يوم الأحد، بينما تعلِّمهم طوال الأيام الستة الباقية أن أمورًا كهذه مستحيلة علميًّا؟

السائل: فماذا كنتم لتفعلون إذن؟

الثيوصوفي: لو كان لدينا المال، لأسَّسنا مدارس يتخرَّج منها أناسٌ ليسوا مرشحين للجوع ملمون بالقراءة والكتابة. على الأطفال أن يتعلَّموا، قبل كلِّ شيء، الاتكال على النفس، ومحبة البشر أجمعين، والغيرية، والإحسان المتبادل، وأكثر من أيِّ شيء آخر، كيف يفكرون ويعقلون بأنفسهم. ولسوف نختصر عمل الذاكرة الميكانيكي المحض إلى حدِّه الأدنى الضروري، ونخصِّص الوقت لتنمية حواسهم وملَكاتهم الباطنة وقدراتهم الكامنة ولتدريبها. لسوف نحرص على التعامُل مع كلِّ طفل بوصفه واحدة مستقلة، وعلى تربيته بحيث يبلغ تفتحَ قدراته الأكثر تناغمًا وتوازنًا، من أجل أن تتفتح استعداداتُه الخاصة أقصى تفتحها الطبيعي. لسوف نستهدف إيجاد رجال ونساء أحرار، أحرار فكريًّا، أحرار معنويًّا، غير متعصبين من كلِّ النواحي، وفوق كلِّ شيء، غير أنانيين. ونحن نعتقد أن جلَّ هذا – إن لم نقل كلَّه – يمكن لتربية صحيحة وثيوصوفية حقًّا أن تؤمِّنه.

لماذا، إذن، هناك هذا التحامُل كلُّه على الج.ث.؟

السائل: إذا افترضنا أن الثيوصوفيا ليست إلا نصف ما تقول حتى، ما مسوِّغ هذا الاستياء كلِّه ضدها؟ فهذا مكمن المشكلة أكثر من أيِّ شيء آخر.

الثيوصوفي: هو كذلك. لكنْ يجب ألا يغيب عن ذهنك كم من الخصوم الألداء استعدينا منذ تأسيس جمعيتنا. كما قلت لتوِّي، لو كانت الحركة الثيوصوفية واحدة من تلك الصرعات العصرية العديدة، المأمونة الجانب في النهاية بقدر ما هي سريعة الزوال، لكان الناس اكتفوا بالسخرية منها – كما يسخر منها الآن أولئك الذين لا يفقهون القصد الحقيقي منها – ولتعمَّدوا تجاهُلها. لا شيء من هذا. الثيوصوفيا، بحكم طبيعتها، هي أكثر حركات عصرنا جدية؛ وهي، علاوة على ذلك، حركة تهدِّد في حياتها نفسها غالبية أعرق ضروب التدليس والتعصب والشرور الاجتماعية الحالية – تلك الشرور التي تسمِّن عشرةً من أصحاب المنازل العليا ومن أتباعهم من المقلِّدين والمتزلِّفين لهم وتُسعِِدهم، وبضع دزِّينات من أثرياء الطبقات الوسطى، في حين أنها يقينًا تسحق وجود ملايين الفقراء وتجوِّعهم. فكِّر في هذا، ولسوف تفهم في سهولة سبب اضطهاد كهذا لا هوادة فيه من جانب أولئك الذين – وهم الأدق ملاحظة والأثقب ذهنًا – يرون فعلاً الطبيعة الحقيقية للثيوصوفيا، فيخشونها.

السائل: هل تقصد أن تقول لي إن هناك ثلة فهمتْ مقاصد الثيوصوفيا، وأنهم، لهذا السبب، يحاولون أن يسحقوا الحركة؟ ولكن إذا كانت الثيوصوفيا لا تقود إلا إلى الخير، فإنك قطعًا لا يحق لك أن تنطق بمثل هذا الاتهام الرهيب بالقسوة والغدر الخسيسين – حتى لتلك الثلة؟

الثيوصوفي: على العكس، يحق لي ذلك. فأنا لا أنعت الأعداء الذين اضطررنا إلى مجابهتهم إبان التسع أو العشر سنين الأولى من عمر الجمعية لا بالقدرة ولا بـ"الخطر"، بل فقط أولئك الذين قاموا علينا في السنين الثلاث أو الأربع الأخيرة. وهؤلاء لا يتكلَّمون ولا يكتبون ولا يكرزون ضد الثيوصوفيا، بل يعملون في الصمت ومن خلف ظهور الدمى الحمقاء المرئية التي يحركونها بخيوطهم الخفية. ولئن كانوا خارج أنظار غالبية أعضاء جمعيتنا، إلا أن "مؤسِّسي" جمعيتنا الحقيقيين وحماتها يعرفونهم تمام المعرفة. لكن أسماءهم يجب أن تبقى طيَّ الكتمان في الوقت الحاضر لأسباب تخصنا.

السائل: هل يعرفهم كثيرون منكم، أم أنك وحدك تعرفهم؟

الثيوصوفي: لم أقل قط أني أعرفهم. قد أعرفهم وقد لا أعرفهم – حسبي أن أعرف بـوجودهم. وأنا أتحداهم أن يفعلوا أسوأ ما تطاله أيديهم. قد ينجحون في إلحاق أذى كبير بنا وفي بذر البلبلة بين صفوفنا، ولاسيما بين أصحاب القلوب الخائرة والذين لا يحكمون إلا بحسب المظاهر. لكنهم لن يسحقوا الجمعية، مهما فعلوا. وماعدا أولئك الأعداء الخطرين حقًّا – إنما "الخطرين" فقط على أولاء الثيوصوفيين غير المستحقين لِلَقَبِهم، الذين مكانهم بالأحرى خارج الج.ث.، وليس داخلها – فإن عدد خصومنا أكثر من أن يستهان به.

السائل: هل تستطيع أن تسمِّي هؤلاء، على الأقل، مادمت لا تريد أن تتكلَّم على الآخرين؟

الثيوصوفي: بالطبع أستطيع. علينا أن نقاوم 1) كراهية الأرواحيين، أمريكيين وإنكليز وفرنسيين؛ 2) المعارضة الدائمة من رجال الدين من المذاهب كافة؛ 3) وبخاصة كراهية المبشِّرين في الهند واضطهادهم الذي لا يفتر؛ 4) وهذا قاد إلى حملة "جمعية البحوث النفسانية" الشهيرة والخسيسة على جمعيتنا الثيوصوفية – وهي حملة أثارتْها مؤامرةٌ حقيقية أعدَّ لها المبشِّرون في الهند. وأخيرًا، يجب أن نذكر في عِدادهم أعضاء الجمعية البارزين (؟) الذين نقضوا ولاءهم لأسباب سبق لي أن شرحتُها – وجميعهم أسهم بكلِّ ما في وسعه في زيادة التحامُل على الجمعية.

السائل: ألا يمكن لك أن تقدِّم لي تفاصيل أكثر عن هؤلاء، وذلك لكي أعرف بماذا أجيب حين أُسأل – موجزًا لتاريخ الجمعية الثيوصوفية، باختصار، ولماذا يصدِّق العالمُ هذا كلَّه؟

الثيوصوفي: السبب بسيط. فغالبية الغرباء لم تكن تعرف شيئًا عن الجمعية نفسها مطلقًا، دوافعها، غاياتها، أو معتقداتها. فمنذ بداية الثيوصوفيا نفسها، لم يَرَ العالم فيها شيئًا غير ظواهر خارقة معينة، لا يصدقها ثلثا غير الأرواحيين. وهكذا سرعان ما بات يُنظَر إلى الجمعية بوصفها كهيئة تزعُم امتلاك قدرات "عجائبية". لم يدرك العالم قط أن الجمعية كانت تعلِّم الكفر المطلق بالـمعجزة أو حتى بإمكان وجودها؛ وأنه في الجمعية لم يكن ثمة غير بضعة أناس يمتلكون مثل هذه القدرات النفسانية، وثلة أصغر من هؤلاء يهتمون بها حتى. كما لم يفهم أن الظواهر لم تمارَس علانية، بل خلوةً لبعض الأصدقاء، وفقط كمجرَّد شيء ثانوي للإثبات بالبرهان المباشر أن مثل هذه الأمور يمكن لها أن تمارَس بلا غرف مظلمة، ولا "أرواح"، ولا وسطاء، ولا أيِّ من المعدات المعتادة. ولسوء الحظ، تعزَّز هذا التصور المغلوط وبولغ فيه من جرَّاء الكتاب الأول في الموضوع الذي حرَّض الكثير من الانتباه في أوروبا – كتاب السيد سينِّيت العالم الغيبي.[5] لئن ساعد هذا المؤلَّف كثيرًا في لفت الأنظار إلى الجمعية، إلا أنه جلب المزيد من الاستنكار والهزء والتصورات المغلوطة على أبطاله المغلوبين على أمرهم وعلى بطلته المنكودة. وقد تلقَّى واضعُ الكتاب أكثر من تحذير في العالم الغيبي، لكنه لم يُعِرْ انتباهًا للـنبوءة – إذا إنها كانت نبوءة، على كونها نصف محجوبة.

السائل: علامَ يكرهكم الأرواحيون، ومنذ متى؟

الثيوصوفي: منذ اليوم الأول من عمر الجمعية. إذ لم يكد يُعلَم أن الجمعية، كهيئة، تكذِّب الاتصالات مع أرواح الموتى، بل تعتبر "الأرواح" المزعومة، في معظمها، انعكاسات نجمية للشخصيات المفصولة عن أبدانها، وقواقع، إلخ، حتى أعرب الأرواحيون عن كره عنيف لنا، وبخاصة للمؤسِّسين. وهذا الكره تمَّ التعبير عنه بشتى أنواع الافتراء، والانتقادات الشخصية الجائرة، والتصورات المغلوطة السخيفة عن التعاليم الثيوصوفية في الصحف الأرواحية الأمريكية كافة. وطوال سنوات، اضطُهِدنا وشُهِّر بنا وسُفِّهنا. وقد بدأ هذا في العام 1875، ومازال مستمرًا حتى يوم الناس هذا. في العام 1879، تمَّ نقل مقر الـج.ث. من نيويورك إلى بومباي، الهند، ثم إلى مدراس بصفة دائمة. وعندما تأسَّس الفرع الأول لجمعيتنا، الـج.ث. البريطانية، في لندن، حمل علينا الأرواحيون الإنكليز حملة شعواء، مثلما فعل رفاقهم الأمريكيون؛ ثم سار الأرواحيون الفرنسيون على خطاهم.

السائل: ولكن لماذا يعاديكم رجال الدين مادام الميل الرئيسي للعقائد الثيوصوفية، في النهاية، مناوئًا للمادية، العدوِّ اللدود لأشكال الدين في أيامنا كافة؟

الثيوصوفي: لقد عادانا رجال الدين عملاً بالمبدأ العام الذي مفاده: "من لم يكن معي فهو ضدي." وبما أن الثيوصوفيا لا تتفق مع أيِّ ملَّة أو مذهب، فلا بدَّ أن تُعتبَر عدوَّتَها جميعًا على حدٍّ سواء، لأنها تعلِّم بأنها جميعًا مخطئة، بدرجة تزيد أو تنقص. أما المبشِّرون في الهند فقد كرهونا وحاولوا تحطيمنا لأنهم رأوا زهرة الشباب الهندي المثقف والبرهمانيين، الذين استعصوا عليهم، ينضمون إلى الجمعية بأعداد غفيرة. ومع ذلك، باستثناء هذا العداء الطبقي العام، هناك في عِداد صفوف الجمعية العديد من رجال الدين، وحتى مطران أو اثنان.

السائل: فما الذي دفع بجمعية البحوث النفسانية إلى مناصبتكم العداء؟ كلاكما وضع نصب عينيه برنامج الدراسة نفسه، من بعض الوجوه، وكان عددٌ من الباحثين النفسانيين منتسبين إلى جمعيتكم.

الثيوصوفي: في بداية الأمر، كانت تربطنا صداقة طيبة جدًّا بقادة ج.ب.ن.؛ ولكن عندما نُشِرَ التهجُّم على الظواهر في مجلة المعهد المسيحي،[6] تؤيِّدها معلومات مزعومة مصدرها أحد الخَدَم، وجدت ج.ب.ن. أنهم وضعوا أنفسهم موضع الريبة بنشرهم في "مَحَاضِرهم" العديد من الظواهر التي جَرَتْ ذات الصلة مع الـج.ث. فطموحهم هو أن يتخذوا وضعية هيئة علمية حصرًا ذات مرجعية؛ لذا كان عليهم أن يختاروا بين الاحتفاظ بتلك المنزلة بنبذ الـج.ث.، وحتى بمحاولة تحطيمها، وبين رؤية أنفسهم مختلطين، في رأي صادوقيي المجتمع الراقي[7]، مع الثيوصوفيين والأرواحيين "السذَّج". لم يجدوا لأنفسهم مخرجًا من المأزق، لم يجدوا خيارين، فاختاروا أن يتخفَّفوا منًّا. كان الأمر في نظرهم ضرورة لا مندوحة عنها. لكنهم من فرط اضطرارهم إلى إيجاد أيِّ دافع لدى المؤسِّسين، معقول من حيث الظاهر، إلى حياة عمادها الانقطاع المخلص والعمل الدؤوب، وإلى الغياب التامِّ لأيِّ مكسب مادي أو أيِّ امتياز آخر عندهما، لم يجد أعداؤنا بدًّا من اللجوء إلى "نظرية التجسس لحساب الروس" الشهيرة الآن، المثلَّثة التفاهة والفائقة السخف، لتفسير هذا الإخلاص. لكنهم لم يفعلوا سوى البرهان من جديد على صحة المثل القديم: "دم الشهداء بذار الكنيسة." فبعد تلقِّي الصدمة الأولى لهذا الهجوم، تضاعف عدد أعضاء الـج.ث. مرتين وثلاث مرات، لكن الانطباع السيئ الناتج مازال باقيًا. لقد أصاب كاتبٌ فرنسي بقوله: "افتروا، افتروا دائمًا مزيدًا من الافتراء، فلا بدَّ أن يبقى دومًا شيء منه."[8] وتلك هي الحال: الإجحاف الظالم مازال جاريًا، وكلُّ ما هو متعلق بالـج.ث. – وبمؤسِّسَيْها خاصة – يشوَّه تشويهًا زائفًا لأنه يقوم على الأقاويل الخبيثة وحدها.

السائل: ومع ذلك فإبان الـ14 عامًا من عمر الجمعية، لا بدَّ أنكم حظيتم بما يكفي من الوقت والفرص لإظهار أنفسكم وعملكم على ما هو حقًّا؟

الثيوصوفي: كيف، أو متى، أُعطِينا مثل هذه الفرصة؟ لقد كان أمْيَزُ أعضائنا ينفرون من أيِّ شيء يبدو وكأنه يبرِّرهم علانية. لقد كانت سياستُهم دومًا: "فلنصبر حتى تزول الغمَّة"، و"ما همُّنا ما تقول الصحف وما يظنُّه الناس؟" لقد كانت الجمعية أفقر من أن تكلِّف محاضرين بإلقاء محاضرات علنية، مما جعل عَرْضَ نظراتنا وعقائدنا تقتصر على بضعة مؤلَّفات ثيوصوفية قوبلت بنجاح، لكن الناس غالبًا ما أساؤوا فهمها أو لم يدروا بها إلا سماعًا. وقد قوطعت مجلاتُنا – وما تزال – وتجوهِلَت مؤلَّفاتُنا؛ وحتى يوم الناس هذا يبدو أنه ما من أحد مستيقن تمامًا مما إذا كان الثيوصوفيون نوعًا من عبَّادي الثعبان والشيطان، أو مجرَّد "بوذيين باطنيين" – أيًّا كان معنى هذا. لم نَرَ من جدوى في الاستمرار، يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، في تكذيب كلِّ أنواع الحكايات الملفَّقة التي لا تُصدَّق عنَّا؛ إذ ما أن كنَّا ننتهي من إحداها حتى كانت حكاية أخرى، أسخف وأخبث، تنبعث من جديد من رماد سابقتها. فتكوين الطبيعة البشرية هو ما هو بحيث إن أيَّ خير يقال في شخص ما سرعان ما يُنسى ولا يُذكَر أبدًا من بعدُ؛ إنما حسب المرء أن يتفوَّه بفرية، أو يُشيع أكذوبة يلصقها بشخصية ما غير شعبية – مهما كانت سخيفة، كاذبة، أو غير قابلة للتصديق – حتى تنتشر وتُقبَل على الفور كحقيقة تاريخية. فمثلها مثل شخصية "كالومنيا"[9] في مسرحية دون باسيليو، تنطلق الإشاعة، أولاً، كالنسيم الخفيف اللطيف الذي يكاد ألا يحرِّك العشب تحت قدميك، ولا يدري أحدٌ من أين تهب؛ ثم، في لمح البصر، تتحول إلى ريح عاتية، وتبدأ بإثارة زوبعة هوجاء، وسرعان ما تصير عاصفة مزمجرة! فمقام الافتراء بين الأخبار مقام الأخطبوط بين السمك: فهو يلتصق بذهن المرء، ويتشبَّث بذاكرتنا، التي تقتات به، تاركًا علامات لا تمحى، حتى بعد أن يزول ماديًّا. فالأكذوبة المفترية هي المفتاح الذي يستطيع أن يفتح كلَّ الأدمغة بلا استثناء. فهي تلقى الترحاب والضيافة قطعًا في كلِّ الأذهان البشرية (على أن تكون هذه على شيء قليل من التحامُل)، من أرقاها إلى أدناها، أيًّا كان مبلغ وضاعة مصدرها ودوافعها.

السائل: ألا تظن أن كلامك برمَّته مُلقى على عواهنه؟ فالإنكليز ما كانوا يومًا قومًا متأهبين لتصديق كلِّ ما يقال، وأمَّتنا مضرب المثل في حبِّها للَّعب "حسب الأصول". فالكذبة ليس لها قدمان تقف عليهما طويلاً، و...

الثيوصوفي: الإنكليز لا يقلون استعدادًا لتصديق الشرِّ عن نظرائهم من أية أمَّة أخرى – فتلك هي الطبيعة البشرية، وليست سمة قومية. أما الأكاذيب، فإن لم تكن لها أقدام تقف عليها، بحسب المثل، فإن لها أجنحة على غاية من السرعة؛ وتستطيع أن تطير – بل هي تطير فعلاً – إلى أبعد وأعلى من أيِّ نوع آخر من الأخبار، في إنكلترا مثلما في غيرها. تذكَّر أن الأكاذيب والافتراءات هي النوع الأدبي الوحيد الذي يمكن لنا دومًا الحصول عليه مجانًا، من دون دفع أيِّ اشتراك! في وسعنا أن نقوم بالاختبار، إذا شئت. هل لك – أنت المهتم بالمسائل الثيوصوفية، يا مَن سمعت عنَّا الكثير – هل لك أن تطرح عليَّ أسئلة حول كلِّ ما يخطر ببالك من الإشاعات و"الأقاويل"؟ ولسوف أجيبك بالحقيقة، ولا شيء غيرها، ولك أن تُخضِع إجاباتي لأكثر وسائل التحقق صرامة.

السائل: قبل أن ننتقل إلى موضوع آخر، دعني أسمع منك الحقيقة كاملة عما يشيعه بعض الكتَّاب عنكم من كون تعاليمكم "إباحية وخبيثة"؛ كما أن هناك آخرين، متذرِّعين بأن العديد من "المرجعيات" المزعومة والمستشرقين لا يجدون في الديانات الهندية غير عبادة الجنس في كلِّ صورها، يتهمونكم بأنكم لا تعلِّمون شيئًا أفضل من عبادة القضيب. فبما أن الثيوصوفيا الحديثة، على حدِّ ما يذهبون إليه، وثيقةُ الصلة بالفكر الشرقي – الهندي بخاصة – فلا بدَّ أنها موصومة بهذه الوصمة. حتى إنهم أحيانًا يذهبون إلى حدِّ اتهام الثيوصوفيين الأوروبيين بإحياء الممارسات المرتبطة بهذه العبادة. فماذا عن هذه التهمة؟

الثيوصوفي: لقد سمعت بهذا وقرأت عنه من قبل؛ وأجيبك بأنه لم يسبق لافتراء على هذه الدرجة من الكذب وانعدام الأساس أن اختُرِع وأشيع. "السفهاء لا يرون إلا أحلامًا سفيهة"، كما يقول مثلٌ روسي. إن سماع مثل هذه التهم الشنيعة المرمية جزافًا بلا أدنى أساس، وبدافع الظنون وحدها، ليجعل دَمَ المرء يغلي. اسألْ مئات الرجال والنساء الإنكليز الشرفاء من أعضاء الجمعية الثيوصوفية منذ سنين إذا اتفق لهم يومًا أن لُقِّنوا أية وصية إباحية أو أية عقيدة خبيثة. افتح العقيدة السرية، وستجد، صفحة بعد صفحة، تنديدًا باليهود وغيرهم من الأمم، حصرًا بسبب ممارستهم لطقوس قضيبية، من جرَّاء التفسير الحرفي الميت لرموز الطبيعة والتصورات المادية الفظة لثنويَّتها في مذاهب أهل الظاهر كافة. إن مثل هذا التأويل المتكرِّر والسيئ النية لتعاليمنا ومعتقداتنا لهو مُخْزٍ حقًّا.

السائل: لكنك لا تستطيع أن تنكر بأن العنصر القضيبي موجود فعلاً في ديانات الشرق؟

الثيوصوفي: لا، لا أنكر ذلك؛ غير أني أذهب إلى أن هذا لا يبرهن على وجوده في ديانات الشرق بأكثر مما يبرهن على وجوده في المسيحية، ديانة الغرب. اقرأ كتاب جماعة وردة الصليب لهَرْغريف جينِّنِغ، إذا أحببت أن تتأكد بنفسك من الأمر. لعل الرمزية القضيبية أكثر فجاجة في الشرق لأنها أخْلَص للطبيعة، أو بالأصح، أكثر سذاجة وصدقًا منها في الغرب. لكنها ليست أكثر إباحية، ولا هي توحي للذهن الشرقي بالأفكار الغليظة والفظَّة نفسها التي توحي بها للذهن الغربي – ما عدا، ربما، استثناء واحد أو اثنين، من نحو النِّحلة المشينة المعروفة باسم "مهاراجا"، أو نِحلة فلابهاتشاريا.

السائل: لكن أحد الكتَّاب في الجريدة اللاأدرية – وهو واحد من متَّهميكم – لمَّح لتوِّه أن أتباع هذه النِّحلة المشينة هم ثيوصوفيون وأنهم "يدَّعون حيازة البصيرة الثيوصوفية الصحيحة".

الثيوصوفي: لقد افترى علينا – هذا كلُّ ما في الأمر. ليس بين أعضاء جمعيتنا فلابهاتشاريا واحد، لا في الماضي ولا في الحاضر. أما عن حيازتهم، أو ادِّعائهم حيازة البصيرة الثيوصوفية، فهذه تلفيقة أخرى، قائمة على جهل مطبق بالنِّحَل الهندية. إن زعيم هذه الطائفة – "المهاراجا" – يدَّعي فقط الحقَّ في مال أتباعه المغفَّلين ونسائهم وبناتهم، ليس إلا. وهذه الطائفة يحتقرها الهندوس الآخرون كافة.

على كلِّ حال، ستجد مناقشة مسهبة لهذه القضية في العقيدة السرية، الذي أحيلك إليه مرة أخرى من أجل تعليلات مفصَّلة. ختامًا فإن روح الثيوصوفيا نفسها مناوئة تمامًا لعبادة القضيب؛ في شعبتها الغيبية أو الباطنية أكثر منها حتى في التعاليم الظاهرية. لم أقع يومًا على تصريح أكْذَب من التصريح أعلاه. هيا الآن فاسألني بعض الأسئلة الأخرى.

هل الجمعية الثيوصوفية تنظيم هدفه كسب المال؟

السائل: مفهوم. طيب، هل سبق لأيٍّ من المؤسِّسَيْن – الكولونيل هـ.س. أولكوت وهـ.ب. بلافاتسكي – أن جنى مالاً أو فائدة أو استفاد منفعة دنيوية من الـج.ث.، كما تقول بعض الصحف؟

الثيوصوفي: ولا قرشًا واحدًا. الصحف تكذب. فعلى العكس، قدَّم كلاهما كلَّ ما كان يملك، لا بل لقد أفلسا. أما عن "المنافع الدنيوية"، ففكِّر في الافتراءات والمطاعن التي تعرضا لها، ثم أعِدْ طرح السؤال!

السائل: ومع ذلك فقد قرأت في عدد من صحف المبشِّرين بأن رسوم الانتساب والاشتراكات تغطي النفقات كلَّها وتفيض عنها بكثير؛ حتى إنه إحداها قالت إن المؤسِّسَيْن يكسبان عشرين ألف جنيهًا في السنة!

الثيوصوفي: هذا معلومة ملفَّقة هي الأخرى، مثل غيرها كثير. في موازنة كانون الثاني 1889 المنشورة، ستجد تصريحًا دقيقًا ومفصلاً بـكلِّ المبالغ الواردة من المصادر جميعًا منذ العام 1879. ومجموع الواردات من المصادر جميعًا (رسوم الانتساب، التبرعات، إلخ، إلخ) طوال هذه السنين العشر يقل عن ستة آلاف جنيه، وجزء كبير من هذا المبلغ أسهم به المؤسِّسان إياهما من مردود مواردهما الخاصة وكتاباتهما. وهذا كلُّه تمَّ إقرارُه علانية إقرارًا رسميًّا، حتى إن أعداءنا في جمعية البحوث النفسانية أقروه. وكلا المؤسِّسَيْن لم يعد يملك الآن شروى نقير: إحداهما أسنُّ وأكثر اعتلالاً من أن تعمل كما كانت تعمل في السابق، عاجزة عن تخصيص وقت للكتابة الأدبية حتى تساعد الجمعية بالمال، ولا يسعها أن تكتب إلا من أجل القضية الثيوصوفية؛ والثاني يواصل الكدَّ من أجل هذه القضية كما كان دأبُه في السابق، ولا يقابَل بامتنان على ذلك أكثر من ذي قبل.

السائل: لكنهما قطعًا يحتاجان إلى المال للعيش؟

الثيوصوفي: البتة. إذ مادام يتوفر لهما المأكل والمسكن – حتى إذا كانا يدينان بهما لإخلاص ثلة من الأصدقاء – فهما لا يحتاجان إلا إلى القليل أكثر.

السائل: ولكن، ألا تستطيع السيدة بلافاتسكي، بخاصة، أن تكسب ما يفيض عن حاجتها بكتاباتها وحسب؟

الثيوصوفي: حين كانت في الهند كانت تكسب بمعدَّل حوالى ألف روبية في السنة مقابل مقالات كانت تُنشَر في صحف روسية وغيرها، لكنها وهبتْ ذلك المال كلَّه للجمعية.

السائل: مقالات سياسية؟

الثيوصوفي: أبدًا. كلُّ ما كتبت طوال إقامتها في الهند التي دامت سبع سنين موجود هناك مطبوعًا. وهو يتناول فقط أديان الهند وأعراقها البشرية وتقاليدها، ويتناول الثيوصوفيا – ولا يتطرق إلى أبدًا السياسة، التي لا تفقه فيها شيئًا وتهتم بها أقل. كذلك فقد رفضت منذ عامين عدة عقود يبلغ مجموعها حوالى 1200 روبلاً ذهبيًّا شهريًّا؛ إذ إنها ما كانت لتستطيع أن تقبلها من دون التخلِّي عن عملها من أجل الجمعية، التي كانت تحتاج إلى وقتها وقوَّتها بالكامل. ولديها الوثائق لإثبات ما تقول.

السائل: أما كان في وسعها ووسع الكولونيل أولكوت أن يفعلا كما يفعل آخرون – كالعديد من الثيوصوفيين على الخصوص: يواصلون كلٌّ منهم امتهان مهنته ويكرِّس الفائض من وقته لعمل الجمعية؟

الثيوصوفي: لأنه بخدمة سيِّدين، لا بدَّ لأحد العملين – المهني أو المِبَرِّي – من أن يتأثر سلبًا. كلُّ ثيوصوفي مُلزَمٌ خُلُقيًّا أن يضحِّي بالشخصي في سبيل اللاشخصي، بـخيره الآني في سبيل المنفعة الآتية لأناس آخرين. فإذا لم يكن المؤسِّسان قدوةً فمن سيكون؟

السائل: وهل هناك كثيرون يقتدون بهما؟

الثيوصوفي: أنا ملزم بأن أجيبك بالحقيقة. في أوروبا يوجد من هؤلاء حوالى الستة، من جملة من الفروع تتخطَّى هذا العدد.

السائل: فليس صحيحًا، إذن، أن الجمعية تملك رأسمال أو مصادر دخل خاصَّين بها؟

الثيوصوفي: هذا غير صحيح، لأنها لا تملك شيئًا من ذلك مطلقًا. أما وأن رسم الانتساب البالغ جنيهًا استرلينيًّا واحدًا والاشتراك السنوي الضئيل قد أُلغِيا، ليس من المستبعد أن يصل الأمر بطاقم العمل في مقرِّ الهند إلى الموت جوعًا!

السائل: فلم لا تجمعون الاشتراكات؟

الثيوصوفي: نحن لسنا "جيش الخلاص"؛ إذ لا يجوز لنا أن نتسول، ولم نفعل ذلك قط؛ كما أننا لم نحذُ حذو الكنائس والطوائف و"نجمع التبرعات". فما يُرسَل من حين لآخر دعمًا للجمعية – المبالغ الصغيرة التي يتبرَّع بها بعض الأعضاء المخلصين – كلُّه عبارة عن تبرعات طوعية.

السائل: لكني سمعت بأن مبالغ كبيرة من المال أُعطِيَت للسيدة بلافاتسكي. قيل منذ أربع سنوات إنها حصلت على 5000 جنيه من عضو شاب ميسور، ذهب إلى الهند للانضمام إلى الحركة، و10000 جنيه من وجيه آخر أمريكي غني، هو واحد من أعضائكم، توفي في أوروبا منذ أربع سنوات.

الثيوصوفي: قُلْ لأولئك الذين أخبروك بهذا إنهم إما ينطقون بأنفسهم أكذوبة فظة، وإما أنهم يردِّدونها. لم يحدث قط أن طلبت "السيدة بلافاتسكي" أو استلمت قرشًا واحدًا من الوجيهين المذكورين أعلاه، ولا أيَّ شيء من هذا القبيل من أيِّ أحد آخر، منذ تأسيس الجمعية الثيوصوفية. فليحاول أيُّ حيٍّ أن يثبت صحة هذه الفرية، ليجد أنه أيسر له أن يبرهن على إفلاس بنك إنكلترا منه على أن "المؤسِّسة" المذكورة جَنَتْ أيَّ مال يومًا على حساب الثيوصوفيا. هاتان الفريتان أطلقتْهما سيدتان كريمتا المحتد من الأرسطوقراطية اللندنية، وتمَّ آنذاك تقصِّيهما على الفور وإثبات بطلانهما. إنهما جثَّتا – بل جيفتا – تلفيقتين، بعد أن دُفِنَتا في غياهب النسيان، عادتا لتطفوا من جديد على صفحة مياه البهتان الراكدة.

السائل: ثم إني أُخبِرْتُ بوجود عدة تَرِكات ضخمة ورثتْها الـج.ث.: واحدة – وتبلغ حوالى 8000 جنيه – ورثتْها عن إنكليزي غريب الأطوار، لم يكن ينتمي حتى إلى الجمعية؛ والثانية – 3000 أو 4000 جنيه – أوصى بها ع.ج.ث. أسترالي. فهل هذا صحيح؟

الثيوصوفي: سمعت بالأولى؛ وأنا أعلم أيضًا أن الـج.ث. لم تستفد أبدًا من هذه التركة، سواء تُرِكَتْ شرعًا أو لا، ولم يُبلَّغ المؤسِّسان بها رسميًّا قط. فبما أن جمعيتنا لم تكن آنئذٍ هيئة مرخَّصة، وبالتالي لم يكن لها وجودٌ شرعي، لم يُعِرْ قاضي محكمة البتِّ في صحة الوصيات اهتمامًا بمثل هذا التوريث، على ما قيل لنا، وأحال المبلغ إلى الورثة. هذا عن التركة الأولى. أما فيما يخص الثانية، فمعلوماتك صحيحة تمامًا. كان الموصي واحدًا من أعضائنا المخلصين، وقد أوصى بكلِّ ما كان يملك للـج.ث. ولكن عندما جاء رئيس الجمعية، الكولونيل أولكوت، للنظر في المسألة، وجد أن للموصي أولادًا كان قد حرمهم من الميراث لأسباب عائلية. لذا فقد دعا لجنةً إلى الانعقاد، وتقرَّر بأن الميراث يجب أن يُرفَض، وبأن تُحوَّل الأموال إلى الورثة الشرعيين. فالجمعية الثيوصوفية لن تكون حقيقة باسمها إذا اتفق لها أن تستفيد من مال يعود بحكم الواقع إلى آخرين، استنادًا إلى المبادئ الثيوصوفية على كلِّ حال، وليس على الشَّرع.

السائل: كذلك – وهذا أقوله استنادًا إلى مجلتكم أنتم، الثيوصوفي – هناك راجا هندي تبرَّع للجمعية بمبلغ 25000 روبية. ألم تشكروه على هذا الجود العظيم في عدد كانون الثاني 1888 من الثيوصوفي؟

الثيوصوفي: بلى، شكرناه بالفعل بهذه الكلمات: "يتوجَّه المؤتمر بالشكر إلى سموِّ المهاراجا ...... على وعده بهبة سخية قدرها 25000 روبية إلى صندوق الجمعية." لقد تبلَّغ المعني امتناننا، لكن المال ما يزال "وعدًا"، ولم يصل إلى المقرِّ أبدًا.

السائل: ولكن قطعًا، إذا كان المهاراجا وَعَدَ وتلقَّى علانية شكرًا مطبوعًا على هبته، فلا بدَّ أنه سيفي بوعده؟

الثيوصوفي: قد يفعل، مع أن عمر "الوعد" 18 شهرًا! أنا أتكلَّم على الحاضر، وليس عن المستقبل.

السائل: فماذا تنوون أن تفعلوا لكي تستمروا؟

الثيوصوفي: مادام في الـج.ث. ثلة من الأعضاء الأوفياء المستعدين للعمل من أجلها من دون مكافأة ولا عرفان بالجميل، مادامت ثلة من الثيوصوفيين الطيبين يدعمونها بتبرعاتهم من حين لآخر، فسوف تستمر، ولا قدرة لشيء على كسرها.

السائل: سمعت العديد من الثيوصوفيين يتكلَّمون على "سلطان خلف الجمعية" وعن "مهاتماوات" مزعومين، مذكورين أيضًا في مؤلَّفات السيد سينِّيت، ويقال إنهم هم الذين أسَّسوا الجمعية ويسهرون عليها ويحمونها.

الثيوصوفي: قد تسخر من هذا، لكنه صحيح.

طاقم عمل الـج.ث.

السائل: هؤلاء الرجال، على ما سمعت، هم نطساءٌ كبار، خيميائيون، وكل ما تريد. فإذا كان بمقدورهم، والحال كذلك، أن يحوِّلوا الرصاص إلى ذهب وأن يحصلوا على ما يشاؤون من مال، إلى جانب اجتراح كلِّ أنواع المعجزات إراديًّا، كما جاء في كتاب السيد سينِّيت العالم الغيبي، لم لا يوفرون لكم المال، ويقومون بأود المؤسِّسَيْن والجمعية؟

الثيوصوفي: لأنهم لم يؤسِّسوا "ناديًا للمعجزات". إن القصد من الجمعية هو مساعدة البشر على تنمية القدرات الكامنة فيهم من خلال جهودهم واستحقاقهم. لأنهم، أيًّا كانت الظواهر التي يجترحونها أو لا يجترحونها، ليسوا مزيِّفي نقود؛ ولا هم يستحسنون عرقلة درب الأعضاء والمرشَّحين بإغراء إضافي قوي جدًّا: الثيوصوفيا لا تُشترى. طوال الـ14 سنة الماضية، وحتى هذه الساعة، لم يحصل قط أن قبض عضوٌ عامل واحد أجرةً أو راتبًا، لا من السادَّة ولا من الجمعية.

السائل: ألا يُؤْجَر أيٌّ من عمَّالكم على الإطلاق إذن؟

الثيوصوفي: لا أحد منهم حتى الآن. ولكن بما أن كلَّ أحد مضطر إلى المأكل والمشرب والملبس فإن جميع الذين يعدمون أية موارد خاصة بهم للعيش، ويكرِّسون وقتهم برمَّته لعمل الجمعية – تخصَّص لهؤلاء في المقرِّ في مدراس، الهند، ضروريات الحياة – مع أن هذه "الضروريات" متواضعة للغاية في الحقيقة! (انظر "القواعد" في آخر الكتاب.) أما وأن عمل الجمعية قد تزايد إلى هذا الحدِّ الكبير وما يزال يتزايد (ملاحظة: بفضل الافتراءات) في أوروبا، فقد بتنا في حاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة. ونحن نأمل أن تكون لنا ثلة من الأعضاء "المأجورين" من الآن فصاعدًا – إذا جاز لهذه الكلمة أن تُستَعمَل في الحالات التي نحن بصددها؛ إذ إن كلاً من هؤلاء الأعضاء، المستعدين لبذل وقتهم كلِّه للجمعية، يتخلَّى عن مناصب رسمية جيدة، ذات مستقبل واعد، لكي يعملوا من أجلنا مقابل أقل من نصف راتبه السابق.

السائل: ومَن سوف يؤمِّن المال لهذا الغرض؟

الثيوصوفي: بعضٌ من أعضائنا الميسورين أكثر قليلاً من الآخرين. فالمرء الذي يضارب ويثري على حساب الثيوصوفيا لا يستحق أن يبقى بين صفوفنا.

السائل: لكنكم قطعًا تجنون مالاً من كتبكم ومجلاتكم ومنشوراتكم الأخرى؟

الثيوصوفي: وحدها مجلة الثيوصوفي[10] الصادرة في مدراس، بين المجلات، تعود بشيء من الربح؛ وهذا الربح يحوَّل دومًا إلى صندوق الجمعية، عامًا بعد عام، كما تبيِّن الحسابات المنشورة. مجلة لوسيفر،[11] من جانبها، تبتلع المال ببطء، لكن بانتظام، من غير أن تفلح حتى الآن في تغطية نفقاتها – بفضل مقاطعة باعة الكتب وأصحاب أكشاك محطات القطار المتديِّنين لها. أما مجلة اللوتس[12] في فرنسا – التي انطلقت بفضل الموارد الخاصة والمتواضعة لأحد الثيوصوفيين، الذي كرَّس لها وقته وجهده كلَّه – فقد كفَّتْ عن الصدور، من جراء الأسباب عينها، بكلِّ أسف! كما أن مجلة الدرب[13] النيويوركية لا تغطِّي هي الأخرى نفقاتها، بينما لم يمضِ على انطلاق المجلة الثيوصوفية[14] الباريسية غير وقت قصير، كذلك بدعم من الموارد الخاصة لسيدة عضو. فضلاً عن ذلك، كلما حققت الكتب الصادرة عن دار النشر الثيوصوفية في لندن ربحًا ما، فإن المحصول يخصَّص لخدمة الجمعية.

السائل: عساك تخبرني الآن بكلِّ تستطيع عن المهاتماوات. إذ ما أكثر السخافات والأشياء المتناقضة التي تقال عنهم، حتى إن المرء لا يعرف ماذا يصدِّق، وشتى أنواع الحكايات الموجبة للسخرية تصير شائعة.

الثيوصوفي: ولك الحق كله أن تدعوها "موجبة للسخرية".

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] هذا يصح، بالطبع، على ممارسات مشابهة نقع عليها في بعض الطرق الصوفية الإسلامية، من نحو "ضرب الشيش"، على سبيل المثال لا الحصر. (م)

[2] غني عن القول إن هذا الموقف يعبِّر عن رأي "العلم" الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر. (م)

[3] هذان مبدآن أساسيان في المذهب التطوري، كما صاغه داروِن. (م)

[4] مدرستان عموميتان إنكليزيتان كبريان. (م)

[5] A.P. Sinnett, The Occult World, London, Trübner & Co., Ludgate Hill, 1881.

[6] The Christian College Magazine.

[7] بالفرنسية في النص: le grand monde. و"الصادوقيون" أصحاب مذهب فقهي من مذاهب الشريعة اليهودية، ينكر الآخرة والبعث؛ وقد ناصبوا المسيح وتعاليمه عداءً شديدًا. (م)

[8] « Calomniez, calomniez toujours et encore, il en restera toujours quelques chose. »

[9] اسم الشخصية يعني "فرية" باللاتينية. (م)

[10] The Theosophist.

[11] Lucifer.

[12] Le Lotus.

[13] The Path.

[14] La Revue théosophique.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود