|
إبستمولوجيا
لقد أصبحت مشكلة العقل والجسد تحتل موقعًا مركزيًا بالنسبة للنقاشات التي تتناول تموضع الدماغ في هذه العلاقة. وعليه فإن أية محاولة منا لتحديد أطر تلك العلاقة لن تكون واضحة المعالم، إن لم ندرك التاريخ البنائي للدماغ، وجملة الوظائف الحادثة في ظواهر الوعي. وإن كانت تلك المشكلة تضعنا في مأزق نظري، لأن طبيعة ذلك الإشكال فلسفي (وجودي) في ظاهره. فكيف يمكن لنا أن نصوغ تلك التساؤلات الفلسفية دون أن نخل بمعناها وجوهرها، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى نجد أن بحوث الظواهر العقلية أصبح لها اليوم تاريخ من السجلات والكشوف السريرية، والبحوث النظرية. ويبدو أن كلا الحقلين المعرفيين كان يسعى في درب مختلف، ورغم أن محاولات شتى قد بُذلت من أجل إما: مماهاة الظاهرة العقلية بخواص فيزيولوجية محددة، أو إبدالية كلاً منهما بالأخرى، واعتبار أن كل ما يخص مفهوم العقل مرتبط على نحو وثيق بمضامين وموضوعات ليس لها أساس مادي (فيزيولوجي) بل هي كيانات غير مادية، مبررين ذلك بأننا لا نستطيع تفسير القصدية والحكمة والأمل والإرادة والذات من زاوية النظر المادية. والنظر إلى العمليات الحادثة في الدماغ في بعض الحالات على أنها مرافقة للظاهرة وليست سببًا لها. وهذا يستتبع أن لكل من المشكلتين منهج مختلف في دراستهما.
هناك تساؤل كان وما يزال يرافق الفكر البشري منذ نشأته كوعي بالعالم، تساؤل محوره بنية العالم المادي والقوى المؤثرة فيه، وقد بدأت الأجوبة من الفلاسفة الذين حذَّرونا قديمًا من أخطاء الحواس التي قد تُظهر لنا العالم المادي على غير مما هو عليه، مؤكدين أن البعد الجوهري للمادة أكبر وأوسع رحابة بكثير مما تُظهره لنا الحواس، واليوم تعود الفيزياء لتكمل المهمة قائلة بأن المادة ليست فقط أعقد من قدرة حواسنا على التمييز، بل هي أعمق غورًا من قدرة عقلنا على الفهم والتفسير. فالفراغ المروع بين الذرات هو من السمات المميزة للأحجار المكونة للمادة، والمدهش أن تلك الذرات التي تحدث عنها ديمقريطس منذ القرن الرابع قبل الميلاد ولاقت الكثير من الأخذ والرد بين مثبت ومعارض، لم تلاحظ بشكلها الإحصائي حتى عام 1660، عندما لاحظ بويل السلوكيات الذرية للغاز، أما الدليل النهائي على وجودها تجريبيًا فقد انتظر حتى القرن العشرين.
ارتبط ظهور المذنبات وفق معتقدات الأقدمين بكوارث وأحداث عظيمة، فعندما ظهر مذنب هالي في ربيع وصيف عام 1066 تم تفسير ذلك على أنه نذير بوفاة الملك هارولد ملك إنكلترا في موقعة هاستنغز، التي جرت في شهر تشرين الأول من العام نفسه، كما أن عودة هالي في العام 1301 ألهمت الفنان الإيطالي جيوتو Giotto، الذي خلَّد مرور المذنب بريشته على حائط كنيسة سكروفينيا بمدينة بادوا حيث جعل كرة نارية ذات ذيل طويل ممتد في السماء محل الملائكة في لوحة الفريسك لميلاد السيد المسيح التي تمثل قدوم المجوس اهتداءً بالمذنب، ليباركوا الطفل القديس. كما ساد اعتقاد حتى وقت قريب بعلاقة ما بين الهطولات النيزكية – وهي جزيئات صغيرة الحجم خلفتها المذنبات التي دارت حول الشمس، تخترق الغلاف الجوي للأرض على شكل وميض ينتج عن احتراق هذه الجزيئات – وبين الأوبئة التي أصابت البشر بتزامن مع تعرض الأرض لتلك الدفقات النيزكية، حيث كان يعتقد أنها تنشر على كوكبنا كائنات حية دقيقة تسبب تلك الأمراض. وإن كان من المثبت اليوم أن المذنبات تحتوي على المواد العضوية الأساسية "مثل الحموض الأمينية" إلا أن إمكانية نشوء جراثيم حية عنها هو أمر بعيد التصور بسبب الصقيع الكوني الذي تبقى فيه المذنبات.
مستمرة...
|
|
|