الحروفُ العربيةُ تحوي طاقةً تعبيريَّةً كبيرةً
لا خلق من دون أساس متين و«كلُّ فنٍّ لا يفيد علمًا لا يُعوَّلُ عليه»

لقاء مع منير الشعراني

 

ديمة القاسم: تُعتبَر الخطاط الوحيد على الساحة السورية والعربية الذي طرح أشكالاً جديدة وأنواع خطٍّ غير مسبوقة...

منير الشعراني: توجد عدة تجارب أخرى، لكنها لم تأخذ حقَّها، إما لأنها قاصرة أصلاً، وإما لأن أصحابها لم يعطوها حقَّها من ناحية التركيز عليها. بعيدًا عن هيمنة الأساليب السابقة، تجدين مَن يعمل على أسلوب جديد، لكنْ دون أن يجرؤ على الابتعاد عن الأسلوب القديم، فيضيع بذلك التجديد – هذا إضافة إلى وجود تجارب أخرى لم يستطع أصحابُها التفرغ لها تفرغًا كاملاً، فذوت!

فيما يخص عملي، أعتقد بأنني وصلت إلى ما أنا عليه اليوم نتيجة إصراري على العمل بالخط بوقتي كاملاً، وعلى جعله النوع الفني الأساسي الذي أعمل عليه وأتفرغ له كليًّا. عملت فيما سبق مصورًا فوتوغرافيًّا ومصممًا، إلا أنني، منذ سنوات، أركِّز على موضوع الخط وأكرس له وقتي كلَّه. كنت في السابق أقرأ قراءات عامة ومتنوعة؛ أما اليوم فقد أصبحت قراءاتي موجَّهة بشكل أساسي نحو ما يمكن أن أجد فيه نصًّا جميلاً. يمكن أن أقرأ كتابًا كاملاً كي أعثر فيه على عبارة جميلة! وهذا التفرغ – برأيي – هو ما مكَّنني من تثبيت تجربتي على الأرض، بحيث تبدو للناس وكأنها التجربة «الوحيدة». إنها ليست التجربة الوحيدة، لكن التجارب الأخرى لم تأخذ حقَّها.

«وإنك لعلى خلق عظيم»

د.ق.: كيف يمكن إعادة الاعتبار للخطِّ العربي من وجهة نظرك؟

م.ش.: في أوروبا يُعتبَر الخط العربي، بالإضافة إلى الخط الصيني، الخطين الوحيدين من بين جميع أنواع الخطوط في العالم اللذين يُعتبَران من الفنون الجميلة؛ أي يُستبعَد الخط اللاتيني والسلاڤي والهندي. والخط العربي يشمل كلَّ الخطوط التي تُكتَب بالحرف العربي، كالتركي القديم والفارسي. وأوروبا ليست معنية بتكريس هذا النوع من الفنون، إلا أنهم يعقدون باستمرار، في أماكن مختلفة، دوراتٍ تدريبيةً لتعليم الخط العربي. ولدينا، منذ تأسست كلية الفنون الجميلة بأقسامها الأربعة، اعتمادٌ للمناهج التعليمية المترجمة لكلِّيات الفنون الجميلة الأوروبية، فيما ننسى خصوصية فن الخط العربي الذي تعود بداياته إلى مئات السنين.

«سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام
إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله»

في الصين واليابان، يُدرَّس الخط في جميع المراحل التعليمية، يُهتَم به، وتقام له طقوسٌ واحتفالاتٌ ومهرجانات. وفي إيران، يوجد اهتمام كبير بتعليم الخط. أما لدينا – للأسف! – فتُدرَّس المادة في كلية الفنون تدريسًا جانبيًّا ونظريًّا، ولا يتطلب النجاح فيها ذلك المجهود الكبير! حتى الطالب يتعلم بشكل أساسي تاريخ الفن الأوروبي، ويُغفَل تاريخُ الفن العربي والإسلامي. فلو أننا وضعنا منذ البداية تعلم هذه المواد الأساسية بعين الاعتبار، لكنا قطعنا أشواطًا في موضوع فن الخط تسبق بكثير ما وصلنا إليه اليوم.

د.ق.: هل لك أن تحدِّثنا عن تجربتك الخاصة مع أستاذك في الخط بدوي الديراني؟

م.ش.: كنت من الصغر أهوى الخط، وكان بدوي الديراني يُصدر كلَّ شهر مواقيت الصلاة، يخطِّط معها آيةً قرآنية، وتُطبَع وتوزَّع. ولشدة إعجابي بها كنت أقوم بتقليدها، لكنني كنت أرسمها رسمًا. وشاءت الظروف أن ألتقي بالديراني، مصادفةً، وأنا في العاشرة من عمري، إذ كان خالي يود إرسال رسالة إليه، وكنت أنا الرسول! وأخبرت الديراني برغبتي في تعلُّم الخط. وبعد أن رأى خطِّي وأثنى عليَّ، طلب مني إحضار «سفينة» – وهو التعبير الشامي الذي يعني دفترًا بعدة صفحات – و«مجموعة»، أي دفترًا بصفحات أكثر، وطلب مني عمل تمرين بثلاث كلمات هي: «در» و«درس» و«جد» على خمسين صفحة – وقد أراد بذلك اختبار صبري ومدى استعدادي. وهكذا استمررت.

كان في كلِّ مرة يصحِّح لي التمرين، ثم يعطيني تمرينًا آخرًا، إلى أن قال لي ذات مرة: «يبدو أنك تود فعلاً أن تصبح خطاطًا». لكنه كان يصرُّ على تعليمي الأساسيات في الخط، ويقول لي: «أتقِنْ هذه في البداية، وبعدها غيِّر كيفما تشاء». وأنا فهمت معنى هذه الرسالة، التي رافقتْ عملي طوال الوقت: لا يوجد خلق من دون أساس متين!

«كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» (النفَّري)

د.ق.: المُشاهد للوحاتك يلاحظ منظومة هندسية وحسًّا إيقاعيًّا يختلف من لوحة إلى أخرى. فهل تولد هذه الهندسة الإيقاعية من العبارة نفسها التي توحي إليك بها؟ أم إن لك طريقةً أخرى في اختيار الشكل؟

م.ش.: تحمل الكلمات ذاتُها إيقاعَها. وكلُّ عبارة تحرِّك في نفسي معنًى، تُختزَن، لتخرج فيما بعد على شكلها النهائي في اللوحة. وفي الحروف العربية طاقة تعبيرية، كأنْ يوحي أحد أنواع الخطوط بالرصانة، فيما يحمل الآخر مرونة وزخرفية. وقد يكون أحد أنواع الخطوط أكثر انسجامًا من غيره مع معنى عبارة معينة.

وعملي ينقل، في بعض جوانبه، رسالة: هي أن الخط العربي لم يبلغ أشكاله كلَّها، ومازال هناك الكثير مما لم يتشكل بعد. فعلى سبيل المثال، قمت بتخطيط «البسملة» إحدى عشرة مرة مختلفة فيما بينها ومختلفة عن الأشكال السابقة والماضية كافة (إذ إن هناك ادعاءً يقول إن البسملة خُطِّطتْ بآلاف الأشكال والتكوينات، ولن يكون هناك شكل جديد ومختلف لها). وبذلك أودُّ أن أقول إن التكوينات الجديدة موجودة دومًا، لم تنتهِ عند حدٍّ معين أو عند هذا الشكل أو ذاك. وللسبب ذاته، أعيد تخطيط النصوص الدينية، التي خُطِّطتْ آلاف المرات السابقة، لكن في شكل جديد.

«البسملة» وأسماء الله الحسنى

وأنا أرى أن لكلِّ عمل فني شكلاً ومحتوى. والعمل التجريدي يحمل دلالة، وإنْ فقد دلالته فقد رسالته. ولدى محيي الدين بن عربي مقولة أقتنع بها كلَّ الاقتناع، تقول: «كلُّ فنٍّ لا يفيد علمًا لا يُعوَّلُ عليه». إذ إن في إمكاني أن أشتغل على حروف كثيرة، أرصُّها بعضها على بعض، لتعطي تكوينات أجمل ربما، لكن ليس هذا ما أود إيصاله. فأنا أرى أن فنَّ الخط العربي يحمل دلالة بصرية ومعنوية في الوقت ذاته.

«كل فن لا يفيد علمًا لا يعوَّل عليه» (ابن عربي)

د.ق.: كيف كانت رؤيتك لمشروع الخط العربي ضمن احتفالية «دمشق عاصمة ثقافية للعام 2008»؟ ولماذا تعلن الآن تخلِّيك عن المشروع وانفكاكك عن الاحتفالية؟

م.ش.: كان المشروع قائمًا على إعادة إحياء الخط العربي. ولإغناء هذا الجانب، كنَّا سنعقد ندوات ومعارض ومسابقات خط وورشات عمل، أي أنشطة مختلفة للإسهام في إعادة التأريخ لفن الخط العربي. إلا أن السياقات التي أراها لا تشجع على الاستمرار، لأنني لا أود لهذه الفكرة (المشروع) أن تتقزَّم وتنمسخ!

فمنذ أن رأيت الافتتاحية الشعبية للاحتفالية لحظت أنها لا تمت إلى «دمشق كعاصمة...» بصلة. فإذا نظرنا إلى الأزياء، نرى أنها غربية الشكل، مستمَدة من القرن التاسع عشر؛ أي كان من الممكن أن تناسب أكثر مدينة البندقية أو أية مدينة ثانية، لكنها بعيدة عن واقع مدينة دمشق. حتى المجسَّمات التي استخدمت «القمر» و«الشمس» كانت ذات أشكال رومانية. المناطيد أيضًا لم أفهم دلالتها أو معاني ألوانها وعلاقتها بدمشق، ولا حتى «السفينة» التي قالوا إنها فينيقية، وليست لها صلة بالفينيقيين! أي إن كل فكرة حفل الافتتاح فكرة غربية، مع خلفية موسيقية من بعض الألحان الفلكلورية الشرقية المختارة دون عناية والمنفَّذة بطريقة بدائية. فلم أرَ في هذا الافتتاح الشعبي لا «دمشق» ولا «ثقافة دمشق»! وكما يقال: «المكتوب باين من عنوانه»!

ومع احترامي للسيدة فيروز، إلا أنني أرى «دمشق» أكبر من فيروز وأكبر من الجميع. وعندما تُدعى للمشاركة في احتفالية كهذه، كان من الجدير أن تقدم عملاً له علاقة بمدينة دمشق، علمًا أنها غنت لها الشيء الجميل. وليس من بالغ الأهمية أن تقدم مسرحًا غنائيًّا لمجرد أنها المسرحية التي تقوم بتقديمها في الوقت الراهن. كان من الأولى أن يكون العمل – حتى وإنْ كان مسرحيًّا – ذا علاقة بدمشق كمدينة أو بالثقافة العربية.

د.ق.: هل هذا جزء من تطلُّب الفنان؟ أم إنه جزء من قائمة ملاحظات على «احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية»؟

م.ش.: لا أطلب إلا أن نحترم أنفسنا! فأنا أستغرب أن تظهر على التلفزيون «أمينة عامة» لعاصمة ثقافية وتتحدث عن أسعار تذاكر حفل! كان يمكن لأيِّ مذيع أن يقدم هذا البيان؛ لكن أن تتحدث هي في هذا الموضوع يجعلنا نشعر بأنها أضاعت وقتًا كان يُفترَض أن تخصِّصه للعمل في «الاحتفالية» ولأمور أخرى أهم. وقياسًا على ذلك، أرى الكثير من الأشخاص الجديرين بتقديم عمل مهم ومفيد لهذه «الاحتفالية» قد يئسوا وانسحبوا.

«لا حقيقة في الظل» (ابن عربي)

أنا لم أتحمس منذ البداية للموضوع، إلا أنني رغبت لمشروع الخط العربي أن يرى النور في شكله الصحيح، لأنه مشروع لا أقدر على إتمامه بشكل فردي. نحتاج إلى باحثين من بلاد مختلفة يأتون للمشاركة في الندوات، وإلى أن ننظِّم معارض لعشرين أو ثلاثين فنانًا من مختلف أنحاء العالم. وهذا ما لا أستطيع تأمينه بإمكاناتي الخاصة ولا بإمكانات مؤسسة صغيرة. والمؤسسات الخاصة ليست معنية بمشروع كهذا، ولا أريد أن أبدأ مشروعًا لا يحمل أية ضمانات فكرية. أتمنى أن أطرح مشروعي في فرصة أخرى. ربما في «غاليري أيام» سيكون هناك طرح على غرار المعرض الذي قدمته في أكسفورد بالتعاون مع كلِّية Saint George، الذي تناول الشعرية العربية، عبر مختارات شعرية مترجمة إلى اللغة الإنكليزية، خُطِّطت على لوحات، وأُلقِيَ فيه شعر بحضور جمهور. وقد كُرِّرت التجربة في مرسيليا بفرنسا في «بيت الشعر العالمي»، وكان الإلقاء باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، بالإضافة إلى معرض الخط العربي.

«فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»

أي إن الهدف الأساسي من الموضوع أن يكون ذا بُعد فكري ثقافي – وهي حال معرضي المتجول من ست سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية – وغرضه عرض وجه حقيقي من وجوه الفن العربي في مواجهة الادعاءات التي تصف العرب بالهمجية والإرهاب!

*** *** ***

عن بلدنا، «بلدنا الثقافي»، 18/02/2008
التقت به:
ديمة القاسم

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود