عشر غزليات*

 

حافظ الشيرازي

 

هو شمس الدين محمد (1315 م. - 1390 م.) المعروف بـ"حافظ الشيرازي"، والملقب بـ"لسان الغيب وترجمان الأسرار". وهو أصغر الأبناء الثلاثة لتاجر أصله من أصفهان، كما يُقال، أقام في شيراز وتزوج وأنجب أبناءه. بعد وفاة والده وتفرق أخوته، وبسبب ضيق العيش عهدت به أمه إلى أحد أبناء محلتها للعناية به. لكن لم يطل به المقام مع راعيه بسبب سوء المعاملة والخلق، فهرب ليعمل خبازًا. وكعادة الخبازين كان شمس الدين يعمل طوال الليل حتى الفجر فإذ فرغ من عمله تفرغ للعبادة ومن ثم توجه إلى مدرسة قريبة، حيث كان يقتطع من أجره اليومي أجرَ المعلم. هناك حفظ شمس الدين محمد القرآن كاملاً ولذلك عُرف بالحافظ وهو الاسم الذي لازمه بقية حياته.

أما لقب "لسان الغيب وترجمان الأسرار" فيعتقد أنه ثبت له أثناء حياته أو بعد موته بقليل، إذ أن أبو بركات عبد الرحمن الجامي الذي عاش في القرن التالي لعصر حافظ لقبه هذا اللقب في كتابيه نفحات الأنس وبهارستان، وعلل ذلك بأن أشعار حافظ خالية من الاضطراب والتكلف.

عمل حافظ فيما بعد كأستاذ في مدرسة يُقال أن مؤسسها هو قوام الدين محمد، وعلى ما يبدو بقي في هذا العمل طوال حياته، وكان تلاميذه يطربون لقصائده التي كان يلقيها عليهم بعد انتهاء الدروس، ويرددونها في المحافل والمجالس.

حافظ الشيرازي، تفصيل من مخطوطة فارسية، مَجْلِس حافظ، القرن 18

لاقت أشعار حافظ وغنائياته استحسانًا كبيرًا عند الناس فعمت شهرته ورُددت قصائده بل رُفع إلى مراتب القديسين الذين تروى عنهم الحكايا والأساطير. ورغم أنه عاصر زمنًا شديد الاضطراب إلا أنه نأى بنفسه وبشعره عن مايا العالم مركزًا على الحيّ والنضر وعلى كل ما يبعث تفاؤل الروح. ينبت شعره من جذور تمتد خلف ثنوية الصالح والطالح أو الخير والشر، وهو شعر يمكن أن يقال عنه إنه ضاحك "ضحك الخالدين"[1].

دارين أ.

* * *

القصيدة الغزلية 1

"ألا أيها الســـاقي، أدر كأسًا وناولــها"    فإني هائم وجــدًا، فلا تمسك وعجّلهــا
بدالي العشق ميسورًا، ولكن دارت الدنيــا    فأضحى يسره عسرًا، فلا تبخل وناولهــا
وهل لي في صبا ريحٍ مضت في طرّةٍ شعثي   بنشر الطيب تدعوني، ألا عجِّل فقبِّلهـــا
وذاك المنــزل الهاني إذا يممته، دقّــوا     به الأجراس أن هيئ رحال السير واحملهـا
وشيخي عارفٌ يـدري رسوم الدار فاتبعني     وخذ سجادة التقوى بماء الكرم فاغسلهــا
قضيت الليل في خوف، بحور الهمِّ تطويني     فقل للعاتب الزاري: تعال الآن فانزلهـــا
وأمري ساء من حبّي لنفسي، والورى يدري     بســرٍّ كنت أخفيه ونفـسٍ لم أبدّلهـــا
إذا مــا شئت لقياه تذكّـر "حافظٌ" قـولاً      "متى ما تلقى من تهوى، دع الدنيا وأهملها"

* * *

القصيدة الغزلية 4

صلاة الأمس أدّاها وولّـــى نحو حانوتٍ     رفاق العمر قولوا لي: أفيما كان تدبيــرُ
فإنّا من مريديــــه، فكيف الآن نتلوه؟!     وسعيُ "الشيخ" للخمّار والحانات مقصورُ؟!
وإنّا من محبّيــــه، وتحوينا "خرابات"      ومن عهدٍ مضى بعدًا، جرى في ذاك تقديرُ
ولو يدري الأولى لاموا، بطيب الحال في قيدي  لجُنّوا رغبةً سعيًا لقيدي وهو زنجيـــرُ
وذاك الوجـــه من نورٍ بدا في حسن أيًا      هي الحسنُ، وما فيها لغير الحسنِ تفسيـرُ
وأمّا قلبــــه العاتي، فما لانت نواحيه      بأنّاتي وقد أمسى لها في الليلِ تسعيـــرُ
فباعد آهة المحزون واحذرها لكي تمضي       إلى الأفلاك بالشكوى... وهل للأمر تغيير؟!

* * *

القصيدة الغزلية 11

أين صلاح الحال من خراب حالي              أين؟!
فانظر قدر تفاوت الطريق من أين إلى          أين؟!

إن قلبي أصبح متعبًا من الصومعة وخرقة النسك
فأين دير المجوس، وأين الشراب المصفّى              أين؟!

وأي علاقة بين الخلاعة، وبين الصلاح والتقوى
وأين سماع الوعظ من نغمة الرباب             أين؟!

وماذا يدرك الأعداء من وجه الحبيب المضيء
وأين المصباح المنطفىء الخابي، من شمعة الشمس الوهاجة            أين؟!

وتراب أعتابك هو الكحل لعيني
فكيف نمضي عن هذا الجناب؟ أصدر أمرك وإلى               أين؟!

فلا تنظر إلى تفاحة غمازته، ففي الطريق بئر
وإلى أي مكان تمضي يا قلب، في هذه العجلة وإلى             أين؟!

لقد ذهبت أيام الوصال وأصبحت ذكرى طيبة
فأين ذهبت هذه النظرة الساحرة، وأين ذهب هذا العتاب اللطيف         أين؟!
فيا أيها الصديق! لا تطمع في أن تجد في "حافظ" استقرارًا أو نومًا هادئًا
وما هو الاستقرار، وما هو الاصطبار، وأين النوم الهادىء              أين؟!

* * *

القصيدة الغزلية 20

لا تطلب الطاعة وعهد الصلاح منّي، أنا السكير العربيد!
فقد اشتهرت بشرب الكأس منذ الأزل البعيد!!

وعندما توضّأت من ينبوع العشق الطاهر
كبرت أربع مرات على كل ما هو كائن

فاعطني خمرًا أعطك خبرًا بسر القضاء
وأخبرك عمن أصبحت عاشقًا لوجهه، وثملاً برائحته

ويا عابد الخمر لا تيأس من باب الرحمةِ،
فالجبل الشامخ هنا أدقّ من خصر النملة النحيلةِ

وغير هذه النرجسة المخمورة[2] - وقاها الله شرّ العين -
لم يهنأ أحد تحت هذه القبة الزرقاء

وروحي فداء لفمه... فلم يخلق الله في حديقة أهل النظر
ما هو أحلى من هذه البرعمة الحسناء

أمّا "حافظ" فقد شابه "سليمان" في عشقه لك
فهو لا يملك من وصلك إلاّ الريح في قبضة يده.

* * *

القصيدة الغزلية 49

أيها الزاهد الطاهر السريرة... لا تعب على المعربدين عربدتهم
فذنوب الآخرين لن تسجل عليك

وأنا إن أحسنت فلنفسي، وإن أسأت فعليها. فاذهب أنت وانصرف إلى نفسك
فكل شخص يحصد في النهاية ما زرع

وكل شخص يطلب الحبيب... سواء في ذلك المفيق والنشوان
ولك مكانُ منزل للعشق... سواء في ذلك الجامع والكنيسة

وقد أسندت رأسي الخاضعة إلى آجرة ببار الحانة
فإذا لم يفهم "المدعي" هذا الكلام قل له، حطّم رأسك على هذه الأعتاب!!

ولا تتركني في يأس من لطفك الأزلي السابق
وكيف تعرف يا من تقف وراء الستار، الطيب من الخبيث

وأنا لم أخرج وحدي عن ستار التقوى
فقد ترك أبي أيضًا الجنة الأبدية تفلت من يده!!

ويا "حافظ" لو استطعت يوم مماتك أن تأخذ الكأس في كفك،
لحملوك دفعة واحدة من "الخربات" إلى جنات النعيم!!

* * *

القصيدة الغزلية 50

إن النتاج الحاصل من معمل "الكون والمكان" جميعه ليس شيئًا
فاحضر إلي الخمر، فمتاع العالم بأجمعه ليس شيئًا

وغرض قلبي وروحي التشرف بصحبة الأحبة
هذا غرضي، وإلاّ فالقلب والروح كلاهما ليسا شيئًا

فلا تتحمل المنّة لظلال السدرة وشجرة طوبي
لأنك إذا أمعنت النظر في شجرة السرو والغادية، فجميع تلك الظلال ليست شيئًا...!!

وحظك السعيد هو الذي يقبل إليك بغير حاجةٍ إلى استنزاف دماء القلب
فالبسمى والعمل لا تساوي جنات الخلد جميعها شيئًا...!!

وقد أمهلوك خمسة أيام في مرحلة الدنيا
فاسترح وتمتع زمانًا، فالزمان بأجمعه ليس شيئًا...!!

ويا أيها الساقي، نحن في انتظار على حافة بحر الفناء
فاغتنم الفرصة، فكل ما يذهب من الشفة إلى الفم ليس شيئًا...!!

وحزاري أيها الزاهد! ولا تأمن لبازي الغيرة
فالطريق من "الصومعة" إلى "دير المجوس" ليست شيئًا...!!

وآلامي، وقد احترقت بنار الأسى والاجتياح
ليست في حاجة إلى التقرير والبيان، وليست شيئًا..!!

وقد أحرز اسم "حافظ" رقمًا طيبًا
ولكن أرقام النفع والخسارة عند المعربدين ليست شيئًا...!!

* * *

القصيدة الغزلية 52

رفيقي الصادق النجوى، سليم الرأي والقول     هو الكأس بما تحوي وديوان من الغــزلِ
ألا فاذهب وباعدني، وخذ كأساً وناولنــي     فمر العمر في الدنيا بلا ريثٍ ولا بـــدلِ
ووحدي لم أمت حزنًا لإحساسي بتقصيـري    ملال الناسِ من علم وتعليم بلا عمــــلِ
وحال العيش في الدنيا وما صادقته فيهــا     كعمري الذاهب الماضي سريع السير والنقلِ
فداعب شعر محبوبٍ، ولا تكثر من الشكوى    بأن السعد والبلوى من المرّيخ أو زحــلِ
وقلبي دائم النجوى، يريد الوصل والسلوى      فيا عمري آلا رفقًا، ولا تجهز على أملـي
قلبي لو أرادوه، لما ألفوه في وقــــت       مفيقًا، فهو سكران بعهد الخمر والغــزلِ

* * *

القصيدة الغزلية 61

لقد انقضى الصيام، وأقبل العيد، وارتفعت القلوب بالابتهال والضراعةِ
واحمرّت الخمر في حانوتها، فاطلب الكأس بما تملك من قدرةٍ واستطاعةِ

وانقضت توبةُ "بائعي الزهد" ثقلاء الأرواح المنافقين
وآن أوان الشراب والعربدة للشاربين والمعربدين

وأي لوم لمن يحتسي مثل هذه الخمر وهذا الشراب؟!
وأي وعي نعيبه عليه إذا فقد الوعي وأضاع الصواب؟

وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق
خير من "بائع الزهد" الذي يكون فيه الرياء وضعف الأخلاق

ولسنا نحن من المعربدين المرائين، ولا من المصطنعين للرياء
وشاهدنا على هذه الحال هو "عالم السرّ والخفاء"

ولربما نتجاوز عن فروض الله؛... لكننا لا نفعل السوء بأحد من العباد
فإذا قالوا "ليس هذا صوابًا"، قلنا: "هذا هو عين الصواب ومحض الإسعاد"

وماذا يحدثُ وماذا يضيرك لو أنّي شربت معك بضع أقداحٍ من الشراب المعتقِِ؟!
والخمر من "دم العناقيد"، وليست من دمك المهرق

وأي أثم في هذا الأمر، ينتج عنه الإخلال بالأصول والأحكامِِ
وحتى إذا حدث ذلك، فماذا يضيرك؟! وأين المبرر من الزلل بين الأنامِ؟!

* * *

القصيدة الغزلية 63

مبعثر الخصلاتِ، محمرّ الوجناتِ، ضاحك الأسنان، تلعب به الخمرُ، سكرانِ
ممزق القميصِ، يتغنى بالألحانِ، وفي يدهِ إبريقٌ من بنت الحانِ...!!

عيناه كأنها زهراتِ النرجسِ توحي بالعربدة، وشفتاه الرقيقتانِ ساحرتانِ
أقبلَ في نصف الليل أمسِ، فجلس على وسادتي بضع ثوانِ...!!

ثم أدار رأسه إلى أذني وهمس فيها لحنًا حزينًا
قائلاً: "يا عاشقي القديمِ، هل أنتَ نائم نعسانِ؟!"

والعاشق الذي يعطونه مثل هذه الخمرِ الليليةِ
يكفر بالعشق إذا لم يصبح عابدًا للخمرِ والدنانِ!!

فاذهب أيها الزاهدُ! ولا تهزأ بمن يتجرعون الثمالة
فإنهم لم يعطونا غير هذه التحفة منذ أقدم الأزمانِ...!!

ولقد شربنا ما صبّه الساقي في كؤوسنا
سواء كانت خمره من خمور العربدةِ أو من خمو الفراديس والجنانِ

وابتسامة كأس الشرابِ، وطرّة الحبيبِ المجعدةِ الملتفةِ
ما أكثر ما كسرتا من توباتٍ مثل توباتكَ أيها "الحافظ" الولهانِ...!!

* * *

القصيدة الغزلية 85

إذا ما استمعتَ لأهلِ القلوبِ فحاذر تصفهم بقول العيوب
فإنك لست الخبير المرجّى بسرِّ الضلوع وسرِّ القلوب

فإنّي بقيتُ عزيزًا كريمًا، ولم أحنِ رأسي لدنيا الذنوب
فبوركَ رأسي، وما فيه يجري، إلى يوم أقضي ورأسي طروب

ولست لأدري وقلبي جريحٌ، طوية نفسي إذا ما تذوب
فإنّي صموتٌ كثير السكوتِ وها تلكَ منّي تطيلُ النحيب

وهذا قلبي تعدّى الحجاب فأين المعنّي بقول يطيب؟
تعال فحدّث، وزدني كلامًا، فقولك ذلك قول لبيب!!

ولم يك شغلي بتلك الحياةِ، أمورَ الحياةِ وشغلَ الرقيب
فوجه الحياةِ جميلُ التمني إذا كان فيه حديثُ القلوب

وتلك الليالي مضت بخيالي على الرغم منّي بسرٍّ رهيب
خُماري بنفسي وسرّي بنفسي فأين الشراب النقي الرطيب؟!

تعالَ إليَّ فإني الحبيسُ دمائي تلطخُ ديري الحبيب
وأسرع إليّ بدنِّ الشرابِ فطهّر وجودي فأنت المصيب

لئن كنتُ عند المجوس[3] عزيزًا فما ذاك إلاّ لأمر عجيب
فها ذاك قلبي بنار المجوس تلظّى حريقًا بحرِّ اللهيب

وذاك المغنّي تغنّى طويلاً فقولٍ جميلٍ فصيحٍ أريب:
"ألا فامض عمري فرأسي ملىء بحبٍ قريبٍ وحبٍ بعيد"

وأمس أتاني حديث الأماني بشوق جديدٍ وحبٍّ غريب
فأحيى حياتي بصوتٍ ينادي: "ألا فامضي عنّي فأنت الحبيب".

*** *** ***

ترجمة: د. إبراهيم أمين الشواربي
اختيار القصائد: أكرم أنطاكي


 

horizontal rule

* القصائد مختارة من ديوان حافظ الشيرازي، وهو متوفر مجانًا على النت. انظر الرابط: http://www.maaber-new.com/books/Hafez_Shirazi_Diwan.pdf.pdf

[1] راجع رواية ذئب السهوب، هرمان هسه.

[2] أي العين الناعسة.

[3] يستعمل الصوفيون مصطلح "شيخ المجوس" بمعنى الشيخ الكامل أو المرشد الواصل، كما يستعملون "دير المجوس" بمعنى مجالس العارفين.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود