|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
بعد أن تحدثنا من قبل عن عدد من القضايا الرومانتيكية حول معنى أخوية الوقفات الاحتجاجية والتضامن واتخاذ القرارات بالإجماع، سأتحدث في هذا الفصل عن النزاعات والشقاقات، وعن القوى التي كانت متواجدة والدافع الذي لعب دورًا في التعجيل فيها، وكيفية تعاملنا مع هذه الأمور في خضم هذه المعمعة، وكيف، ذات يوم ممطر في القدس، ذاب الإحساس الطيّب، مُنهيًا ثقة كنا قد بذلنا غاية الجهد لبنائها على مر السنين. لكن، لنبدأ بالأخبار السارّة. والذئب سيتساكن مع الحمل كيف تم الانسجام بين هاجر روبليف وعنات هوفمان في الوقفة الاحتجاجية نفسها؟
الحقيقة، بنظر سيمون ڤايل، لا يمكن لها أن تُحبَس ضمن منظومة فكرية مجرَّدة أشبه بالإيديولوجيا. فالحقيقة تتماهى جوهريًّا مع الخير. لا بل إن معرفة الحقيقة هي قبول الخير. هي ذي تكتب: "ما من شرٍّ أعظم من الإساءة إلى البشر؛ وما من خير أعظم من الإحسان إلى البشر". عبر هذه البديهية المزدوجة - وقد يغرينا أن نقول: عبر هذا التبسيط المزدوج -، تراها تبيِّن ازدواجية الطبيعة البشرية كلها. إنها تلمح تلميحًا صريحًا إلى أن النزعة الأولى في الإنسان هي الإساءة إلى البشر، لكنه لا يحقق إنسانيته إلا بالإحسان إليهم. والخير يعبَّر عنه أولاً بالعدل تجاه البشر: العدل عبارة عن السهر على ألا يُساء إلى البشر. [...] وصون العدل، حماية البشر من كل شر، هي أولاً [التشديد من تدخل الكاتب] الحيلولة دون أن يُساء إليهم.
للاعنف لاءان: لا لعنف الذات، ولا لعنف الآخرين. الـ"لا" الأولى - لا لعنف الذات - قد تبدو طوباوية إذا ما نظرنا إليها وكأنها تسعى في لَجْم عنفٍ مفترَض مغروس في صُلْب الطبيعة البشرية - عنفٍ حتميٍّ بالتالي؛ ومن هذا المنظار بعينه، تبدو هذه الـ"لا" مناقضةً لطبيعة الإنسان. لكن الأمر غير ذلك قطعًا: فهي "لا" واقعية، بل متجانسة حتى مع ما يُسمى بـ"الغرائز"، وفقًا لما توصل إليه عددٌ كبير من كبار المحلِّلين النفسيين psychanalystes وعلماء سلوك الحيوان éthologues وعلماء التطور évolutionnistes وعلماء الوراثة généticiens وعلماء الأعصاب neurologues إلخ. ويرى عددٌ من أبرز المحلِّلين النفسيين ممَّن انتقدوا نظرية فرويد في غريزة الموت (نخص منهم بالذكر إريش فروم) أنه ما من غريزة ثابتة تُدعى "غريزة الموت" تدفع بالإنسان نحو الموت أو الانتحار أو تدمير الذات، مضيفين أن غريزة الموت التي تكلم عليها فرويد ليست موجودة في حدِّ ذاتها، وأن نزوع الإنسان إلى العنف ما هو سوى انعكاس لإخفاق غريزة الحياة عنده في التعبير عن نفسها وتحقيق ذاتها، وذلك من جراء العقبات والخيبات الاجتماعية في سيرة كلِّ فرد.
لن أعرِّف بالانتقام بوصفه إرادتي الحصولَ من المسيء إليَّ على تعويض عن الإساءة التي كبدني إياها، بل بوصفه رغبتي في تكبيده إساءةً بغرض أن أؤلمه وحسب [= نقمة]. فأنا، حين أنتقم، ما من نية عندي سوى أن أردَّ rétorquer الإساءة التي تكبدتُها على صاحبها. الانتقام، إذن، محض ردِّ الفَعْلَة بفَعْلَة من جنسها ré-torsion. لكن الانتقام لا يعوِّض عن شيء أبدًا؛ إذ هو لا ينتوي التعويض، بل التقويض. ومنه فإن الانتقام ليس فعل دفاع شرعي عن النفس. فما يختص به هو أنني، حين أمارسه، لا يبدي عدوي أية خطورة فعلية علي ولا يمارس ضدي أي تهديد مباشر؛ إنه حينذاك لا يعود يجابهني. لذا فإن الانتقام يتم دومًا من الخلف - عن جبن. ومنه لا يجوز للانتقام أن يستفيد من تأييد العدالة. فهو لا يريد أن يردَّ لي حقوقي، ولا يقدر على ذلك أصلاً، بل يبتغي فقط إيلام مَن آلمني. لذا فإن عنف الانتقام ليس حقًّا أبدًا؛ إذ ليس ثمة أي "حق" في الانتقام. إنه دومًا غير مبرَّر، دومًا جائر، دومًا جريمة ضد الإنسانية. وبما أن الانتقام وليد الحقد والضغينة والصدود والكراهية فهو ليس نبيلاً أبدًا، بل خسيس دومًا.
لستُ معلمًا، فأنا لا أتمتع بهذه الموهبة، وهذه ليست محاضرة ولا حتى مقالة مملة أريد من خلالها استعراض ما أعرف؛ إنما، في حقيقة الأمر، هي مجرد مراجعة للذات وتفكر في مسار اخترته لنفسي متأخرًا، ألا وهو طريق اللاعنف. وقد عنونت هذه التأملات باللاعنف والمدينة، لأني من خلالها، وأنا أحاول مراجعة نفسي، كنت أفكر بنفسي وبمدينتي بمقدار ما كنت أفكر بشكل عام بكل أخ لي في هذا البلد وفي الإنسانية. 2 في نهاية العام المنصرم، وكنت حينذاك منهمكًا في ترجمة كتاب بعنوان كتابات وأقوال للمهاتما م. ك. غاندي استوقفتني في الفصل الأول من هذا الكتاب، وهو فصل بعنوان لست قديسًا ولا غارقًا في الخطيئة، عبارة في منتهى الفطرية والجمال يقول فيها: لم أدّعي يومًا بأني زاهد؛ فالزهد مرده صرامة الأشياء. أنظر إلى نفسي كصاحب بيت يعيش حياة خدمة متواضعة كغيري من العاملين الذين يعيشون على صدقات الأصدقاء... والحياة التي أعيشها سهلة ومريحة في مجملها، هذا إن فهمنا الراحة بأنها مجرد حالة ذهنية. ومن هذا المنظور، لديّ كل ما أحتاج إليه ولا أتعب نفسي باكتناز أي شيء خاص.
|
|
|