French Arabic

الخبرة مع الله
الرسالة الثانية
أفكار أخيرة

 

سيمون ﭭـايل

 

أبتي،

لقد كان لطفًا منكم أنْ كتبتم لي رغم كل شيء. كان غاليًا عليَّ حصولي على كلمات ودية منكم لحظةَ الرحيل.

ذكرْتم لي أقوالاً رائعة للقديس بولس. ولكنْ آمَلُ ألاَّ أكونَ أعطيتُكم، وأنا أعترف لكم ببؤسي، انطباعًا عن إنكاري لرحمة الله. آمَلُ ألاَّ أكونَ قد سقطْتُ أبدًا وألاَّ أسقطَ بتاتًا إلى هذه الدرجة من الدناءة والجحود. لا أحتاج إلى أي رجاء ولا إلى أي وعد لكي أؤْمنَ بأنَّ الله واسع الرحمة. أعرف هذه السعة بيقين الاختبار، لقد لمستُها. وما عرفتُه منها بالاحتكاك يتجاوز قدرتي على الفهم والامتنان إلى درجة أنَّ ملذَّاتِ النعيم الأخروي لا يمكنها أنْ تضيفَ شيئًا إلى ذلك بالنسبة لي؛ مثلما أنَّ جمْعَ لانهايتَينِ ليس جمعًا في نظر العقل البشري.

إنَّ رحمةَ الله تَظهَر في الترَح ظهورَها في الفرح على حد سواء، وربما أكثر، لأنها بهذا الشكل لا شبيهَ لها بشريًا. فرحمةُ الإنسان لا تَظهَر إلاَّ في عطية فرح أو في إنزال ألم تِبعًا لآثار خارجية، كشفاء الجسد أو التربية. ولكنْ ليست الآثارُ الخارجية للمصيبة هي التي تشهد على الرحمة الإلهية. فالآثار الخارجية للمصيبة الحقيقية تكاد تكون دائمًا سيئة. وعندما نريد إخفاءها نكذب. إنما في المصيبة نفسها تضيء رحمةُ الله، في العمق تمامًا، في مركز مرارتها الحزينة. فإذا وقعْنا في الحب وثبَتْنا إلى درجة عدم تمكُّنِ النفس من حبس صرخةِ: "ربي، لِمَ تركْتَني؟"، وإذا بقينا في هذه النقطة دون أنْ نتوقف عن الحب، ينتهي بنا الأمر إلى ملامسة شيء ما لا يعود هو المصيبة وليس الفرح، شيءٍ هو الجوهر المركزي والأساسي والصافي وغير الملموس، المشتركِ بين الفرح والعذاب، هو حب الله ولا شيءَ غير حب الله.

نعْلم عندئذٍ أنَّ الفرح هو حلاوة الاتصال بحب الله وأنَّ المصيبة هي جَرح هذا الاتصال نفسه عندما يكون مؤلمًا وأنَّ الاتصال نفسه هو وحده الذي يهم وليس الكيفية.

كذلك، إذا عدنا ورأينا كائنًا عزيزًا جدًا بعد غياب طويل فلا تهمُّ الكلماتُ التي نتبادلها معه، ولكنْ ما يهم فقط هو نبرة صوته التي تؤكد لنا حضورَه.

معرفة هذا الحضور لله لا تعزِّي ولا تزيل شيئًا من المرارة الفظيعة للمصيبة ولا تشفي تشوُّهَ النفس. ولكننا نعلم بطريقة أكيدة أن حب الله لنا هو الجوهر نفسه لهذه المرارة ولهذا التشوه.

أودُّ أنْ تكونَ لدي المقدرة، عرفانًا بالجميل، على أنْ أتركَ شهادةً على ذلك.

لقد أحبَّ شاعرُ الإلياذة اللهَ حبًا جعلَه يمتلك هذه المقدرة. لأنه هنا يكمن المعنى الضمني للقصيدة والمصدر الوحيد لجمالها. ولكننا قلَّما نفهمها.

حتى وإنْ لم يكنْ لدينا سوى الحياة الدنيا، وحتى وإنْ لم تقدِّمْ لنا لحظةُ الموت أيَّ جديد، فإنَّ الفيض اللانهائي للرحمة الإلهية حاضر أصلاً في السر في الحياة الدنيا برُمَّتِها.

لو افترضنا عبثًا أنني مِتُّ دون أنْ أرتكبَ أيةَ خطيئة كبيرة وسقطْتُ مع ذلك في الدرك الأسفل من جهنم مباشرةً، فسأكون مدينةً لله مع ذلك بفضل لا حد له وهو رحمته اللانهائية بأنْ وهبني الحياةَ الأرضية، حتى وإنْ كنتُ موضوعًا فاشلاً. وحتى على هذا الافتراض، أعتقد، مع ذلك، أنني أكون قد حصلْتُ على نصيبي من سعة الرحمة الإلهية. لأننا نتلقى منذ الحياة الدنيا المقدرةَ على حب الله وعلى تصوره يقينًا بأنَّ جوهره فرح حقيقي أبدي كامل لانهائي. ونتلقى من فوق، عبر حُجُب الجسد، أحاسيسَ داخليةً بالخلود كافيةً لتمحوَ كلَّ الشكوك بهذا الشأن.

ماذا نريد وماذا نرغب أكثر من ذلك؟ ليس هناك في قلب الأم أو العشيقة التي تتيقن من أن ابنها أو عشيقها يعيش في الفرح من خاطر قادر على طلب شيء آخر أو رغبة شيء آخر. إذْ أنَّ عندنا زيادةً. ما نحبه هو الفرح الكامل نفسه. وعندما نعرف ذلك، يصبح الرجاءُ نفسه بدون جدوى ولا يعود له معنى. الشيء الوحيد الذي يبقى أن نتأمله هو نعمة عدم العصيان في الحياة الدنيا. والباقي من شأن الله وحده ولا يعنينا.

لذلك، لا ينقصني شيء على الرغم من أنَّ خيالي الذي يشوِّهه عذابٌ طويل جدًا ومتواصل لا يمكنه أنْ يتلقَّى فكرةَ الخلاص كأمر ممكن لي. ما تقولونه لي بهذا الشأن لا يمكن أن يكون له من نتيجة عليَّ غير إقناعي بأنَّ لديكم حقًا مودةً لي. فكانت رسالتكم بهذا الشأن غاليةً جدًا. لم تمكن من فعل شيء آخر في داخلي، ولكنْ لم يكنْ ذلك ضروريًا. إنَّ معرفتي لضعفي الذي يُرثى له تجعلني أفترض أنَّ قليلاً من الحظ المعاكس يكفي ربما ليملأ نفسي بآلام إلى درجة عدم ترك أي مكان فيها على مدار زمن طويل للأفكار التي عبَّرْتُ لكم عنها منذ قليل. ولكنْ حتى هذا لا يهم. فاليقين ليس خاضعًا لحالات النفس. يكون اليقين دائمًا في أمن تام. فهناك أوقات لا أعود أعلم فيها، حقًا، أيَّ شيء عن هذا اليقين؛ إنها الاتصال المباشر مع مصيبة الآخرين؛ اللامبالين والمجهولين أيضًا، وحتى ربما أكثر من ذلك، بما فيهم هؤلاء الذين عاشوا في عصور موغلة في القِدَم. هذا الاتصال يؤلمني ألمًا فظيعًا ويخترق نفسي فيمزِّقها إلى درجة أنَّ حب الله يصبح عندي في بعض الأوقات شبهَ مستحيل. ينقصني القليلُ القليل حتى أقولَ أنه مستحيل. إلى درجة أنَّ ذلك يقلقني. وأطمئنُّ قليلاً عندما أتذكر أن المسيح بكى مسبقًا وهو يتنبأ بأهوال نهب أورشليم. أتمنى أن يسامحنا على تعاطفنا.

لقد سببتم لي ألمًا عندما كتبتم لي بأن يوم معموديتي هو فرح كبير لكم. بعد الكثير الذي تلقيتُه منكم كان باستطاعتي كذلك أنْ أسبِّبَ لكم فرحًا؛ ومع ذلك لم تأتِني، حتى للحظة واحدة، فكرةُ القيام بذلك. ليس بوسعي القيام بشيء. أعتقد حقًا أنْ لا أحدَ غير الله له عليَّ سلطةُ أنْ يمنعني من أنْ أسبِّبَ لكم الفرح.

وحتى إذا لم أنظرْ سوى على صعيد العلاقات الإنسانية البحتة فإنني مدينةٌ لكم بفضل لا حدود له. أعتقد أنَّ جميع البشر باستثنائكم، والذين حصل أنْ أعطيتُهم يومًا ما، من خلال صداقتي، سلطةَ أنْ يسببوا لي الحزنَ بسهولة كانوا أحيانًا يتسلَّون بإحزاني، مرارًا أو نادرًا، بطريقة واعية أو لاواعية، ولكنْ جميعهم أحيانًا. وعندما كنتُ أعرف أنَّ ذلك كان عن وعي، كنتُ آخُذُ سكِّينًا وأقطع الصداقةَ دون أنْ أُبلغَ، مع ذلك، الشخصَ المعنيَّ مسبقًا.

لم يكونوا يتصرفون على هذا النحو عن سوء نية، ولكنْ بفعل الظاهرة المعروفة التي تدفع الدجاجاتِ، عندما ترى بينها دجاجةً جريحةً، إلى الارتماء فوقها ونقدها.

يحمل جميع البشر في داخلهم هذه الطبيعةَ الحيوانية. فهي تحدد موقفَهم إزاء أقرانهم بعلمهم وموافقتهم أو دون علمهم وموافقتهم. كذلك حيانًا، ودون أنْ ينتبهَ الفكرُ إلى شيء، تحسُّ الطبيعةُ الحيوانية لدى إنسان ما بتشوُّه الطبيعة الحيوانية لدى إنسان آخر وتستجيب بناءً على ذلك. كذلك الأمر في جميع المواقف الممكنة وردود الأفعال الحيوانية المقابلة. هذه الضرورةُ الآلية تستحوذ على جميع البشر في كل الأوقات؛ ويتخلصون منها بمقدار ما تشغل الأمورُ الخارقةُ الحقيقيةُ من مكانٍ في نفوسهم. حتى التمييز الجزئي صعب جدًا في هذه المسألة. فلو كان هذا التمييز ممكنًا تمامًا بالفعل لكان هناك معيارٌ لمقدارِ ما هو خارق وفوق طبيعي في حياة النفس، معيارٌ أكيد ودقيق كالميزان، ومستقل تمامًا عن كل المعتقدات الدينية. وهذا ما أشار إليه المسيح، من بين أشياء أخرى كثيرة، حينما قال: "هاتان الوصيتان هما واحدة."

بقربكم فقط لم تصبْني بتاتًا ردةُ فعلِ هذه الآلية. فوضعي أمامكم شبيه بوضع متسوِّل حكمَتْ عليه الفاقةُ بالجوع الدائم، فكان يطرق من وقت لآخر منزلَ موسِر بحثًا عن الخبز، ولأول مرة في حياته لا يعاني من الإهانات. لو قدَّم مثلُ هذا المتسول حياةً مقابل كسرة خبز، ولو قدَّم حيواتِه جميعًا، لرأى أنه ما خفَّضَ دَينَه.

ولكنْ بالإضافة إلى ذلك، أرى أنَّ احتواءَ العلاقات الإنسانية معكم على نور الله باستمرار ينبغي أنْ يزيد الامتنانَ درجةً أخرى.

مع ذلك، لن أقدِّمَ لكم أيةَ شهادة امتنان، هذا إنْ لم أقلْ بحقكم أشياءَ قد تثير غضبَكم المشروعَ تجاهي. لأنه لا يليق بي مطْلَقًا أنْ أقولَها ولا حتى أنْ أفكرَ بها. فليس لي الحق في ذلك. وأعرف ذلك جيدًا.

ولكنْ بما أنني فكرتُ بها في الواقع فلا أجرؤ على إخفائها عنكم. إنْ كانت خاطئةً فلن تؤذيَ. وليس مستحيلاً أنْ تحتويَ على حقيقة. في هذه الحالة، قد يكون هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّ الله قد أرسل لكم هذه الحقيقةَ عبر ريشة وُجِدَتْ في يدِيْ. هناك أفكار يناسبها أنْ ترسَلَ بالإلهام وهناك أفكار يناسبها أكثرَ أنْ ترسَلَ [هكذا] بواسطة مخلوق، واللهُ يستخدم كلتا الطريقتين مع خُلَصائه. معروفٌ أنَّ أيَّ شيء، كحمارة مثلاً، يمكن أنْ يفيدَ كوسيط على السواء. حتى إنَّ الله قد يرضى باختيار الأغراض الأكثر حقارة لهذه الغاية. أحتاج لأنْ أقولَ لنفسي هذه الأشياءَ حتى لا أخافَ من أفكاري. عندما وضعتُ لكم خطيًا لمحةً عن سيرتي الذاتية الروحية، كان لذلك غايةٌ وقصد. كنتُ أريد أنْ أقدِّمَ لكم إمكانيةَ رؤية مثال ملموس وأكيد عن إيمانٍ باطني. أكيد، لأنني أعرف أنكم تعرفون أنني لا أكذب.

تعتقدون، سواءً أكنتم محقِّين أم مخطئين، أنَّ ليَ الحقَّ في تسميتي مسيحية. أؤكد لكم أنني عندما أستخدم، بخصوص طفولتي وشبابي، كلماتِ: الدعوة الربانية والطاعة وروح الافتقار والنقاء والقبول وحب القريب وكلماتٍ أخرى مشابهة، فإنها تحمل بدقة متناهية المعنى الذي كانت تحمله عندي في ذلك الوقت. مع ذلك، فقد ربَّاني أهلي وأخي في لاأدريةٍ[1] تامة؛ ولم أقُمْ أبدًا بأدنى جهد للخروج من ذلك، إذْ لم تكنْ لديَّ أدنى رغبةٍ في ذلك، وكنتُ محقَّةً في رأيي.

رغم ذلك، لم يبرِّر الجهلُ فعليًا، منذ ولادتي، إنْ صحَّ التعبير، أيًا من أخطائي أو نواقصي. ولا بد أنْ أُحاسَب عليها جميعًا يوم يغضب الحمَـل[2].

يمكنكم أيضًا أنْ تصدِّقوا كلامي بأنَّ اليونان ومصر والهند القديمة والصين القديمة وجَمالَ العالَم والانعكاسات الصافية والحقيقية لهذا الجَمال في الفنون والعلم ومشهد خبايا القلب الإنساني في قلوب فارغة من الإيمان الديني، جميعَ هذه الأشياء فعلَتْ ما فعلَتْه الأشياءُ التي تبدو مسيحيةً في جعلي أسيرةً للمسيح. حتى أنني أعتقد أنه من الممكن أنْ أقول أكثر من ذلك. حبُّ هذه الأشياء الموجودة خارج المسيحية المرئية يجعلني خارج الكنيسة. لا بد أنَّ مثل هذا المصير الروحي يبدو لكم عصيًا على الفهم. ولكنْ لهذا السبب نفسه يجدر أنْ يكون ذلك موضوعَ تفكير. ومن المفيد التفكير في ما يُرغِم على الخروج من دائرة الذات. يشقُّ عليَّ أنْ أتصوَّرَ كيف يحصلُ أنْ تقيموا بالفعل نوعًا من الصداقة معي؛ ولكنْ بما أنَّ الأمر كذلك في الظاهر، فقد تفيد هذه الصداقةُ لذلك الغرض.

نظريًا، تقْبلون قبولاً تامًا مفهومَ الإيمان الباطن. عمليًا أيضًا، لديكم سعةُ أفق ونزاهة فكرية استثنائية جدًا؛ ولكنهما، رغم ذلك أيضًا، غير كافيَينِ أبدًا في نظري. الكمال وحده يكفي.

غالبًا ما اعتقدتُ، عن خطأ أو عن صواب، أنني وجدتُ فيكم مواقفَ متحيِّزة؛ وخاصةً نوعًا من الاشمئزاز، في حالات خاصة في الواقع، من قبول إمكانية وجود إيمان باطن. كان عندي على الأقل انطباع بذلك عندما كلَّمتُكم عن ب... وخاصةً عن فلاح إسباني أراه غيرَ بعيد جدًا عن القداسة. صحيح أن ذلك كان بلا شك خطئي بصورة خاصة؛ ورعونتي هي أنني أسبِّب دائمًا أذىً لما أحب عندما أتكلم عنه؛ فقد اختبرتُه مرارًا. لكنْ يبدو لي أيضًا أنه عندما يحدِّثونكم عن كفَّار امتُحِنوا بمصيبة فقبِلوها كجزء من نظام العالَم فإنَّ ذلك لا يعطيكم الانطباعَ نفسه فيما لو كان الكلام عن مسيحيين وعن خضوع لإرادة الله. على الرغم من أنَّ ذلك هو الشيء نفسه. على الأقل إذا كان لي الحق فعلاً في تسميتي مسيحية فإنني أعرف من خلال الاختبار أن الفضيلة الرواقية والفضيلة المسيحية هما فضيلة واحدة. أقصد الفضيلة الرواقية الحقيقية التي هي مَحبة قبل كل شيء، وليس التشويه الذي ألحقه بها بعضُ الهمجيين الرومان. نظريًا، يبدو لي أنه لا يمكنكم أنتم أيضًا أنْ تنفوا ذلك. ولكنْ تأبون الاعترافَ في الواقع، من خلال أمثلة ملموسة ومعاصرة، بإمكانية وجود فعالية خارقة للفضيلة الرواقية.

كما أنكم آلمتموني ذات يوم عندما استخدمتم كلمة خاطئ لتعبِّروا بها عن غير الأورثوذكسي. وقد استدركتم الخطأ على الفور. أرى أنَّ هناك خلطًا في المصطلحات لا يتماشى مع نزاهة فكرية تامة. ويستحيل أنْ يُرضيَ ذلك المسيحَ الذي هو الحقيقة. يبدو لي أكيدًا وجود نقص حقيقي لديكم. ولِمَ يكون لديكم نقص؟ لا يليق بكم أبدًا أن تكونوا ناقصين. كأنَّ نقصَكم نشازٌ في نشيد جميل. أعتقد أنَّ هذا النقص هو التعلق بالكنيسة كجزء أرضي. فهي في الواقع جزء أرضي في نظركم، في الوقت الذي تشكِّل فيه العلاقةَ مع الجزء السماوي. تعيشون فيها ضمن مناخ إنساني ودي. وهذا يكاد يجعل قليلاً من التعلق أمرًا لا مناصَ منه.

ربما كان هذا التعلقُ في نظركم ذلك الخيطَ البالغَ الدقةِ الذي تكلَّم عنه القديسُ يوحنا الصليب والذي، مادام أنه لم ينقطع، يمسك العصفورَ بالأرض مثلما تمسكه سلسلةٌ معدنية كبيرة. أتصور أنَّ الخيط الأخير، وإنْ كان دقيقًا جدًا، ينبغي أن يكون من الأصعب قطعه، لأنه عندما ينقطع فلا بد من الطيران، وهذا يسبب الخوفَ. ولكن الواجب لا يرحم أيضًا.

ينبغي ألاَّ يكونَ لأبناء الله أي جزء في الدنيا غير الكون نفسه بكامل مخلوقاته العاقلة التي احتواها ويحتويها وسيحتويها. هذه هي مدينة المولد التي لها الحق في حبنا.

تفرض الأشياءُ الأقل سعةً من الكون، وفي عدادها الكنيسة، واجباتٍ يمكن أن تكون واسعةً جدًا، ولكنْ لا توجد بينها فريضة المحبة. هذا ما أعتقده على الأقل. كما أنني مقتنعة بأنه لا يوجد بينها أية فريضة لها علاقة بالفكر.

ينبغي أن يكون لحبنا المدى نفسُه الذي لنور الشمس عبر الفضاء بكامله والتوزيع المتساوي نفسُه الذي لنور الشمس في كل أجزاء الفضاء. لقد أمرَنا المسيحُ ببلوغ كمال أبينا السماوي من خلال محاكاة ذلك التوزيع للنور بلا تمييز. كما ينبغي لفكرنا أن تكون له هذه الحياديةُ والنزاهة التامة.

ينبغي للمرء أن يكون كاثوليكيًا[3] Catholique [جامعاً]، أي ألاَّ يرتبطَ بخيط مع أي مخلوق كان، إلاَّ اللهمَّ أنْ يرتبطَ بكل الخَلْق. لقد تمكَّنَت هذه الكونيةُ في الماضي من أنْ تكونَ باطنيةً عند القديسين، حتى في سريرتهم. كانوا يستطيعون بصورة باطنية أن يعطوا من أنفسهم نصيبًا دقيقًا للحب الواجب فقط لله ولجميع خَلْقه من جهة وللفرائض تجاه كل ما هو أصغر من الكون من جهة أخرى. أعتقد أنَّ القديس فرانسيس الأسيزي [سان فرانسيسكو دي أسيس] François d'Assise والقديس يوحنا الصليب كانا كذلك. لذلك كان الاثنان شاعرَين.

صحيح أنه يجب على المرء أن يحب القريبَ، ولكنَّ القريب، في المثل الذي ضربه المسيحُ كشرح لهذه الوصية، هو كائنٌ عارٍ ونازفٌ دمًا ومُغْمَىً عليه في قارعة الطريق ولا نعلم عنه شيئًا. فالمقصود من حب القريب هو الحب المحايد تمامًا وبالتالي الكوني تمامًا.

صحيح أيضًا أنَّ المسيح قال لتلاميذه: "أَحِبُّوا بعضَكم بعضًا." ولكنني أعتقد أنَّ المقصود هنا هو الصداقة، صداقة شخصية بين كائنين ينبغي أن تربط كل محب لله بكل محب آخر. الصداقة هي الاستثناء الوحيد المقبول على واجب الحب وبطريقة كونية فقط. ليست الصداقة، في رأيي أيضًا، صافيةً حقًا إلاَّ إذا كانت محاطة من جميع الجهات إذا صح القول بغلاف متين من التجرُّد يحافظ على وجود مسافة.

نعيش عصرًا لا سابقَ له بتاتًا، وفي الوضع الحالي، لا بد للكونية التي كانت في الماضي باطنيةً أنْ تكون اليوم ظاهريةً كليًا. ولا بد أنْ تؤثِّرَ في اللغة وفي طريقة الوجود كلها. كما أنه لا يعني شيئًا اليومَ أنْ يكونَ المرءُ قدِّيسًا. ينبغي بلوغ القداسة التي تتطلبها اللحظة الحالية، قداسة جديدة، ولا سابق لها هي الأخرى. لقد تكلَّم ماريتان Maritain عن ذلك، ولكنه عدَّد فقط مظاهرَ القداسة في الماضي والتي على الأقل لم تَعُدْ صالحةً اليوم. لم يدرك بالمقابل إلى أي مدى ينبغي أن تحتوي القداسةُ اليوم على جِدَّة إعجازية.

الضرب الجديد من القداسة هو انبجاس وابتكار. ويشبه تقريبًا كشفًا جديدًا عن الكون والمصير البشري، مع مراعاة الفوارق، وبالحفاظ على مراتب الأشياء. إنه تعرية جزء كبير من الحقيقة والجَمال والذي مازالت تخفيه طبقةٌ كثيفة من الغبار. ويتطلب عبقريةً أكبر من العبقرية المطلوبة من أرخميدس لاكتشاف الميكانيك والفيزياء. القداسة الجديدة هي ابتكار أكثر إعجازًا.

لا شيء غير نوع من الانحراف يُجبِر أحبابَ الله على انْ يُسلَبوا العبقريةَ، ذلك لأنه يكفيهم أن يطلبوها من أبيهم باسم المسيح حتى يحصلوا على فيض منها.

إنه طلبٌ مشروع اليوم على الأقل، لأنه ضروري. وأعتقد أنه الطلب الأول الذي ينبغي التماسُه، على هذا الشكل أو على أي شكل مشابه، طلبٌ ينبغي التماسُه كلَّ يوم وفي كل ساعة، كطفل جائع يطلب خبزًا على الدوام. يحتاج العالَمُ إلى قدِّيسين يمتلكون عبقريةً كحاجة مدينة مصابةٍ بالطاعون إلى أطباء. وحيثما يكون هناك حاجة، يكون هناك واجب.

لا أستطيع أنا بنفسي أن أحصل على أية فائدة من هذه الأفكار ومن جميع الأفكار التي تُلازِمها في ذهني. قبلَ كلِّ شيء، النقصُ الهائل الذي مازال قابعًا في داخلي من جرَّاء عدم شجاعتي يضعني على مسافة كبيرة جدًا من حيث تطبيقُها. وهذا أمر لا يُغتفَر من جهتي. لا يمكن، في أفضل الأحوال، اجتيازُ مسافة كبيرة إلى هذا الحد إلاَّ مع مرور الوقت.

ولكنني وددتُ مع ذلك لو أنني تجاوزتُها أصلاً، فأنا أداة تالفة. أنا منهَكة جدًا. وحتى لو آمنتُ بإمكانية الحصول من الله على إصلاح تشوهات الطبيعة في داخلي فلن يكون في وسعي أنْ أعزم على طلب اجتيازها. وحتى لو كنتُ متأكدةً من الحصول على هذا الإصلاح فلن أستطيع. فطلبٌ كهذا ربما يبدو لي إهانةً للحب الرقيق جدًا الذي جعل المصيبةَ هبةً عندي.

إذا لم يَقْبلْ أحدٌ أنْ يعيرَ أفكاري أيَّ اهتمام، تلك الأفكارَ التي لا أدري كيف طُرِحَتْ في كائن غيرِ كفء مثلي، فإنها ستُدفَن معي. وإذا كانت تحتوي، كما أعتقد، على حقيقة فسيكون ذلك خسارةً. وسأُسبب لها أذىً. إذْ إنَّ مجرَّدَ وجودها في داخلي يمنع أنْ يعيرَها الآخرون اهتمامًا.

لا أرى أحدًا سواكم يمكنني أنْ ألتمسَ منه اهتمامًا بأفكاري. ودِدْتُ لو تحوَّلَ عني إحسانُكم الذي غمرتموني به واتَّجهَ إلى ما أحملُه في داخلي والذي هو خير مني بكثير، ليتكم تصدقونني.

ما يؤلمني كثيرًا هو خشيتي من أنْ يُحكَمَ على الأفكار التي هبطَتْ عليَّ بالموت بسبب عدوى نقصي وبؤسي. فأنا لم أقرأْ مرةً قصةَ التينة التي لا تثمر دون أنْ ترتعدَ فرائصي. أعتقد أنها صورتي. كانت الطبيعةُ في داخلها عاجزةً، ومع ذلك لم تُعذَرْ. ولعنها المسيح.

لذلك فإنَّ عندي سببًا مشروعًا لأنْ أخشى غضبَ الله أكثر من كثير من المجرمين الكبار، على الرغم من أنه قد لا يكون في حياتي أخطاء خاصة كبيرة فعلاً غير تلك التي اعترفتُ لكم بها، على ما أعتقد، في رؤيتي الأشياءَ بصورة عقلانية وباردة. في الواقع، ليس أنني أخشى غضبَ الله. إذا عكسنا الفكرة بصورة غريبة فإنَّ غضب الله لا يثير في داخلي إلاَّ الحب. فما يسبب نوعًا من الخشية ويجعلني أرتجف هو أنَّ فضل الله ورحمته ممكن وليس واجب.

لكنَّ الإحساس بأنني في نظر المسيح مثل تينة لا تثمر يمزق قلبي.

من حسن الحظ أنَّ الله لا يكتفي بأنْ يرسلَ الأفكارَ نفسَها، إذا كانت حسنة، إلى كائن طاهر وقادر على خدمته فحسب، بل يرسل كثيرًا من الأفكار خيرًا منها بكثير، وكان ذلك على الله يسيرًا.

ولكنْ من يدري إذا كانت الأفكار التي في داخلي، أو جزءٌ منها على الأقل، موجَّهةً إليكم لكي تحصلوا منها على فائدة ما؟ إذْ لا يمكن أنْ تُوجَّهَ إلاَّ إلى شخص لديه شيء من الصداقة معي، صداقةٍ حقيقية. لأنني لستُ موجودةً، بمعنىً ما، في نظر الآخرين. فأنا ورقة خريف صفراء، كبعض الحشرات.

إذا بدا لكم من كل ما كتبتُه لكم الآن أنَّ هناك شيئًا خاطئًا وفي غير محله من قلمي فاعذروني. ولا تغضبوا مني.

لا أدري إنْ كان باستطاعتي أنْ أرسلَ لكم أخباري أو أنْ أحصلَ على أخباركم خلال الأسابيع والأشهر القادمة. ولكنَّ هذا الانقطاع لن يضرَّ إلاَّ بي، وبالتالي لا أهميةَ له.

لا يسعني إلاَّ أنْ أؤكد لكم أيضًا امتناني كابنةٍ وصداقتي التي لا حدودَ لها.

الدار البيضاء، 26 أيار/مايو 1942

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  مذهب اللاأدرية agnosticisme: مذهب فلسفي يرى أنَّ كل ما لا يمكن اختباره لا تمكن معرفته. فهو لا يعترف بالماورائيات [الميتافيزيقيا]. (المترجِم)

[2]  الحمَـل هو إشارة إلى المسيح؛ واليوم الذي يغضب فيه الحمَـل إشارة إلى يوم الدينونة. (المترجِم)

[3] كلمة catholique (كاثوليكي) مشتقة من اللاتينية catholicus واليونانية katholikos وتعني: الكوني، العالمي، الشامل، الجامع. (المترجم)

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود