البديل اللاعنفي السلمي

لاستمرار الانتفاضة

الأب رائد عوض وقداسة البابا 

الأب رائد عوض أبو ساحلية

 

تقول الأسطورة إن عملاقاً أرسل كتاب تهديد إلى عملاق منافس في أرض مجاورة. فلما تسلَّم الخطابَ مزَّقه وشتم الأول. فهرع هذا إليه لينتقم منه، والأرض تهتز تحت قدميه. ولما سمع الثاني وقْع القدمين أصابه رعبٌ شديد. عندئذٍ جاءت زوجته وهدأت من روعه، ونصحت له بالاستلقاء على الفراش والاختباء حتى تتولَّى هي الأمر بآلية "الفكر"، لا بآلية "العضل"، فغطَّته باللحاف، باستثناء قدميه الضخمتين. ولما اقترب العملاق الغاضب مزمجراً اعتذرت عن غياب زوجها، ورَجَتْه ألا يرفع صوته حتى لا يوقظ "ابنها النائم". فلما التفت ورأى القدمين البارزتين، قال في نفسه: "إن كان هذا هو الغلام، فكيف بالحري يكون الأب؟!" عندئذٍ أصيب بالرعب وولى الأدبار!

لم أورد هذه القصة في بداية الحديث لكي أحبط الجهود الجبارة التي تُبذَل في مقاومة الاحتلال – مع علمنا بأننا نصارع عملاقاً يتبجح بقوة السلاح – بل أوردتُها لكي أطرح فكراً جديداً لا يقوم على آلية "قوة العضل"، بل على آلية أخرى هي "قوة الفكر"، وعلى "قوة الحقيقة" المبنية على الحق والشرعية الدولية.

وهذه الآلية البديلة نسميها "اللاعنف" بالمعنى الغانديِّ لمصطلح ساتياغراها الذي يعني "قوة الحقيقة" أو "قوة المحبة". وقد استخدمها ذلك الرجل النحيل، الروح العظيمة المهاتما غاندي، واستطاع أن ينتصر على "الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس"، فيدحر الاحتلال البريطاني عن شبه القارة الهندية، وينتزع استقلال بلاده من أعظم قوة في العالم آنذاك. كما أن تلميذه مارتن لوثر كينغ الابن اتَّبع نفس الطريقة لتحرير السود في الولايات المتحدة من العبودية والتمييز العنصري بسبب اللون، ولنيل المساواة والحقوق المدنية الكاملة لهم. كما أن نلسون مانديلا المعاصر استطاع أن يتغلب، وهو قابع في سجنه لمدة 27 سنة، على حكومة جنوب أفريقيا التي مارست، لأكثر من قرن، سياسة الفصل العنصري (الأبارتهايد) ضد السود. فانتصر صوت العقل وصوت الحق أخيراً في كل الحالات الآنفة الذكر.

أما حالتنا فليست أقل تعقيداً من القضايا السابقة، كما وليست أقل عدلاً وشرعية على الإطلاق. لقد استخدمنا في نضالنا بعض الوسائل اللاعنفية، خاصة خلال الانتفاضة الأولى مع المناضل مبارك عوض الذي أسَّس "المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف". ولكن السلطات الإسرائيلية، عندما شعرت بخطر مثل هذه الأساليب، اعتقلتْه؛ ثم أطلقتْه بعد ثلاثة شهور شريطة أن يغادر البلاد. وهو يعيش إلى الآن في واشنطن ويرأس هناك "منظمة اللاعنف الدولية". وقد زرته قبل سنتين أثناء تحضيري لأطروحة الدكتوراه عن "العنف واللاعنف في الفكر الإسلامي"، ورَجَوتُه أن يعود لمتابعة النضال. ولكن التزاماته الكثيرة هناك، والجو غير الملائم هنا، لم يسمحا بعودته إلى الآن. وهذا لا يدل أن طروحاته ماتت وأمست في ملف النسيان؛ فهي ما زالت نافعة، ويمكن أن تكون فاعلة وفعالة.

إذن، فأنا أدعو إخوتي الفلسطينيين إلى تبني "الإستراتيجية اللاعنفية" التي تقوم على مبدأ واضح مفاده "أن الشعب الفلسطيني، لأنه يملك قوة الحقيقة والشرعية الدولية، فهو أقوى بالحجارة منه بالسلاح، وأقوى بكثير بأغصان الزيتون منه بالحجارة". كما أن اللاعنف يسعى إلى التفتيش عن وسائل دفاع مدنية لاعنفية تمكِّن الشعب من تنظيم مقاومة حقيقية لصدِّ أي عدوان، بدلاً من مضاعفة الإدانات التي علَّمتنا التجربة أنها عديمة الفائدة والتأثير. لذلك لا بدَّ من التحلِّي بالشجاعة التاريخية، ورمي السلاح والحجارة، ورفع غصن الزيتون من جديد؛ ذلك الغصن الذي رفعه بيمينه السيد الرئيس أبو عمار في خطابه الشهير في الأمم المتحدة عام 1974 حيث قال: "إني قادم حاملاً غصن زيتون بيد وبندقية بالأخرى. فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي." نعم... فغصن الزيتون وحده سينتصر!

أنا مقتنع جداً – ولأسباب وجيهة – بأن هذه المرحلة تتطلب اختيار إستراتيجية غصن الزيتون. وهذه الأسباب هي الآتية:

1.    لقد اتَّبعنا كل وسائل المقاومة العنفية قبل قيام دولة إسرائيل، وأثناء قيامها، وبعد قيامها، حتى يومنا هذا، وسجَّلنا ملاحم في الشجاعة، وسطَّرنا تاريخاً من البطولات. ولكننا، للأسف، خسرنا كل المعارك، ونَعَتَنا العالمُ بـ"الإرهاب" لأننا لم نعرف كيف نقنعه، بلغة حضارية، بأننا أصحاب حق، بأننا لسنا الظالمين بل المظلومون، وبأننا لسنا الجلاد بل الضحية.

2.    أخشى أن العالم – حتى يومنا هذا – رغم وعيه ومعرفته وإقراره بحقوقنا، لا يقف إلى جانبنا بما يكفي بسبب الدعاية الإسرائيلية التي تشوِّه صورة العرب في وسائل الإعلام، وبسبب حساسية العالم تجاه أي عمل عنف نقوم به. فالعنف المبالغ فيه من جانب إسرائيل مغفور له ومقبول؛ أما المقاومة من جانبنا فمرفوضة ومدانة دائماً، وموصومة بالإرهاب كالعادة. لذلك لا بدَّ من استعمال لغة جديدة يفهمها العالم، وهي لغة اللاعنف، بما فيها من قوة الفكر والرموز التي قد تؤثر على وسائل الإعلام أكثر من المناظر اليومية التي تنقلها الصحافة من أولاد يرشقون الجنود بالحجارة وجنود يطلقون النار؛ حتى إن مناظر القصف والتفجيرات صارت عادية بالنسبة للعالم، بينما الناس البسطاء يدفعون الثمن غالياً كل يوم من حياتهم وأعصابهم.

3.    إن سلسلة المقاومة والعنف، وما يقابلها من عنف مبالغ فيه من الجانب الإسرائيلي، هي حلقة مفرغة مستمرة متصاعدة لا يمكن إيقافها إلا بكسرها؛ خاصة وأن الخصم العنيد لا يريد أن يفهم بأن تضحيات شعب بأكمله من أجل حريته واستقلاله ليست أعمالاً إرهابية كما يعتقد. وفي هذه الحالة، لن يرضخ العدو بسبب الكبرياء لأنه يعتبر نفسه قوة عظيمة لا يمكن أن تنكسر وتنحني أمام حجارة الأطفال. لذلك لا بدَّ من مخرج من هذا المأزق، ليس لإخراج العدو من الإحراج، بل بإحراجه بأساليب جديدة لا تدع له المجال أو المبررات والحجج للردِّ العنيف لأنه يخاف على صورته أمام العالم. وبذلك ندحر الاحتلال ونُخرِج المحتل، محافظين على كرامتنا وكرامته.

4.    والسبب الأقوى والأهم لهذا التحول الإستراتيجي يكمن في أن الطاقة المشحونة الآن في الجماهير الغفيرة لا بدَّ أن تعبِّر عن نفسها. فيمكن استخدامها لمزيد من العنف والتصعيد، وبذلك تصبح طاقة متفجرة وغضبية لا يمكن السيطرة عليها ولا يمكن التنبؤ بعواقبها، لأنها مبنية على الانفعالات الارتجالية، الفردية أو الجماعية. لكن من جهة أخرى، يمكن تحويلها إلى طاقة إبداعية خلاقة بنَّاءة انطلاقاً من المبدأ المعروف: "القوي وحده قادر على العمل اللاعنفي"، بينما الضعيف "لا حول له ولا قوة". فإننا ننطلق من هذه القوة الجماهيرية لكي ننظم أنفسنا، ونهز العالم، ونُخرِج من جعبتنا العملاق الكامن فينا، كما يقول القائد: "نحن شعب الجبارين"، مستخدمين من الآليات اللاعنفية قديمَها وجديدَها، ومبتكرين غيرها بفكرنا الخلاق.

5.    وأخيراً، فإن جميع شرائح المجتمع تتأثر وتعاني وتشارك في فعاليات الانتفاضة. ولكن الغالبية العظمى مشاركتها سلبية؛ فهي تعاني بصمت وتتأفف. بينما في الأسلوب السلمي الجديد يمكن تحريك الجميع، بحيث يهب شعب بأكمله، عن بكرة أبيه، بشيبه وشبابه، ليشارك بفعاليات إبداعية تشمل كل القرى والمدن الفلسطينية في طول الوطن وعرضه؛ لا بل قد تنطلق العدوى وتصيب الدول المجاورة والدول العربية والإسلامية. وأنا متأكد أن الكثير من الأجانب والأصدقاء في جميع أنحاء العالم، وحتى من الإسرائيليين في حركات السلام الذين يتعاطفون مع قضيتنا العادلة، سيتحركون معنا ويهبون لنجدتنا ويجرؤون على المشاركة الفعالة لأنهم لن يُنعَتوا بالإرهاب عندما يشاركون مع شعب في حركة تحريره بالطرق السلمية.

أسَّست في هذا الحديث للفكرة وللأسباب الدافعة لتبنِّيها. ولكني أدعو القيادة السياسية والدينية والشعبية إلى دراستها وتطويرها بالسرعة الممكنة قبل ضياع الوقت. وأشير هنا إلى ضرورة الاستعانة بالاختصاصيين في هذا المجال، على النطاقين المحلي والعالمي، وخاصة الأكاديميين الذين بحثوا وكتبوا في هذا المجال. وللمساعدة أعرض بعض الأسماء والكتب المتوفرة: بالإضافة إلى كل كتب المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ المتوفرة باللغة العربية، هناك بعض المراجع التي لا غنى عنها، مثل كتب الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر حول وسائل العصيان المدني؛ والكاتب الأمريكي جين شارب الذي كتب حول المقاومة اللاعنفية؛ وكتب مبارك عوض التي صدرت عن المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، مثل اللاعنف في الأراضي المحتلة؛ وكتاب رجل ولا كالرجال: بدر شاه خان، جندي اللاعنف في الإسلام؛ وكذلك سلسلة كتب الأستاذ جودت سعيد، من نحو مذهب ابن آدم الأول؛ وكتاب الدكتور خالص جلبي سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي؛ وكتب المؤلف العراقي خالد كشطاني، مثل كتاب نحو اللاعنف؛ وغيرها الكثير مما هو متوفر في المكتبة العربية.

أنهي حديثي بآية إنجيلية مفادها: "أحبوا أعداءكم وصلُّوا لأجل مبغضيكم." إن محبة الأعداء لا تعني الخنوع والضعف، ولا تعني التنازل عن الحقوق، بل المطالبة بها بقوة المحبة. مبدأ اللاعنف هو "العفو عند المقدرة"، لأنك إن أحببت عدوك، تُرجِع له إنسانيته ويُرجِع لك إنسانيتك. فكأنك "ترمي في وجهه ماء بارداً"، أو "تلقي في حضنه جمراً". فصوت الحق الذي تطالب به سيوقظ ضميره النائم أو المتحجِّر، ويُرجِع إليه وعيه، بعد أن يكون قد فقد ضميره ووعيه ورشده. فالظلم يعميه عن رؤية ذاته ورؤيتك، والحق فقط يحرِّره ليعطيك حريتك. "الحق يحرركم"، كما يقول المعلِّم.

أعلم جيداً بأن هذه الأفكار الإستراتيجية تحتاج إلى علم ومعرفة، تربية وإعداد، وقت وقيادة. ولكن أعرف أيضاً بأنه خير لنا أن نبدأ قبل أن يفوت الأوان ونغرق، نحن والمنطقة، في بحر من الدماء‍‍!

*** *** ***

عن القدس 1/4/2001

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود