frencharabic 

التربية

لقتل جراثيم الإيديولوجيات التي تُشَرْعِنُ العنفَ وتمجده، لا بد من العمل على ريِّ المجتمع بأسره بـ"ثقافة اللاعنف" – والثقافة تبدأ بالتربية. وهذه تطمح طموحًا رئيسيًّا إلى إعداد صغار الإنسان لأن يصيروا فلاسفةً ومواطنين. وسيكون لديهم، من ثم، الوقت كله لاكتساب المعارف المهنية التي تتيح لهم أن يصبحوا عاملين.

يتمفصل المشروعُ التربوي الشامل حول قطبين: التعليم والتربية. والتعليم يعني نقل معارف تشكِّل علمًا. وهذا العلم يتعلق بوقائعَ ويتوخى الموضوعية. التعليمُ "استعلام" renseignement: فهو يقدم معلومةً علمية أو تقنية. يستهدف التعليم أساسًا "ما فيه منفعة" utile – فهو "نفعي" utilitaire إذن. إنه يبلِّغ "علمًا" savoir يؤدي إلى اكتساب "مهارة" savoir-faire. لكن العلوم التقنية، مهما كانت نافعة، تبقى غريبةً عن القيم التي تضفي على الحياة معنًى. فالعلم لا يتيح التفكر في العنف والألم والموت؛ والعلم، كذلك، لا يساعد على التفكر في اللاعنف والطيبة والسعادة. ليس العلم، في النهاية، سبيلاً للتفكر في معنى الحياة[1].

إن من الضرورة الحيوية إتاحةَ الفرصة لأطفالنا لينهلوا من الإرث الثقافي – الروحي والفلسفي والأدبي والفني... – الذي هو إرثنا، كما هو إرث الحضارات الأخرى سواء بسواء. لقد تفكَّر عددٌ من البشر، طوال قرون، في الأسئلة الوجودية التي نطرحها على أنفسنا حول معنى الحياة والموت. فعلى المشروع التربوي أن يتيح للأطفال بِناءَ شخصيتهم الخاصة وتكوين قناعاتهم الخاصة عبر النهل من مَعين أعمال مَن سبقَهم.

إذا كان التعليم يُعلِّم "فن العمل" art de faire، فإن التربية تنقل "فن الحياة" art de vivre. وإذا كان من المهم للمرء أن "يعرف" savoir لكي "يجيد الفعل" savoir faire، فإن من الضروري أن "يجيد الحياة" savoir vivre. التربية هي تعليم قواعد لغة الحياة. في التعليم، يكون دور المتعلِّم منفعلاً بخاصة: عليه أن يكتفي بـ"اتباع" درس "يعطى" له وبتسجيل المفاهيم التي يُلقَّنُها وتخزينها. ومن حيث المبدأ، إذا لم يغلط المعلِّم فلا جناح عليه؛ حسبه أن يعيد. فالمعلم مجرد "معيد" répétiteur. أما في التربية، فللمتعلم دور فاعل، ولديه ما يقوله. فالتربية تقوم على علاقة تفاعلية بين الأستاذ والتلميذ. التعليم يضع في المقام الأول تعلُّم المعارف؛ فيما التربيةُ تخص بالامتياز العلاقة مع المتعلم. المعلِّم يتكلم إلى التلاميذ؛ وكذلك يفعل المربي، لكنه يتمهل للكلام مع التلاميذ.

على "التربية المُواطِنية" éducation civique للأطفال ألا تشكِّل تعليمًا منفصلاً، هامشيًّا، إذا جاز القول، بل يجب أن تكون، على العكس، في المركز من المشروع التربوي. عليها أن تجتهد في التشجيع على الاستقلالية بدلاً من الخضوع، على الحس النقدي بدلاً من الطاعة السلبية، على المسؤولية بدلاً من الانضباط، على التعاون بدلاً من التزاحم، وعلى التضامن بدلاً من التنافس. والمقصود هنا قطعًا، في المحصلة، تنشئة الأطفال على اللاعنف؛ ولكنْ، في سبيل ذلك، يكون الشرط الأول هو أن تستلهم التربيةُ نفسُها مبادئ اللاعنف وقواعدَه ومناهجَه: التربية على اللاعنف تبدأ من لاعنف التربية. ينبغي على الكبار، أولاً، أن يحترموا عالَم الطفل، فلا يقتحمونه ولا يحتلونه، فارضين قوانينَهم وإيديولوجياتِهم الخشبية. فصغيرُ الإنسان ليس إنسانًا صغيرًا، إنما هو إنسان بالصيرورة. وهذه "الصيرورة" أساسًا هي التي يجب على الكبير أن يحترمَها. ولا تنطوي التربيةُ اللاعنفية على إلغاء كلِّ سلطة للراشد. إذْ يحتاج الطفلُ، لكي يبني شخصيتَه، إلى الاصطدام بهذه السلطة؛ فمن طبيعة سلطة المربي الجيد نفسها أن تمارَس من خلال اللاعنف.

التربية éduquer (من الفعل اللاتيني educare: "أنشأ") هي جوهريًّا "تنشئة" صغير الإنسان على الحرية. لذا يجب الإقرار بأن الصعوبة هائلة. تلكم هي المفارقة الكبرى للتربية: تربية صغير الإنسان على الحرية بوضعه ليس تحت التأثير وحسب، بل تحت الإكراه أيضًا – إذ إن التربية إكراه. فالحرية تُكتسَب، ليس بالخضوع للإكراه قطعًا، بل بالتغلب عليه. إنما لا يكفي الإلماع إلى أنْ ليس كل إكراه عنفًا، بل يجب التأكيد أنه ليس من إكراه تربوي إلا الإكراه اللاعنفي.

إن تفقيه الأطفال بالمُواطَنة هو تعليمهم إجادة استعمال القانون بإفهامهم أن الطاعة المطلوبة من المواطنين ليست الخضوع المنفعل وغير المشروط لأمر رئيس مباشر، بل اعتناقُ قاعدةٍ يقرون هم أنفسُهم بصحتها عن إمعان نظر ورضا. وإنه لبُعد جوهري من أبعاد التربية أن يُشرَك الأطفال في وضع القواعد الاجتماعية التي يجب عليهم مستقبلاً أن يمتثلوا لها. عليهم أن يختبروا بأنفسهم ضرورتَها لكي يتمكنوا من العيش معًا في إطار احترام جميع الأفراد وكل فرد. إن هذه القواعد، التي تجسِّد مسبقًا قوانينَ المجتمع، تعيِّن حقوقَ كلِّ فرد وواجباتِه تجاه الآخرين بهدف نزع الشرعية عن العنف. إنها تفرض قيودًا ونواهيَ تضع حدودًا للأطفال.

وعندما لا تتمكن سلطةُ المربي من التوصل إلى إقناع الطفل باحترام فروض القانون، لا مناص له من اللجوء إلى إجراءات الإكراه. يجدر به، إذن، عند وقوع أيِّ انتهاك للقانون، أن يحتاط لذلك بعقوبة تنسجم مع المشروع التربوي في مجمله. وغايةُ العقوبة ليست القِصاص punition (من الفعل اللاتيني punire الذي يعني: "اقتص")، بل غايتها التربية دائمًا أبدًا. فعلى العقوبةُ أن تتيح للطفل أن يفهم أنه نَقَضَ العقدَ الذي كان قَبِلَه بنفسه وأن تمنحَه إمكانَ القيام بالتكفير. فالعقوبةُ تبرَّر أولاً سلبًا بكون غيابها – أي الإفلات من العقاب – يشجِّع الطفلَ العاصي على الاستمرار في خَرْقِه القانون. ليست غاية العقوبة استعادة سلطة المربي، بل إحلال أسبقية القانون.

تتيح العقوبةُ التربويةُ للمنتهِك أن يعي مسؤوليته عن أفعاله، سواء حيال نفسه أو حيال الآخرين أيضًا، بهدف مصالحته مع نفسه ومع المجموعة. وتُشدِّد العقوبةُ على أنْ وحده احترام كلِّ فرد للقانون يتيح إمكانيةَ العيش معًا. فالعقاب ليس إدانةً، ليس توبيخًا، ليس إذلالاً، بل هو تحميل للمسؤولية. من أجل هذا، يجب استنكار فعل الانتهاك دون أن يُدان شخصُ المنتهِك.

على المربي أن يُبدي حَزْمًا fermeté – مذكِّرًا بنواهي القانون ورافضًا قبولَ الانتهاكات –، وليس قسوةً sévérité. وهذا لأن "المعاقبة الشديدة" sévir هي "معاملة بالقسوة" sévices، أي استخدام للعنف بحقِّ الأطفال المتمردين (لكلمات sévir وsévérité وsévices الفرنسية جذرٌ اشتقاقي واحد، وأصلُها الفعل اللاتيني sœvire: أي "استخدم العنف").

إن إحدى مهمات التربية الرئيسية هي تقويض الأحكام المسبقة التمييزية بحقِّ "الآخرين" ممَّن ينتمون إلى شعب آخر و/أو دين آخر و/أو ثقافة أخرى. فنقلُ أفكار جاهزة مسبقة عن "العدو" إلى الأطفال يعني تسليح عواطفهم وأذهانهم وسواعدهم سلفًا، أي تعليمهم مسبقًا على الحرب. الفريضة الرئيسية للتربية هي، إذن، نزع السلاح من نظرة الأطفال إلى "الآخرين"، وخصوصًا مَن تتَّسم هويتُهم الاجتماعيةُ بالاختلاف. فالمقصود تربية نظرتهم لكي يُقلِعوا عن كلِّ عداوة تجاه "الآخرين المختلفين" ولكي يتعلموا الرفق بهم.

·   ثقافة اللاعنف

·   الطفولة

·   المدرسة

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

مراجعة: ديمتري أفييرينوس

return to the index


horizontal rule

[1] هذا التأكيد يجانب الدقة إلى حدٍّ كبير. إذ إن العلم النظري (ولاسيما الفيزياء والكونيات والبيولوجيا)، أكثر من الفلسفة المتخلفة عنه بأشواط، هو الذي يعيد اليوم طرح الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بالحياة والموت والصيرورة، وبمعنى الحياة والوعي إجمالاً. (المترجم)

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني