english arabic

next chapter

 

مفتاح الثيوصوفيا

 

هيلينا ب. بلافاتسكي

 

 

هيلينا بتروفنا بلافاتسكي (1831-1891) سليلة أسرة روسية شريفة. تمتعت منذ الصغر بقدرات استثنائية باهرة، من سرعة تعلم للغات وموهبة موسيقية لا يستهان بها إلى حساسية نفسانية فائقة. اتصلت بالأخوية البيضاء الكبرى المشرفة، على حد ما قالت، على التطور الروحي للجنس البشري، وقامت برحلات بعيدة في العالم مفتشة عن المعرفة، حتى بلغت معتزَل معلِّمها وأفراد آخرين من الأخوية الكبرى في الهملايا حيث سورِرَت بمعرفة غزيرة وصارت مقدَّمة الأخوية المتفانية في نقل جانب من تلك المعرفة حتى وافاها الأجل، سواء عبر مؤلفاتها المكتوبة، مثل إيزيس سافر والعقيدة السرية ومفتاح الثيوصوفيا وصوت الصمت ومئات المقالات، أو عبر التعليم الشفهي للمريدين الذين تحلقوا من حولها. ننشر في هذا العدد الفصل الأول من المفتاح، منتظرين تعليقات القراء.

*** *** ***

 

الإهداء

 

من

"هـ. ب. ب."

إلى

جميع تلامذتها

كي

يتعلموا ويعلموا بدورهم

 

 

تصدير

إن القصد من هذا الكتاب بيِّن تمام البيان في عنوانه – "مفتاح الثيوصوفيا" –، ولا يحتاج إلا إلى بضع كلمات توضيحية. فهو ليس مرجعاً وافياً مستوفياً في الثيوصوفيا، إنما مجرد مفتاح لفتح الباب المؤدي إلى دراسة أعمق. إنه يرسم الخطوط العريضة لدين الحكمة، ويشرح مبادئه الأساسية، ويردُّ في آن واحد على شتى الاعتراضات التي يثيرها الباحث الغربي العادي، ساعياً إلى عرض مفاهيم غير مأنوسة في أبسط شكل وأوضح لغة ممكنين. أما أن يفلح في جعل الثيوصوفيا في متناول فهم القارئ بدون أن يبذل هذا من جانبه مجهوداً عقلياً، فهذا أبعد من أن نتطلَّع إليه؛ غير أننا نرجو أن يكون مردَّ الاستغلاق الماثل إلى الفكر لا إلى اللغة، وإلى العمق لا إلى البلبلة. أما خامل الذهن أو بليده، فلسوف تظل الثيوصوفيا بالنسبة إليه أحجية؛ ذلك أن على كل امرئ، في عالم العقل كما في عالم الروح، أن يتقدم بجهوده الخاصة. فلا الكاتبة تستطيع أن تفكر عن القارئ، ولا القارئ يستطيع أن يصبح أصلح حالاً إن كان مثل هذا التفكير بالنيابة ممكناً. لقد شعر المهتمون بالجمعية الثيوصوفية وبعملها طويلاً بالحاجة إلى مثل هذا الكتاب، لذا نرجو أن يجد فيه العديد ممَّن استيقظ انتباههم، لكنهم لبثوا إلى الآن حيارى وحسب، لا مقتنعين، رصيداً من المعلومات مجرداً من النقاط الفنية قدر المستطاع. لقد أولينا بعض العناية فرزَ ما هو حق مما هو باطل فيما يتعلق من التعاليم الأرواحية بحياة ما بعد الموت، وبيانَ حقيقة الظاهرات الأرواحية. ولقد كانت تعليلات من النوع عينه مجلبة للكثير من السخط على شخص الكاتبة المتفاني. فالأرواحيون، مثلهم كمثل الكثيرين سواهم، يفضِّلون تصديق ما هو ظريف على تصديق ما هو حق، ويصبون جام غضبهم على كل مَن يقوِّض أضلولة سائغة. لقد ظلت الثيوصوفيا طوال العام المنصرم مرمى لكل سهم من سهام الأرواحية المسمومة، وكأن أصحاب أنصاف الحقائق يناصبون أصحاب الحقيقة كلها عداء أشد من عداء من لا قسط لهم من الحقيقة يباهون به.

تتوجَّه الكاتبة بالشكر من القلب إلى الثيوصوفيين الكثر الذين بعثوا إليها باقتراحات وأسئلة، أو، على غير ذلك، أسهموا بمساعدتهم في أثناء وضع هذا الكتاب. فالمؤلَّف سوف يكون أعمَّ فائدة بفضل عونهم، ولسوف يكون لهم ذلك خير ثواب.

هـ . ب. ب.

 

تصدير الطبعة الثانية

ابتغاء مزيد من تيسير دراسة الثيوصوفيا – الأمر الذي سبق لـ"المفتاح" أن حقَّقه – قمت بإضافة "معجم" غزير بكل المصطلحات الفنية الواردة فيه. هذا وإن معظم التعريفات والشروح إنما هي منقولات أو مختصرات مستقاة من "معجم ثيوصوفي"[1] أوسع سوف يُنشر قريباً مع المقالة في "الرموزية القديمة"[2]. نرجو أن يلبي هذان "المعجمان" حاجة طال الشعور بها وأن يغطي أوسعهما جملة الاصطلاحات الغيبية كأتم ما تتيسر التغطية.

هـ . ب. ب.

المقر الثيوصوفي العام

19، جادة آفنيو

لندن، 1890

***

 

الباب الأول

الثيوصوفيا

والجمعية الثيوصوفية

_____

 

معنى الاسم

السائل: كثيراً ما يشار إلى الثيوصوفيا وإلى عقائدها باعتبارها ديانة مبتدعة حديثاً. فهل هي ديانة؟

الثيوصوفي: إنها ليست كذلك. فالثيوصوفيا هي المعرفة الإلهية أو العلم الإلهي.

السائل: فما المعنى الحقيقي للمصطلح؟

الثيوصوفي: إنه يعني "الحكمة الإلهية"، Qeosojίa (ثيوسوفيا) أو حكمة الآلهة، مثلما تعني Qeogonίa (ثيوغونيا) علم أنساب الآلهة. فكلمة qeοV تعني باليونانية إله، أي أحد الكائنات الإلهية، وليس بالتأكيد "الله" بالمعنى الذي يُربط بالمصطلح في يومنا هذا. لذا فإنه ليس "حكمة الله"، كما يترجمه بعضهم، إنما الحكمة الإلهية، كالحكمة التي تملكها الآلهة. ويعود المصطلح إلى آلاف عديدة من السنين.1

السائل: وما أصل الاسم؟

الثيوصوفي: لقد جاءنا من الفلاسفة الاسكندرانيين الذين سُموا عشاق الحقيقة، أو الفيلاليثيين، من jil (فيل) "مُحِبّ"، و alhqeia (أليثيا) "الحقيقة". أما اسم ثيوصوفيا فيعود إلى القرن الثالث الميلادي. وقد ظهر مع أمُّونيوس ساكَّاس وتلاميذه2 اللذين أنشأوا المنهج الثيوصوفي الاصطفائي.

السائل: وماذا كان الغرض من هذا المنهج؟

الثيوصوفي: كان الغرض منه قبل كل شيء تلقين تلامذته وجميع اللذين كانوا "عشاقاً للحقيقة" بعض الحقائق الخُلقية الكبرى. ومن هنا الشعار الذي تبنَّته الجمعية الثيوصوفية: "لا دين أعلى من الحق"3. لقد كان الهدف الرئيسي لمؤسِّسي المدرسة الثيوصوفية، خليفتها الحديثة، ألا وهو التوفيق بين كافة الأديان والملل والأمم تحت لواء منهج مشترك للأخلاق، يرتكز على حقائق أبدية.

السائل: فما برهانك على أن هذا ليس بحلم مستحيل، وعلى أن أديان العالم كلِّها ترتكز فعلاً على الحقيقة الواحدة عينها؟

الثيوصوفي: هو دراستها المقارنة وتحليلها. فلقد كان "دين الحكمة" واحداً في قديم الزمان؛ وإن لفي العقائد المتماثلة التي تُعلَّم للمسارَرين إبان المسارَرة – وهي سُنَّة كانت فيما مضى عالمية الانتشار – برهاناً على وحدة الفلسفة الدينية البدائية. "إن العبادات القديمة كلها تشير إلى وجود ثيوصوفيا وحيدة سابقة عليها جميعاً. ولابد للمفتاح الذي يفتح إحدى هذه العبادات أن يفتحها جميعاً؛ وإلا فإنه ليس بالمفتاح الصحيح." ( أ. وايلدر، المصدر المذكور)

غايات الجمعية الثيوصوفية

السائل: كانت ثمة في أيام أمُّونيوس عدة أديان كبرى، وفي مصر وفلسطين وحدهما كانت الملل عديدة جداً. فكيف استطاع التوفيق فيما بينها؟

الثيوصوفي: بالقيام بما نحاول أن نقوم به نحن من جديد. لقد كان الأفلاطونيون الجدد يشكلون جماعة كبيرة، وكانوا ينتمون إلى فلسفات دينية متنوعة4؛ وكذا هي حال ثيوصوفيينا. ففي تلك الأيام، كان اليهودي أرسطوبُلس يؤكد أن أخلاق أرسطو تمثل التعاليم الباطنية لشريعة موسى؛ أما فيلون اليهودي فقد سعى إلى التوفيق بين أسفار الشريعة الخمسة والفلسفة الفيثاغورية والأفلاطونية؛ وبرهن يوسيفوس أن أسينيي الكرمل كانوا ببساطة نسَّاخاً عن الثيرابيين (الأساة) المصريين وأتباعاً لهم. كذا الأمر في يومنا هذا. وإن لفي وسعنا أن نقتفي الأصل الذي تحدَّرت عنه كل نحلة مسيحية، وحتى أصغر ملَّة. فهذه الملل إنْ هي إلا العساليج5 أو الغصينات التي نمت على الأغصان الكبيرة؛ غير أنها جميعاً – غصينات وأغصاناً – تنبت من الجذع نفسه: دين الحكمة. لقد كان إثبات هذا هو هدف أمُّونيوس الذي لم يألُ جهداً في إقناع الأمم6 والمسيحيين، اليهود والوثنيين، بنبذ خلافاتهم ونزاعاتهم، بمجرد تذكرتهم أنهم كانوا جميعاً يمتلكون الحقيقة نفسها تحت أكسية متنوعة، وأنهم كانوا جميعاً أبناء أمٍّ واحدة.7 وكذلك هو هدف الثيوصوفيا.

السائل: فما أسانيدكم لما تقولون عن ثيوصوفيي الاسكندرية القدماء؟

الثيوصوفي: هي عدد يكاد لا يحصى من المؤلفين الذائعي الصيت. يقول أحدهم، هو موشييم، أن:

علَّم أمُّونيوس أن ديانة الدهماء كانت تسري يداً بيد مع الفلسفة، وأنها شاركتها مصير الفساد والانطماس التدريجي والخزعبلات والأباطيل البشرية الصرفة، وأنها، من أجل ذلك، يجب أن يستعاد لها نقاؤها الأصلي بتطهيرها من هذا الغثاء وبشرحها على أساس مبادئ فلسفية؛ وكل ما كان يرمي المسيح إليه هو أن يعيد حكمة الأقدمين إلى سابق عزَّتها ومنزلتها، وأن يحدَّ من الانتشار الشامل لهيمنة الخرافة، وبحسب الحال، أن يصحح أو يجتث شتى الأضاليل التي تسربت إلى مختلف الديانات الشعبية.

وهذا ما يقول به الثيوصوفيون المعاصرون بالضبط. غير أنه في حين كان الفيلاليثي العظيم يتلقى الدعم والمساعدة في المنهاج الذي اتَّبعه من اثنين من آباء الكنيسة، ألاوهما كليمنضُس وأثيناغوراس، ومن جميع الفقهاء من ربانيي الكنيس، ومن فلاسفة الأكاديمية والغيضة، وفي حين علَّم عقيدة واحدة للجميع، فإننا، نحن أتباعه على الصراط عينه، لا نقابَل بعدم الاعتراف بنا وحسب، بل، على العكس، نُسفَّه ونُضطهَد؛ الأمر الذي يُظهِر أن الناس قبل 1500 عام كانوا أكثر تسامحاً مما هم عليه في هذا القرن المتنوِّر.

السائل: أولم يكن أمُّونيوس يلقى التشجيع والمساندة من الكنيسة لأنه، على الرغم من زندقته، كان يعلِّم المسيحية، وكان هو نفسه مسيحياً؟

الثيوصوفي: لا، أبداً. فلقد ولد مسيحياً، لكنه لم يقبل قط مسيحية الكنيسة. فكما يقول عنه المؤلف نفسه:8

لم يكن عليه إلا أن يطرح تعليماته بحسب أركان هرمس القديمة التي سبقه أفلاطون وفيثاغوراس إلى معرفتها، ومنها كوَّنا فلسفتهما. ولما وجد العقائد نفسها في فاتحة الإنجيل بحسب القديس يوحنا، قدَّر حق التقدير أن غاية يسوع كانت إعادة العقيدة العظيمة للحكمة إلى مقامها البدائي. أما روايات الكتاب المقدس وقصص الآلهة فقد اعتبرها إما حكايات مجازية تمثل للحقيقة، وإما خرافات يجب نبذها.

ناهيك عما تقوله موسوعة اِدنبره:

لقد اعترف بأن يسوع المسيح كان إنساناً ممتازاً و"صدِّيقاً لله"، لكنه زعم أن قصده لم يكن إبطال عبادة الجان9 (الآلهة)، وأنه لم يكن ينتوي غير تطهير الديانة القديمة.

باطنية دين الحكمة في كل العصور

السائل: بما أن أمُّونيوس لم يدوِّن شيئاً على الإطلاق، كيف للمرء أن يتأكد أن هذه كانت تعاليمه؟

الثيوصوفي: ولا بوذا، أو فيثاغوراس، أو كونفوشيوس، أو أورفيوس، أو سقراط، أو حتى يسوع، خلَّفوا وراءهم أية كتابات. ومع ذلك فإن معظمهم شخصيات تاريخية، وقد وصلتنا تعاليمهم. لقد كتب تلاميذ أمُّونيوس ومن بينهم أوريجينس وهرينِّيوس) مقالات مطوَّلة وشرحوا أخلاق معلِّمهم. ومما لاريب فيه أن المصداقية التاريخية لهذه المقالات تعادل مصداقية كتابات الرسل، إن لم تفقها. ثم إن حوارييه – أوريجينس وأفلوطين ولونجينوس (مستشار الملكة الشهيرة زنوبيا) – خلَّفوا جميعاً سجلات غزيرة للمنهج الفيلاليثي – بمقدار ما كانت شهادتهم الإيمانية معروفة علناً، على كل حال، ذلك أن المدرسة كانت تنقسم إلى تعاليم ظاهرية وتعاليم باطنية.

السائل : فكيف وصلتنا هذه التعاليم، مادمتم ترون أن ما يدعى بحق دين الحكمة كان باطنياً؟

الثيوصوفي: لقد كان دين الحكمة واحداً أبداً؛ وبما أنه الكلمة الفصل التي نطقت بها المعرفة المتاحة للبشر، فإنه كان مصوناً بعناية. ولقد تقدَّم على الثيوصوفيين الاسكندرانيين بعصور طويلة، حتى بلغ الثيوصوفيين المعاصرين، ولسوف يستمر بعد زوال كل دين وكل فلسفة أخرى.10

السائل: وأين تم صونه وعلى يد مَن؟

الثيوصوفي: بين مسارَري كل البلدان؛ وبين الباحثين العميقين عن الحقيقة، تلامذتهم؛ وفي أصقاع العالم التي ما انفكت فيها مثل هذه المباحث مقدَّرة حق قدرها ومطلوبة: في الهند، في آسيا الوسطى، وفي فارس.

السائل: هل في مقدورك أن تقدم لي بعض البراهين على باطنيَّته؟

الثيوصوفي: إن لك في أن كل فرقة دينية، أو بالحري فلسفية قديمة، كانت تتألف من تعليم باطني أو سري، ومن عبادة ظاهرية (خارجية وعلنية)، خير برهان. وعدا ذلك، فمن المعروف أن أسرار الأقدمين كانت تشتمل لدى كل أمَّة على الأسرار "الكبرى" (السرية) و"الصغرى" (الجهرية)، كما في الشعائر المقدسة المشهورة المسماة بـالإلفسينيات في اليونان، على سبيل المثال. فمنذ هِيروفنطيي ساموثراكي ومصر، والبراهمة المسارَرين في الهند القديمة، نزولاً حتى ربَّانيي العبرانيين المتأخرين، كان الجميع يصونون سرية معتقداتهم الحقيقية الأصلية مخافة تدنيسها.11 وكان الربانيون اليهود يطلقون على الوجه الدنيوي من نسقهم الديني اسم مِرْكَفَه (البدن الخارجي)، أي "المركبة"، أو القشر الذي يحوي اللب المستور – ألا وهو معرفتهم السرية الأسمى. وما من أمَّة من الأمم القديمة أفضى كهنتها بأسرارها الفلسفية الحقيقية إلى الجماهير، إنما خصُّوها بالقشور وحسب. وللبوذية الشمالية أيضاً مركبتاها "الكبرى" و"الصغرى"، المعروفتان بمدرستي مهايانا، أو المدرسة الباطنية، و هينيانا، أو المدرسة الظاهرية. وليس لأحد أن يلومهم على مثل هذه السرية؛ فإنك بالتأكيد لن يخطر لك في بال أن تطعم قطيع خرافك أبحاثاً لجهابذة علم النبات بدلاً من العشب. لقد دعا فيثاغوراس غنوصه12 "معرفة الموجودات"، أو h gnwsiV twn ontwn، وخصَّ بهذه المعرفة تلامذته المحلَّفين وحدهم، مِمَّن كانوا يطيقون استيعاب هذا الغذاء العقلي والرضى به؛ وكان يُلزِمهم باليمين على الصمت والسرية. ولقد اشتُقت الأبجديات الباطنية والجفر السري من الكتابات المصرية الهيراطيقية القديمة التي كان سرُّ فكِّها قديماً بحوزة الكتبة المقدسين، أو الكهنة المصريين المسارَرين. أما أمُّونيوس ساكَّاس، كما يروي لنا تراجمة سيرته، فكان يُلزم حوارييه بيمين عدم إفشاء عقائده العليا إلا للذين سبق لهم أن تتلمذوا في المعرفة التمهيدية والتزموا أيضاً بالميثاق. وأخيراً، أفلا نجد الأمر عينه حتى في المسيحية الأولى، وبين الغنوصيين، وحتى في تعاليم المسيح؟ أولم يكن المسيح يخاطب سائر الناس بالأمثال ذات المعنى المزدوج، ويشرح مقاصده لتلاميذه وحدهم؟ ألم يقل لهم: "أنتم أُعطيتم سرَّ ملكوت الله. وأما سائر الناس فكل شيء يلقى إليهم بالأمثال." (مرقس 4: 11) "لقد كان أسِّينيوا اليهودية والكرمل يقيمون مثل هذه التمييزات، فيقسمون الملتحقين بهم إلى مبتدئين، وإخوان، وكُمَّل13 أو مسارَرين." (أ. وايلدر، المصدر المذكور) وبالوسع الإتيان بأمثلة مشابهة من كل البلدان.

السائل: هل بالوسع بلوغ "الحكمة السرية" بالدراسة وحدها؟ إن الموسوعات تعرِّف بـالثيوصوفيا بما يعرِّف بها قاموس وِبْستِر على وجه التقريب، أي بوصفها "وصالاً مفترَضاً مع الله ومع أرواح عليا، ينجم عنه بلوغ معرفة تفوق معرفة البشر بوسائل فيزيائية وعمليات كيميائية". فهل الأمر كذلك حقاً؟

الثيوصوفي: لا أعتقد ذلك. فما من معجِميٍّ بقادر أن يشرح، سواء لنفسه أو للآخرين، كيفية بلوغ معرفة تفوق معرفة البشر بعمليات فيزيائية أو كيميائية. أما لو كان وِبْستِر قال "بعمليات ميتافيزيائية وخيميائية"، لبات تعريفه صحيحاً على وجه التقريب؛ أما وهو على حاله هذه، فإنه لا يُعقَل. لقد كان الثيوصوفيون القدماء يدَّعون، مثلهم كمثل المعاصرين، أن اللامتناهي لا يمكن أن يُعرف بالمتناهي – أي أن يُستشعَر بالذات المحدودة – إنما أن بوسع الذات الروحانية العليا أن تتصل بالجوهر الإلهي في حالة وَجْد. وهذه الحال غير ممكن بلوغها، مثل التنويم المغناطيسي، "بوسائل فيزيائية وكيميائية".

السائل: فما تعليلك للوجد إذن؟

الثيوصوفي: الوجد الحق، بحسب تعريف أفلوطين به، هو "تحرر العقل من وعيه المحدود، ليصبح واحداً مع اللامتناهي ومتواحداً معه".14 إنه، كما يقول البروفسور وايلدر، أسمى الأحوال، لكنه ليس ذا أجل يدوم، وليس إلا للصفوة أن تبلغه. وهو، بالفعل، يتماثل مع تلك الحالة التي تُعرف في الهند باسم سمادهي. ويدأب اليوغانيون على ممارسته، وييسِّرونه بدنياً بتعفُّف شديد في الطعام وفي الشراب، وعقلياً بسعي متواصل لتنقية العقل والتسامي به. التأمل هو الصلاة الصامتة غير المنطوق بها،15 أو هي، كما عبَّر عنها أفلاطون، "توق النفس المتَّقد إلى الإلهي، لا لكي تسأله خيراً معيناً (كما في المعنى المتعارف عليه للصلاة) ، إنما لوجه الخير نفسه - لوجه الخير الأسمى الشامل" الذي ما نحن على الأرض إلا جزء منه، والذي من جوهره انبثقنا. لذا، يضيف أفلاطون: "الزم الصمت في حضرة الإلهيين، إلى أن يبدِّدوا الغشاوة عن عينيك، ويمكِّنوك بالنور المنبعث منهم من رؤية ما هو خير بحكم طبيعته، وليس ما يبدو خيراً في نظرك أنت".16

السائل: الثيوصوفيا، إذن، ليست بدعة مبتكرة حديثاً، كما يزعم بعضهم؟

الثيوصوفي: وحدهم الجهَّال من الناس يشيرون إليها باعتبارها كذلك. إن الثيوصوفيا، إن لم تكن في اسمها ففي تعاليمها وأخلاقها، قديمة قِدَم العالم، كما أنها أيضاً أوسع المناهج وأكثرها شمولية.

السائل: فكيف قُيِّض لها، إذن، أن تبقى مجهولة عند أمم نصف الكرة الغربي؟ ولم كان عليها أن تظل كتاباً مختوماً عند الأجناس الأكثر ثقافة وتقدماً بإقرار الجميع؟

الثيوصوفي: نحن نعتقد أن أمماً وُجدت في الماضي كانت تجارينا ثقافةً وتفُوقنا بالتأكيد "تقدماً" روحياً. غير أن لهذا التجاهل عدة أسباب؛ وقد أعلن القديس بولس أحدها للأثينيين المثقفين،17 ألا وهو ضياع البصيرة الروحية الحقيقية، بل حتى فقدان الاهتمام بها قروناً طوالاً، نظراً لانشغالهم المفرط بأشياء الحسِّ وعبوديتهم المديدة للحرف الميت في العقائد المتحجِّرة والطقسية. غير أن أقوى هذه الأسباب يكمن في أن الثيوصوفيا الحقيقية حُفِظت سرية دائماً.

السائل: لقد جئت ببراهين عديدة على وجود مثل هذه السرية؛ فما السبب الحقيقي لها؟

الثيوصوفي: كان السببان من ورائها هما التاليان: أولاً، غيُّ الطبيعة البشرية عموماً وأثَرَتها، ونزوعها إلى إشباع الرغبات الشخصية على حساب الجيران وأمسَّ الناس رحماً. فمن المستحيل ائتمان أناس كهؤلاء على أسرار إلهية. ثانياً، عدم الركون إليهم في صون حرمة المعرفة الإلهية من الانتهاك. وهذا السبب هو الذي أدَّى إلى إفساد أسمى الحقائق والرموز، والتحول التدريجي للأمور الروحية إلى أصنام تشبيهية18، ملموسة وفظَّة - وبكلمات أخرى إلى مسخ فكرة الله إلى الوثنية.19

الثيوصوفيا ليست البوذية

السائل: كثيراً ما يجري الحديث عنكم باعتباركم "بوذيين باطنيين". فهل أنتم جميعاً من أتباع غوتاما بوذا20؟

الثيوصوفي: كلنا بوذيون بمقدار ما يكون كل الموسيقيين من أتباع فاغنر! بعضنا يدينون بالبوذية؛ غير أن بيننا من الهندوس والبراهمة أكثر بكثير من البوذيين، ومن المولودين مسيحيين من الأوروبيين والأمريكيين أكثر من معتنقي البوذية. لقد برز اللبس من سوء فهم للمعنى الحقيقي لعنوان مؤلَّف السيد سينِتّ الممتاز البوذية الباطنية21 الذي يجب أن تُكتب الكلمة الثانية منه بدال بدلاً من ذال، لأن البودْهِية كانت ستعني عندئذٍ ما كان مقصوداً منها، أي ببساطة "الحكمة" (بودهى، بودِّهي، "الفطنة"، "الحكمة") بدلاً من البوذية، فلسفة غوتاما الدينية. فالثيوصوفيا، كما أسلفت، هي دين الحكمة.

السائل: وما الفرق بين البوذية، وهي الديانة التي أسَّسها أمير كابيلافَسْتو، والبودْهِية، أو "الحكمة"، المرادفة للثيوصوفيا على حد قولك؟

الثيوصوفي: هو عين الفرق بين تعاليم المسيح السرية التي تدعى "أسرار ملكوت السموات" وبين الطقوسية والثيولوجيا العَقَدية اللاحقتين للكنائس والملل. بوذا تعني "المستنير" بـ بودهى، أو الفهم، أو الحكمة. ولقد شكلت الحكمة نسغ التعاليم الباطنية التي أسرَّ بها غوتاما إلى أرهواتـه المختارين وحدهم.

السائل: لكن عدداً من المستشرقين ينفون أن بوذا علَّم يوماً أية عقيدة باطنية أصلاً.

الثيوصوفي: ولم لا ينفون أيضاً أن للطبيعة أسراراً عصية على رجال العلم؟ سأبرهن على ذلك فيما بعد من خلال المحادثة بين بوذا وتلميذه آنندا. لقد كانت تعاليمه الباطنية ببساطة هي غُبْتا فِدْيا (المعرفة السرية) للبراهمة الأقدمين التي أضاع خلفاؤهم الحديثون، باستثناء قلة منهم، مفتاحها تماماً. أما عن هذه الـفِدْيا نفسها، فقد صارت إلى ما يُعرف اليوم بالتعاليم الباطنة لمدرسة مهايانا التابعة لبوذية الشمال. أما الذين ينفون ذلك فهُم ببساطة جهَّال يتنطَّسون للاستشراق. أنصح لك بقراءة كتاب فضيلة السيد إدكنز البوذية الصينية22 – وخصوصاً الفصلين عن المدرستين الظاهرية والباطنية وتعاليمهما – ومن بعد مقارنة شهادة العالم بأسره حول هذا الأمر.

السائل: ولكن، أليست أخلاق الثيوصوفيا متماثلة مع الأخلاق التي علَّمها بوذا؟

الثيوصوفي: بالتأكيد، لأن هذه الأخلاق هي روح دين الحكمة، وكانت ذات يوم مشاعاً بين مُسارَري جميع الأمم. لكن بوذا كان أول مَن أدرج هذه الأخلاق الرفيعة في تعاليمه العلنية، وجعلها أساس منهجه العلني وجوهره. فههنا يكمن الفرق الهائل بين البوذية وكل دين آخر. ففي حين أن الطقوسية والعَقَدية تحتلان في الأديان الأخرى المقام الأول والأهم، فإن الأخلاق في البوذية هي التي كانت موضع الإصرار دوماً. إن في هذا تعليلاً للشبه، الذي يقارب حد التماثل، بين أخلاق الثيوصوفيا وأخلاق ديانة بوذا.

السائل: فهل ثمة نقاط اختلاف كبيرة بينهما؟

الثيوصوفي: إن واحداً من أكبر الاختلافات بين الثيوصوفيا والبوذية الظاهرية هو أن البوذية الظاهرية، تمثِّلها كنيسة الجنوب، تنفي تماماً (أ) وجود أي لاهوت، و(ب) أية حياة واعية بعد الموت23، أو حتى أية فردية واعية لذاتها قادرة على البقاء في الإنسان. ذلكم على الأقل هو ما تُعلِّمه الطائفة السيامية التي تُعَدُّ الآن أنقى أشكال البوذية الظاهرية. كذلك الأمر إذا لم نشر إلا إلى تعاليم بوذا العلنية؛ أما سبب هذا التكتم من جانبه فسأعرض له فيما بعد. غير أن مدارس كنيسة بوذية الشمال التي استقرت في البلدان التي تنحَّى إليها الأرهوات المسارَرون بعد موت معلِّمهم تُعلِّم كل ما يُعرف اليوم بالعقائد الثيوصوفية لأنها تشكل جزءًا من معرفة المُسارَرين –

الأمر الذي يبيِّن كيفية التضحية بالحقيقة في سبيل الحرف الميت من قبل سُنِّية بوذية الجنوب الشديدة الغيرة. ولكن، كم هي أعظم وأنبل، وأكثر فلسفية وعلمية هذه التعاليم، حتى في حرفها الميت، من تعاليم أية كنيسة أو ديانة أخرى. ومع ذلك فإن الثيوصوفيا ليست البوذية.


*** *** ***

next chapter

 

[1] نُشر "المعجم الثيوصوفي" بعد وفاة المؤلفة (م):

H. P. Blavatsky, The Theosophical Glossary, London: The Theosophical Publishing Society, 1892.

[2] على حد علمنا لم تُنشر هذه المقالة قط. (م)

1 للاطلاع على الجانب التاريخي لظهور مصطلح "ثيوصوفيا"، وعلى كل المعاني التي ارتبطت به في المؤلفات الأفلاطونية الجديدة والمسيحية، في الفترة الواقعة بين القرنين الميلاديين الثاني والسادس، نوجِّه القارئ إلى الكتيِّب الممتاز:

Jean-Louis Siémons, Theosophia, aux sources néoplatoniciennes et chrétiennes (2è - 6è siècles). Cariscript, 1988. (م)

2 كانوا يُدعون أيضاً بالقياسيين. وكما يشرح عضو الجمعية الثيوصوفية البروفسور ألكزاندر وايلدر في كتابه الفلسفة الاصطفائية،

[Alexander Wilder, ‘Eclectic Philosophy’, in New Platonism and Alchemy, Albany, N. Y.: Weed, Parsons and Company, 1869.(م) ]

فقد أُطلق عليهم هذا اللقب بسبب عادتهم في تأويل كافة الحكايات والروايات المقدسة والأساطير والأسرار وفقاً لقاعدة أو مبدأ في القياس والتآزي، بحيث تُعتبر الأحداث التي يروى أنها جرت في العالم الخارجي إفصاحاً عن عمليات النفس البشرية واختباراتها. وقد أُطلق عليهم أيضاً اسم الأفلاطونيين الجدد. وعلى الرغم أن الثيوصوفيا، أو المنهج الثيوصوفي الاصطفائي، يُنسب عادة إلى القرن الثالث فإن أصله أسبق بكثير، إذا أخذنا بما يقول به ذيوجينس اللايرسي؛ ذلك أنه نسب المنهج إلى كاهن مصري هو بُتْ–أمون الذي عاصر بدايات الأسرة البطلمية. ويخبرنا المؤلف نفسه أن الاسم اسم قبطي يعني من نذر نفسه لأمون، إله الحكمة. وكلمة ثيوصوفيا مرادفة لـبرهما فِديا، أو المعرفة الإلهية.

3 كانت الثيوصوفيا الاصطفائية تنقسم إلى ثلاثة جوانب رئيسية: 1- الاعتقاد بلاهوت، أو بجوهر لامتناهٍ، واحد مطلق، أجلَّ، لا يُدرَك كنهه، هو أصل الطبيعة قاطبة، وأصل كل ما هو موجود، ما يرى منه وما لا يرى. 2- الاعتقاد بطبيعة الإنسان الأزلية الخالدة، لأنها، بما هي إشعاع من النفس الكلِّية، من جوهر واحد وإيَّاها. 3- الثيورجيا، أو "الصنعة الإلهية"، أو القيام بصنعة الآلهة، من كلمتي qeoV (ثيوس)، "الإله"، و ergon (إرغون)، "عمل" أو "صنعة". والمصطلح قديم جداً، لكنه، لما كان ينتمي إلى مفردات الأسرار، فإنه لم يكن شائع الاستعمال. فبحسب اعتقاد سرَّاني – برهن عليه عملياً النطساء والكهنة المسارَرون – يستطيع الإنسان، فيما إذا جعل نقاءه كنقاء الكائنات الأثيرية – أي فيما إذا عاد إلى نقاء طبيعته الأصلية – أن يحض الآلهة على تلقينه الأسرار الإلهية، بل وحتى على إظهار ذاتهم له، ذاتياً أو موضوعياً. ذلكم كان المظهر المتعالي لما يُعرف اليوم بالأرواحية. لكن الثيورجيا أمست فيما بعد محل تسفيه الدهماء، وبات يُنظَر إليها باعتبارها ضرباً من استحضار الأرواح، ولذلك حُرِّمت في كل مكان تقريباً. أما السحر الشعائري الذي يمارسه بعض القباليين المعاصرين فما هو إلا صدى ممسوخ لثيورجيا يمبليخوس. والثيوصوفيا المعاصرة من جانبها تتجنب وترفض كلا هذين الضربين من السحر و"استحضار الأرواح" باعتبارهما خطرين جداً. أما الثيورجيا الإلهية الحقيقية، فهي تتطلب نقاء وقداسة في الحياة يكادان يفوقان قدرة الإنسان، وإلا فإنه ينحط إلى الوساطة أو إلى السحر الأسود. وأما أوائل حواريي أمُّونيوس ساكَّاس – الذي كان يدعى ثيوذِذكتوس، أي "من علَّمه الإله" – أمثال أفلوطين وتلميذه فرفيريوس، فقد رفضوا الثيورجيا في بادئ الأمر، ثم وطَّنوا أنفسهم عليها بفضل يمبليخوس الذي وضع مؤلفاً في الموضوع بعنوان مقالة في الأسرار باسم معلِّمه، وهو كاهن مصري ذائع الصيت يدعى أبمُّون. وقد كان أمُّونيوس ساكَّاس ابناً لوالدين مسيحيين، لكنه، وقد شعر منذ طفولته بالنفور إزاء المسيحية العقائدية الأرواحية، أصبح أفلاطونياً جديداً؛ ويقال عنه، مثله كمثل يعقوب بوهمِه وغيره من الرائين والسرانيين العظام، إن الحكمة الإلهية انكشفت له في الأحلام والرؤى. ومن هنا اسم ثيوذِذكتوس. وقد عزم أمُّونيوس على التوفيق بين كافة المناهج الدينية، وعلى بيان أصلها الواحد من أجل ترسيخ أسس مذهب شامل يقوم على الأخلاق. كانت حياته لا غبار عليها ومن النقاء بمكان، وكان علمه من العمق والسعة بما حدا بعدد من آباء الكنيسة إلى أن يصبحوا تلامذته سراً. ويشيد كليمنضُس الاسكندراني بذكره كل الإشادة. أما أفلوطين، وهو "يوحنا" أمُّونيوس، فكان هو الآخر رجلاً يحترمه ويجلُّه الجميع، وذا علم واستقامة عميقين جداً. وفي التاسعة والثلاثين من عمره، رافق الامبراطور الروماني غورديان وجيشه إلى الشرق ليتتلمذ على حكماء بَكْترِيا والهند، وأسس أخيراً مدرسة للفلسفة في روما. وقد جمع تلميذه فرفيريوس، وهو يهودي متهلِّن كان اسمه الحقيقي مَلْخُس (مالك) ، جميع مؤلفات معلِّمه. لقد كان فرفيريوس نفسه مؤلفاً عظيماً وضع تأويلاً مجازياً لبعض أجزاء كتابات هوميروس. أما المنهج التأمُّلي الذي اعتمده الفيلاليثيون فكان الوجد وهو منهج شبيه بممارسة اليوغا الهندية. ويعود الفضل في كل ما وصلنا عن المدرسة الاصطفائية إلى أوريجينس ولونجينوس وأفلوطين، حواريي أمُّونيوس ساكَّاس. (انظر أ. وايلدر، المصدر المذكور)

4 تم انتشار اليهودية في الاسكندرية في عهد فلاذِلفوس، وعلى التوِّ أصبح المعلِّمون الهيلينيون منافسين مرهوبي الجانب لندوة ربانيي بابل. ويعلِّق مؤلِّف الفلسفة الاصطفائية تعليقاً في محلِّه: "في تلك الفترة كانت المناهج البوذية والفيدنتية والمجوسية مطروحة جنباً إلى جنب مع فلسفات اليونان. فلا غرو أن يرى عدد من المتفكِّرين ضرورة وضع حد للمماحكات الكلامية، وأن يقبلوا بإمكان استنباط منهج متناغم واحد من هذه التعاليم المتنوعة [...] لقد تتلمذ بنتيانوس وأثيناغوراس وكليمنضُس تمام التتلمذ على الفلسفة الأفلاطونية، وتفهَّموا وحدتها في الجوهر مع المناهج المشرقية."

5 جمع عسلوج، وهو ما لان من قضبان الشجر. (م)

6 باللاتينية gentiles؛ والكلمة تشير في العبرية: 1- عند اليهود، إلى "الأغيار" الغرباء قديماً، وإلى غير اليهود من مسيحيين وسواهم اليوم. 2- عند المسيحيين الأوائل، إلى الوثنيين. (م)

7 هاكم ما يقوله المؤرخ موشييم عن أمُّونيوس: "حين أدرك الائتلاف التام، لا بين فلاسفة الإغريق وحسب، بل وبين فلاسفة مختلف الأمم الهمجية [ليس في كلمة "همجي" أي تحقير في مدلول الإغريق القدماء؛ إذ كانوا يطلقونها على كل من هو غير يوناني. (م)] أيضاً، فيما يتعلق بكل النقاط الجوهرية، جعل يعرض للعقائد الألف لكافة الملل المختلفة بحيث يبيِّن أنها تفرعت جميعاً عن أصل واحد، وأنها تسعى جميعاً إلى الغاية الوحيدة عينها." وإذا كان كاتب باب أمُّونيوس في موسوعة إدنبره يقول ما يقوله عن علم فهو إذن يصف الثيوصوفيين المعاصرين ومعتقداتهم وعملهم؛ ذلك أنه يقول متحدثاً عن الثيوذِذكتوس: "لقد تبنى العقائد التي كانت معتمدة في مصر (كانت العقائد الباطنية عقائد الهند) فيما يخص الكون واللاهوت، باعتبارهما يكوِّنان كلاً عظيماً واحداً، وفيما يخص أبدية العالم [...] ووضع أسس منهج نظام خلقي يسمح للناس بعامة أن يحيوا وفق قوانين بلدانهم وما تمليه الطبيعة، لكنها تفرض على الحكماء الترقِّي بعقولهم بالاستغراق التأملي."

8 أ. وايلدر. (م)

9 "الجان" تسمية عامة تشمل كل رتب الكائنات الأثيرية. (م)

10 يقول الحسين بن منصور الحلاج في هذا المعنى:

          تفكَّرتُ في الأديان جِدَّ تحقُّقٍ فألفيـتـها أصلاً لـه شُـعَبٌ جمَّـا

          فلا تَطْلـبَنْ للـمرءِ ديـناً فإنَّه يُصَدُّ عن الأصـل الوثيقِ وإنَّـمـا

          يطالبُهُ أصـلٌ يُعـــبَّر عــنده جميعُ المعـالي والمعاني فيَفْهما (م)

11 يقول أحدهم في هذا المعنى:

          لِيَكُنْ صدرُكَ للأسرارِ        حِصْــنـاً لايُـــرامُ

          إنَّـما يَنْطِقُ بالسـرِّ                   ويُـفْشــيه اللِّـــئامُ (م)

12 من الكلمة اليونانية gnwsiV (غنوسِس) التي تعني "المعرفة" أو "العرفان". (م)

13 من الجدير بالذكر أن هذه المصطلحات التي تشير في الأخوية الأسِّينية إلى درجات المسارَرة انتقلت فيما بعد إلى الأخويات المسيحية الأولى (راجع مثلاً رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس 2: 6 حيث الكلام على "حكمة نتكلم عليها بين الكاملين" أو "الكُمَّل")، الأمر الذي يؤكد وثوق الصلة بين المدرستين السرَّانيتين الكبريين، الأسِّينية والمسيحية. (م)

14 من هنا قول الحلاج:

          أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا            نحنُ روحانِ حَـلَلْنا بَـدَنـا

          فإذا أبْصَرتـَني أبْـصَرتَهُ             وإذا أبـصـرتَهُ أبصرتَـنا (م)

15 "[...] كثيراً ما أحاول، بعد انقضاء فترة التأمل، أن أسقط على ركبتيَّ أناجي الحقيقة السامية لكمالها وعظمتها، فأشعر عندئذٍ أنني أفنى فيها وأكاد أضمحلُّ وأتلاشى. وشعرت مراراً، وقد بلغت درجة من التأمل كهذه، أنني أصبحت وإياها واحداً [...] عندما يشرق التأمل في نفسي يشرق معه النور الإلهي الذي لا ينتهي، فيغيب الإنسان في عالم غير محدود، لا يقاس ولا يخضع للزوال، ويغوص في أعماق وجوده." (ندره اليازجي، بحوث فلسفية، طب 2، دار الغربال، دمشق، 1994، ص ص 21-22) (م)

16 هذا ما يطلق عليه العلامة مؤلف الفلسفة الاصطفائية، البروفسور أ. وايلدر، عضو الجمعية الثيوصوفية، اسم "التصوير الروحي": "النفس هي الغرفة المظلمة التي تتثبَّت فيها وقائع وأحداث المستقبل والماضي والحاضر على حد سواء؛ ودور العقل أن يعيها. وإلى ماوراء عالمنا المحدود يختزل كل شيء إلى يوم واحد أو حالة واحدة – ماضي والمستقبل متضمَّنان في الحاضر [] الموت هو الوجد الأخير على الأرض. ومن بعد فإن النفس تتحرر من قبضة الجسد، ويتحد أنبل أجزائها بالطبيعة العليا، ويصبح مساهماً في حكمة الكائنات العليا ومعرفتها القَبْلية." والثيوصوفيا الحقة، عند السرانيين، هي تلك الحالة التي قُيِّض لأبولونيوس التياني أن يصفها كما يلي: "في وسعي أن أبصر الحاضر والمستقبل كما في مرآة مجلوَّة. وليس على الحكيم أن ينتظر أبخرة الأرض وفساد الهواء لكي يتنبَّأ بالأحداث [] الـ qeoi، أو الآلهة، يبصرون المستقبل؛ وسائر البشر يبصرون الحاضر؛ والحكماء يبصرون ما هو على وشك الحدوث." وإن لفي تصريح "ملكوت الله في داخلنا" [ الإنجيل بحسب القديس لوقا 17: 21] أحسن تعبير عن "ثيوصوفيا الحكماء" التي يتحدث عنها.

17 راجع أعمال الرسل 17: 22-32. (م)

18 anthropomorphic، خاص بنسبة الصفات البشرية إلى الألوهة؛ و"التشبيه" يقابله "التنزيه"، أي تجريد الألوهة من الصفات البشرية. (م)

19 ثمة في الواقع ثلاثة أسباب رئيسية تستوجب ستر الوجه الباطن من الدين: الأول هو أن للكون وجهين، وجهاً ظاهراً ووجهاً باطناً؛ فإذا كان الإنسان صورة كونية مصغَّرة، اقتضى ذلك أن تنقسم دراسة بنيانه إلى مبحثين، أحدهما ظاهر مكشوف والآخر باطن مستور. الثاني هو وجوب التدرُّج في تلقين التعاليم، من الظاهر إلى الباطن، بما يتوافق والتفاوت في النضج النفسي والروحي للمريدين؛ ذلك أن اقتبال المرء حقائق هو غير مستعد لها يعرِّضه لما لا تحمد عقباه، أقل ما فيه فقدانه رشده. والثالث هو وجود تعاليم تتناول بالدراسة البنيان الباطن للطبيعة، وتفسِّر نواميسها الغامضة وترفع طرف الحجاب عن سيروراتها الخفية التي تزوِّد عارفها بالقدرة على السيطرة على طاقات طبيعية شتى، وتمكِّنه من توجيه هذه الطاقات لمقاصد محدَّدة. لذا يتم التشديد دوماً، في المدارس الباطنية قاطبة، على حرمة أسرار الروح وضرورة كتمها عمَّن لم يبلغ بعد حداً معيَّناً من التفتُّح الداخلي والنضج الأخلاقي يؤهلانه لاقتبالها وصونها. وهؤلاء هم الكثرة الساحقة من بني البشر الذين لا تجوز مخاطبتهم إلا بالأمثال والرموز، كما فعل النبي الجليلي. فما أكثر ما تناول أشخاص ذوو إمكانات فكرية متفوِّقة، لكنهم غير مؤهلين خُلُقياً، أسراراً روحية واستخدموها لخدمة مآرب أنانية، منقلبين على مرشديهم، فكانت هذه الأسرار وبالاً عليهم. لذا يشدد الحكماء ومرشدو المدارس الباطنية على حتمية اختيار المريد بين ذوي القلوب النقية، الذين يضعون نصب أعينهم خير البشرية بأسرها وتطوِّرها، لا منفعتهم الخاصة الضيِّقة. على ضوء ما تقدم يتَّضح معنى قول يسوع الغريب في قسوته في الإنجيل بحسب القديس متى 7: 6: "لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس، ولا تلقوا لؤلؤكم إلى الخنازير، لئلا تدوسه بأرجلها، ثم ترتد إليكم فتمزقكم"، وكذلك معنى قول الحكيم الطاوي الصيني لاوتسُه في كتاب الطريق والفضيلة المنسوب إليه (مقطع 36):

على السمكة ألا تخرج من المياه العميقة،

وعلى أشد أسلحة الدولة فتكاً ألا يطَّلع عليها البشر. (م)

20 الأصح أن نقول البوذا، لأن الكلمة لقب يشير إلى كل من حقق الإشراق الروحي، مثلما يشير لقب المسيح إلى كل من "مسحه" الله. (م)

21 A. P. Sinnett, Esoteric Buddhism. London: Trübner and Co., 1881.(م)

22 J. Edkins, Chinese Buddhism, London, 1880; 2nd revised edition, London: K. Paul, Trench, Trübner & Co., 1893.(م)

23 ورد التعبير باللاتينية في النص: post-mortem. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود