english

arabic

 

الوعي والفَتْح

 

كريستيان دو كوينسي

 

هل نحن، إذ نستكشف الوعي، نفتش عن الحقيقة أم عن الحكمة؟ هل نحن نبحث عن وقائع حاسمة عن الوعي أم عن الخبرة المنوِّرة المعيشة؟

منذ بضع سنين، وأنا أتسكع حول الجلسات العامة لمؤتمر "نحو علم للوعي" في جامعة أريزونا، هزَّتني مداخلة واحدة بصفة خاصة – "الوعي القَبْلفتحي" قدَّمها أنثروبولوجي من جامعة ستانفورد هو إ. ريتشارد سورِنسُن. وورقته هذه كانت أيضاً فصلاً من كتاب صدَرَ لتوِّه بعنوان الإبستمولوجيات القبائلية. لم يتسنَّ لي الوقت لقراءة المقالة بكاملها، لكن ما رأيت استرعى انتباهي. ميَّز سورِنسُن بين شكلين اثنين مختلفين جداً من الوعي: الوعي "القَبْلفتحي" preconquest، الذي تختص به أذهان الشعوب البلدية indigenous، والوعي "البَعْدفتحي" postconquest، الذي ينمِّطه المذهب الصوابي rationalism الحديث. ومصطلح "فَتْح" conquest يشير إلى ما حصل للوعي وسبل العيش البلدية عندما اجتاح الفاتحون الإسبان العالم الجديد.

اقتنيت نسخة من الكتاب لأقرأه في رحلة العودة جواً إلى سان فرانسيسكو، فصدمتي أطروحة سورِنسُن القائمة على سنوات كثيرة من الدراسة الميدانية برفقة ثقافات "معزولة" أو بلدية عديدة. فالوعي القَبْلفتحي متجذِّر في الشعور، بما هو صورة من صور البصيرة الوصيدية liminal awareness التي يكاد التبحُّر العلمي الحديث يجهلها كل الجهل. فالوعي القَبْلفتحي الذي تشكِّله "حِسَّانية ريَّانة" lush sensuality – حيث يترعرع الأقوام الأوليون منذ الطفولة معتادين على الكثير من التماس البدني المباشر – لا يستهدف الحقيقة المجرَّدة بل الشعور بالانبساط what feels good. والأفراد في مثل هذه المجتمعات شديدو الحساسية للتغيرات في التوتر العضلي في الآخرين الدالِّ على تبدُّلات في المزاج. فإذا شعر الآخرون بالانبساط، شعروا هم أيضاً بالانبساط؛ وإذا شعر الآخرون بالانقباض، شعروا هم أيضاً بالانقباض – يطلق سورِنسُن على هذه الظاهرة تسمية البصيرة "الحسيَّة الاجتماعية" sociosensual awareness. بعبارة أخرى، فإن منزع هذا الشكل من أشكال الوعي ودافعَه برمَّته هو أمْثَلَة optimize مشاعر الارتياح في الجماعة. فما هو "واقع" أو "صحيح" (ولنا أن ندعوه "حقيقياً") هو ما يُشعِر بالانبساط. إن "الصحيح" أو "الحقيقي" أو "الواقع" في ثقافات كهذه هو مسألة قيمة، وليس توافقاً بين نموذج ما من المفاهيم المجرَّدة وبين الوقائع التجريبية.

وإنه لذو مغزى أن يكون الوعي البَعْدفتحي جذري الاختلاف. فهو، بقيامه على التصوُّب reasoning الديالكتيكي، ينطوي جوهرياً على السيطرة أو الفَتْح: فالطريحة thesis تواجَه و"تُفتَح" بنقيضتها antithesis، التي تتغلب عليها بدورها شميلة synthesis جديدة. فالوعي البَعْدفتحي، الديالكتيكي، الصوابي rational، هو إذن، بحكم طبيعته نفسها، تناوئي confrontational. وهذا التبصُّر وحده جمَّدني أرضاً.

بيد أن ما تعلَّمت فيما بعد هزَّني حتى قرارة نفسي. إذ مادامت الديناميَّات والدوافع المبطِّنة لشكلي الوعي كليهما على ما هي عليه، فإن لقاء المذهب الصوابي البَعْدفتحي بالشعور القَبْلفتحي يتمخض عن قمع صريح للشعور وفتح له من قبل الصواب – لا محالة.

الصواب reason، في تفتيشه عن الحقيقة، يعمل عبر ديالكتيك فاتحي conquistadorial: الفكرة الواحدة، أو "حقيقة" شخص واحد، تواجهها وتتغلب عليها فكرة معاكسة أو "حقيقة" شخص آخر. والصدام أو الصراع بينهما يُنتِج الشميلة الجديدة – التي تُدرَك بوصفها تقدماً خلاقاً في المعرفة.

بالمقابل، فإن الوعي الوصيدي أو القَبْلفتحي، في كفاحه من أجل ما يُبسِط الجماعة، يسعى إلى التوفيق بين الاختلافات. وهو، إذ يُواجَه بالصواب، يودُّ بالطبع أن يرضي الآخر، وبالتالي يذعن على الدوام. فبينما يكدح الصواب من أجل الغلبة، يكدح الشعور من أجل الإرضاء، والنتيجة: مَحْق الصواب للوعي الوصيدي أو قمعه له.

ولقد أزعجني أكثر إدراكي أن ما من شيء من كل هذا ينطوي على أية نية خبيثة من جانب الصواب. فالصواب، بمجرد أن يقابل إبستمولوجيا قائمة على الشعور، يحاول آلياً أن يحجبها – حتى وإن كان شريف النوايا.

وأنا أعود بالذاكرة إلى حياتي الفكرية أقع على الكثير من الأمثلة المصدِّقة لذلك. ففي عملي أتيحت لي فرصٌ عديدة للتعاطي مع أناس مهتمين بالوعي من منظورات غير الفلسفة أو العلم – التصوف، الشمنيَّة، الجماليات، على سبيل المثال. وفي أغلب الأحيان – حتى عندما كنت أحاول أن أراعي طرق القوم المختلفة في التعرُّف – غادر هؤلاء القوم اللقاء شاعرين أنهم تأذُّوا أو ارتضُّوا لاضطرارهم إلى وضع سرد خبراتهم على محكِّ المنطق الصارم للتحليل الصوابي. عندما يتفق لبحثٍ عن الحقيقة أن يجعل الصواب الديالكتيكي يتصدَّى للخبرة الحوارية فإن المكوِّن الشعوري لمعرفة الآخر قلَّما يستطيع أن يتحمل المواجهة، إذ يشعر الشعور أنه كسيح، وتعطِّل "الحقيقةُ" الحكمةَ. لقد يسَّرتْ لي أطروحة سورِنسُن فهم هذه الديناميَّة بطريقة لم أعهدها من قبل، وورقتُه لم تزوِّدني بمجرد تقدير فكري للديناميَّة القَبْل والبَعْدفتحية. فلقد دعم أطروحته بسرد مؤثر ومروِّع حقاً لما عاينه من تفسخ طريقة حياة كاملة لقبيلة من غينيا الجديدة عندما اكتشف السائحون الغربيون جزيرتها بُعَيْد الحرب العالمية الثانية.

قبل "الغزو"، عاشت قبيلة الصيادين جامعي الثمار بـ"تقارب قلبي قائم على الثقة المبطونة" – بـ"قرابة كشفية" حسية بين القوم. كان تواصلهم عفوياً، مفتوحاً، وصريحاً. كان "حديث الحق" عندهم هو "حديث الوجدان" لأنه كان لا يصح إلا عندما تكون "المشاعر الشخصية مكشوفة ومعبَّراً عنها بدقة، الأمر الذي كان يتطلب الشفافية في الأشواق والاهتمامات والرغبات... فكان ما يهمُّ هو سعة الفرح الجماعي الناتج."

في الحياة الحقيقية لهؤلاء القوم القَبْلفتحيين يتم التسديد على الشعور والبصيرة الآنيين، على الخبرة الحواسية الصريحة – وكأن صميم الحياة يجثم في ذلك الفيض المعقد من المباشَرة الجمعية المُحِسَّة. في ذلك الفيض كان الأفراد يطرحون خواطرهم وأشواقهم الباطنة حتى يراها ويقدِّرها ويرتبط بها الجميع. وهذه الصراحة البسيطة التي لا تستحي هي الأساس الذي عليه يصير تعاطفهم وترابطهم الدامِج الرفيع المنزلة ممكنين. وعندما تنحسر تلك الصراحة، يذوي التعاطف والترابط؛ وحيثما تصير الخديعة ممارسة شائعة يتفسخون.

في غضون أسبوع من وصول السائحين إلى الجزيرة انهارت طريقة حياة وشكل للوعي استمرا مئات إن لم نقل آلاف السنين انهياراً لا رجعة فيه. ويصف سورِنسُن "فقداناً للذاكرة ثقافياً ضخماً" نسيت فيه أقوام برمَّتها أحداث الماضي القريب حتى، واقترفت "أغلاطاً وقائعية جسيمة في سردها. وفي بعض الحالات، نسي الناس حتى أيَّ نمط وأسلوب من اللباس كانوا يرتدون قبلئذٍ ببضع سنوات أو أنهم كانوا (في غينيا الجديدة) يستعملون الفؤوس الحجرية ويأكلون أنسباءهم المقرَّبين الميتين قبلئذٍ ببضع سنوات... لقد تلاشت تلك الوحدة الغيرية التي كانت تبدو بهذا التماسك والترميم الذاتي في موطنهم النائي المعزول تلاشي النسمة الصيفية فيما كان نمط من الوعي المؤسَّس على الحقيقة يفسح المجال لنمط آخر يكذب حتى يعيش."

وعلى ارتفاع ثلاثين ألف قدم، أغرق عينيَّ بالدمع سردُ سورِنسُن لنقطة التأزُّم في الانهيار الثقافي لهذا الشعب:

في أسبوع حاسم واحد ضاعت روحٌ كان العالم كلُّه بحاجة إليها، ليس من أجل أنفسهم بل من أجل الآخرين جميعاً، روح استغرق إيجادها آلاف السنين. هكذا فجأة مضت إلى غير رجعة. أرقٌ وبائي، رقص أهوج طوال الليل، عيون خامدة محمرَّة تزداد ضيقاً وخواءً على كرِّ النهارات والليالي المستهلَكة، عُسْر نطق متعدد الأنواع، وباءات صغيرة مفاجئة من الاستيحاش العفوي، ثغرات في الإدراك، فرط حركة، قصور في الحسَّانية، انهيار في الحب، عُنَّة، نظرات مسعورة حائرة أشبه بنظرات الجواميس في الهند وهي تُضرَب حتى الموت؛ يافعون (وآخرون) ينهارون على الشاطئ... ذلكم كان المشهد الإجمالي ذلك الأسبوع، أسبوع ما كان بوسع أي خيال أن يتوقَّعه، الأسبوع الذي ذاب فيه الغِراء الاجتماعي–الحِسَّاني الحاذق لنمط الحياة النقلي traditional للجزيرة.

كنت قد ذهبت إلى مؤتمر تَكسُن ذاك لتقديم ورقة مفصَّلة تدعو إلى إدراج الذاتانية المتبادلة intersubjectivity، إلى مقاربة مؤسَّسة على العلاقة لفهم طبيعة الوعي وديناميَّاته.

ولقد دُفِعتُ إلى إدراج منظور صيغة المخاطَب لأنني شعرت طوال سنوات بأن شيئاً هاماً كان يُهمَل في المناظرة بين استقصاءات الوعي لصيغتَي المتكلِّم (الذاتاني/الاختباري) والغائب (الموضوعي). وبما أن غالبية تجاربنا من يوم ليوم تتضمن علاقات من هذا النوع أو ذاك، فقد لاح لي أن إغفال هذا المظهر المشترك من مظاهر الوعي يبقى شرخاً بارزاً في فلسفة دراسات الذهن والوعي عموماً.

لم تفتني مفارقة وضعي أو سخريته. كنت هناك للانتصار لأسبقية العلاقة في الوعي – التي تُضمِر تبادلاً في الشعور المشترك –، لكن التباين بين تحليلي الفكري للذاتانية المتبادلة وافتقاري إلى وعي علائقي مختبَر كانا فاقعاً. لقد كنت أستعمل الصواب، ليس في علاقاتي مع الآخرين وحسب، بل في دخيلة نفسي، حتى الاستبعاد الضمني لأي عمق حقيقي في الشعور. كانت حياتي المهنية الخاصة عالَماً مصغَّراً للقاء بين الوعي البَعْدفتحي والقَبْلفتحي – بين الذهن الصوابي الحديث والذهن الكشفي النقلي. كنت أراكِم المعرفة الفلسفية عن الوعي، لكني أفقد صلتي بالجذور الحية للحكمة.

طرق مختلفة في التعرُّف

إذا صحَّ تحليل سورِنسُن للصدام المحتوم بين الوعي البَعْدفتحي والقَبْلفتحي فإن طالع الطرق غير الصوابية في المعرفة يبدو تعساً – هذا إذا قبلنا المسلَّمة (المستبعَدة نوعاً ما) بأن المذهب الصوابي هو القول الفصل في الإبستمولوجيا. بيد أنه من البيِّن أن بحوزتنا وفرة من البراهين من الحكمة الخالدة ومن المعلِّمين والممارسين الروحيين المعاصرين على أن الخبرة الصوفية تتخطى الصواب. إن بوسعنا أن نتطور فيما يتعدى الصواب، وعندما نفعل لا نطمس الفوائد التي جنيناها من الصواب خلال الأربعة أو الخمسة آلاف عام الماضية.

بعبارة أخرى: مع أنه، تاريخياً – كما يوثِّق ذلك مؤلَّف سورِنسُن –، عندما تواجِه المعرفةُ الأولية القائمة على الشعور المعرفةَ الحديثة القائمة على الصواب فإن المواجهة تُهلِك المعرفة الأولى لا محالة، فإن هذا لا يعني بالضرورة النهاية المحتومة للقصة. إذ إنه فيما يتعدى الصواب، لدينا جميعاً الكمون على تنمية الكشف الروحي أو الصوفي العَبْرحديث transmodern – وهذه الطريقة في المعرفة تشتمل على الطرق الأخرى قاطبة.

الصواب، من الأسفل، مرتكِز على المشاعر والكشوف القَبْلنطقية preverbal؛ وفي الأعلى يُسقِط الصواب المخيِّلة باتجاه خبرات عبرنطقية transverbal وعبرصوابية transrational. فالمشاعر المترابطة وحالات الوعي المتبدِّلة، كونها سابقة على الصواب، تبدو له وكأنها سحر – المجال غير القابل للتعريف للشَّمَن. إذ فيما يتعدى الصواب، تتبدى الوحداتُ ومواصلاتُ الخبرات والحالاتُ العليا للوعي للصواب كأنها فائقة للوصف وعرفانية noetic – وهذا هو المجال اللانهائي للصوفي.

وفي حين يسود الصواب على الشعور فإن التعرُّف الصوفي لا "يفتح" الصواب – بل يغلَّفه، يعانقه، يتخطاه. من هنا فإن الكشف الصوفي إدماجي: فهو يتضمن كلا الصواب والشعور البدني، فيما هو يتخطاهما جميعاً. بيد أن ما مِن شيء أبداً من الترتيب بحيث ينطبق براحة على مثل هذه النماذج (التي ليست، في النهاية، إلا نتاج التعرُّف الصوابي في أغلب الأحيان). على سبيل المثال، ليس دقيقاً أن نقول إنه في كل حالة يواجِه فيها الصواب البَعْدفتحي الوعي القَبْلفتحي الوصيدي تكون النتيجة إبادة الذهن البلدي. قد يكون هذا صحيحاً حقاً من الناحية الثقافية – على الأقل لا يحضرني أي لقاء بين مجموعات حاملة للصواب الحديث وبين مجموعات تستعمل المعرفة الأولية استَهلَك فيه الذهنُ الأصلي الذهنَ الحديث. لكن هذا ليس صحيحاً شخصياً، على صعيد الأفراد. نحن نعرف من الأدبيات (الأنثروبولوجية والنفسانية)، ومن التقارير الوافرة عن النوادر، أنه عندما يتجرع فرد حديث محكوم بالصواب خلاصة نبتة منشطة نفسياً – أو مواداً مشتقة من نحو الـأياهواسكا أو مركَّبات تركيبية مثل الـ LSD، أو ينخرط في رياضات مبدِّلة للذهن قوية، من نحو التطبيل أو الرقص الشديدين، فإن الأثر الطافح هو أن الصواب يتخذ مقعداً خلفياً، إذ تطغى عليه المشاعر اللاصوابية وطرق أخرى للتعرُّف – وبحسب العديد من المشاركين في هذه "الاختبارات" أو "الطقوس" فإن حالات ومحتويات وعي "متبدِّل" كهذا مفعمة بالمعنى، بالمعلومات، وصادقة. ففي هذه الأمثلة، يطغى التعرُّف الأولي، الشَّمَني، على التعرُّف الصوابي.

علاوة على ذلك، فإن الصواب ليس مضطراً إلى إهلاك الشعور – إنه لا يفعل ذلك إلا إذا اجتُثَّ من جذوره الغائصة في حكمة الجسم العميقة. فالصواب فعَّال في أحسن أحواله عندما يستبقي أو يسترجع الصلة مع جذوره القَبْلنطقية، البدنية، وهو يعمل على نحو مختلف تماماً عندما نشعر بتفكيرنا.

مأزق الصواب

في حياتي وعملي، نمَّيت اعتماداً مفرطاً على الصواب، وفاتني أن أرى أن هذه ليست صوابية على الإطلاق، بل هي تشويه للصواب.

هذا ليس بتبصُّر جديد. فبعض خيرة فلاسفتنا شخَّصوا هذا الاختلال في التوازن بين ما قد نسميه "الصواب الرائق" و"الصواب المشوَّه". وبالعودة إلى فجر الفلسفة الغربية، نجد أن سقراط وأفلاطون كانا على علم بمحدودية الصواب، وأنه قبل أن يعرف أيٌّ كان ماهية هذه المحدودية عليه أن يروِّض الصواب للوصول إلى هذه الغاية. فقط عندئذٍ يستطيع المضي في الشوط التالي. وفي القرن الثامن عشر اتخذ إمانويل كنط هذا التحدي مشروعاً أساسياً لحياته وبرهن على هذا الاختلال في التوازن في مؤلَّفه العظيم نقد العقل الخالص. وايتهِد، هو الآخر، كان سيداً من سادة الصواب، لعلَّه أحسنُهم، لأنه مضى سائراً حتى عرف أن الصواب الرائق متجذِّر في الشعور.

الصواب الرائق يعرف أن محدودية الصواب ليست محدودية المعرفة – وهي قطعاً ليست محدودية الواقع. والفشل في الاعتراف بهذا هو جزء أساسي من المشكلة – ليس من مشكلتي أنا، بل هو مأزق للفلسفة الحديثة ككل، لا بل للعالم الحديث عموماً.

إن الكثير من فلسفة الذهن الأكاديمية يتناول إيجاد الثغرات في منطق الخصم للإجهاز عليه. إنها تنطلق من الافتراض بأن التقدم يُبنى على اكتشاف الغلط وتصحيحه. حتى إننا نستطيع أن نطلق عليها اسم "طريق السلب" – اللهم إلا أن يتشوَّه معنى تلك العبارة في الرياضة الروحية. إذا كان البحث عن الحقيقة يقود إلى انشعاب يفصلها عن الحكمة وعن الرحمة، لابد من وجود خطأ ما. إن من شأن مثل هذا التفلسف أن يقود، في أحسن الأحوال، إلى تجريدات جوفاء ليس إلا، وألا يخبرنا عن شيء ذي بال عن العالم المعيش، العالم كما نختبره فعلاً. إذا كانت الفلسفة الذهنية تُنتِج حججاً قوية، مفصَّلة، مفحِمة لكنها تخفق في الإحاطة بواقع أن الشعور هو من طبيعة الوعي نفسه صميمُه – الـ"ماهية الشعور من الداخل" – إذ ذاك فإن المنهج المعرفي نفسه يحتضر.

إن دراسة الوعي لا يمكن أن تتكل على الاتِّساق الصوابي حصراً – على العلاقات بين المفاهيم والأفكار. إذ ينبغي أن تتضمن السيرورة العصيَّة على الوصف، القَبْلنطقية، القَبْلصوابية prerational التي لا أجد الآن وصفاً لها أحسن من "استشعار طريقنا إلى الشعور"، اختبار الخبرة. وكلما انتبهتُ إلى هذا الأمر أجدني أدرك أن استكشاف الخبرة بصيغة المتكلِّم تأتيني عاجلاً أم آجلاً برسالة: "لسنا وحدنا." لسنا معزولين، لسنا فقاعات منطوية على نفسها من الوعي، أو الخبرة، أو الذاتانية (اختَرْ كلمتك المفضلة)، بل نحن موجودون في عالم من العلاقات. نحن – الوعي – ذاتاني متبادل intersubjective. وأي استقصاء شامل للوعي يجب أن يتضمن منظور المخاطَب لـحضور مندرِج، للانخراط في علاقة.

هو ذا المأزق: من جهة فقدنا الصلة مع الأساس العميق للصواب في مشاعر الجسم وشبكة المشاعر في الطبيعة؛ ومن جهة أخرى لم نحسن استعمال موهبة الصواب التي بحوزتنا أصلاً. وهذه المشكلة الثانية متجذِّرة في الأولى. لذا ينبغي العمل على كليهما في الوقت نفسه. مشكلتنا، إذن، ليست الإفراط في الصواب، بل التفريط فيه – التفريط في صواب من النوع السليم: الصواب الرائق المتجذِّر في مشاعر الجسم، الذي يستمد معلوماته من العلاقة والمعنى الذاتانيين المتبادلين، والمنفتح على معارج الحكمة. ليس من الضروري للفلسفة أن تكون مبنية على النزاع، على النظرات إلى العالم المتصادمة، كما لاحظ جون ستوارت مِلّ عندما قال (ما معناه): "الفلاسفة ينحون إلى الصواب فيما فيما يثبِتون، وينحون إلى الغلط فيما ينفون." إن مثل هذه التبصُّرات الحاذقة والحكيمة تبيِّن أن الفلسفة يمكن أن ترتقي إلى مستوى اسمها.

تخيَّلوا الاشتغال بالفلسفة بالنظر إلى ما هو صواب في موقف الآخر. إن من شأن مثل هذا النوع من النقلة الموقفية أن يقرب الشقة بين الفلسفة والروحانية، بحيث تداني الحقيقةُ الحكمةَ. وتنويعي الشخصي على هذا التبصُّر هو:

كل نظرة إلى العالم تعبِّر عن حقيقة عميقة ما – وهي ليست على غلط ما لم تدَّعِ حيازة الحقيقة كلها... أي أن ثمة، ربما، لباً عميقاً من حقيقة فذَّة في كل نظرة إلى العالم – سواء كانت المادية العلمية، أو المثالية الروحية، أو ثنوية الروح–الجسم، أو النفسانية الكلِّية panpsychism – ومهمة الفلاسفة الشرفاء هي رفع النقاب عن مثل هذه الحقائق. ومهمة الفلاسفة العظام هي إيجاد كيفية تماسك هذه الحقائق الفذَّة في واقع عادي.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود