الحرية الأولى والأخيرة

جِدّو كريشنامورتي

32. في البساطة

سؤال: ما هي البساطة؟ هل يفترض فيها تحديد واضح للضروريات وتنحية كل ما عداها؟

كريشنامورتي: دعنا نرى ما ليس البساطة. لا تقل: "ذلك نفي"، أو "حدِّثنا عن شيء إيجابي". فهذا ردُّ فعل غير ناضج، لا يلقي بالاً إلى الأمور. أولئك القوم الذين يقدمون لك "الإيجابي" مستغِلون؛ لديهم شيء ما يعطونك إيَّاه وأنت تريده وهم يستغلونك من خلاله. أما نحن فلا نقوم بشيء من هذا. نحن نحاول أن نجد حقيقة البساطة. لذا عليك أن تنحِّي الأفكار وترميها خلفك وترصد من جديد. إن إنساناً يحوز الكثير يخاف من الثورة، داخلياً وخارجياً.

دعنا نكتشف ما ليست البساطة إيَّاه. إن ذهناً معقداً ليس بسيطاً، أليس كذلك؟ إن ذهناً نبيهاً ليس بسيطاً؛ إن ذهناً يضع نصب عينيه هدفاً أو مكافأة يعمل من أجلها، أو خوفاً يحتاط منه، ليس ذهناً بسيطاً، أليس كذلك؟ إن ذهناً يرزح تحت عبء المعرفة ليس ذهناً بسيطاً؛ إن ذهناً تشلُّه المعتقدات ليس ذهناً بسيطاً، أليس كذلك؟ إن ذهناً واحَدَ بينه وبين شيء أعظم ويكدح للحفاظ على تلك الهوية ليس ذهناً بسيطاً، أليس كذلك؟ نحن نظن أنه من البساطة أن يكون لدينا حِقَاءٌ أو اثنان، ونريد الاستعراض الخارجي للبساطة وننخدع بسهولة بذلك. لذا فإن الإنسان الثري جداً يعبد الإنسان الزاهد.

ما هي البساطة؟ هل يُعقَل أن تكون البساطةُ تنحيةَ الكماليات ومطاردة الضروريات – وهذا يعني سيرورة اختيار؟ ألا تعني الاختيار – اختيار الضروريات وتنحية الكماليات؟ ما هي سيرورة الاختيار هذه؟ ما هو الكيان الذي يختار؟ الذهن، أليس كذلك؟ لا تهمُّ التسمية التي تطلِقها. تقول: "سأختار هذا، وهو ضروري." كيف لك أن تعرف ما هو الضروري؟ إما أن يكون لديك نموذج عما سبق أن قاله الآخرون وإما أن خبرتك تقول إن شيئاً ما هو الضروري؟ هل تستطيع أن تعتمد على خبرتك؟ عندما تختار، يعتمد اختيارك على الرغبة، أليس كذلك؟ إن ما تدعوه بـ"الضروري" هو ما يمنحك الرضى. لذلك تعود من جديد إلى السيرورة نفسها، أليس كذلك؟ هل بوسع ذهن مشوَّش أن يختار؟ وهو، إن فعل، يكون الاختيار أيضاً مشوَّشاً.

لذا فإن الاختيار بين الضروري والكمالي ليس البساطة. إنه صراع. إن ذهناً في صراع، في شواش، لا يمكن أن يكون بسيطاً أبداً. عندما تنحِّي، عندما ترصد حقاً وترى كل هذه الأشياء الزائفة، حِيَل الذهن، عندما تنظر إليه وتتيقَّظ له، إذ ذاك تعرف بنفسك ما هي البساطة. إن ذهناً مقيداً بالمعتقد ليس أبداً ذهناً بسيطاً. إن ذهناً كسيحاً بالمعرفة ليس بسيطاً. إن ذهناً متلهِّياً بالله، بالنساء، بالموسيقى، ليس ذهناً بسيطاً. إن ذهناً محتجَزاً في رتابة المكتب، الطقوس، الصلوات، ذهناً كهذا ليس بسيطاً. البساطة هي الفعل بدون فكرة. لكن ذلك أمر نادر للغاية؛ ذلك يعني الإبداع. فما دام لا يوجد إبداع فنحن مراكز للأذية، للبؤس وللدمار. البساطة ليست شيئاً يمكنك أن تسعى وراءه أو تجرِّبه. البساطة تأتي، كالزهرة تتفتَّح في اللحظة المناسبة، عندما يفهم كل واحد سيرورة الوجود والعلاقة برمَّته. ولأننا لم نفكِّر فيه أبداً، ولم نرصده، فإننا لا نتبصَّر به؛ نحن نثمِّن كلَّ الأشكال الخارجية لبضع ممتلكات، لكن تلك ليست البساطة. البساطة لا يُعثَر عليها؛ إنها ليست خياراً بين الضروري والكمالي. إنها تنوجِد فقط عندما تزول الذات؛ عندما لا يقع الذهن في شرك الظنون، الاستنتاجات، المعتقدات، التذهُّنات. ذهنٌ حر كهذا فقط يستطيع أن يجد الحقيقة. ذهنٌ كهذا وحده يستطيع أن يتلقَّى ما لا يقاس، ما لا يسمَّى؛ وتلكم هي البساطة.