الهندوسية*
"براهمان" المطلق والوصول إلى الله

 

توفيق شومان

 

الصورة الشائعة في عالمنا العربي عن الهندوسية أنها ديانة يستغرقها التوثين، ويستهلكها التصنيم. وربما تختصر مشهديةُ التعبُّد للتماثيل وتقديم القرابين لها منظومةَ هذه الديانة وبناءها العقائدي والفلسفي؛ ذلك أن الطقس الخارجي والشعيرة البَرَّانية، بقدر ما يشكلان مدخلاً حافلاً بالإغراء لدراسة الأديان وسلوكيات الأقوام والجماعات، فإن الاستغلاق بالمدخل، والمراوحة عليه، قد لا يفعل أكثر من صياغة خلاصات ناقصة.

يقول نشيد هندوسي تعود أدراجه الزمنية إلى آلاف السنين ويُتلى في المعابد:

كيف يمكن للإنسان أن يذكر المطلق المنبثَّ في كل شيء؟!

كيف يمكن للإنسان أن يحيط به، وهو اللامحدود في كل الاتجاهات؟!

وكيف يمكن تكريمه، وهو واحد أحد؟!

و"الواحد الأحد" عند الهندوس هو براهمان، أو الحقيقة المتسامية، كما جاء في الـفيدا، الأسفار المقدسة في الهندوسية. وبراهمان ينبثُّ في الكون، ويبقى خارجه في آن معاً. واستناداً إلى حكماء الهندوس وفلاسفتهم فإن براهمان هو المبدأ الأول، منه تنبثق الأشياء، وعليه ترتكز، وفيه تتلاشى في النهاية. وفي براهمان وحده تتوحَّد كل الأشياء والاختلافات التي تتبدى في العوالم الظواهرية.

 

وتشير كلمة "براهمان"، بالمعنى الحرفي، إلى كينونة لا يمكن لأحد أن يقدِّر عظمتها وقوتها واتساعها. وتذهب الـفيدا (التي تعود نصوصها إلى آلاف السنين) إلى إخراج لبراهمان من ثنائية التذكير أو التأنيث، عبر استخدام ضمير حيادي في معرض تعريفه. وبراهمان هذا لا يبلُغه أي خطاب وأي عقل، ولا تدركه الحواس، وهو غير قابل للاستنباط أو الوصف.

وفي الـأوبانيشاد – وهي الشروح التعليمية للـفيدا – الضاجَّة بالنصوص الفلسفية والتأملية، ثمة تنزيه لبراهمان عن الصفات والعلامات الدالة. ففي سياق الكلام عليه يصار إلى استعمال التعارض، منعاً لتشخيصه: "إنه أرشق من العقل، ولكنه لا يتحرك أبداً. يرتحل بعيداً، على الرغم من أنه يقبع ساكناً. تراه في كل مكان، مع أنه جاثم في مكانه. إنه أدق من الذرة، وأعظم من العظمة."

ووفقاً للـأوبانيشاد فإن براهمان متحرر من قيود الزمان والمكان؛ إذ إنه:

واحد، لا محدود: لا محدود في الشرق والغرب والجنوب والشمال، ولا محدود في الأمام والخلف، غير مولود، ولا يموت، جوهر صرف، علة العالم، عارف المعارف، حقيقة الحقيقة، نور الأنوار، أزلي خالد، لا علَّة له.

إن "براهمان" المطلق، أو المبدأ الأول بحسب الهندوسية، ضمن التقديم أو التوصيف الوارد آنفاً، يستجلب عابدوه الهندوس الحيرة والأسئلة الشكاكة بشأن "توحيدهم"، حين تأخذ الأصنام والتماثيل دوراً التصاقياً بالحياة اليومية وشعائر العبادة وطقوسها؛ إذ يبدو الهندوس، بنظر الفكر السطحي، عبدة أصنام. غير أن هذا التشخيص الخارجي يدحضه الهندوس بقول مفاده أن المتعبِّد يوجِّه عقله بورع إلى رمز ليس الله؛ والهدف، وفقاً لذلك، يتمحور حول إيقاظ الوعي الإلهي. فإذا عبد المتعبِّد الصورة أو التمثال على أساس أنها (أنه)، هي (هو) الله، فيكون وثنياً؛ وأما عبادة الله، بمساعدة الصورة أو التمثال، فمعناها أن المتعبِّد "يُرَوْحِن" الصورة لأجل الوصول إلى الله.

وعلى أية حال، يعتقد الهندوس أن المتعبِّد يتأمل الله من خلال الرموز. فالله موجود في كل مكان؛ على أن اللجوء إلى الرموز هو طريق المبتدئين والضعفاء الذين يطلبون سنداً إلهياً ملموساً. ولذلك يتَمَرْحَل التعبُّد الهندوسي من الرموز إلى ترديد الصلوات، والحج، فإلى العبادة الذهنية، وأخيرا التأمل في المطلق، حيث ينعدم وجود الصور والرموز. والمفارقة، في مرحلة عبادة الله من خلال الصور والتماثيل أو غيرها من الرموز، أن المتعبِّد الهندوسي يؤدي صلاة (تُنسَب إلى المعلِّم شنكارا) يقول فيها:

يا رب... في عبادتي نسبتُ إليك الأشكال، يا أيها المجرد من الشكل، يا معلِّم العالم. في أناشيدي إليك عارضتُ طبيعتك التي لا تقبل الوصف... يا رب الكون، اغفر لي تجاوزاتي.

وفي ضفة أخرى من القول، يقتضي الحديث عن الهندوسية التأكيد على اعتقاد هذه الديانة بتعدد الآلهة. إلا أن هذه الأخيرة ليست أكثر من تجلِّيات وتجسدات لبراهمان المطلق. فالآلهة المعروفة بأسماء، من نحو إشفارا، أو فشنو، أو سيتا، أو راما، هي من مظاهر براهمان؛ وكل واحدة منها لها دورها في العالم الظواهري، ويتعبَّد لها الهندوس باعتبارها تجلِّيات المطلق والمبدأ الأول المتعالي الذي يستحيل إدراكه ومخاطبته والتضرُّع إليه.

وكما في الأديان التوحيدية، حيث الشيطان يمارس الإغواء والفتنة، ففي الهندوسية يقوم بهذا الدور مبدأ راجاس، الذي يرمز إلى علَّة الخطيئة والرغبة المتوقدة والجشع والغضب والابتعاد عن الحكمة؛ وراجاس يتسلل إلى نفس المرء من خلال حواسه وعقله. وتأسيساً على ذلك، تشدد المناهج الروحية الهندوسية على ضرورة التعاطي الصارم مع راجاس، والحيلولة دون سيطرته على المؤمنين. وعليه، ينشد أحدهم قائلاً:

لقد اتحد قلبي بك، فكل ما يوجد هو أنت

لم أجد سواك، لأنك كل ما يوجد

يا رب أنت منزل الكل

أراك حيثما أنظر، إنك كل ما يوجد

ويقول آخر:

هل يمكن لي أن أولد مرة إثر مرة، وأعاني آلاف العذابات، بحيث أتمكن من عبادة الله الواحد الأحد؟

*** *** ***


* سوامي نيخيلاناندا، الهندوسية: تحضيرها لانعتاق الروح، بترجمة نبيل محسن، دار ورد، دمشق.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود