فلسطين-إسرائيل
نظرتان
في نظرة[1]
إبان
ألفي عام، اعتباراً من تجريد الشعب اليهودي
من أرضه القومية، ما برح تاريخُه تاريخَ طرد،
واضطهاد، وحَجْر، وقهر، وإنكار، وإذلال،
وازدراء، وبُغض. فكيف لا نعترف بأن خمسين عاماً من تاريخ
فلسطين، منذ ولادة دولة إسرائيل، تختصر ألفي عام من التاريخ
اليهودي، تجريداً، وطرداً، وتفرقة، وحَجْراً
متعدداً ومتكرراً، ونهباً، وإذلالاً، وقهراً،
وإنكاراً، وازدراءً، وبُغضاً.
لقد
استعاد إسرائيل وطناً أمسى غريباً إبان ألفي
عام؛ وباستيلائه عليه، صار الفلسطيني –
قاطنُه الدهري – غريباً. استقبل إسرائيل مئات
الألوف من اللاجئين الفارِّين من أوروبا
وجزءاً من الشتات اليهودي، فتسبب في نفي مئات
الألوف من الفلسطينيين، المحتجَزين من يومها
في مخيمات أو المشتتين في أنحاء العالم.
من
كان يستطيع أن يتخيل لدى نهاية الحرب
العالمية الثانية، بعد قرون من الإذلال
والإنكار، بعد قضية دريفوس[2]
وغيتو وارسو[3]
وأوشفيتس، أن بوسع أحفاد هذه التجربة الرهيبة
وورثتها أن يكبِّدوا الفلسطينيين تحت
الاحتلال كلَّ هذا الإذلال والإنكار؟ كيف
نفهم هذا العبور من اليهودي المضطهَد إلى
الإسرائيلي المضطهِد؟
المشروعية
الإسرائيلية
لا
يرى التصور الإسرائيلي في السيرورة
التاريخية التي أفضت إلى الوضع الحالي نتاجاً
إرادة في السيطرة، بل استجابة لضرورة حيوية
للنجاة من تهديد دائم بالإبادة.
فكانت
الصهيونية هي الردُّ الضروري على معاداة
السامية الأوروبية، وكان التشوق إلى دولة
قومية تشوقاً مشروعاً إلى وطن ملجأ.
ظل
الاستيطان الصهيوني سلمياً حتى عام 1948: فقد تمَّ قبله عبر شراء
أراضٍ، وليس بالسلب، وهذا
في جزء صغير من أرض عربية واسعة قليلة السكان
وضعيفة التنمية.
وقد
جوبهت الدولة العبرية، التي قبلت خطة تقسيم
فلسطين، برفض العالم العربي، وتعرضَّت لخطر
الموت منذ ولادتها، ولم تنجُ إلا بفضل
انتصارها على أعدائها المؤتلفين.
لم
يجرِ التوسع في الأرض التي رسمتْ حدودَها
الأممُ المتحدة في الأصل إلا في أعقاب سلسلة
من الحروب "الدفاعية" شُنَّت رداً على
تهديد بالإفناء. وجرى تسويغُ السيطرةِ على
أراضٍ سكانها عرب، وزرعِ مستوطنات يهودية على
هذه الأراضي، بضرورات استراتيجية حيوية، ولا
سيما أن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية كان
يتضمن صراحة هدفَ تدمير دولة إسرائيل.
والضرورة الحيوية عينها سوَّغت الحملات
التأديبية في لبنان وغيره، كما ورفض الانصياع
لقرارات الأمم المتحدة.
وما
انفك الإرهاب الأعمى يطال مدنيين يهوداً.
وخطر
الموت ما برح ماثلاً.
وإسرائيل
أمة ديموقراطية متحضِّرة في مواجهة أنظمة
استبدادية وشعوب مستَرَقَّة أو متعصِّبة.
لكن
وجهة النظر هذه تمثل أحد وجهَيْ واقع ذي وجهين.
المشروعية
الفلسطينية
يرى
التصور الفلسطيني في السيرورة التاريخية
التي أفضت إلى الوضع الحالي عاقبةَ استيطان
أجنبي قسري في أرض عربية.
والعالم
العربي الإسلامي ليس مسؤولاً عن معاداة
السامية الأوروبية، ولا عن الإبادة الهتلرية.
لقد
جرى الاستيطان الصهيوني بمال تبرع به يهود
العالم أجمع وباحتلال فعلي لأراضٍ كثيرة.
وحرب
1948 لم تتسبب في نزوح السكان الفلسطينيين أمام
القوات الإسرائيلية وحسب، بل وفي تهجيرهم تحت
التهديد وتحريم عودتهم.
ومنذ
احتلال إسرائيل لفلسطين برمتها عام 1967 يجري
على قدم وساق استيطانُ هيمنة واستيطانٌ سكاني.
والسكان الفلسطينيون ما برحوا خاضعين، حال
وقوع اعتداءات، للتفتيش، والقهر، والتأديب،
والحَجْر. ومبدأ "العين بالعين"
والمسؤولية الجماعية مطبَّقٌ عليهم بلا
هوادة.
هناك
رفض للاعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية.
فحتى أوسلو، لم يتعامل إسرائيل إلا مع عرب، أي
ليس مع أمة محتلة، لكنْ مع سكان أصليين [على
غرار تعامُل المستوطنين البيض مع سكان
أوستراليا الأصليين].
والمقاومة
المشروعة للفلسطينيين، المولودة عام 1956، قد
انتظمت تحت كنف منظمة التحرير عام 1964. ولقد
أدى استمرارُ الاستيطان الإسرائيلي على
أراضيها، والمصيرُ المزري لملايين اللاجئين
في مخيَّمات في الدول العربية المجاورة،
وعجزُها العسكري، وتحريمُها السياسي، بمنظمة
التحرير الفلسطينية إلى العمل الإرهابي
كوسيلة أخيرة يائسة للنضال من أجل نيل
الاعتراف، وكردٍّ على إرهاب الدولة
الإسرائيلي.
لقد
وضع إسرائيل نفسه فوق كل القوانين الدولية:
أدانت الأمم المتحدة الاحتلال الإسرائيلي
للضفة الغربية وكافة الاعتداءات الإسرائيلية، بما فيها الحملة على لبنان حتى
بيروت.
وإسرائيل
مسؤول عن مجازر عديدة وقعت على السكان
المدنيين: ارتُكِبَت مجزرتا صبرا وشاتيلا
بتغطية إسرائيلية؛ وعدد القتلى المدنيين في
مخيمات اللاجئين وفي جنوب لبنان لا يُحصى؛
وعلى انتفاضة الحجارة ردَّ جيش الدفاع
الإسرائيلي بالرصاص وبقتل الأطفال والشباب.
المأساة
المزدوجة
إذا
نظرنا إلى كلٍّ من وجهتي النظر الإسرائيلية
والفلسطينية على حدة، لوجدناها مشروعة. لكننا
إذا استعملنا النظرة المزدوجة، لوجدنا جدلية
جهنمية ودائرة معيبة، الأمر الذي أوجَدَ
مسترِقاً ومسترَقاً. إذ يجب ألا نكتفي بالنظر
إلى الأبرياء الإسرائيليين الذين تمزقهم
قنبلةٌ أشلاء. يجب أيضاً مواجهة كل الإذلال،
والعذاب، والازدراء، الذي كابده تحت
الاحتلال الفلسطينيون الذاهبون باستمرار
ضحايا تأثيم جماعي يتم من جرائه نسف بيت أسرة
أو تطويق منطقة بكاملها.
يجب
أن نفهم أيضاً أنه إبان سيرورة هذه العقود
التاريخية تشكلت الأمة الفلسطينية في
المقاومة، كما أن اللحمة الإسرائيلية نفسها
تكونت في الصراع. كلا الشعبين سُقِيا، كما هي
الحال غالباً، بماء العدو اللدود. لكن الرهيب
في الأمر أن هناك شعبين يصطرعان على أرض واحدة، وأن وجود القوميتين يحول دون قيام
دولة ذات قوميتين. والأرهب من ذلك أن القدسية
المزدوجة للقدس لا تجعل منها مكاناً مقدساً
واحداً أو عاصمة مزدوجة لدولتين، بل موضع
احتكار. أورشليم معلنةٌ "عاصمةً أبدية"
لإسرائيل، بينما بيَّن الماضي أن هذه "الأبدية"
المكسوفة، المعلَّقة لأكثر من ألفيَّتين، لا
تتمتع بأية ضمانة مستقبلية.
الجدليات
الجهنمية
وراء
الجدلية الجهنمية كان ثمة تكامل متناهِض بين
معاداة السامية والصهيونية.
ولدت
الفكرة الصهيونية استجابةً لمعاداة السامية
الأوروبية، فكانت النتيجةُ التاريخية
لمعاداة السامية النازية هي السماحَ لدولة
إسرائيل بالوجود. لقد عمل المتناهضون في
الاتجاه نفسه ضمن الجدلية بين العداء للسامية
والصهيونية. عُزِلَ اليهود بين الأمم: سلبياً
في حالة معاداة السامية، بتجريدهم من كل حق
وطني، وإيجابياً في حالة الصهيونية،
بإعطائهم أمةً تخصهم.
وقد
تجددت هذه الجدلية في الشرق الأوسط بين
إسرائيل والعالم العربي. فعملت معاداة العرب
لإسرائيل لمصلحة القوة الإسرائيلية، الأمر
الذي أطلق جدلية: احتلال ?
مقاومة ?
قمع ?
إرهاب.
الإرهاب،
إذن، معلول وعلَّة ضمن هذه الجدلية، حيث يعيد
الضحايا الإسرائيليون للاعتداءات العمياء
تمثيل مأساة الشعب اليهودي، وحيث البطش
بالشعب الفلسطيني يُفاقِم النكبة الفلسطينية.
وبشكل
موازٍ، استفادت الدول العربية من النكبة
الفلسطينية لصرف الأنظار عن مشكلاتها
الداخلية، مع إبقائها اللاجئين الفلسطينيين
محتجَزين في مخيمات. وأفظع ما في الأمر أن
الدولة الأردنية هي التي أوقعت بالفلسطينيين
مجزرة أيلول الأسود عام 1970، وأن العرب
المسيحيين، تحت أنظار جيش الدفاع الراعية
قطعاً، هم الذين ارتكبوا مجزرتي صبرا وشاتيلا
في لبنان عام 1982.
في
غضون هذه الجدلية الجهنمية، تأتَّى للدولة
المحاصَرة أن تصير الدولةَ المجتاحةَ لبنان،
وذَوَتْ الصهيونية الاشتراكية لمصلحةِ قوميةٍ اكتملت بأن
استدمجتْ أصوليةً دينية،
بينما تفتَّتتْ وطنية منظمة التحرير
العلمانية لمصلحة قومية حماس الأصولية.
وهكذا
خلَفَتْ الصهيونيةَ الأصليةَ الساعيةَ قبل
كل شيء إلى الأمن العسكري قوميةٌ اتخذت في
سياسة الليكود خاصية ضَمِّية صريحة: ينبغي
تحويل الضفة الغربية الفلسطينية إلى يهودية–سامرة
إسرائيلية. وبهذا وضعت الحجة الأمنية نفسها
منذئذٍ في خدمة الأصولية الضَمِّية.
بذلك
نمَّى إسرائيل – مولود النبذ المعادي
للسامية – قوَّته بفضل النبذ المعادي
للصهيونية، فكان تضخم قوته محلَّ كراهية
العرب. ولكن إذا لم يتم كسر هذه الدائرة
الجهنمية فإن الكراهية تتهدد في المآل
بإفنائه.
كل
هذا جرى في ذلك الحزام الزلزالي للشرق الأوسط
حيث يتواجه الشرق والغرب، الشمال والجنوب،
الأغنياء والفقراء، العلمانية والدين،
والأديان فيما بينها، وحيث تواجهت حتى عام 1989
القوتان العظميان: الولايات المتحدة
والاتحاد السوفييتي.
المعجزة
التاريخية
ومع
ذلك فقد حدثت المعجزة التاريخية. استُهِلَّت
بأول كسر للحَجْر الصحي الذي كانت الدول
العربية تفرضه على إسرائيل. فبفضل مبادرة
السادات، نال إسرائيل، مقابل سيناء، اعترافَ
أكبر جاراته العربيات، مصر.
ثم
جاءت المعجزة نفسُها من التغييرات في البيئة
المحيطة: تسكين الصراع بين الكتلتين اللتين
كان الشرق الأوسط بنظرهما بؤرة ورهاناً لا
يستهان به. أوقف تفكُّكُ الاتحاد السوفييتي
جَعْلَ الشرق الأوسط خطاً جبهوياً بين
الإمبراطوريتين السوفييتية والأمريكية، ثم
حرَّضتْ حرب الخليج قطيعة جديدة في العالم
العربي: اعتنقت منظمةُ التحرير رسمياً فكرةَ
سلام يتم التفاوض عليه مع إسرائيل، وخَطَتْ
حكومة رابين–بيريس حذرة، عن طريق مفاوضات
أوسلو، باتجاه حلٍّ يكسر، وفقاً لصيغة "السلام
مقابل الأرض"، الدائرةَ المعيبة ويفضي في
المآل إلى الاعتراف المتبادل بدولة فلسطينية
ودولة عبرية، وإلى جعل القدس عاصمة مزدوجة،
غربها لإسرائيل وشرقها لفلسطين.
وقد
بدا آنئذٍ أن دائرة فاضلة سوف تحلُّ محلَّ
الدائرة المعيبة.
جزماً
كان الدرب وئيداً، طويلاً، لتبديد وسواس
حصاري، تغذيه عقدة مسعدة، وليذعن
الفلسطينيون لمجاورة إسرائيل. من ناحية أخرى،
كان الرهان على السلام ينطوي على مخاطر على
إسرائيل؛ إذ كانت قوى نبذ قديرة ما تزال
موجودة في جواره العربي. لكن النبذ ما كان إلا
ليتناقص مع الاعتراف بحقوق الفلسطينيين،
وإطلاق عملية السلام وحده كان من شأنه أن
يُنقِصَ منه. وكما كان متوقَّعاً، لقيت
العمليةُ مقاومةً ضارية من معسكري الرفض،
وظهر المتطرفان العدوان كأحسن حليفين لنسف
السلام. اغتيال رابين، تهاون بيريس في الداخل
وقسوته في الخارج في قصفه لجنوب لبنان كما في
تطويق الضفة الغربية – هذا كلُّه أفسح المجال
لليكود نتنياهو.
الدائرة
المحتومة من جديد
آمن
السُذَّج بلاعكوسية عملية السلام. وقُدِّم
نتنياهو بوصفه متعنتاً، غبياً، متهوراً،
تنقصه الخبرة، أخرق، غير مسؤول، "متعلِّم
صنعة السحر" غير واعٍ، سرعان ما سوف يتعلم
"الواقعية". لكنه، في الواقع، كان ينفذ
سياسة القومية الإسرائيلية الكاملة. فقد
توثَّق ارتباط المشروع الجيوسياسي للِّيكود
بالوعظية الأصولية التي تؤكد على طاعتها
للمشيئة الإلهية. ألم يجهر الممثل الفرنسي
للِّيكود، مستقبِلاً نتنياهو في باريس، بأن
الحدود الوحيدة التي يجب أن يعترف بها
إسرائيل ليست الحدود التي شرَّعتها الأمم
المتحدة، بل الحدود التي شرَّعها الله؟!
في
واقع الأمر، يجتهد نتنياهو – وأصواتٌ
متصاعدة في إسرائيل ما فتئت تصر على ذلك – في
تحقيق المشروع المشترك لليمين المتطرف
وللأصوليين المتعصبين. إنه مشروع إسرائيل
الأكبر، الذي يستهدف استيطان الضفة الغربية
وأسْرَلَة اليهودية والسامرة.
من
هنا الإزلاج شبه المستمر للضفة الغربية، الذي
تقطعه فواصل قصيرة بين الفينة والفينة، في
غيتو جديد، واحتلال شريط جنوب لبنان، والقصف
العشوائي، والغارات على الأراضي التي جلى
عنها الجيش الإسرائيلي، ومواصلة الاستيطان
في الأراضي الفلسطينية، وترسيمات الطرق
الجديدة المخصصة للإسرائيليين وحدهم، وخنق
القدس الفلسطينية بنسف الأبنية والمنازل،
وقتل المتظاهرين العُزَّل، ورش رماة الحجارة
بالرصاص من الحوَّامات، وفتح النفق [تحت
المسجد الأقصى] الذي يشي بالازدراء التام
للمقدسات الإسلامية، ومفاقمة سياسة الإذلال
والحَجْر – هذا كلُّه يشي بسلوك إجرامي لو أن
منفِّذه كان رادوفان كارادزيتش. ومن المستغرب
أن المثقفين الأوروبيين، الذين تجندوا من أجل
البوسنة الضحية، لزموا الصمت أمام إجراءات
نتنياهو وفِعاله. ويجد المعلِّقون خاطئاً
ومحفوفاً بالمخاطر ما كان سيُدان بوصفه وحشياً لو ارتُكِب بحق شعب غربي.
إن
لعبة نتنياهو تنحو، قطعاً، إلى تحريض ردَّات
فعل عنيفة تسوِّغ إعادة احتلال الأراضي
المحتلة من أجل قمعها. بكلمة واحدة، يتطلب
إنفاذ سياسة الليكود إغاظة الفلسطينيين،
ودعم نشاط متطرِّفيهم وأصولييهم من أجل إعادة
احتلال عسكرية للضفة الغربية برمَّتها، وضم
"اليهودية–السامرة" أخيراً.
ما
برحت قوى الشر المتناوئة تعزز تعاونها
الموضوعي. وأثرُ عمليات نتنياهو الاستفزازية
المتوقَّع جداً هو تحريض انتفاضات شعبية
واعتداءات، وإضعاف عرفات ومنظمة التحرير حتى
فقد الثقة التام لمصلحة حماس، التي سترفض
الاعتراف بإسرائيل أكثر من أي يوم مضى؛ الأمر
الذي سيطلق عمليات تنظيف نهائية في الضفة
الغربية. على المدى القريب، تنتهج حماس سياسة
الليكود أكثر من العكس. بينما الليكود هو الذي
يصنع سياسة حماس على المدى المتوسط.
على
المدى القريب، بالفعل، يستفيد إسرائيل بما
يتجاوز الحدَّ من توازن قوى في صالحه، من جراء
التفكك العربي، وتفوقه العسكري، والتأييد
والدعم الأمريكيين، وسلاحه النووي.
على
المدى المتوسط، سوف تحرِّض هذه السياسة عكس
الهدف منها بالتمام: سوف تجذِّر [= تجعل جذرياً]
صراعاً قابلاً للمفاوضة بين أمَّتين بتحويله
إلى صراع لا يكفَّر عنه بين دينين. وبذلك سوف
تقدِّم مساعدة ضخمة غير مأمولة للأصوليات
الإسلامية، وتعزِّز معسكر الرفض في العالم
العربي. وهي من الآن تقوِّض مصداقية عرفات
ومنظمة التحرير والحكومات العربية التي
اختارت التفاوض. وإن سياسة إنكار حقوق
الفلسطينيين تهيِّج قوى النبذ التي سوف
تتكالب وتأتلف من جديد. وهي تضعف إسرائيل
معنوياً وتنحو إلى عزله عن العالم.
وأخيراً،
على المدى الطويل، لا بدَّ لتوازن القوى من أن
يختل ذات يوم: فالحماية الأمريكية ليست أبدية، وهناك عدة دول عربية أو إسلامية تمتلك
السلاح النووي. من هنا يجب عدم استبعاد
المنظور المروِّع للإفناء المتبادل في آخر
المطاف. وبكلمة واحدة: تلكم استراتيجية تدمير
ذاتي.
في
هذه الأثناء يقاتل اللهُ اللهَ. الأصوليَّتان
بلغتا أوج زخمهما: صار الله فاعلاً تتصاعد
أهميته وتصلُّبه. والمتوقَّع أن يحدث تفاقم
في الهمجيات: معاداة للعروبة لا تقل ترويعاً
عن معاداة السامية، ومعاداة للغرب عمياء
ومجرمة. معاداة اليهود ومعاداة العروبة
تنموان معاً وتقتات إحداهما بالأخرى. وفيما
يتعدى ذلك، تتفاقم كراهية الغرب والخوف
الحاقد من الإسلام. ويرى العرب والمسلمون إلى
أيِّ حدٍّ تُساء معاملتهم بحسب مبدأ "الكيل
بمكيالين"، المبطَّن لكنْ البيِّن، بينما
لا يدرك الغرب من الإسلام في المآل إلا
عصبياته الإرهابية.
إن
موقف إسرائيل الحالي والدعم الذي يستمر في
إغداقه عليه جزءٌ كبير من يهود العالم سوف
يسهم، ولا بدَّ، في تجديد معاداة اليهود.
وبحسب منطق النبوءات المتحققة ذاتياً، سيمعن
الفلسطينيون والعرب في اعتقادهم بمؤامرة
يهودية دولية، كما سيمعن اليهود في اعتقادهم
بأن كل مَن يستنكر أفعال إسرائيل معادٍ
لليهود. وكل ما سوف يعزِّز الأولين في
اعتقادهم سيعزِّز الآخرين.
فهل
من أمل في أن تنكسر دائرة الكراهية والنقمة؟
الثقب
الأسود
استفاد
إسرائيل، منذ ولادته، من تضامن اليهود ومن
عطف الغرب. وقد تشكل حبلٌ سُرِّي يربط الشتات
بإسرائيل. لقد شعر الشتات بالاعتزاز بأن
إسرائيل بيَّن للعالم بأن اليهود ليسوا
بطبيعتهم جبناء وتجاراً وبأنهم مهرة في
القتال وفي زرع الأرض.
وقد
تعزَّز الحبل السُرِّي مع خطر إفناء إسرائيل
من عام 1948 إلى عام 1973. ولكن اعتباراً من اللحظة
التي صار فيها إسرائيل مستوطِناً وقامعاً،
فإن دعم إسرائيل تطلَّب أكثر فأكثر إذكاءَ
الإحساس بهذا الخطر، وتعزيزَ ذكرى الإبادة
النازية، وإقناعَ الذين كانوا يُسَمَّوْن
"بني إسرائيل"، أي المنتمين إلى دين
موروث كالبروتستانت، بأنهم يهود، أي من رعايا
شعب وأمة مستقرُّها في إسرائيل، وأخيراً تغذية
اليهود بفكرة أنهم ليسوا في وطنهم إلا في
إسرائيل.
من
هنا أخذت مؤسَّسات مِلِّية معيَّنة على
عاتقها القيامَ بتحوُّل تاريخي: تبديد
العالمية التي كانت الميل الطبيعي للشتات
لصالح أنامركزية يهودية–إسرائيلية.
هكذا
تكثَّف إبان السبعينات التذكيرُ بالشهادة
التي تكبَّدها اليهود في أثناء الحرب
العالمية الثانية. وهذا التذكير، على الرغم
من كونه جزماً يلبي حاجة مشروعة للكفاح ضد
النسيان الذي يحدث بفعل الزمن، يتصف بثلاث
خصائص متميزة:
الخاصية
الأولى هي إبراز فرادة استشهاد اليهود – الذي
سُمِّيَ أولاً "إبادة"، وهو مصطلح قابل
للانطباق على شعوب أخرى، ثم "محرقة"، وهو
مصطلح يمكن أن يقال في كل اللغات – التي بات
يُشار إليها بمصطلح شُواه العبري لإبراز
خصوصيتها المطلقة.
يقود
هاجس الـشُواه إلى مركزية يهودية وسواسية
(أحْسَنَ يهودي منوحين
باستهجانها) لا تتناسى غالباً المصير الذي
كابده الغجر وحسب، بل وتتناسى عدداً لا يُحصى
من ضحايا المعتقلات والاضطهادات النازية من
غير اليهود إبان الحرب العالمية الثانية،
وتنزع دوماً إلى تلطيف هول قرابين الغولاغ
الستاليني، وتنزع إلى تغييب السمات المشتركة
للتوتاليتاريَّتين النازية والشيوعية بعدم
إبراز غير الفارق الإيديولوجي بينهما، ويؤول
بها الأمر إلى جعل جريمة معاداة السامية
فظاعةً فريدةً ومطلقةً في تاريخ البشرية، في
حين أن الأفارقة السود كابدوا، بدءاً من
القرن السادس عشر، استرقاقاً ضخماً وبشعاً ما
تزال نتائجه ماثلة، وأن الشعوب الأمريكية
قُهِرَت ودُمِّرَت، ليس نتيجة للأمراض
المجلوبة من أوروبا وحسب، بل ومن جراء وحشية
مسترقِّيها.
الخاصية
الثانية لوسواس الـشُواه هي تغييب الآلام
التي يُنزِلها إسرائيل بالعرب بالتذكير
باستشهاد اليهودي فيما مضى. القمع، المذابح،
قصف المدنيين في جنوب لبنان، التعذيب، حَجْر
الضفة الغربية كلما وقع اعتداء، المسؤولية
الجماعية التي يكابدها الشعب الفلسطيني عن كل
جريمة إرهابية – هذا كلُّه يُنْحَى إلى ستره،
إلى عَذْرِه والتسامح معه، بذريعة أن إسرائيل
يحمل وجه ضحية نصف قرن مضى، وليس وجه قامع ربع
القرن الأخير.
الخاصية
الثالثة للـشُواه هي إصابة كل يهود
الشتات بذُهان الانتماء غير المشروط
لإسرائيل. إن ثقب الـشُواه الأسود
يُذْكِي ارتيابَ اليهود في إمكانية الاندماج
في الأمم ويقدِّم للمشتَّت العلماني
الشهادةَ على تعذُّر اختزال هويته اليهودية.
وهكذا فإن المشتَّت يجزع ويتعرف إلى نفسه، في
آن واحد، يهودياً صميماً في كل تذكير بالماضي
النازي (كمحاكمة مجرم حرب)، وفي كل إنكار
للماضي ("مراجعة" [حدوث المحرقة النازية])،
وفي كل مقايسة حاضرة بالماضي المهلِك (الخطر
على إسرائيل).
وكما
يجري الأمر غالباً يغيِّب المرءُ أعمالَ
البطش في الحاضر عن مرآه متذرعاً بالبطش به في
الماضي. فكما يقول هوغو: "في مقموع الأمس
يقبع قامع الغد." هكذا برَّرت صربيا
القومية المتطرفة لنفسها ممارساتِها
الهمجيةَ حيال البوسنيين باستذكار استشهاد
الصرب في الماضي على يد العثمانيين ثم إبان
الفترتين النازية والأوستاشية. بذا فإن وعي
المرء أنه كان الضحية في الماضي يجيز له أن
يصير جلاد الحاضر؛ لكن من شأن هذا أن يمهِّد
لكوارث المستقبل.
كذلك
فإن الشبكة الواسعة التي تحرص على حياكتها
المؤسَّساتُ الموسومة بالمِلِّية التي تزعم
تمثيل جميع يهود كل بلد (كما في فرنسا) و/أو
اللوبيات (كما في الولايات المتحدة) تستخدم
أوشفيتس وتُذْكي ذكراه لكي توثق ربط كلِّ
يهودي خارجي بدولة إسرائيل، حتى يقتنع بأنه
لن يكون في مأمن في غير مكان، وبأن إسرائيل
وطنه الحقيقي. فكما أن السبعينات تتسم، في آن
معاً، بتفسخ الأفكار الشمولية التي اعتنقها
مثقفون كثيرون من أصل يهودي، وبخاصة في
أوروبا، وبالاستمدادات المتعددة من الهوية
العرقية أو الدينية، فقد جرى استمدادٌ يهودي
يتضمن وينمي، فضلاً عن ذلك، أصولية مسيحانية
[= تقول بمجيء مسيح مخلًِّص] وقومية. بهذا،
يتعمق إسرائيل أكثر فأكثر في هوية الكثيرين
من يهود الشتات. وهذه الحركة تتعزز وتتوسع عند
بعضهم في نوع من التضامن غير المشروط مع كل
تصرفات الحكومة الإسرائيلية، ويتجذَّر عند
الأجيال الحديثة في ثيمة "شعب واحد، في
فرنسا وفي إسرائيل".
كل
هذا يحدو بالكثير من اليهود إلى أن يروا في
إسرائيل مضطَّهَدَ ومقموعَ نصف قرن مضى، وليس
مضطَّهِدَ وقامعَ اليوم. وكل هذا يحدو بهم، في
الوقت نفسه، إلى رؤية خطر الفناء المخيِّم
على إسرائيل فقط، وليس خاصيَّته المهيمنة.
لقد
زرع إسرائيل، المنخرط منذ تأسيسه في حربٍ من
أجل البقاء، في قلوب يهود الشتات خشيةَ أن
يصير المكافئَ القوميَّ الضخم لغيتو وارسو
الموعود بالإبادة. وإذا صحَّ أن الخطر ماثل في
المستقبل، وإذا كانت كلمة شُواه تعني
الإفناء الفريد المقدَّر على اليهود حصراً،
فهو يصحُّ تماماً كإمكانية مروِّعة على
مستقبل إسرائيل. لكن سياسة القوة، بدلاً من أن
تخفف الخطر، تزيد منه على المدى الطويل.
واليوم،
يتم التذكير بالهاجس اليهودي خدمةً للسياسة
الاستيطانية لدولة إسرائيل التي تذكِّر
الغرب الأوروبي، بواسطة المؤسَّسات اليهودية
للشتات، بالمعاداة الخسيسة للسامية التي
حرَّضها. وبذلك يتم ابتذال الحصار المتكرر
للأراضي الفلسطينية. وبينما يطالَب بإدانة
الجرائم والغباوات المرتكَبة إبان عهد حكومة
فيشي وبيدها منذ خمسين عاماً، يُصرَف النظر
عن جرائم يرتكبها مسعورون مثل باروخ
غولدشتاين، قاتل الخليل، والجلادون الشرعيون
للشرطة الإسرائيلية، والعسكريون أو الساسة
المسؤولون عن مقتل 200 مدني في قانا في جنوب
لبنان.
على
هذه الأسس استعمل الليكود، برئاسة نتنياهو،
شعورَ التضامن الذي حيك على هذا النحو لصالح
إسرائيل لكي يُجهِز على تأييد اتفاقيات
أوسلو، ويتابع التوطين، وينظم ترسيم الأراضي
الفلسطينية بطرق استراتيجية، وبذلك يقوم
شيئاً فشيئاً بأسْرَلَة فلسطين برمَّتها.
وكل
هذا يستمر العمل به في صمت معنوي مؤثر: يتحول
تابو احترام استشهاد اليهودي في الماضي إلى
تابو مؤامرة الصمت على المأساة الفلسطينية.
الوضع
الحالي
بيد
أن الأوراق لم تُستهلَك كلها بعد. إذ يكفي،
لاستئناف عملية السلام، أن يخرج الفاعلون
الدوليون من عطالتهم.
الولايات
المتحدة تملك وسائل الضغط الكافية، لكن
كلنتون يتعرض لضغط مَن يريدون الحيلولة دون
استعمال وسائل الضغط هذه.
بوسع
أوروبا أن تتدخل بربط تعاونها السياسي
والاقتصادي بشرط استئناف عملية السلام.
بوسع
الشتات اليهودي أن يتفهم اليسار الإسرائيلي
ويؤيِّده.
ما
زال إسرائيل أمة ديمقراطية يمكن أن يطرأ
عليها تغيُّر في الأغلبية.
وغني
عن القول إن استئناف عملية السلام لن يكفي
لإزالة كل خطر على إسرائيل ضمن السياق
المتفجِّر للشرق الأوسط العربي، وليس بوسع
أحد أن يضمن زوال الخطر الأقصى. لكن سياسة
الليكود – كما قلنا – تُفاقِم الخطر
المؤجَّل وتوطِّئ لكارثة تاريخية أسوأ من
كارثة مملكة الفرنجة [ثمرة الحملات الصليبية]،
لأنها لن تنحصر في إسرائيل وحسب، بل ستشمل
المنطقة كلَّها، وربما الكوكب برمَّته.
بانتظار
(غودو؟ كلنتون؟ بيلاك؟)، لا نستطيع إلا أن
نواجه المأساة المزدوجة بعينين اثنتين، وليس
بعين واحدة عوراء.
***
*** ***