english arabic

 

previous

فلسفة اللاعنف

(2 من 2)

 

ديفيد مكرينولدز

 

لماذا يُفلِح اللاعنف أصلاً؟

أما وقد اعترفنا بأن مقترَبنا اللاعنفي لا يمكنه أن ينتصر في كل المعارك فإننا نتساءل: لماذا يُفلِح أصلاً؟ لماذا أفلح في وجه النازيين في النرويج والدانمارك، أو ضد بنية السلطة في الجنوب الأمريكي، أو ضد البريطانيين في الهند؟

دعونا نسلِّم أن لكل الأحداث الإنسانية "تعليلات متعددة". ليس من الصعب على حركة فييتنام السلمية في بلادنا أن تدرك أنه كما كان لاعنفُنا ناجعاً، كذلك كان الوجعُ أمام أكياس الجثامين العائدة إلى البلاد من جراء الكفاح العسكري الذي شنَّه الفييتناميون على قواتنا. دعونا نقرُّ أنه في حين لم يكن البريطانيون في الهند شديدي الظرف كانت بريطانيا مجتمعاً ديمقراطياً سَمَح لسياسة مضادة للاستعمار بأن تتنامى. دعونا نعترف بأن عنف العنصريين الجنوبيين كان محدوداً خوفاً من التدخل الفدرالي من جراء الدعم الشمالي القوي لمارتن لوثر كنغ الابن.

وبالعودة بالتاريخ إلى الوراء، إلى ما قبل أيِّ "مجتمع مدني"، نجد مثالين على حركتين انتشرتا في وجه بطش شديد: البوذية فلسفة لاعنفية بالكلِّية، انتشرت في آسيا برمَّتها على الرغم من الشدائد والاضطهاد، حتى أخضعت المغول الذين ارتكبوا الأهوال في أوروبا والصين؛ أما المسيحية التي لم تتحالف مع الدولة قبل انقضاء ثلاثة قرون على موت يسوع فقد صارت القوة الدينية المسيطرة في الغرب، منتصرة على سلطان أباطرة روما برمَّته.

لم يكن أيٌّ من المسيحية والبوذية فلسفة تغيير اجتماعي، انتظرت تعاليم غاندي في القرن العشرين. بيد أن الحقيقة ثابتة ثبات صخرة عنيدة: كلٌّ من الحضارتين الغربية والشرقية قام على أساس إيديولوجي غير عنيف، وواجه في وقت ما من فترته المبكرة اضطهاداً شديداً. هكذا فإن غاندي، عندما بدأ "يختبر مع الحقيقة" في القرن العشرين، ويبحث في إمكان استعمال اللاعنف لتحدي الظلم الاجتماعي، كان يعمل على أساس لم يكن جديداً كلَّ الجدة. فاللاعنف أقدم من العصر المسيحي.

لماذا يُفلِح؟

أما وقد حاولت أن أقدم شيئاً عن خلفية اللاعنف – وهنا أفترض أنكم حتماً قرأتم الفقرات الأربع السابقة – أسأل: كيف يمكن لأناس عُزَّل أن يأملوا في تحرير أنفسهم؟

أولاً، ليس ثمة ضمانة بأن اللاعنف سوف يُفلِح في كل حالة.

إن هذا يضع اللاعنف في مكان العنف نفسه بالدقة. فلا أحد يحمل سلاحاً لتحرير بلاده – كما فعل الفييتناميون – ولديه ضمانة بالنصر. التاريخ سجلٌّ مكشوف بمعارك باسلة من أجل العدالة لا عدَّ لها انتهت بالهزيمة. من الحالات الجديرة بالذكر حالة النضال في جنوب أفريقيا الذي قاده ابن غاندي، مَنيلال غاندي، في الخمسينات في كدح لإحداث تغيير في سياسة النظام؛ لكن النضال انتهى إلى عنف وانكسار. وفي بلادنا هناك آلاف الحالات حاول فيها أناسٌ مقهورون أن يتعاملوا مع الظلم سلمياً – وخسروا.

إن الاستجابة الغريزية الأولى لكل امرئ سليم العقل هي أن يجد طريقة "مأمونة" لحلِّ النزاع. فكلما كنتَ أقرب إلى نزاع خطير – عرقي، عمالي، أو متعلق بحقوق الإنسان – صرتَ أوعى بأن الناس المؤذيين أصلاً يفضِّلون أكثر ألا يصيبهم أذى. لذا فإن حلاً سلمياً – لاعنفياً – يكاد يكون دوماً أول طريق يقع عليه الاختيار. لا يلجأ الناس إلى العنف إلا عندما يحسون بأن الباطش "لا يفهم إلا لغة العنف". وأنا أكتب هذه الملحوظات هناك وضع مأساوي يتفاقم في كوسوفا، حيث يتحول إلى العنف نضالُ الأغلبية العرقية الألبانية (حوالى 90% من سكان كوسوفا، وهو مقاطعة خاضعة لسيطرة الصرب في يوغوسلافيا السابقة) الطويل، الملفت في أسلوبه اللاعنفي، لأن ثلة من الشبان الألبان الغاضبين الشجعان بدؤوا بقتل رجال من الشرطة الصربية، فقتل الصربُ بدورهم عدداً منهم، بما قد يحبط الآمال بحلٍّ لاعنفي، على اعتبار أن كلا طرفي هذا النزاع يتخذ موقع "إنهم لا يفهمون غير لغة العنف".

التفكك الاجتماعي

يحاول المسالمون إيجاد الشروط التي يكون فيها الخصم "حراً بتجريب سلوك مختلف". وهناك ثلاثة أمثلة يمكن إيرادها (ويوجد منها أكثر بكثير بانتظار دارس التاريخ، من فنلندا وصولاً إلى كمبوديا). أول هذه الأمثلة مثال الهند؛ وثانيها هو مثال مقاطعة باصات منتغومري التي أطلقت ثورة الحقوق المدنية في هذه البلاد؛ وثالثها مثال عمال المزارع بقيادة خافيث.

إيجاد وقائع جديدة

قام المهاتما غاندي بأمرين كانا فاصلين لإحراز النصر: أولهما كان منح الهنود اعتزازاً بأنفسهم وشعوراً بأنهم ليسوا أضعف من البريطانيين. (عندما ينتمي المرء إلى جماعة مقهورة، من الشائع أن يشعر بأن سبب القهر النازل به هو، ربما، أنه يستحقه – النموذج القديم لكره الذات أو نقص احترام النفس المشترك بين المقهورين، سوداً كانوا، مثليي الجنس، أو نساء، إلخ.) عندما قاد غاندي مسيرة الملح الشهيرة إلى البحر (احتجاجاً على ضريبة البريطانيين على الملح) فإن هذا العمل البسيط – البالغ من البساطة حداً كان سيجعل البريطانيين يبدون حمقى لو أنهم حاولوا وقفه – جعل أنظار الهند بأسرها تلتفت إلى هذا الرجل السائر مع ثلة من أتباعه من "مُعْتَزَله" عبر الهند إلى البحر. فمع كل خطوة كان يخطوها كانت الهند تشعر بفخار جديد. وعندما بلغ البحر وبدأ عملية جمع الملح (الذي كان بالإمكان جمعه لدى انحسار المدِّ بعد أن يتبخر ماء البحر تاركاً كميات من "الملح الخام")، تم إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن؛ لكن ليس قبل أن يبدأ بعض أتباعه بإرسال الملح الملموم إلى كل أنحاء الهند حيث كان يباع بالمزاد لصالح حزب المؤتمر.

ومع كل مزاد كانت اعتقالات جديدة تتم حتى امتلأت السجون بآلاف السجناء. وقد قال هندي من طائفة راقية جواباً على سؤال مراسل أجنبي سأله عما إذا لم يكن شخصٌ في منزلته الاجتماعية يشعر بالحرج من مواجهة السجن: "بالطبع لا، فإن خيرة الناس في السجن." تلك كانت الخطوة الأولى: تحدياً للقانون علنياً، جماهيرياً، يقيم الدليل أن غاندي وأتباعه لم تكن تخيفهم السجون البريطانية.

والخطوة الثانية – في هذه الحملة وفي الحملات العديدة الأخرى التي قادها غاندي – كانت إيجاد فوضى ذات حجم يُرغِم البريطانيين على المفاوضة. من النشاطات التي حضَّ غاندي أتباعَه عليها نسجُ ثيابهم بأنفسهم، بحيث لا يتَّكلون على القطن المستورَد من بريطانيا. (كان البريطانيون حتى ئذٍ يشترون القطن الهندي بسعر زهيد، ثم يحلجونه ويصنعون منه في إنكلترا ثياباً يعاد بيعها إلى الهنود بأسعار أغلى بكثير.)

دولاب الغزل والثورة

اهتم غاندي لإيجاد "برنامج بنَّاء" ينخرط في حركته الهنود قاطبة. فكان استعماله دولابَ الغزل رمزاً لـ"الاعتماد على النفس". وبالتدريج بدأت المحالج والمغازل البريطانية تتهدد بالإفلاس مع هبوط مصدَّراتها إلى الهند. وكما سيتبيَّن لنا عند النظر إلى مقاطعة باصات مونتغومري، استطاع غاندي أن يوجِد واقعاً جديداً، أن "يغير الوقائع السياسية" بحيث اضطُر البريطانيون إما إلى القيام بقمع جماهيري عنيف وإما إلى المفاوضة. لقد كانت ثمة طرق عديدة أوجد بها غاندي مثل هذه الوقائع: اعتصامات جماهيرية أمام القطارات، إضرابات شاملة، "المقاومة السلبية" الشهيرة التي بهرت الغرب في الثلاثينات أيَّما إبهار. هو ذا رجل ضئيل، يئتزر بحِقاء، أعزل، وقادر مع ذلك على تعطيل سلطان الإمبراطورية البريطانية في الهند. كان بوسعه، بمجرد إصدار نداء، أن يمنع القطارات من السير. [هناك نبذة تاريخية طريفة، لا يعرفها الكثيرون، تعود إلى بدايات الثورة البلشفية، يوم لم تنجُ الثورة بقوة السلاح – ففي الأيام الأولى بعد 25 أكتوبر لم تكن لدى البلاشفة قوات مسلحة – لكنْ بـ"معركة قطارات". كان الروس البيض يحاولون تحريك قواتهم إلى بتروغراد، مركز الثورة؛ لكن بما أن عمال السكك الحديدية كانوا مؤيِّدين للبلاشفة فإن القطارات الناقلة للقوات الروسية البيضاء ظلت تعاني من تأخيرات مبهمة الأسباب، أو تُحوَّل إلى مسارات خاطئة. وقد وثَّقت حنة أرندت أعمالاً مشابهة قام بها إيطاليون، في أواخر الحرب العالمية الثانية، عندما حاول هتلر ترحيل جميع اليهود من إيطاليا ليتأكد من إبادتهم – إذ فقد الثقة في قيام الإيطاليين بالمهمة على الوجه المطلوب. فههنا أيضاً حصلت معركة قطارات، لم يصل فيها اليهود قط إلى المكان المقرَّر أن ينتظرهم النازيون فيه لنقلهم. (كان الأمر مهزلة لو أن الحدث برمَّته لم يكن على هذا القدر المروِّع من المأساوية.)]

مونتغومري 1955

عندما بدأت مقاطعةُ باصات مونتغومري في كانون الأول 1955 لاح أنها ميئوس منها، لكنها كانت كل ما تستطيع الجالية السوداء المجازفة به. لم يكن لديهم إذ ذاك تأييد من الحكومة الفدرالية، وقد واجهوا القوة المسلحة للشرطة المحلية (والدَوْلية). لم يكن أحد قد أفلح في تحدي بنية سلطة البيض في الجنوب؛ فكانت المقاومة بمثابة انتحار. لكن الجالية السوداء شعرت بأن الشرطة سوف تكابد مشقة كبيرة في التعامل مع شيء في مثل بساطة... عدم ركوب الباص. ماذا كان بوسع الشرطة أن تفعل إذا اختار الناس أن يمشوا بدلاً من الركوب؟ وفي مونتغومري، ذاك الشتاء وذاك الربيع، اتفق القوم السود على المشي، شباناً وشيباً، متعبين ومرضى. وإذا لم يكن بمستطاع أحدهم أن يمشي، كانت جمعية مونتغومري للإصلاح تؤمِّن نقله بالسيارة.

ضحك البيض في البداية: لم يكن مشي قوم سود ليشكِّل تهديداً لهم! لكن كنغ ومعاونوه كانوا يخلقون وقائع جديدة. من أولى هذه الوقائع أن السود كانوا يتعلمون أن بوسعهم العمل على الرغم من خوفهم. كل خطوة كانوا يخطونها كانت تبدو لهم خطوة باتجاه هدف جديد. سألتْ إحدى النساء البيض خادمتَها السوداء التي كانت تصل إلى العمل مشياً مسافة كبيرة إن لم تكن متعَبة فأجابتها: "قدماي متعَبتان، لكن روحي مرتاحة." إذ ذاك بدأ تغييرٌ يحصل ضمن الجالية البيضاء، شبيه بالتغيير الذي أفلح غاندي في إحداثه في الجالية البريطانية: بات أناسٌ، كانوا ينظرون في السابق إلى الهنود أو إلى السود بوصفهم أشباه بشر، ينظرون إليهم وهم يبرزون فجأة كشعب ذي كرامة. ومع مرور كل يوم كان تملمُل واضطراب بال البيض يتفاقم. لم يطلق جماعة كنغ رصاصة واحدة، ومع ذلك فقد استشعرت الجالية في قلب عاصمة الكونفدرالية أن شيئاً ما كان يتغير إلى الأبد. أحد هذه التغيرات كان أن شركة الباصات صرحت بأنها باتت تخسر من المال ما يجعلها على وشك الإفلاس – وهذا يعني أن الجميع، سوداً وبيضاً، سوف يُحرَمون من النقل العام. إذ ذاك اضطرت الجالية البيضاء، وقد واجهها هذا الواقع، إلى المفاوضة على حل. بعد أسابيع من بدء الحملة، لم يعد السود والبيض مفروزين في الباصات. فكان غلِن سمايلي (صديق ومرشد قديم، كان يدير مكتب أخوية المصالحة في لوس أنجلس عندما كنت ما أزال طالباً في جامعتها) أول رجل أبيض يصعد إلى الباصات، متأبطاً ذراع الدكتور كنغ وهما جالسان معاً في يوم نصر.

عمال المزارع وخافيث

في عام 1962 بدأ سيزار خافيث، العامل المهاجر، بتنظيم واسع لعمال المزارع في كاليفورنيا. وكما في حالة كلٍّ من غاندي وكنغ، كان خافيث يناضل ضد حسِّ الخنوع في نفوس عمال المزارع. لقد كانت الجالية المكسيكية المهاجرة في كاليفورنيا، التي تعدُّ الكثير من الجاهلين بالإنكليزية والأمِّيين بالإسبانية، وبعضهم مقيم بصورة غير شرعية، تُعتبَر متعذرة التنظيم – مجرد مورد لليد العاملة الرخيصة، الطيِّعة. فقام خافيث بما فشل اتحاد العمل الأمريكي ومؤتمر المنظمات الصناعية القوي في القيام به: منح عمال المزارع حساً بالكرامة وبيَّن لهم أن بالإمكان أن يناضلوا وينتصروا. وبفضل تضحيات كثيرة، وضد تحيُّز الشرطة والجمهور، حوَّل مقاطعة العنب إلى رمز من الهول بحيث أرغم أصحاب الكروم على الجلوس إلى مائدة المساومة. وفي وجه الضرب وإطلاق النار، استجاب بالصيام، والمقاطعة، والمسيرات السلمية.

التفكك الاجتماعي هو المفتاح

ربما اقتضاني شرح هذه الفكرة إضافة "فقرات" عديدة؛ لذا سوف أقفل هذه الـ"لماذا يفلِح؟" بالتشديد على أن اللاعنف أفلح لأنه بواسطة تقويض البنيان الاجتماعي القائم تقويضاً منظماً (الإضرابات، والاعتصامات، والمقاطعات، إلخ) لا يمكن للنظام القديم أن يستمر بالعمل؛ إذ عليه أن يختار بين القمع العنيف أو المفاوضة.

اللاعنف لا يُفلِح لأنه يخاطب "خير ما في العدو" (مع أنه قطعاً يقوم دوماً بهذه المخاطبة)؛ إنه يُفلِح ليس لأن "العدو" يُعامَل معاملة الأخ أو الأخت فقط، بل كذلك لأن تكتيكاتنا تمتص الوجع والألم بينما نحن نخلق فوضى اجتماعية من الضخامة بحيث إن شيئاً ما ينبغي أن يلين. إننا، بتصرفنا دوماً بكرامة، نرغم خصمنا على النظر إلينا بطرق جديدة، مصعِّبين عليه استعمال العنف (مع أن العنف لا بدَّ أن يُستعمَل: التغييرات الاجتماعية اللاعنفية لا تعني عدم العنف، بل تعني أننا لن نستعمل العنف مع يقيننا أنه سوف يُستعمَل ضدنا لا محالة). وهو يُفلِح لأنه يغير كيفية تفكير المقهورين في أنفسهم، فيمنحهم العزَّة والثقة. واللاعنف يشحن الجالية بأسرها: يستطيع الجميع استعماله، شيباً وشباناً، ضعفاء وأقوياء، أساتذة وأميين – وهذا خلافاً للنضال المسلح الذي يقتصر عادة على الشباب الأصحاء.

القواعد الأساسية للاعنف

بقيت فقرة واحدة ربما وسوف ننتهي من هذا الجزء. في الجزء الخامس بيَّنتُ كيفية فَلاح اللاعنف. فهو، بإيجاد تفكك اجتماعي، يوجِد "وقائع جديدة" تيسِّر لخصمك أن يتغير. وهذا النوع من السياسة فنٌّ بحدِّ ذاته. فلا يكفي أن تقول لخصمك: "أنا مسالم، لن أطلق عليك النار، لكنني لن أوفر – وحق الجحيم – جهداً في جعل حياتك، أيها الوغد البائس، من العسر بحيث تكون مرغماً على التصرف تصرفاً لائقاً، مع أن العالم بأسره يعلم أنك لا تملك من صفات الإنسانية إلا النزر اليسير."

ليس من شيمنا تصعيب التغيُّر على خصمنا أكثر مما ينبغي. أجل، لقد أرغم سيزار خافيث أصحاب المزارع على المساومة لأن مقاطعة منتجاتهم أصابت منهم محفظة نقودهم؛ فبدون هذا ما كان للمفاوضات أن تبدأ أصلاً. لكن من العسير عليك أن تفاوض رجلاً تحتقره ولا تثق به، ومن الأيسر كثيراً التفاوض مع خصم تحترمه، وتشعر أنه "أحسن البلاء": لقد كانوا يحترمون خافيث.

منذ سنوات خَلَتْ في غرينيدج فيلاج، في الأيام الخوالي التي كان الراديكاليون يخطبون فيها أحياناً من على "صناديق الصابون"، كنت على وشك أن أبدأ خطبة في شريدان سكوير في أواخر بعد ظهر أحد الأيام عندما قدم شرطي وأمرني بالتوقف. لم أقل له: "ويحك، يا كلب الدولة الإمبريالية الشريد الشقي، أنا أعرف الدستور، ولي الحق في الكلام، وأتحدَّاك أن تعتقلني." بدلاً من ذلك قلت: "أظن أن لي الحق في الكلام. غير أني سوف أنزل من على المنصة ريثما تتأكد من ذلك من رئيسك. وبعد خمسة عشر دقيقة، بعد أن تكون قد تأكَّدتَ، سأعتلي المنصة وأتكلم. أما إذا ارتأى رئيسك أن اعتقالي مشروع فلن أقاومك." انصرف الشرطي؛ وبعد انقضاء خمسة عشر دقيقة وقفتُ وواصلت الكلام، ولم يعد الشرطي قط.

الأساسيات

-         يسعى الشخص الذي يستعمل اللاعنف أن يكون مطلق الصراحة والنزاهة والصدق.

-         يسعى الشخص الذي يستعمل اللاعنف أن يتغلب على الخوف لكي لا يعمل عن ضعف، بل عن قوة.

-         يسعى الشخص الذي يستعمل اللاعنف ألا يطعن في شخص خصمه، بل يسعى دوماً للعثور على ما يدعوه الكويكرز "خاصة الله" في الذين نناضل ضدهم.

-         سنفعل كلَّ ما بوسعنا لنحب الذين نحن وإياهم في نزاع.

كل هذه الأسس أسهل قولاً منها فعلاً. فكيف نحب ربَّ العمل الذي يأمر مغفَّلين بضرب المضربين عن العمل؟ أو نحب حكومة كحكومتنا تقتل الناس في أراضٍ نائية؟ كيف نكون بلا خوف عندما ترتعد فرائصنا رعباً؟ كيف نكون صادقين عندما يجعلنا الاعتراف بالغلط نبدو حمقى؟

ما من إجابات سهلة/مطلقات في النزاع

ما من إجابات جاهزة. إبان الحرب العالمية الثانية، في أماكن واقعة تحت الاحتلال النازي مثل هولندا، أي "جواب نزيه صادق" يمكن أن يكون عندما يقرع رجالُ الغشتابو بابك ويسألونك إن كنت تؤوي يهوداً في دارك، وأنت تعلم أن لديك يهوداً في سقيفتك؟ أرجو أن يكون جوابكم: "لا، لسنا نؤوي يهوداً." ذلك لأن "القيمة المطلقة" التي نضفيها على حياة كل إنسان تتعارض هنا مع "القيمة المطلقة" لقول الحق. ولقد فازت الحياة الإنسانية. إذ ثمة أوقات "تتعارض فيها المطْلقات".

غير أن ثمة أوقات يعني فيها الصدقُ فعلاً استعدادَنا لأن نبدو حمقى للغاية. (بوسع المسيحيين أن يثمِّنوا قول القديس بولس بأنه كان "مستعداً أن يكون أحمق من أجل المسيح".) في مستهل الخمسينات كان التوتر بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي شديد المرارة (بوسع المرء أن يؤلف كتاباً في هذا الموضوع). كان الشيوعيون يعتمدون تكتيك التسلل إلى مجموعاتنا ومحاولة تولِّيها. وكل من كان منَّا يعمل في السياسة الراديكالية في جامعة لوس أنجلس (حيث حصل هذا) كان على دراية تامة بهذا الأمر. وفي غضون الكفاح ضد المكارثية كانت مجموعة شباب الحزب الاشتراكي وفرع الشباب في أخوية المصالحة قد تعاضدا لرعاية مؤتمر على مستوى الولاية حول الحريات المدنية، ينعقد في إحدى كنائس لوس أنجلس. كانت تجاربي مع الشيوعيين قد قادتني إلى البارانويا: توهَّمتُ سعياً من الشيوعيين لعرقلة المؤتمر وربما لتولِّيه، فنهضت وأعلنت أن شيوعيين قد تسللوا بيننا، وأننا سنأخذ استراحة قصيرة لرصِّ صفوفنا، ثم ننعقد من جديد. عقدنا مجلساً سريعاً على الرصيف، ثم عدنا إلى الداخل، وعجَّلنا في استعراض جدول الأعمال، مختصرين النقاش.

بعدئذٍ بوقت قصير، علمت أن شيوعياً واحداً ليس غير كان حاضراً. لقد كانت المؤامرة من بنات مخيِّلتي. اعتراني رعب. لقد تقوَّلتُ باطلاً على الشيوعيين الذين كانوا أصلاً تحت الملاحقة القانونية. ولقد ارتاع أصدقائي في الحزب الاشتراكي – الذين كانوا صابرين على مسالمتي على مضض لكنهم يعتقدون أن بي شيئاً من مسٍّ – عندما كتبتُ رسالة اعتذار لكلِّ مَن حضر المؤتمر، معترفاً فيها بغلطي. وأظنني وزعت الرسالة باليد على أعضاء الحزب الشيوعي في حرم الجامعة (وهؤلاء أيضاً ظنَّوني ممسوساً). هذا الاستعداد للاعتراف بالغلط، حتى إذا اتفق له أن يكون شاقاً وشديد الإحراج، يمنح المرء مصداقية؛ وهو، مراراً، يجعلك تبدو مغفلاً. عليك بالمجازفة. فحركتنا يجب أن تكون حركة لا تعرف الكذب.

كما ويجب أن تكون حركة لا تُشَيْطِن معارضينا. وهذا صعب جداً، وكلنا يفشل فيه. أعتقد أن هنري كسنجر مجرم حرب يجب أن تحاكمه محكمة دولية (وهو ليس الأمريكي الوحيد الذي يقع تحت هذا الباب، لكنه الذي يخطر بالبال)؛ ومع ذلك إذا حاججتُ بأن المجرمين العاديين بشرٌ، كيف أنكر على كسنجر هذه الصفة؟ وإذا كنت أحاجج بأن السجون لا تؤدي إلا القليل القليل من النفع، كيف أكون بهذا التشوُّق إلى رؤيته مسجوناً؟ إن الذين خاضوا منَّا حرب فييتنام، الذين انتحر بعض أصدقائهم، أو ماتوا من جرعة مخدر مفرطة، أو صرفوا خيرة سني شبابهم في السجن، إلخ، يصعب عليهم للغاية أن يغفروا؛ ولكن لو كانت المغفرة سهلة، لما كانت ضرورية. (إذا عانيتَ من مشكلة، فكِّر كيف يشعر السود في مجتمعنا.)

رجال الشرطة ليسوا خنازير بنظرنا قط. قد ينتهكون القانون، ويجب أن يقعوا تحت طائلة التوقيف والقضاء على همجيَّتهم؛ لكنهم يبقون بشراً. ما من إنسان – سواء كان كسنجر، ستالين، شرطياً سيئاً، أو قاتلاً بالجملة – يستحق أن يدعى كلباً، خنزيراً، جرذاً: جزئياً لأن في هذا حيفاً بحق الكلاب والخنازير والجرذان، ولكن بصورة رئيسية لأنه ما من واحد منكم يقرأ هذا إلا وكان بالإمكان أن يكون – حتى فيما يخص الخلفية والظروف – حارساً في معسكر موت نازي. عندما ننظر إلى الإنسان الذي يسهل علينا أن نكرهه أكثر من غيره فإننا غالباً ما ننظر إلى سمة ما موجودة فينا.

ليس لدي نصيحة جيدة أقدمها عن كيفية التغلب على الخوف – ألا اعلموا بأني قد فشلت. النصيحة الوحيدة التي أستطيع أن أقدمها من خبرتي الشخصية هي أنكم يجب ألا تقوموا إلا بالأشياء التي تشعرون أن باستطاعتكم القيام بها، ليس إلا. لا تحاولوا أن تقوموا بأشياء تعرفون أنكم لا تستطيعون القيام بها. لا أقدر أن أسير على طول حافة بناء ارتفاعه أكثر من طابقين – وإذن فأنا لا أحاول ذلك. لكني استطعت – فقط ليس غير – أن أسير في الساحة الحمراء عام 1978 في احتجاج لعصبة المصالحة العالمية إلى جانب نورما بكِّر، جيري كوفِّن، بات ليسفيلد، ستيف سمرفورد، سكوت هرِّيك، وكريغ سِمسون. ولعل هذا هو أكثر الأشياء التي فعلتها تطلُّباً للشجاعة. وقد وجدتُ أن مجرد وضع قدم أمام الأخرى من شأنه أن يمضي بي قُدُماً إلى الساحة.

بخصوص الشجاعة الحقة، ماذا عن فيكي روفيري التي تطوَّعتْ عام 1968 في الفرق التي أرسلتْها المنظمة الدولية لمقاومي الحرب إلى موسكو وعدة عواصم أوروبية شرقية احتجاجاً على اجتياح تشيكوسلوفاكيا؟ لم تستطع فيكي أن تجد زميلها الإنكليزي الذي كان يُفترَض فيه أن ينضم إليها في موسكو. (في الواقع كان هناك لكن الاتجاهات التبستْ عليه.) وهكذا شرَّعت فيكي، وحدها، بيرقها، ولم تتزحزح من موقعها حتى اعتُقِلت. في كل حالة افعلْ ما تستطيع فعله، وليس ما لا تستطيع. وإذا كان الحظ حليفك ستجد في المرة المقبلة أنك تستطيع أن تفعل ما لم تكن تستطيع أن تفعله في المرة الأولى.

الحركة بحاجة إلى الجبناء

الحركة الراديكالية – اشتراكية، سلمية، فوضوية – تحتاج إلى الجبناء. تحتاج إليهم لأن الناس من ذوي الجسارة يعزُّ وجودُهم هذه الأيام – يكاد عددهم لا يكفي للقيام بثورة. على الحركة اللاعنفية، كأية حركة قوية، أن تفسح المجال لأولئك منَّا الذين لا يتحلُّون بجسارة كافية. فمن فضائل اللاعنف أنك يمكن أن تكون شاباً أو مسناً، ضعيفاً، عليلاً، أو مرعوباً، وتجد مع ذلك وسيلة للانخراط فيها – بما يساعد على جعلها حركة ديمقراطية. دعوني هنا أطرح شيئاً، مراراً ما نتناساه ونحن "نعدِّد المرات التي اعتُقِلنا فيها": يتطلب إنجاب طفل إلى هذا العالم، والاعتناء به، ومحبته، شجاعة (أو حمقاً) أكثر مما يتطلب الاعتقال. فالوالدون هم أكثر الناس جسارة.

إذا تذكرنا أننا يجب أن نحاول أن نكون صادقين وأن نتصرف بشجاعة لن نفعل في السر أشياء لا نفعلها في العلن؛ لن نفعل أشياء لسنا على استعداد لأن نباغَت ونحن نفعلها. وهنا أيضاً ثمة مفارقات: هل هذا يعني أن هناك أوقاتاً يجوز فيها العمل في السر؟ ألم يُخطَّط لمظاهرات موسكو سراً؟ نعم، وقد حاولت أن أشدد على وجود التناقضات دائماً. فإذا حاولتَ أن تضع للاعنف جملة من القواعد فقد انتهكتَ روحه وانتهى الأمر. اللاعنف هو الرقص وسط الفوضى، وفعل ذلك بفرح.

ماذا عن الحب؟

من الأشياء التي كان من عادة المرحوم إيغال رودنكو أن يقولها: "عليَّ أن أحب كلَّ إنسان – وأحمد لله أنني غير مضطر لمودة كل إنسان." هناك أناس نبتهج لمرآهم، وأناس نتمنى لو أنهم لم يتصلوا بنا هاتفياً. الحب عويص. وهناك أنواع كثيرة من الحب: من الحب الذي نكُّن لمن نهوى، إلى الأطفال الذين ننجبهم ونحبهم، إلى الكلاب والقطط التي قد تشاركنا حياتها، إلى بضعة أصدقاء نحبهم حقاً. لكن ثمة، تحت هذا، حساً بالرحمة، إدراكاً بأن مآلنا جميعاً إلى القبر، بأننا جميعاً يصيبنا الجوع والعطش والكلل؛ وهذا الإدراك يعيننا، حتى عندما "نحتقر" أحدهم، على أن نتصرف حياله أو حيالها بحسٍّ من الحب يجيز لنا أن نبصر، فيما يتعدى السطح، الألمَ والمعاناةَ في الداخل.

ليس بوسع كلِّ أحدٍ أن يفعل ذلك. لكن الحركة ستنهار إذا لم يكن واحد من قيادييها على الأقل غير قادر على فعله. أ. ج. موسته عاش ذلك؛ دوروثي دِيْ عاشته؛ روزا لوكسمبورغ عاشته؛ مارتن لوثر كنغ الابن عاشه؛ دِبْس عاشه؛ تشي عاشه؛ غاندي عاشه؛ وأظن أن مالكولم إكس كان في سبيله إلى عيشه عندما اغتيل. أما أنا فلست أعيشه – لكن بوسعكم أن تعيشوه. وبالعمل ربما كان بوسعنا جميعاً أن نناله.

القانون والجماعة

لا يتعارض اللاعنف والمفهومَ الأساسي للقانون. وإني متفق مع الماركسيين بأن "الدولة هي اللجنة التنفيذية للطبقة الحاكمة"، لكن ثمة، كما حاولت أن ألحظ فيما تقدَّم، فارقاً بين منازعاتنا مع "الدولة" المجرَّدة وبين ذلك الحس بالانتماء إلى الجماعة الذي نسعى إليه جميعاً.

إذا اتفق لنا أن ننتهك قوانين الدولة، إنما نفعل ذلك بالنيابة عن حسٍّ أعمق بالقانون، حسٍّ يحيط بكلية الجماعة إحاطةً أشمل. أجل، إن بعض القوانين اعتباطي: إننا نقف على الضوء الأحمر وننطلق عند الضوء الأخضر لأن هذا كان، مهما خرقناه، القرار الأصلي. كان بإمكان الأمر أن يكون عكس ذلك بالسهولة نفسها. ففي بريطانيا تسير السيارات على الجانب الأيسر من الطريق، وبالتالي فإن ما هو غير قانوني هنا يصير قانونياً هناك. ليس هناك جانب من جانبي الطريق "صحيح وأخلاقي" تُلتزَم القيادة عليه؛ لكن من الأهمية بمكان، من أجل تجنب حوادث السير، أن نلتزم جميعاً بهذا الإجماع: نحن في هذه البلاد نقود على الجانب الأيمن من الطريق.

النُمُس الطليقة

قبل بضعة أشهر قام عدد من أنصار تحرير الحيوان في بريطانيا بإطلاق سراح عدد من النُمُس المأسورة لصنع أردية من فرائها. لقد كان هذا تصرفاً أحمق لأن من شأن النُمُس، إذ تسعى إلى رزقها، أن تقتات بالقطط المنزلية، وتتسبب في تخريب سلسلة الحياة البرية الطبيعية في المنطقة التي أطلِق سراحُها فيها. لقد كان العمل "لاعنفياً" فقط بمعنى أنه لم يتسبب في قتل إنسان؛ لكنه كان نموذجاً من تلك الأفعال التي تبدو لاعنفية لكنها تتجاهل عنصراً أساسياً. لم يكن ثمة شخص واحد مستعد أن يواجه المحكمة وأن يقول: "شعرت بضميري يدعوني إلى إطلاق سراح نُمُسكم، وها أنا ذا – أوقفوني." عوضاً عن ذلك، كان الذين أطلقوا سراح النُمُس من اليقين في "صحة" قضيتهم بحيث إنهم لم يقوموا بأيٍّ من الخطوات التي يحث عليها اللاعنف. لم يقابلوا "مربي النُمُس" ويفاوضوهم، لم يبلِّغوهم عزمهم على العمل إذا جرى الاستمرار في تربية النُمُس وذبحها، وبالطبع تواروا عن الأنظار بعد إطلاقهم سراح الحيوانات.

اللاعنف لا يعني أنه يحق لنا، ما دمنا لا نطلق النار على مَن نختلف معه في الرأي، أن نخالف القانون في منجى من القصاص الأخلاقي.

سقراط والقانون

يبقى سقراط مثالاً على فرد كان يحب الجماعة، ويتفهم أهمية سيادة القانون، ويتفهم كذلك أن هناك أوقاتاً يجب فيها على ضمير الفرد أن يعارض ضمير الدولة، وأنه، عندما ينشب مثل هذا النزاع، فإن "سلامة" الجماعة لا تستدعي انتهاك قانون جائر وحسب، بل والاستعداد لقبول القصاص أيضاً (شُرب الشَوْكران القاتل في هذه الحالة). جدير بالذكر أنه كان بمقدور سقراط أن يلوذ بالفرار، أن الذين حكموا عليه بالإعدام افترضوا أنه سوف يفر، لكنه برفضه للفرار أرغم الذين حاكموه أن يعيشوا متحمِّلين وزر قرارهم. لقد رفض قبول قوانينهم، ورفض الفرار من العقاب.

يسوع أيضاً واجه هذا الامتحان. لقد عارض سُنَن أمَّته الجامدة، وأحيل إلى المحكمة، ورفض إنكار التُهم أو التهرب منها، وأعدِم.

نحن لسنا سقراط أو يسوع. فإذا اتفق لنا أن نسعى إلى فعل الخير (كما نفهمه) وكذلك إلى التهرب من القصاص فنحن بشر ليس إلا. ليس قصدي التبشير بالقداسة لجماعة من البشر المائتين، إنما تذكيرنا بأننا لا نستطيع التصرف ببساطة وكأن الجماعة عديمة المعنى. هناك في كلِّ مجموعة، سواء دعت نفسها ماركسية، فوضوية، أو سلمية، مَن يصر على أن حقيقته من الكمال بحيث يحق له أن يتجاهل العناصر الأكثر أساسية للمجتمع. وأكثر الأمثلة مأساوية على هذا نجده بين ثلة من حركة "حق الحياة" ممَّن يحسون أنهم مبرَّرين في قتلهم الأطباءَ الذين يقومون بعمليات إجهاض.

كلما رأيتَ أن "حقيقتك" من العمق بحيث تستثنيك من حسِّ الجماعة، ومن اللاعنف نحو الآخرين في جماعتك، اعلمْ أنك قد ضللتَ الطريق. فالأعمال ليست لاعنفية لمجرد عدم استعمال السلاح؛ فاللاعنف أعمق بكثير من "عدم العنف". الأم المُحِبة التي تصفع طفلها عندما يفلت منها ويجري في شارع مزدحم السير أقل "عنفاً" بكثير من الأم التي تحجب محبتها ببرود لمعاقبة الطفل نفسه على الفعلة عينها. اللاعنف أكثر بكثير من رفض الضرب: إنه مدُّ اليد إلى الخصم. ذلك، بالطبع، هو أصعب ما في الأمر. فمن الأيسر علينا بما لا يقاس أن نُشَيْطِن الخصم – وهو بنظرنا قد يكون نوت غنغريش، أو كنث ستار؛ وبنظر الآخرين، في أوقات مختلفة، كان الإجهاضيين، اليهود، السود، الشيوعيين، اللوطيين، والسحاقيات.

أصعب ما في الأمر

دعوني فقط أشدد على هذه النقطة: إن أصعب ما في اللاعنف ليس خرق قانون أو الذهاب إلى السجن، بل هو الإصرار على إنسانية معارضتنا. اللاعنف هو، في آن معاً، رؤية ما تفعله العنصرية أو الرأسمالية الأمريكية (أو ما فعلتْه الشيوعية السوفييتية) على حقيقته، والثبات، رغم ذلك، على رؤية خصمنا كجزء من أسرتنا نفسها. اللاعنف جهد لترميم حسٍّ بـ"الجماعة المحبوبة". فلو كان من السهل القيام بذلك لما كان الأمر على هذا القدر من الأهمية. لكن القيام به عسير للغاية، وهو أعسر منه في مجتمعنا المفتَّت حيث يلتقي واحدُنا الآخر ليس كبشر، بل كنتف وقطع تتناقلها وسائل الإعلام أو الإنترنت. هل ينبغي علينا أن نحب بينوشيه؟ نعم. لسنا مضطرين إلى مودَّته، لكننا قطعاً يجب ألا نكرهه. لعلنا يجب أن نبتهج أنه أوقِفَ وأحيل إلى القضاء (وبوسعنا أن نأمل أن يسلِّم أحدهم كسنجر للعدالة) لكننا يجب أن نفكر في شعور أولاده، وأن ندرك أنه، وهو ينوء بثقل مثل هذه الجرائم المظلمة الرهيبة، قد كشف عن الظلمة المخبوءة في كلٍّ منَّا.

توضيحاً لهذه النقطة الأخيرة، عندما نتفكَّر في ما يختبئ وراء جرائم العنف ضد اللوطيين، سنجد أن لدى المعتدين، في أغلب الأحيان، خوفاً من أن يكونوا هم مثليين جنسياً، وأنه قد سَبَقَ على الأغلب أن كانت لهم علاقات جنسية مثلية. فكلما احتدَّ غضبُ رجل على "المأبونين" كان احتمال مصارعته هذا الجانب في نفسه أكبر.

كلما ازددتَ يقيناً من أن بينوشيه فريد من نوعه، وأنك ترغب في تقدُّم الصفوف لكي تضربه بهراوة، ففيك، على الأغلب، "بينوشيه صغير".

من الأمور التي لم ترثها الحركة السلمية الأمريكية عن غاندي – وهي في أمسِّ الحاجة إلى ذلك! – قناعته بأن عمل حركته الرئيسي لم يكن حملات المقاومة اللاعنفية، بل "البرنامج البنَّاء" الذي وضعه. ففي بلادنا – وفي الغرب بعامة – اتَّسعت شقةٌ مؤسفة بين المقاومة اللاعنفية وبرنامج إيجابي.

لقد عدَّ غاندي، في نضاله من أجل النصر على البريطانيين، مختلفَ حملات المقاومة السلبية ذات قيمة ثانوية للغاية؛ عدَّها أداة أساسية، لكنْ ليس هدفه الرئيسي. وبدون أن نضطر إلى استعراض تاريخ الحركة الغاندية، دعونا نشير إلى العوامل الرئيسية فيها. كان غاندي يتعامل مع فلاحين يفتقرون إلى التعليم الأساسي وإلى تدابير الرعاية الصحية؛ كذلك كانوا يفتقرون إلى تاريخ من العمل بمفردهم من أجل مصالحهم.

أًصرَّ غاندي على التعليم، ومحو الأمية، والرعاية الصحية، وتدابير الصحة العامة – وكل هذا على مستوى الريف. وإذا فحصنا عن نجاح الشيوعيين في فييتنام وجدنا النموذج نفسه إلى حدٍّ كبير: كان النضال العسكري ثانوياً ثانويةَ حملات ساتياغراها غاندي. لقد ذهب الشيوعيون إلى القرى في فييتنام، وعملوا على محو الأمية وتقديم الخدمات الصحية، ومنحوا القرويين إحساساً بـ"العزَّة". لقد كانت طريقة النضال – عنفية أو لاعنفية – مختلفة، لكنْ ليس الإصرار المتماثل على "برنامج بنَّاء".

فما هو برنامجنا البنَّاء؟ نحن قطعاً نحسن فعلاً في رفضنا، في احتجاجنا، ولكن أين البرنامج السلمي الذي من شأنه أن يوجِدَ حساً بالجماعة بديلاً؟

لقد قامت الحركة الاشتراكية، سواء في أوروبا أو هنا، يوم كانت حركةً جماهيريةً، بشيء قريب جداً مما فعل غاندي في الهند: كانت هناك تنظيمات للشبيبة، برامج ثقافية، صناديق ادِّخار للدَّيْن، نقابات، برامج للمسنِّين – باختصار، لم يكن الاشتراكيون ينتظرون نصرهم في صندوق الاقتراع، بل كانوا يستبِقون تأسيس بعض عناصر "المجتمع الجديد" (بما فيها وسائل إعلامهم – الأمر الذي حصل أيضاً في الهند).

من المتعذر أن نتوقع من تنظيم واحد – عصبة مقاوِمي الحرب مثلاً – أن يضع مثل هذا البرنامج الإيجابي ويطبِّقه؛ لكنْ ليس من المتعذر إدراك الحاجة إليه.

خلق المجتمع الجديد هنا الآن

من المهمات الملقاة جدياً على عاتق الحركة السلمية في القرن الواحد والعشرين بناء برنامج للشباب ("شباب السلام" مثال ممكن على مثل هذا الطموح)، أو بناء وسائل إعلام بديلة حقيقية، بحيث لا نبقى تحت رحمة الرؤوس الثرثارة على الشبكات.

إن معظم عملنا هو "ضد" – ضد عنصري، ضد إمبريالي، ضد عقوبة الإعدام، ضد جنساني، ضد مضطهدي المسنين – حتى إني أظن أن الكثير من القوم ممَّن يلقون عليه نظرة واحدة يقولون: "ويحكم، إن الحياة أقصر من أن أضيِّعها في هذا... أنا أفتش عن شيء من التسلية."

لقد كان من الأسهل على غاندي أن يطور برنامجاً بنَّاء لأنه، في نضاله ضد الحكم البريطاني، سعى إلى إيجاد "مجتمع بديل" بحيث يمكن لإطار مجتمع جديد أن يبدأ بالنمو، تدريجياً وقصداً، ضمن صَدَفة المجتمع القديم. لقد نظَّمت حركة غاندي نظاماً تعليمياً جاء بديلاً عن النظام الذي كان البريطانيون يوفِّرونه (للقلة). لم يألُ غاندي جهداً في تأسيس محاكم هندية من خلال حزب المؤتمر، بحيث يتمكن الهنود الذين يشعرون بالحاجة إلى مخارج قانونية في منازعة ما من رفع قضاياهم إلى هذه المحاكم، متجاهلين المحاكم البريطانية.

وفي زماننا وضع السكان الألبان في كوسوفا ما يشبه هذا النموذج إلى حدٍّ كبير – حتى أدَّت فورة عنف (يتحمل كلا الطرفين اللومَ عليها) إلى انهيار سلطة هذا الإطار "البديل". وفي فييتنام أيضاً، قام الفييتناميون بأكثر بكثير من شنِّ معارك مغاوير (أو تأمين العون الصحي والتعليمي): جمعوا الضرائب، حكَّموا في المنازعات، وبكلِّ وسيلة ممكنة "أزاحوا" سلطة الحكومة المدعومة أمريكياً العاملة في سايغون. هناك شيء فاق أفهام الأمريكيين آنذاك: كان الشيوعيون هم الحاكمين الفعليين لجزء واسع جداً من جنوب فييتنام، رغم أن الخرائط كانت تُظهِره واقعاً تحت سيطرة سايغون والقوات العسكرية الأمريكية.

لماذا عملُنا أصعب من عمل الهند؟

من الصعب جداً على مَن يعيش في مجتمع ليس تحت احتلال أجنبي، حيث السيطرة مقبولة بوصفها مشروعة، أن ينظِّم برنامجاً بنَّاءً فعَّالاً على غرار برنامج غاندي (أو الشيوعيين في فييتنام). فحيثما ترى عامة الجمهور، بما لا لبس فيه، أنها محكومة من قبل غازٍ (الهند) أو من قبل جيش، ليس له من الأمر شيء، أوْجَدَتْه ودرَّبتْه قوةٌ أجنبية (فييتنام)، من السهل نسبياً تنظيم معارضة. أما حيث زمامُنا "نحن" بيدنا أصلاً، حيث الإمساك بمَواطِن الهيمنة أعسر، فإن تنظيم حكومة موازية أصعب بكثير. (حاول الفهود السود شيئاً من هذا في بعض المناطق، لكن محاولتهم باءت بالفشل لأسباب متنوعة – وقضية كيفية حل مشكلة العنصرية عن طريق الدمج أو عن طريق الفصل قضية أتركها جانباً لضيق المقام. وأنا شخصياً أنحاز إلى الدمج؛ لكن المحاججة طويلة، معقدة، ويضيق بها المقام.)

تنطبق مشكلة تنظيم المعارضة حيث يبدو الناس مالكين زمام أمرهم على أوروبا إبان الفترة النازية: في ألمانيا، كان الناس، على حرمانهم من كل حرية حقيقية، يقرون بهتلر حاكماً شرعياً نوعاً ما. أما في تلك البلاد التي هزمتْها النازية عسكرياً واحتلَّتها فكان من الأيسر تنظيم نوع من المقاومة، بحيث لم تستطع مختلف الحكومات "الممالئة" أو المتعاونة التي فرضها النازيون أن تنال شرعية قط.

إن إيجاد "برنامج بنَّاء" حقيقي هنا يعني انخراطاً باهراً في "سياسة حقيقية"، في بناء ائتلافات من مجموعات مختلفة. ولا أظن أن الحلَّ يكمن في محاولة إيجاد جاليات خارج المجتمع الراهن – مع أن الدافع إلى الحياة الجمعية كان قد استهوى الكثيرين إبان الستينات، وتاريخُها، في الواقع، طويل ومشرِّف في هذه البلاد. لكن مثل هذه الجاليات، على كونها تقدم بديلاً للناس المقيمين بين ظهرانيها، لا تحوِّل المجتمع ككل.

بمثابة خاتمة

دعوني أحاول في البضعة مقاطع المتبقية وضع خاتمة لهذه الملحوظات.

آمل أن يكون الذين قرؤوها قد أدركوا أن اللاعنف ليس فيه جواب على كلِّ المعضلات. إنه، على حدِّ قول برباره دمنغ، اختبارٌ بدأ لتوِّه.

اللاعنف ليس تمريناً أكاديمياً: إنه مسألة وضع للنظريات على محكِّ الممارسة، والتساؤل عن مَواطِن الغلط، والمحاولة من جديد.

اللاعنف نظرية لتدبير النزاع الاجتماعي من أجل تحقيق التغيير الاجتماعي. إنه ليس نظرية توليد للفوضى الاجتماعية إلا في فترات وجيزة. إنه جهد لجلب الجماعة ككل ضمن إطار التراحم.

اللاعنف بحث عن الحقيقة، وليس بحثاً عن طرق تبرهن بها على غلط خصمك. فإذا لم تكن مستعداً، وأنت تفحص عن الوقائع، لإدراك أنك قد تكون على باطل وأن خصمك على حق، فأنت لست ناضجاً بعدُ للاعنف.

عليك ألا تتعلق بنظرياتك، بل بالمنهج فقط. فالمنهج هو النظرية. ونحن نوجِد الدربَ بالسير. والغايات تتعيَّن بالوسائل؛ وهي لا توجد مفصولة عن الوسائل وبمعزل عنها.

نقطتان أخيرتان

يحتاج اللاعنف جزماً إلى نساء ورجال ذوي شجاعة، لكنه مقضيٌّ عليه بالفشل إذا اعتمد على الشجعان فقط. ليست الأعمال اللاعنفية امتحاناً ترى به كم مرة تستطيع أن تُعتقَل، وكم مرة تستطيع أن تتعرض للضرب، أو أطول مدة تستطيع أن تقضيها في السجن. يمكن لأيٍّ من هذه الأمور أن يحدث (لكنها يمكن أن تحدث إذا كنت عنيفاً أيضاً).

لكن غايتنا هي حياةٌ خيِّرة، غايتنا هي السعادة، وليست تمجيداً للمعاناة. نحن بحاجة إلى حركة من الناس العاديين الذين يستطيعون، أحياناً، أن يتصرفوا بطرق خارقة. نحتاج إلى تكريم الذين قد يكون لاعنفهم أفعلَ أنواع اللاعنف وأكثرها تحدياً إطلاقاً: لاعنف ومحبة ورحمة الوالد الذي يجازف بكل شيء لمنح الحياة لطفلٍ ولتربيته؛ لاعنف المعلِّم، الذي قد لا يُعتقَل أبداً، لكنْ الذي يمكن لحياته كمعلِّم أن تحوِّل أطفالاً كثيرين. علينا ألا نتذكر من دوروثي دِيْ المرات المختلفة التي اعتُقِلت فيها – التي كان تحمُّلها سهلاً نسبياً – بل ينبغي أن نتذكر منها إيواءها المشرَّدين وإطعامها الجياع – "برنامجها البنَّاء" الشخصي.

لقد ترددتُ وأنا أكتب هذه الملحوظات لأن حياتي لم تكن سجلاً حافلاً وبطولياً، وأنا على وعي بذلك. ففي حين اعتُقِلتُ أكثر من اثنتي عشرة مرة لم يضربني الشرطة ولا مرة، وكانت المُدَد التي صرفتها في السجن وجيزة، على غير الآجال الطويلة التي قضاها الكثيرون. وبوصفي "بيروقراطي سلام"، أسهل عليَّ بكثير أن أكون "جاهراً" مما لو كنت أشغل وظيفة في مكان قد يساوي فيه جهري بآرائي طرديَ من العمل. فلتنظروا إلى ما كتبتُ بحكم مزاياه، وليس

بحكم مزاياي.

في اللاعنف دوماً حاجة إلى رؤية أنفسنا فيمن نكره. ففي عام 1951 قمت برحلتي الأولى إلى أوروبا لحضور مؤتمر للسلميين في الدانمارك. وقد سافرت عبر ألمانيا للوصول إلى هناك ورأيت الدمار الذي خلَّفته الحرب. ففي هامبورغ كانت أبنيةٌ كاملة في مركز المدينة قد سُوِّيت بالأرض، وكان ركام الحصباء قد كُنِس بحيث لم يبقَ للأبنية أثر. (فكَّرت: "عجباً لمركز مثل هذه المدينة القديمة فيه كل هذه المساحات الخاوية!" – ثم أدركت أنه كان ذات مرة يعجُّ بالأبنية.) في البداية، كانت كل نظراتي تقليدية: أن هذا الدمار قد تسبب فيه الصراع العادل بين النازيين وبين الغرب. أما في بريمن فكان الدمار أكثر فداحة، ولم يكن قد نُظِّف بعد: كنيسة، حطَّمتْها القنابل، وقد طار سقفها، وانتصبت شجرة في مركزها تماماً، وسط المقاعد ذات المساند الظهرية يوم كانت ما تزال موجودة. تذكرت المدرسة الثانوية، أيام كنت شديد الاهتمام بالأحداث الجارية. لم تغادر العناوين الرئيسية ذهني قط: ألف قاذفة قنابل حوَّلت هامبورغ إلى هامبورغر وستة آلاف قاذفة قنابل تقصف بريمن (في غارة بريمن أسقطتْ نيران المضادات الجوية 60 قاذفة قنابل). وقد ابتهجت بقراءة هذه العناوين، جالساً في المدرسة الثانوية، ووالدي في القوات الجوية في الهند.

يومذاك كنت هناك، في بريمن، وسط الأطلال التي ابتهجتُ بالقراءة عنها منذ مدة وجيزة. وفي واحد من اختبارين روحيين حقيقيين في حياتي وعيتُ فجأة أنني كنت أحد قاذفي بريمن، وأن ما من شيء فعله المدنيون هناك يمكن أن يبرِّر هول النار والقصف المتناثر عشوائياً على منازلهم... وأن قتل الألمان لليهود ما كان ليعوَّض أو يصوَّب بقتلهم.

فقط عندما نعي أننا نستطيع أن نشاء ارتكابَ الجُرم يمكننا أخيراً أن نبدأ باختيار البديل. فما دمنا نحسب أننا مستثنون، وأننا يستحيل أن نكون يوماً حارساً في معسكر للموت، فإننا لم نبدأ رحلتنا بعد.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود