إضاءات

نيسان 2015

April 2015

 

 

لعلَّنا نتفق جميعًا على أنه لا توجد معرفة بريئة، فالحياد النصيُّ وهم إيديولوجي والبراءة الفكرية ضرب من المستحيل، ما دام كلُّ خطاب معرفي يهدف – بالضرورة - إلى تمرير حمولة إيديولوجية. إن الإيديولوجيا ثاوية في الخطابات جميعها، وليس ثمَّة خطاب – من وجهة النظر هاته - يمكن أن يعرَّى تمامًا من الإيديولوجيا. في ضوء هذا الفهم سنحاول في هذا البحث إجلاء العلاقة الملتبسة بين المعرفة البلاغية والمطالب الإيديولوجية.

 

 

تجتاح موجةٌ من عمليات المراجعة والتَّعديل والتَّطوير ميادين التَّربية والتَّعليم، تبدأ بأكثر بلدان العالم تقدُّمًا وتمتدُّ لتشمل كلَّ بقاعه.

"معايير" عالميَّة تنبثق عنها معايير وطنيَّة للمناهج، ومعايير أخرى لجودة التَّعليم وغيرها لاستخدام التكنولوجيا المتقدِّمة في قاعة الصَّفِّ...

مصطلحاتٌ جديدة تظهَر، وجدالاتٌ تبدأ ولا تنتهي حول مواضيع على قدرٍ آو آخر من الأهمية: أن نستبدل كلمة تعليم بكلمة تعلُّم، أن نستبدل كلمة معلِّم بكلمة منسِّق أو منشِّط، أن نحوِّل التَّعليم إلى مجموعة أنشطة بدلاً من الشروح التقليدية الإلقائيَّة... التَّعليم التَّعاونيُّ أو التَّعليم التَّشاركيُّ؟ التَّعليم باللَّعب أو من خلال المشاريع أو عبر حلِّ المشاكل؟..

حتَّى ليبدو أنَّ إبداع "نظريَّات التَّعلُّم" قد صار "موضة" العصر... خلا عن كونه مجالاً خصبًا للاستثمار!

 

إنَّ القول بأنَّ إبراهيم شخصية تاريخية حقيقية أشبه بالقول بأنَّ "شتربة" في "كليلة ودمنة" شخصية تاريخية حقيقية!

على ضوء قصة "البيضة الذهبية" التي رواها أنتوني دو مِــلُّو في كتابه أغنية الطائر، أوضحنا في مقال سابق بعنوان "كيف نقرأ قصص الأنبياء؟* وجود مستويين على الأقل لقراءة القصص الديني:

1.    القراءة الحَرْفية، وهي قراءة متطرِّفة لا تتجاوزُ حَرْفية القصة، وهذه القراءة الحَرْفية ضربان:

·        قراءة متطرِّفة متقبِّـــلة تَـــتقبَّـــل المعنى الحَرْفي للقصة باعتباره حقيقة، وهي قراءة رجال الدين والمتديِّنين [بالمعنى الدارج لكلمة "متدِّين"]؛

·        وقراءة متطرِّفة رافضة ترفض القصة بأكملها باعتبارها سخافة منافية للمنطق وللخبرة البشرية، وهي وقراءة اللادينيين والملحدين والمؤمنين بعقيدة لا تقبل بهذه القصة؛

2.    القراءة التأويلية باعتبار القصة مَثلًا مضروبًا للعِبرة، أي باعتبارها حكايةً رمزية غير واقعية يجب تأويلها لفهم مغزاها. وقد أشار إلى هذه القراءة الواعية الباحث المصري محمد أحمد خلف الله عام 1947 في رسالة دكتوراه بعنوان الفنّ القصصي في القرآن الكريم رفضها الأزهر

 

لقد غدا من نافلة القول اليوم الحديث عن وجود صلة بين عصر الآباء وعصر الخروج من مصر. فهذه الصلة لا وجود لها إلا في خيال المحررين التوراتيين المسكونين بهاجس "الأصول" الذي نجده وراء تأليف الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب، عندما كان هؤلاء المحررون يعملون على التوليف بين مجموعة من الموروثات من أجل خلق ماض لإسرائيل التوراتية باعتبارها شعبًا موحدًا منذ البداية. فمن أين إذن جاءت جماعة الخروج التي انضمت إلى الجماعات التي كانت تستوطن المرتفعات الفلسطينية خلال عصر الحديد الأول (1200-1000 ق. م.) حاملةً معها عبادة الإله يهوه؟ وهل كانت بالفعل جماعة متجانسة إثنيًا، أم أخلاطًا من جماعاتٍ شتَّى؟

 

 

كثيرًا ما شغلت علاقة دريدا بعصره نقاد وفلاسفة عصره، فانتقدوا أحيانًا صمته فيما يخصُّ العديد من القضايا الدولية الهامَّة كالقضية الفلسطينية وقضية الغزو الأمريكيِّ للعراق. كما انتقدوا غموض أفكاره وآرائه في أحيان أخرى. وبرَّر دريدا صمته بأنَّه لا يجد ما يقوله في كثير من الأحيان، وأنَّه لا يملك سلطة التأثير ولا التغيير أمام سلطة الإعلام الموجَّه الذي يؤثِّر في الرَّأي العام بقوة.

هذا لا يعدم انشغال دريدا بالمجال السِّياسيِّ، ويندرج ضمن إستراتيجيته التفكيكية التي وجَّهها إلى العقل السِّياسيِّ الغربيِّ وكشف التناقضات في مفاهيمه عن الديمقراطية والحوار والحرِّية، رابطًا ذلك بالأصل الذي نبعت منه هذه المفاهيم، ألا وهو الأصل الإغريقيُّ الذي لا تصلح بالضرورة كلُّ معانيه للغرب المعاصر، وللأقاليم المجاورة للغرب. ومثل هذا التفكيك السِّياسيِّ تشهد عليه كتب دريدا: "أطياف ماركس" و"مارقون" و"سياسة الصداقة" وكذا محاوراته الصحفية الكثيرة التي شكَّلت محاضرات ألقاها في كلِّ جامعات العالم، وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته. فماذا قال دريدا أو ماذا استبق من أفكار في الشأن السِّياسيِّ؟

 

تحتوي المجتمعات الإنسانية على طبقات وفئات وتقسيمات واضحة لا يمكن تجاهلها، ويعمل الباحثون- منذ أمد بعيد- على دراستها وتقصِّي الأسباب التي تقود إلى مثل هذه الطبقيِّة الموسومة بتفاوت اجتماعي ظالم، محاولين تحديد الشروط التي تفصل بين فئة وأخرى وإبراز نتائجه؛ وهناك من يؤيد هذا التقسيم الذي كان وما يزال إشكاليًا، وهناك من يرفضه داعيًا إلى إحداث ثورة وتغيير على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفي المقابل، توجد ظاهرة اجتماعية لم تخضع للكثير من الدراسة والبحث وتتمثل في معايير التمييز بين أشخاص "طبيعيين" أو "سليمين" أو "عاديين"، وبين أشخاص "معاقين" أو في حالة إعاقة. هنا، التمييز والتفريق والفصل والعزل ليس بين الطبقات أو بين المجتمعات، وإنما بين الأفراد أنفسهم. فانطلاقًا من معايير طبية و/أو اجتماعية و/أو ثقافية سائدة تُمارس المؤسسات هذا التمييز، ويُمارسه الأفراد، في كثير من الأحيان بشكل آليٍّ غير مُفكَّر فيه. وتأتي أهمية هذه المعايير، حسب ما يبدو، في قدرتها على الفصل بين أفراد يحوزون على نموذج "مثالي" صحة وسلوكًا وفكرًا وحتى هيئة عامة، وبين أفراد يخالفون هذا النموذج بسبب خلل أو ضعف ما؛ أي تقود هذه المعايير إلى إطلاق أحكام توصيفية و/أو قيمية إزاء الأشخاص مميزة بين أشخاص سليمين ومستقلين ومنتجين ومندمجين وأحرار، وبين آخرين يفتقرون لكلِّ ما سبق أو لجزء منه بشكل واضح أو غير واضح.

 

ثمة أقليات أخرى. الأحياء أقلية الأموات. المقابر في بلداننا حدائق نضرة العشب هذا الربيع، والحدائق مدافن. حولنا ووراءنا ميتات كثيرة، وموتنا الشخصي يتقدَّمنا إلى المستقبل. سنكون وحدنا المنتصبين سائرين بين القبور، في هذا الحاضر الدامي، بينما الجمهور الغفير المستلقي في ظلمات الأرض وظلمات الماضي لا يرانا. نفكر فيهم، ونقارن أعمارنا بأعمارهم المكتوبة أو المحفورة في الشواهد، ولا نقول (إذا لم يكن موظفو السجلات المدنية قد غيروا تواريخ ميلادنا) إننا انتبهنا إلى فراغ الطرف الثاني من العدد الذي سيلخصنا، وكيف ستأتي يد لتكتبه وتضع بين رقمين ذاك الفاصل الصغير الذي سيختزل حياة بأكملها.

 

 

تشكِّل الحرب حدثًا تأسيسيًا في حياة الشعوب، لأنها تدفع إلى إعادة النظر في تكوين الذات وحضورها التاريخي، سواء تعلق الأمر بالنصر أو بالهزيمة. ورغم أن الحرب كانت دومًا تمثل الخطر الأقصى الذي ينبغي دفعه واستبعاده عن الأمة، إلا أنها مع ذلك وفي حالة قيامها فهي تنبني على أخلاقيات صارمة، تتعلق مثلاً في حالة الإسلام باحترام العدو وعدم التنكيل بأطفاله ونسائه، كما تفرض أيضًا قيودًا صارمة بضرورة احترام الطبيعة وعدم تسميمها، فالحرب ينبغي أن تتمَّ في نوع من الممارسة الفروسية النبيلة، والانتصار غير المستحق ليس انتصارًا شريفًا وإنما هو هزيمة مقنَّعة. إن المبدأ العام الذي كانت تقوم عليه معارك الماضي هو أن الهزيمة بشرف خير من الانتصار الغادر. كانت الحرب حتى في أبشع صورها أخلاقية لأنها لم تكن هدفًا في حد ذاتها، بل هي وسيلة من أجل وضع القانون وخلق نظام اجتماعي ما. غير أن المنعطف الذي تعرفه الألفية الثالثة بعيد كليًا عن هذا الأفق، فنحن لأول مرة في تاريخ البشرية نتجه نحو تأبيد الحرب وجعلها علامة مميزة للحضارة المعاصرة.

 

لا قوةَ على هذه الأرض إلاَّ القوة، وهي التي تنقل القوةَ إلى المشاعر، بما فيها الرحمة. يمكن ذِكْر مئة مثال عن ذلك. فلماذا كان السِّلْميون بعد عام 1918 أرقَّ بكثير على ألمانيا منهم على النمسا؟ ولماذا ظهرَتْ ضرورةُ الإجازات المأجورة لكثير من الناس كمُسَلَّمة ذات بديهية رياضية عام 1936 وليس عام 1935؟ ولماذا هناك أناس كثيرون جدًا للاهتمام بعمال المصنع أكثر من اهتمامهم بالعمال المزارعين؟ وهلُمَّ جرًّا.

كذلك الأمر في التاريخ. نُعجَب بالمقاومة البطولية للمهزومين عندما يجلب تعاقُبُ الزمن نوعًا من الانتقام؛ وليس غيرَ هذا. فليس لدينا رحمة للأشياء المدمَّرة كليًا. ومَن الذي يمنح رحمةً لأريحا Jéricho، لغزة، لصُوْر، لصيدا، لقرطاج، لِـ"نُومَـنْسِيا" Numance، لصِقِلِّية Sicile اليونانية، للـﭙـيرو Pérou قبل كولومبوس؟

 

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني