|
سوريا
والانتداب الفرنسي
1920-1946
سمير
عنحوري
مقدمة:
الاستعمار والإمبراطوريات الاستعمارية
يمكن
اعتبار حوض البحر المتوسط بمثابة المدرسةَ
المؤسِّسة للاستعمار الأوروبي عبر العصور.
ومن الثابت الآن وجود – منذ القِدَمِ – حركة
هجرة غير منقطعة حملت شعوب آسيا حتى شواطئ
البحر المتوسط، بما هو نقطة التقاء لثلاث
قارات والمركز الحيوي للعالم المتحضِّر
القديم. أما في وقت لاحق، فقد تشكَّلت حركة
عكسية دفعت بالشعوب اليونانية واللاتينية
إلى احتلال آسيا. لقد
تتالت الشعوب المحتلة لهذا البحر، بدءًا من
الفينيقيين، فاليونان والرومان، ثم العرب
والأتراك. وكانت نتيجة هذه الفتوحات تمازج
العروق والحضارات مع تبادل البضائع
والمصنوعات، مما أوجد، عبر العصور، حضارة
مزدهرة فريدة من نوعها، لم تضاهِها أية حضارة
أخرى في العالم: حضارة البحر المتوسط. انتصر
الإسكندر الكبير على داريوش إمبراطور الفرس
في العام 334 ق م، وأدَّى هذا الفتح وما تلاه من
انتصارات إلى انتشار وهيمنة الفكر الهلنستي
على بلاد المشرق وأفريقيا الشمالية، حتى وادي
نهر السند في آسيا الوسطى. فبدأ، منذ ذلك
الحين، الصراع الذي دام ألفي عام بين الغرب
والشرق في سبيل الهيمنة السياسية والفكرية
على العالم. تأسَّست
أولى المستعمرات والمراكز التجارية
للفينيقيين حوالى شواطئ البحر المتوسط في
القرن الثالث عشر ق م؛ وتمَّ ذلك بواسطة الفتح
المسلَّح أو عن طريق الاتفاق السِّلمي. فكانت
هذه المستعمرات والمراكز بمثابة الصورة
المسبقة للإمبراطورية الرومانية التي امتدت
منذ القرن الثاني والأول ق م وسيطرت على ثلاث
قارات. إن هذه الإمبراطورية، التي يمكن
وصفُها بالمستعمِرة نظرًا لغاياتها
التوسعية، كانت تحتاج، من أجل حفظ أمنها
ووجودها، إلى كميات هائلة من المواد الأولية
والبضائع والمنتجات الغذائية تؤمِّنها،
طوعًا أو قسرًا، الشعوبُ المستعمَرة. لقد
راود حلمُ السيطرة على بلاد الشرق جميعَ
الفاتحين، من قديم الزمن حتى اليوم. فكان من
هؤلاء الفاتحين الذين سقطوا في فخ هذا "الحلم
الشرقي"، الذي تبيَّن لهم فيما بعد أنه كان
مجرَّد سراب: الإسكندر، قيصر وبومبي، الملكة
زنوبيا، ثم القواد الصليبيون؛ وكان منهم في
العصور الحديثة نابوليون وأصحاب
الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة، من روس
وفرنسيين وبريطانيين، ثم الدكتاتوران
موسوليني وهتلر. ويمكن إلحاق الإمبراطورية
الأمريكية المعاصرة بكلِّ هؤلاء، بما هي
الوريث الوحيد للإمبراطوريات الاستعمارية
الزائلة، وإن تكن تُعتبَر أسوأ من سابقاتها
بسبب نظامها السياسي المتستِّر وراء قناع
الديموقراطية، المستعمَل كوسيلة لتغطية
الأطماع الأمريكية للهيمنة العالمية وتبرير
جميع التجاوزات القانونية والأخلاقية. تلا
سقوط الإمبراطورية الرومانية ظهورُ
إمبراطوريات حديثة وقوى متوسطية جديدة. فكانت
منها الإمبراطورية العربية في بلاد الشرق
الأوسط وأفريقيا الشمالية والأندلس،
والممالك اللاتينية الصغيرة في المشرق التي
أسَّسها الصليبيون على امتداد الساحل السوري.
ثم جاء الأتراك السلاجقة، ولحق بهم
العثمانيون. اشتد
الصراع بين الغرب والشرق طوال النصف الأول من
الألفية الثانية، وتخلَّلتْه وقائع تاريخية
حاسمة، نذكر منها: إنهاء الوجود الصليبي في
سوريا في العام 1291، سقوط القسطنطينية بيد
العثمانيين في العام 1453، وسقوط غرناطة بيد
الملوك الإسبان في العام 1492. وتشكَّلت،
منذ ذلك العهد، خريطة جديدة للعالم الأوروبي
والمشرقي، تميَّزت بظهور إمبراطوريتين
قويتين وحديثتين، تزامنتا مع عصر ذهبي
لكلتيهما. فكانت الأولى الإمبراطورية
الإسبانية في بداية القرن السادس عشر، التي
فتحت وأسَّست مستعمرات في أمريكا، وضمَّت إلى
تاجها الممتلكات النمساوية والأوروبية
لسلالة هابسبورغ. أما الثانية فكانت
الإمبراطورية العثمانية، بفضل توسعها في
أوروبا الشرقية؛ فاحتلت بلاد ثراكي ومقدونيا
وبلغاريا والصرب والبوسنة والمجر، ووصلت حتى
أبواب مدينة فيينا (1529). أما في بلاد الشرق فقد
احتلت سوريا وفلسطين ومصر، وبسطت سيطرتها على
الجزائر وتونس وليبيا. كان
لا بدَّ لهاتين الإمبراطوريتين المتنافستين
على السيطرة على أوروبا والبحر المتوسط من أن
تتصارعا يومًا ما. فوقعت معركة بحرية حاسمة
بينهما في العام 1571 هي معركة ليبانتو، دُمِّر
خلالها الأسطول العثماني تدميرًا شبه كامل.
وخسر العثمانيون أيضًا معركة برية هامة عندما
تراجعوا عن أبواب فيينا ثانية في العام 1683.
ويعتبر هذا الفشل الأخير بمثابة نقطة تحول
وتراجع للعثمانيين في أوروبا. أما
في ما يخصُّ إسبانيا، فيُعتبَر أيضًا انكسارُ
أسطولها العظيم ("الأرمادا") أمام أسطول
إنكلترا في العام 1588 بمثابة بدء انحطاط هذه
الإمبراطورية. قابَلَ
بدءُ انحطاط هاتين الإمبراطوريتين
الاستعماريتين نموُّ قوتين أوروبيتين، هما
مملكة فرنسا ومملكة إنكلترا اللتين بدأتا
بتنفيذ سياسة توسعية واستعمارية تجاه
القارات الأخرى: في كندا وأمريكا، وفي
أفريقيا وآسيا. وقد
تبعتهما في وقت لاحق الإمبراطورية الروسية في
عهد الإمبراطورة كاترينا التي توسعت على حساب
ممتلكات الإمبراطورية العثمانية (1774)، وعلى
حساب بولونيا (1792-1795). منذ
ذلك الوقت، وبدءًا من نموِّ هذه القوى
المتنافسة، ذات المصالح المتكاملة، من جهة،
والمتصارعة، من جهة أخرى، بدأت مسيرة القوى
والخلافات المتزايدة التي سيزداد تأثيرُها
بشكل مأساوي في بداية القرن العشرين على مصير
العالم، من ناحية، وعلى عالمنا العربي بشكل
خاص، من ناحية أخرى. وبناءً على ذلك، يمكن
القول بأن مطلع القرن العشرين هو أوْجُ عهد
الاستعمار والعهد الذهبي للتوسع الاستعماري
الأوروبي في العالم.
دمشق،
في 3/3/2003 *** سوريا
والانتداب الفرنسي: 1920-1946 حاولنا
في مقدمة هذا المقال أن نشرح الفترة الطويلة،
الممتدة على بضعة قرون، التي شهدت مسيرة
تكوين وبناء الإمبراطوريات الاستعمارية
الأوروبية الكبيرة في القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين، إذ وصل التوسع
الاستعماري إلى أوْجِه، مما جعل من بريطانيا
العظمى أعظم إمبراطورية استعمارية في
العالم، تتبعها فرنسا في المقام الثاني. كان
لا بدَّ لهاتين الإمبراطوريتين العظميين من
أن تتنافسا على الكثير من المصالح السياسية
والتجارية، وأن يؤدي الخلاف بينهما، في كثير
من الأحيان، إلى الحرب والاقتتال، بحرًا
وبرًّا، مثل الحروب النابوليونية، وحرب
الاستقلال الأمريكية، وخسارة فرنسا
لممتلكاتها في الهند وكندا، إلخ. وبالمقابل،
كانت هاتان الدولتان تتحالفان أيضًا، في بعض
الأحيان، ضد عدوٍّ خارجي يهدِّد مصالحهما
المشتركة. وقد جرى ذلك في أثناء حرب القرم ضد
روسيا، حيث تحالفتا مع الإمبراطورية
العثمانية، ثم انقلبتا ضدَّها بعد عدة سنين
في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث
تحالفتا مع العدوِّ السابق روسيا ضد
إمبراطوريات ألمانيا والنمسا وتركيا. انتهت
الحرب العالمية الأولى، وعاد الخلاف من جديد،
بعد عشرين عامًا، بين الإمبراطوريتين بسبب
المصالح المتضاربة في منطقة الشرق الأوسط،
مما أدَّى إلى صراع مسلَّح بينهما، انتهى
بانسحاب فرنسا من سوريا ولبنان الخاضعتين
للانتداب الفرنسي وجلاء آخر الجنود
الفرنسيين عنهما في العام 1946. أدَّت
الحرب العالمية الأولى إلى انهيار أربع
إمبراطوريات عظمى هي: إمبراطورية روسيا،
وإمبراطورية النمسا والمجر، وإمبراطورية
ألمانيا، والإمبراطورية العثمانية، التي
كانت سوريا من ضمن تركتها. زالت هذه
الإمبراطورية الأخيرة، وخلَّفت مكانها دولة
تركية خالية من بعض مقوِّماتها السابقة، من
شعوب أرمنية، تم قتلها أو تهجيرها، ويونانية،
تم طردها، وعربية، لم يسطع تاريخُها بأيِّ
بصيص من نور منذ قرون، ولكنه سيدوِّي منذ ذلك
الحين بصوته وغليان شعوبه. لقد قضى "الرجل
المريض" (الإمبراطورية العثمانية) نحبه
أخيرًا، ولم يبقَ للدول الاستعمارية
المنتصرة – أي إنكلترا وفرنسا – إلا أن
تتقاسم تركته. هنا
يجدر أن نعرِّف، باختصار، بمفهوم "نظام
الانتداب"، كما تصوَّرتْه ووضعتْه قيدَ
التنفيذ القوى المتحالفة والمنتصرة في ذلك
الوقت، أي فرنسا، إنكلترا، الولايات
المتحدة، وإيطاليا. وتتلخص هذه الفكرة بأن
توضع الممتلكات الجغرافية السابقة
للإمبراطوريات المنهارة، التي زالت بانتهاء
الحرب العالمية الأولى (والمقصود هنا
إمبراطورية ألمانيا وإمبراطورية تركيا)، تحت
إشراف ووصاية "عصبة الأمم" (وهي المنظمة
العالمية السابقة لمنظمة هيئة الأمم الحالية).
فحيث إن ألمانيا خسرت مستعمراتها في أفريقيا
فإن على تركيا أن تنزل كذلك عن مجموع ولاياتها
العربية. وبناءً على هذا الواقع فإن فرنسا
تَرِثُ سوريا ولبنان، بينما تَرِثُ إنكلترا
العراق وفلسطين. وتوضع هذه البلدان تحت
الوصاية المباشرة لهاتين الدولتين بانتداب
رسمي من عصبة الأمم، مع مهمة تأمين لهذه الدول
الجديدة الوسائل اللازمة التي تمكِّنها، في
وقت لاحق، من الوصول إلى درجة كافية من الوعي
السياسي والتطور الاقتصادي يؤهِّلها لنيل
الاستقلال والسيادة. وبهذا
تصبح منطقة الشرق الأوسط أشبه بحقل تجارب
لبدعة جديدة للقانون الدولي، كانت، في مجال
تطبيقها، الأولى من نوعها في تاريخ السياسة
الدولية... والأخيرة. ومن
باب الدعابة، يمكن اختصار فشل هذه التجربة
السياسية بالنكتتين الصغيرتين التاليتين:
سرد أولاهما هنري دي جوفنيل، المفوَّض السامي
السابق في سوريا في العام 1926؛ وهو يروي حديثًا
دار آنذاك بينه وبين وزير تركي سابق، حين كانت
سوريا ما تزال تشكِّل جزءًا من الإمبراطورية
العثمانية: -
بالله عليك، احتفظوا بها
لكم [أي سوريا]، واحتفظوا خاصة بدمشق! فإن هذه
المدينة هي واحدة من تلك المدن المسمومة التي
تقضي على الإمبراطوريات! أما
القصة الأخرى فرواها الصحافي والكاتب
الفرنسي جوزيف كيسِّل الذي جاء إلى سوريا في
العام 1927 في مهمة للاطلاع على مجرى الأمور
بخصوص إخماد الثورة السورية الكبرى في العام
1925-1926، فقال: "من الواضح بأن جميع الأنظمة
السياسية لا نفع لها هنا، حيث إنه ليس هناك
بين البلدان ما هو بالطبيعة أكثر تعقيدًا
وأكثر صعوبة وأكثر ثورة من هذا البلد: سوريا." لكن
قبل أن نصل إلى نظام الانتداب وكيفية تطبيقه
عمليًّا في هذا الجزء من العالم، سنحاول،
بشكل مختصر وبقدر الإمكان، سرد الحوادث
التاريخية التي سبقت انتهاء الحرب العالمية
الأولى والتي من شأنها أن توضِّح عملية ظهور
الدولة السورية الحديثة في بداية القرن
العشرين. بعد
زوال دول الفرنج في سوريا في القرن الثالث
عشر، بدأ ملك فرنسا فرانسوا الأول، بعد
انقضاء بعض الوقت، بمزاولة سياسة تودُّد إلى
السلطان العثماني سليمان الكبير (وقد
اعتبرتْها الدول الأوروبية المسيحية آنذاك
سياسة نابية). وقد حصل منه، بموجب اتفاقية
العام 1535، على امتيازات تجارية هامة
واستثناءات خاصة للرعايا الفرنسيين في
تعاملهم مع الإمبراطورية العثمانية. (كان لا
بدَّ لفرنسا أن تذكِّر الدول الأخرى لاحقًا
بهذه الامتيازات العريقة في القدم في أثناء
مطالبتها بالسيادة على سوريا ولبنان، بعد
انكسار تركيا وتقسيم ممتلكاتها العربية.) توطَّدت
هذه العلاقة المميزة بين المملكتين في القرن
السابع عشر في عهد الوزير ريشيليو، ثم الملك
لويس الرابع عشر؛ لكنها أصيبت بنكسة هامة بعد
حملة بونابرت على مصر والساحل السوري، ثم
الحملة الفرنسية في عهد الملك شارل العاشر في
العام 1830 على الجزائر التي فتحت باب
الاستعمار والوجود الفرنسي في أفريقيا
الشمالية لمدة 150 عامًا. بالمقابل فقد تزامنت
هذه الحملة الفرنسية على الجزائر بعمل سياسي
فرنسي مكثَّف في مصر الخاضعة لحكم محمد علي،
مما جعلها تمدُّ نفوذها مدًّا ملحوظًا على
الشرق في أثناء حملة إبراهيم باشا على سوريا
(1830-1840)، ثم في أثناء وقوع الحوادث الدينية
الدامية في العام 1860 في لبنان وسوريا التي لم
يتمكَّن السلطان العثماني من إيقافها وقمعها
بشكل فوري، مما سبَّب إرسال حملة فرنسية إلى
بيروت من قبل الإمبراطور نابليون الثالث
لتهدئة الأوضاع. منذ
ذلك الحين، توطَّد المركز السياسي والمعنوي
لفرنسا في المنطقة دون منازع. فقد تمكَّنت من
بسط نفوذها على كافة المجالات – ومنها
التجارية والثقافية – وصارت حمايتُها
الدينية معترفًا بها على مجموع مسيحيي الشرق،
على حساب الحماية الروسية التي كان قيصرُها
يطالب بها بشكل حصري بالنسبة للسكان
المسيحيين المنتمين للطائفة الأرثوذكسية. أخلَّتْ
ضعضعةُ الإمبراطورية العثمانية، منذ بدايات
القرن التاسع عشر، مقابل الدول الغربية
القوية والمزدهرة، بأسس النظم السياسية
والاجتماعية التقليدية في المنطقة. فقد صارت
أوروبا، بواسطة ثقافتها وقوتها العسكرية
وثورتها الصناعية، تمثل القدوة التي تحتذى؛
وكان هذا الواقع سببًا لحدوث فوارق واسعة في
التطور، نتجت عنها، بالتالي، فوارق غير
متوازنة بين العلاقات مع الغرب، مما سبَّب
تبعية اقتصادية سبقت هنا السيطرة العسكرية،
من جهة، ثم الانقطاع الكامل بين العالمين
التركي والعربي، من جهة أخرى. بالنسبة
للعرب فإن إعادة النظر في أسس الشرعية
السياسية للعثمانيين كانت في صلب النقاش
الدائر؛ وكذلك علاقة الإسلام بهذه الشرعية،
من جهة، وبقيم الحداثة، من جهة أخرى. ولقد قاد
هذا التيار الفكري، بشكل خاص، اثنان من كبار
المفكرين المسلمين، هما جمال الدين الأفغاني
وتلميذه المصري محمد عبده. كما أن الحركة
الوطنية الفتيَّة كانت تحاول، هي الأخرى،
إيجاد جواب على مسألة شرعية السلطات. وكان
روَّاد هذه الحركات الوطنية، من أتراك ("تركيا
الفتاة" في اسطنبول) وعرب، ينتمون جميعًا
إلى نخبة مثقفة متأثرة بالأفكار الأوروبية. لقد
نشأت الحركة الوطنية وسط هذا المجال الفكري
والاجتماعي؛ وكانت هذه الحركة ثقافية قبل أن
تكون سياسية. فكان دبلوماسيون يُجرون، في
باريس وبيروت ودمشق، اتصالات سرية مع أعيان
من العرب، شكَّلوا فيما بعد، خاصة بعد الحرب
العالمية الأولى، نخبة الحركة الوطنية
المنبعثة من النهضة الثقافية العربية؛ وهم
مثقفون ينتمون إلى مدن المشرق التي كانت
تتقبل منذ القدم جميع التأثيرات الثقافية
الخارجية. في
العام 1915 جرت مفاوضات بين فرنسا وإنكلترا حول
تحديد مناطق نفوذ لكلتا الدولتين في حال
تقسيم الإمبراطورية العثمانية، وتمَّ اتفاق
سرِّي ومؤقت حول هذا الموضوع أُطلِقَ عليه
اسم المفاوِضَيْن – وهما السير مارك سايكس
وفرنسوا جورج بيكو. وكانت بريطانيا تخشى في
تلك الفترة حدوث مشاكل، وحتى أعمال عصيان
محتملة، بين مواطنيها المسلمين في مصر وفي
الهند. فابتدأت، منذ ذلك الحين، بوضع أسس
لسياسة إسلامية داخل الدولة العثمانية،
مشيرة إلى فكرة محتملة تؤمِّن استقلالاً
عربيَّا، إنما تحت مراقبة أوروبية، ولوقت غير
محدَّد؛ مما جعل من هذا الاحتمال منبعًا لسوء
تفاهم مستقبلي مزمن. اصطدمت
هذه الفكرة فورًا بالأطماع الإمبريالية
الفرنسية في المنطقة، وذلك قبل أن تعارضها،
في وقت لاحق، الشعوبُ العربية التي كانت ترفض
الاستقلال تحت وصاية أجنبية. وفي الوقت نفسه،
جرت مراسلات، منذ العام 1915، بين السير هنري
مكماهون والشريف حسين في الحجاز، ونجم عن
المفاوضات الميدانية بين الطرفين التزامٌ
بريطاني خطيِّ: الاعتراف باستقلال العرب
ومساندتهم. ولكن بريطانيا حصلت، في نفس
الوقت، على تأجيل المفاوضات الخاصة بترسيم
الحدود حتى نهاية الحرب. مقابل
هذا الوعد المبدئي، يلتزم الشريف حسين بإطلاق
نداء الثورة العربية ضد العثمانيين. وهذا ما
قام به فعلاً بتاريخ 5 حزيران 1916، معلنًا
نفسه، منذ شهر تشرين الثاني 1916، "ملكًا على
العرب"، بينما كانت الدول العظمى لا تعترف
به إلا بصفته ملكًا على الحجاز. في
هذا الوقت كان الكولونيل لورنس – وهو عضو في
"المكتب العربي" البريطاني في القاهرة –
يرافق قوات الأمير فيصل، نجل الشريف الحسين،
بصفته ضابط اتصال ومموِّل بالذهب الإنكليزي (وكانا
كلاهما تابعين في ذلك الوقت لقيادة الجنرال
ألمبي). ويُعتبَر هذان الرجلان، اللذان ارتبط
مصيراهما الاستثنائيان معًا فترةً زمنية
محدودة دامت حتى فتح مدينة دمشق والانكسار
الكامل للجيش التركي في سوريا، الصورةَ الرمز
للثورة العربية.
كان
لدخول الأمير فيصل بتاريخ 3 تشرين الأول 1918
إلى دمشق، الذي سبقتْه إليها بتاريخ 1 تشرين
الأول القواتُ الإنكليزية، بمثابة إهانة
لفرنسا ذات المركز المميَّز في المنطقة منذ
عصور وراعية المسيحيين في المشرق. وجاء هذا
النصر البريطاني كعنصر محرِّض للتنافس
العدائي القديم بين حليفتي الأمس بسبب وجود
عدد هائل من الجنود البريطانيين يقارب
المليون جندي، مما يعبِّر عن الالتزام
البريطاني الاستراتيجي في المنطقة، مقابل
عدد ضئيل من القوات الفرنسية في المنطقة
نفسها. مهما
يكن من أمر، فإن الأمير فيصل والجنرال ألمبي
دخلا دمشق في نفس اليوم، أي في 3 تشرين الأول،
وتم التعارف الشخصي بينهما في فندق فكتوريا
بحضور لورنس. وفي اليوم الذي سبق هذا التاريخ
قام علي رضا الركابي، بمساندة الوطنيين
والسياسيين المحليين في دمشق، باسترجاع
السيطرة على الحكومة العسكرية المؤقتة من يد
شكري باشا الأيوبي الذي نُصِّب حاكمًا مؤقتًا
خلال اليومين السابقين. ورُفِعَ عندئذٍ
العلمُ الشريفي، وأعلنت الإدارة العربية
الجديدة ولاءها للحسين، بصفته ملكًا على جميع
العرب.
لم
يصدر عن مؤتمر السِّلم، المنعقد في باريس منذ
18 كانون الثاني 1919، أيُّ اتفاق بخصوص
الانتداب. وكانت هذه القضية في طريقها إلى
الحلِّ بمناسبة انعقاد اجتماع لاحق بين
الحلفاء في سان ريمو في شهر نيسان من العام 1920.
إن إسناد مهمة الانتداب إلى الدولتين
العظميين كان مجرد عملية تقاسُم أرباح
إمبريالية، تضرب عرض الحائط بالمطالب
الشرعية للوطنيين العرب وبالمقاصد الحميدة
للولايات المتحدة و"نقاطها الأربعة عشر"
من برنامج رئيسها وودوو ويلسن، المستندة إلى
حقِّ الشعوب في تقرير مصيرها. وبينما
كان فيصل منهمكًا في أوروبا في الدفاع اليائس
عن المصالح العربية ضدَّ مطامع فرنسا، بعد أن
تخلَّى عنه حلفاؤه الإنكليز، ضعفت سيطرتُه
على الأمور في سوريا، وعَلَتْ الانتقادات في
حقِّه جهارًا، خاصة بعد الاتفاق المبدئي الذي
تمَّ بينه وبين كليمنصو في باريس بتاريخ 9
كانون الثاني 1920. شعرت
فرنسا، بعد أن تخلَّصت من حليفتها الخصم
بريطانيا، بأنها أصبحت طليقة اليدين على
الأرض. فكان لا بدَّ – ولا محالة – من أن يقع
الصِّدام العنيف مع فيصل في المستقبل القريب،
بسبب سياستها الرامية إلى تأسيس "دولة
لبنان الكبير"، من جهة، وهدفها إلى السيطرة
الكاملة على سوريا، من جهة أخرى. وهكذا تم
تعيين الجنرال غورو في 8 تشرين الأول 1919
حاكمًا عامًّا على سوريا وكيليكيا، وبدأت
القوات الفرنسية تحلُّ محلَّ القوات
البريطانية في لبنان وعلى طول الشاطئ السوري.
بدأت
الأوضاع تتدهور منذ ذلك الحين في سوريا،
وأعلن الوطنيون المتشددون التعبئة العامة
للقوات السورية. اجتمع "المؤتمر العربي"
في دمشق في 8 آذار 1920، وأعلن رفضه لاتفاق فيصل–كليمنصو،
مع الإعلان، من طرف واحد، للاستقلال وقيام
المملكة العربية السورية في حدودها
الطبيعية، بما فيها فلسطين، وتنصيب فيصل
ملكًا عليها. لكن اتفاق سان ريمو في إيطاليا
في نيسان 1920، الذي أكَّد اتفاقات سايكس–بيكو
المعدَّلة (الاتفاق حول النفط)، أعطى لفرنسا
حقَّ الانتداب على لبنان وسوريا ولإنكلترا
حقَّ الانتداب على فلسطين وسوريا الجنوبية (شرق
الأردن) والعراق. وصل
التوتر إلى أوْجِه في سوريا ولبنان، وتعددت
الصِّدامات. وفي تاريخ 14 تموز 1920 أرسل الجنرال
غورو تحذيره النهائي إلى فيصل. وفي تاريخ 24
تموز 1920 تحرَّكتْ القوات الفرنسية، بقيادة
الجنرال غوبيه، نحو دمشق. كانت هذه القوات تضم
عددًا هامًّا من القطعات العسكرية، من مشاة
سنغاليين ومغاربة، وبطاريات مدفعية من عيار 75
و155 مم، ووحدات نقل حاملة مدافع ورشَّاشات،
ووحدتين للدبابات، ووحدات هندسة وطيران،
وقوَّات احتياطية. أما
القوات العربية التي أُرسِلَتْ للتصدِّي
لها، بقيادة العقيد يوسف العظمة، وزير
الحربية آنذاك، فكانت ضئيلة للغاية، لا تتعدى
الـ5000 مقاتل تقريبًا، مؤلفةً من خليط من
الجنود النظاميين وغير النظاميين، من
متطوِّعين وبدو وعدد قليل جدًّا من المدافع؛
فتمَّ سحقُها في خان ميسلون على مشارف دمشق.
وقتل يوسف العظمة في أثناء المعركة، ودخلت
القوات الفرنسية إلى دمشق بتاريخ 25 تموز 1920. انهارت
المملكة العربية، وبدأ الانتداب الفرنسي على
سوريا الذي دام ربع قرن، وطُرِدَ الملك فيصل
ونفي إلى إيطاليا. وفي العام 1921 نُصِّبَ ملكًا
على العراق، حيث بقي حتى وفاته في العام 1933.
وبذلك تقلَّصت مساحة سوريا الكبرى، أو "بلاد
الشام"، إلى 185000 كم2
بدلاً من 300000 كم2،
يحدُّها من الناحية الشرقية والجنوبية
الشرقية خطٌّ مستقيم رُسِمَ عبر الصحراء. ربع
قرن من الانتداب لازمَها ربعُ قرن من
الخلافات والصِّدامات حول مفاهيم مختلفة،
وسياسات خاطئة، وتصرفات غير مسؤولة، من قبل
السلطة المستعمِرة. وكانت أهم هذه الخلافات
تتمحور حول أربعة أمور رئيسية تسبَّبتْ في
صراع دائم وعدم استقرار سياسي في المنطقة،
منذ ذلك الحين وحتى هذا التاريخ، وهي:
الاستقلال، لبنان الكبير، تقسيم سوريا إلى
دويلات في عهد الانتداب، إقرار الوجود
اليهودي الصهيوني في فلسطين. حَكَمَ
سوريا خلال عهد الانتداب، على التوالي، اثنا
عشر حاكمًا عامًّا، أو مفوضًا ساميًا عن
الفرنسيين، يضاف إليهم الثالث عشر، وهو جان
شياب الذي مات بعد يومين من تعيينه، قبل أن
يصل إلى سوريا، حيث أسقطتْ طائرتَه فوق البحر
المتوسط طائرةٌ مقاتلة ألمانية أو إيطالية
بتاريخ 17 تشرين الثاني 1940. وكان نصف هؤلاء
الحكام أو المفوضين من العسكريين، والنصف
الآخر من المدنيين الذين ينتمون إلى السلك
الدبلوماسي أو إلى طبقة موظفي الدولة الكبار.
ويجدر الذكر بأن السلطة في الشرق طُبِّقتْ
بشكل مباشر بين العامين 1920 و1925 من قبل ثلاثة
جنرالات من أبطال الجيش الفرنسي خلال الحرب
العالمية الأولى، المشبعين بروح الإمبريالية
الاستعمارية، في أفريقيا، بشكل عام، وشمال
أفريقيا، بشكل خاص، وهم الجنرالات غورو
وفيغان وساراي. أما
بعد انتهاء الثورة السورية الكبرى (1925-1926) فقد
مارست السلطة المنتدبة سياسة ليبرالية
نسبيًّا، قبل أن تعود إلى منهج السلطة
المباشرة عند اندلاع الحرب العالمية الثانية
في العام 1939. وبذلك يمكن القول بأن الانتداب
بدأه أحد العسكريين في العام 1920 – وهو
الجنرال غورو – وأنهاه عسكري آخر في العام 1946
– وهو الجنرال بينيه. وحيث
إن هذا المقال يصبُّ في مجال الثقافة العامة
أكثر مما يصبُّ في المجال التاريخي
الأكاديمي، لا يمكن الإسهاب هنا في ذكر جميع
الوقائع والأحداث الغنية والمعقدة جدًّا
التي سبقت عهد الانتداب أو تزامنت معه؛ لذا
أرجو من القارئ الراغب في التوسع في هذا
الموضوع الرجوع إلى لائحة المراجع الأجنبية
والعربية المذكورة في الصفحة الأخيرة من هذا
البحث.* وسأحاول
هنا تلخيص هذه الفترة من تاريخنا، مع بيان
النتائج السلبية والإيجابية للعهد الانتدابي
الفرنسي، وما تبقى منه في التاريخ أو في
الذاكرة العامة المشتركة. بالنسبة
للتاريخ، كان هذا العهد – ومازال حتى الآن –
مثيرًا للجدل. إن قادة القوى المستعمرة
الأوروبية في ذلك الحين، ممَّن خطَّطوا لنظام
الانتداب أو وضعوه موضع التنفيذ، كانوا
جميعًا أبناء القرن التاسع عشر، وهو عصر
الاستعمار في أوْجِ عظمته؛ وهؤلاء لم يروا،
أو لم يرغبوا في أن يروا، بأن نهاية الحرب
العالمية الأولى (1914-1918) كانت أيضًا نهاية
عالم بائد، وأن انهيار الإمبراطوريات
الأوروبية الأربع كان بمثابة انهيار نظام
سياسي كان يطغى على الشعوب والبلدان. إن
الحركات الوطنية بدأت مسيرها، ولن يتمكَّن
أحد أو شيء، منذ ذلك الحين، من الوقوف في
وجهها لمنع الشعوب من المطالبة باستقلالها
ونيله. تكلَّمتُ،
في بداية هذا المقال، عن فشل سياسة الانتداب؛
يتمحور هذا الفشل حول عدة نقاط رئيسية: 1.
فشل مهمة فرنسا – وهي
الدولة المنتدبة – في ترشيد الدولة الواقعة
تحت الانتداب – وهي سوريا – ومرافقتها نحو
الاستقلال. 2.
تقسيم سوريا إلى عدة
دويلات، ثم ضمُّها لاحقًا في دولة واحدة، ضمن
حدود مفروضة، غير مطابقة للواقع الجغرافي
والتاريخي للبلاد. 3.
معارضة سوريا وحكومتها
المحلية في ممارسة حقِّها الشرعي وصلاحياتها
الدستورية، رغم إعلان المفوَّض السامي هنري
بونسو، بتاريخ 22 أيار 1930، لـلـ"دستور
الأساسي" لدول المشرق الواقعة تحت
الانتداب الفرنسي. 4.
رفض منح استقلال سوريا
المعلن بتاريخ 9 حزيران 1941 من قبل فرنسا
الحرَّة وممثِّلها في بلاد الشرق الجنرال
كاترو. 5.
الجلاء النهائي للقوات
الفرنسية بتاريخ 23 تموز 1939 عن سنجق
الإسكندرون – وهو أرض سورية خاضعة للانتداب
الفرنسي – وذلك لصالح تركيا، كثمن يُدفَع
لضمان حيادها في الحرب العالمية الثانية. 6.
اتِّباع سياسة نقدية ومالية
ذات نتائج سلبية على سوريا، مع إصدار نقد
ورقيٍّ محليٍّ مرتبط بالفرنك الفرنسي. 7.
أخيرًا، فشل فرنسا في وضع
أسس لـ"سياسة عربية" متوازنة، ومعارضتها
لأية مساندة للتيار الوطني العربي. لكن،
رغم الفشل السياسي الذريع، لا بدَّ أن تُعطى
فرنسا حقَّها نظرًا لتأثيرها الإيجابي في
مجال عملها الإداري الذي بقيت آثارُه العميقة
في سوريا حتى أيامنا هذه. لقد
دعَّم الانتداب قواعد الدولة الحديثة التي
أُسِّست في العهد الفيصلي. ولتحقيق هذا
الهدف، فرض الانتداب سلطتَه بواسطة الجيش
والدرك والشرطة لضمان النظام والأمن. لكن هذا
الجهاز القمعي رافقتْه أيضًا عملية إصلاح
وتطبيق للعدالة والقانون، بما يضمن الهدوء
والأمن في كافة البلاد. كما
طاول الإصلاحُ أيضًا مجالات أخرى: الصحة
والنظافة العامة، تنظيم وتسجيل الأراضي
والممتلكات (كادسترو)، بناء الطرق، تحضير
البدو الرحَّل، زيادة مساحة الأراضي
المزروعة، إبراز ثروة الآثار والتراث، تدريب
وتنظيم نواة الجيش الوطني، المؤلَّف من فرق
المشاة العرب والخيَّالة الشركس والكتائب
الدرزية والأرمنية. إن كافة هذه الفرق كانت
تؤلف ما أُطلِقَت عليه تسميةُ "القطعات
الخاصة" لجيش المشرق التي كان يقودها ضباط
فرنسيون. وكان
الأهم من ذلك هو مجال الثقافة والتعليم الذي
امتدَّ إلى أوساط شعبية مختلفة واستفاد منه
عددٌ كبير نسبيًّا. لقد طُبِّقَ نظامُ
التعليم في المدارس بشكل صارم وفعَّال. وكانت
هذه الجدِّية في العمل تُطبَّق على جميع
التلاميذ والطلاب، سواء كانوا ينتمون إلى
المدارس الخاصة أو إلى المدارس الحكومية
والجامعات. إن
أجيال الطلاب السوريين الذين تخرَّجوا من هذه
المدارس – وكان معظمهم متمكِّنًا من اللغتين
العربية والفرنسية على حدٍّ سواء – هم الذين
شكَّلوا النخبة المثقفة في البلاد التي قادت
سوريا إلى الاستقلال ودعَّمتْ، خلال العشر
السنوات اللاحقة لهذا الاستقلال، الأعمال
الإيجابية للانتداب. كثير
ممَّن عاشوا فترة الانتداب، من فرنسيين
وسوريين، حفظوا في ذاكرتهم ذكريات مختلفة
ومتضاربة لم يطوِها النسيان. وقد يتفق أكثرهم
تقريبًا على نقطة واحدة، وهي أن فترة
الانتداب يمكن اعتبارُها نجاحًا إداريًّا
وتنظيميًّا، ولكنها فشل سياسي. ويندر
أن نجد اليوم في الذاكرة الجماعية الفرنسية
من يتذكر هذه الفترة من الزمن. أما بالنسبة
للأجيال الفرنسية الجديدة فإنها تجهل تمامًا
بأن سوريا كانت، يومًا ما، جزءًا من
الإمبراطورية الفرنسية. وفي الواقع فإن سوريا
دخلت، بالنسبة إليهم، في عالم النسيان حال
انتهاء الانتداب. وربما كانت لذلك أسبابٌ
عديدة: -
فشل فرنسا السياسي على جميع
الأصعدة، وما دفعتْه ثمنًا غاليًا من الرجال
والأموال. -
تتالي الحوادث المؤلمة
والصِّدامات الدموية، كالحرب الأخوية في
العام 1941 التي جَرَتْ بين القوى الفرنسية
بقيادة الجنرال دانتز، الموالية لنظام فيشي،
وبين القوى الفرنسية الحرَّة بقيادة الجنرال
كاترو. -
ضم الأتراك لسنجق
الإسكندرون في العام 1939، عند انسحاب القوات
الفرنسية منه. إن جلاء القوات الفرنسية عن هذه
الأرض كان بمثابة خيانة لسوريا وللسوريين
الذين اتَّهموا فرنسا بالمساومة على جزء من
الأرض الوطنية. -
في العام 1945 أمر الجنرال
أوليفا–روجيه بإطلاق المدافع على دمشق وعلى
مبنى البرلمان. هذا العمل غير المسؤول، الذي
تسبَّب في دمار بعض أحياء دمشق وموت مئات من
المدنيين وعدد من رجال الشرطة والدرك
الموجودين للحراسة في مبنى البرلمان، هو الذي
ألزم القوات البريطانية بالتحرُّك الفوري
للتصدِّي وتحييد القوات الفرنسية. كانت في
ذلك إهانة مريرة لفرنسا؛ تبعتْها إهانة أمرُّ
منها، عندما طُرِدَ الفرنسيون بعدها من دمشق،
بدون أية مهلة. وبذلك سقط الانتداب وزال عن
سوريا وهو غارق في العار.
-
أخيرًا – وكأن عار فرنسا لم
ينتهِ بعدُ – فإن عدة جنرالات فرنسيين ممَّن
حكموا بلاد المشرق وقادوا جيشه في أثناء
الانتداب، وهم: دانتز وهانتزجر وغامِلان
وميتِّلهاوزر، قُدِّموا للمحاكمة العليا في
فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية
بتهمة الخيانة. على
هامش الحوادث والتوترات السياسية التي رافقت
فترة الانتداب فإن سوريا اتَّجهت بسرعة نحو
التحديث والتطوير، وذلك دون اضطرابات أو
أزمات حادِّة. فحَدَثَ تطورٌ بطيء – لكنه
دائم – في المجتمع، أثَّر بشكل ملحوظ على
الفكر وعلى نظم الحياة والعيش. فلا ننسى أن
فرنسا، في الفترة الواقعة بين الحربين
العالميتين الأولى والثانية، كانت لا تزال
دولة عظمى، تمثِّل، في نظر الكثير من الشعوب
في العالم، قدوةً في الحضارة والثقافة وأصول
التصرف في الحياة الاجتماعية. أما
بالنسبة للسوريين الذين عُرِفوا دومًا
بالانفتاح الفكري والطبيعة السمحاء – وهم
الذين ساهموا في الماضي القديم في تكوين
الفكر الهلنستي – فقد اقتبسوا، في هذه المرة
أيضًا، ما تيسَّر لهم من الثقافة الفرنسية؛
فانعكس ذلك، لعشرات من السنين، على نظام
حياتي وفكريٍّ واجتماعي خاص بمدن المشرق، مثل
بيروت ودمشق وحلب، وربما اللاذقية، حيث
تمتَّع أهلُ هذه المدن بمزيج من الحضارتين
العربية والفرنسية، مع انفتاح على العالم
الغربي، أسوة ببلدان البحر المتوسط الأخرى. ومن
مظاهر هذه الحياة الجديدة وجودُ فنادق كبيرة،
مطاعم ومقاهٍ، دور للسينما ومسارح، أماكن
للسهر واللهو، مما أضاف طابعًا جديدًا على
الحياة في المدن الكبيرة. كما كانت هناك مظاهر
اجتماعية جديدة أخرى كتحرُّر المرأة (أو بعض
من النساء) التي حصلت على شهادات جامعية
وتوصلت إلى ممارسة بعض الأعمال المهنية
والسياسية، دون أن يكون في ذلك ما ينافي
العادات والأخلاق الموروثة. كما حصل أيضًا
تطورٌ في اللباس، وخاصة في المدن، حيث أصبح
الكثير من سكانها يرتدون الزي الأوروبي في
حياتهم اليومية، مع بقاء الطربوش على الرأس
للرجال؛ بينما تقتدي نساء المجتمع الراقي
والبورجوازي بالطراز الباريسي الأنيق، مع
لبس القبعة الأوروبية. وقد
نشطت أيضًا الأحزاب السياسية والصحافة، وظهر
عدد من الجرائد اليومية. وكذلك الرياضة على
مختلف أنواعها؛ فتأسست النوادي العديدة
لممارستها، كرياضات كرة القدم وكرة السلة
والكرة الطائرة وكرة الطاولة والمصارعة
والملاكمة وسباق الدراجات والسباحة والتنس
وألعاب القوى وغيرها. ولا ننسى تأسيس عدد من
النوادي الفكرية والأدبية. كما أن بعض الشباب
كانوا يمارسون الرقص الغربي، كالفالس
والتانغو والتشارلستون في بعض المنتديات أو
الاحتفالات العائلية الخاصة، وذلك على ألحان
الغراموفون والأغاني العربية والفرنسية على
حدٍّ سواء، بصوت عبد الوهاب وأم كلثوم أو تينو
روسِّي وجوزفين بيكر. وفي
تلك الفترة وَضَعَ المعماري ميشيل إيكوشار
مخطَّط تنظيم وتحديث مدينة دمشق، ونظَّم
الورشات المتخصصة لحفظ وترميم الأبنية
التاريخية، وقام ببناء المتحف الوطني للآثار
في دمشق. وكان سكان دمشق يذهبون إلى أعمالهم
اليومية سيرًا على الأقدام، أو يركبون عربة
أجرة يجرها حصانان، أو بواسطة دراجة عادية،
أو بالحافلة الكهربائية (التراموي).
وباختصار، كانت الحياة تسير في مجراها
الطبيعي، دون مشاكل أو توتُّرات في أغلب
الأحيان. أما بالنسبة للحياة الاجتماعية فكان
السكان السوريون لا يخالطون الفرنسيين
ومجتمعهم إلا في بعض المناسبات الرسمية. ويجدر
هنا أن نشير إلى ما تتمتَّع به الروح السورية
من تسامح، حيث إن جميع السوريين الذين شغلوا
وظائف حكومية أو إدارية في عهد الانتداب
الفرنسي حافظوا على وظائفهم ومسؤولياتهم بعد
الاستقلال لتأمين المرحلة الانتقالية وما
بعدها، دون أن يُنظَر إليهم نظرة حذر أو بغض
أو أن يُعيَّروا بتهمة "المتعاملين".
دمشق
15 آذار 2003 *** *** *** *
راجع آخر النص باللغة الفرنسية. (المحرِّر) |
|
|