الصفحة التالية french arabic الصفحة السابقة

إمَّا أنْ تَقَعَ كارثةٌ، وإمَّا أنْ يحلَّ السَّلام!

 

مقابلة مع مبارك عوض

 

مكث المجاهد اللاعنفي الفلسطيني مبارك عوض إبان ربيع العام 1988 مدة أربعين يومًا في سجن إسرائيلي، منتظرًا البتَّ في مصيره. وما كان لمبارك، وهو الأسير في زنزانته الانفرادية، أن يعرف أن العالم بأسره كان يتَّجه بأنظاره إلى إسرائيل الذي كان يستعد لطرده من بلده ومسقط رأسه. لقد أبعث كلٌّ من الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريغان ووزير خارجيته جورج شولتز برسائل خاصة إلى رئيس الوزراء اسحق شامير دفاعًا عن قضيته. أما السفير الأمريكي في إسرائيل فقد أكَّد أن "القدس في حاجة إلى العديد من أمثال عوض، وليس العكس".

مبارك عوض

وعلى الرغم من النداءات المتصاعدة من أرفع مستويات الحكومة الأمريكية، فقد أمرت المحكمة العليا الإسرائيلية بإبعاد مبارك عوض. فاقتيد مباشرةً من زنزانة سجنه إلى طائرة متجهة إلى نيويورك. ولدى وصوله كانت وسائل الإعلام العالمية تنتظره لكي تروي للعالم تاريخ قضيته، وتشرح كيف لجأ الشعب الفلسطيني إلى الاستراتيجيات اللاعنفية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

***

منذ العصر الباليوليثي وحتى العصر البرونزي القديم، أي منذ نحو مائتي ألف عام، عاش أناسٌ على الأراضي التي تسمَّى اليوم بإسرائيل، وكانت تُدعى سابقًا فلسطين.[1] يعود تاريخ هذه المنطقة إلى حوالى خمسة آلاف عام، إلى حقبة كانت تقطن هذه الأراضي فيها قبائل وثنية رُحَّل أتت من الشرق. إن قصة إبراهيم – وهي أساسية لفهم مطالب إسرائيل بهذه الأرض – إنما مصدرها التوراة، وهي ترجع إلى نحو ألفي سنة قبل الميلاد.

ترك إبراهيم وأسرته، لأسباب غير معروفة، مدينة أور البابلية، وعبروا النهر واتجهوا صوب الشمال الغربي. فكلمة "عبراني" تعني "العابرون" أو "القادمون من الضفة الأخرى للنهر". وعندما وصل إبراهيم إلى حرَّان، الواقعة في تركيا الحالية، عاش تجربة دينية. ويوضح سِفْر التكوين أن إبراهيم كان قد أبرم عهدًا مع الله: فإن وافق إبراهيم على أن يُختَن جميعُ الذكور في اليوم الثامن بعد ولادتهم، فإن الله سيعتبر، من جانبه، أن نسل إبراهيم هو "الشعب مختار" وسيهبه أرض كنعان (إسرائيل الحالي).

وهكذا بدأ شعب إبراهيم بالاستقرار على أطراف "أرض الميعاد"؛ لكن الإسرائيليين[2] لم يتمكَّنوا من إخضاع الكنعانيين، عبدة الأوثان، ومن الاستيلاء على أرضهم قبل العام 1200 ق م. وبعد ذلك بقرنين، أسَّس الملك شاول وخليفته الملك داود إمبراطورية واسعة وقوية، عاصمتُها السياسية أورشليم. بيد أن هذا الازدهار لم يُكتَب له الدوام.

إن النزاعات التي نشبت بين مملكتي يهوذا[3] وإسرائيل العبريتين قد أضعفت الإمبراطورية. فهاتان المملكتان كانتا تتناهشان السلطة على التتابع إبان القرون التالية. وقد اضطر عددٌ من اليهود إلى الهرب. أما مَن بقي منهم فمرارًا ما خضع للاستعباد، كما وقعت مجازر جماعية. وإبان مئات السنين، بَسَطَ الفرس والرومان والإغريق سيادتهم على اليهود، على درجات متفاوتة من التساهُل أو التشدد.[4]

في غضون ذلك، هاجرتْ إلى الأرض الموعودة قبائل قوية آتيةً من الصحراء العربية. ففي القرن السابع بدأ العرب البدو والقرشيون ببسط نفوذهم على المنطقة التي أسموها فلسطين. وقد ولد النبي محمد، مؤسِّس الإسلام القرشي، في مدينة مكة سنة 570 ميلادية. وبفضل نفوذه، كما بفضل قوة جيوشه، وجد المسلمون أنفسهم يسودون على إمبراطورية واسعة تمتد اليوم بين شمال أفريقيا وإندونيسيا.

بذلك ترسَّخ مذ ذاك الإطارُ التاريخي للنزاع بين اليهود والعرب على أرض الميعاد. ومع أن فاتحين آخرين – من أتراك وسلاجقة وعثمانيين وصليبيين مسيحيين ومغول آتين من آسيا ومماليك من مصر – قد سادوا على البلاد إبان الألف التالي، فإن عرب فلسطين ظلوا يشكِّلون غالبية سكان المنطقة. وإبان القرن التاسع عشر، كان يهود الشتات مازالوا على تمسكهم بفكرة عودة ممكنة إلى الأرض الموعودة. أما العرب، يحرِّكهم الأملُ نفسه، فقد كانوا يحلمون بطرد المحتلِّين الأتراك واستعادة فلسطين.

كانت آمال العرب تستند على الاتِّفاق الذي كانوا يظنون أنهم أبرموه مع البريطانيين إبان الحرب العالمية الأولى. ففي مقابل الدعم العربي من أجل طرد الأتراك من شبه الجزيرة العربية، وَعَدَ البريطانيون بالاستقلال العربي وبإقامة دول عربية بعد الحرب، بما فيها دولة فلسطينية. بيد أن الجالية اليهودية، في أوروبا وفي الولايات المتحدة، كانت قد ضمنت لنفسها دَعْمَ الحلفاء، واستحصل الإنكليزُ من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا موافقتَها على تأسيس دولة يهودية في قلب فلسطين نفسها. في أعقاب ذلك، بدأ اليهود بالهجرة بأعداد كبيرة إلى فلسطين. صُدِمَ العالم العربي؛ وتصاعد التوتُّر بين عرب فلسطين ويهودها، ونشبت معارك متفرقة.

شكَّلتْ نهايةُ الحرب العالمية الثانية منعطفًا حاسمًا بالنسبة لليهود. فتحتَ وطأة صدمة مقتل ستة ملايين من اليهود، أرادت غالبيةُ العالم المتحضِّر تقريبًا المشاركةَ في إيجاد دولة عبرية.[5] وقد انعقدت لجنةٌ خاصة من الأمم المتحدة في العام 1947 لاقتراح خطَّة للتقسيم وإقامة دولتين منفصلتين في أرض فلسطين، إحداهما للعرب والأخرى لليهود. رفض العرب قطعيًّا هذه الخطة: أي أنهم رفضوا أن يتخلوا عن 55% من الأراضي – هي الأفضل بنظرهم – لليهود الذين كانوا لا يشكِّلون آنذاك سوى ثلث سكان فلسطين.

وفي الوقت الذي كان مصيرُها يتقرَّر، كانت فلسطين خاضعةً للانتداب البريطاني، وكانت الفوضى تعمُّ المنطقة. وعندما أصبح اندلاع الحرب أمرًا وشيكًا انسحب البريطانيون من فلسطين، وفي الرابع عشر من أيار 1948 احتفل اليهود بقيام إسرائيل، معلنينها دولةً لجميع اليهود، أيًّا كان مكان إقامتهم. بعد ذلك بوقت قصير، انتصر اليهود، خلافًا لكلِّ التوقُّعات، على الجيوش المصرية والأردنية والعراقية والسورية واللبنانية، المتحدة لـ"رمي إسرائيل في البحر" ولحماية فلسطين نصرةً للعرب الفلسطينيين.

منتشين بفرحهم وخيلائهم، أعلن اليهود للعالم أنهم، بعد ألف وثمانمائة عام من التشرد، وجدوا "أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض"، متناسين، مع الأسف، أن يشيروا لا إلى ملايين الفلسطينيين العرب الذين يعيشون في فلسطين ويشكِّلون غالبية سكَّانها فقط، بل وكذلك إلى أجداد هؤلاء العرب الذين عاشوا فيها طوال ثلاثة عشر قرنًا.

وإبان هجوم شرس، تمَّ التحضير له جيدًا، طرد الإسرائيليون الجاليات العربية من المناطق الريفية والمدنية، مجبرين بذلك نحو 700000 شخص على النزوح من البلاد. وقد تمَّ تدمير أربعمائة قرية وقُتِِلَ آلافُ الفلسطينيين العرب أو أُجبِِروا على الرحيل. وهكذا ذهب الكثير من الفلسطينيين للعيش في أماكن مزرية، سواء في بلدان عربية مجاورة أو في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي العام 1967، نشبت حرب الأيام الستة، التي ضمَّ إسرائيل بعدها بقية الأراضي الفلسطينية، بينما احتلَّ جنودٌ ومستوطنون يهود الضفة الغربية وقطاع غزة.

في هذه المنطقة التي تعجُّ بالاضطرابات، ولد مبارك عوض في 22 آب 1943 في القدس، في البيت نفسه الذي رأى فيه والدُه النور من قبله. وفي العام 1948، رفض والد مبارك أن ينصاع للإسرائيليين الذين أرادوا طرده من بيته، فقُتِل برصاصة وهو يحمل صديقًا جريحًا إلى مكان آمن. والذكرى الوحيدة التي يحملها مبارك عن والده هي أنه "كان يرميني في الهواء".

كان على الأمِّ التي بقيت وحيدةً مع سبعة أولاد – أصغرهم له من العمر أربعين يومًا فقط، بينما لا يزيد عمر أكبرهم عن العاشرة – أن تترك البيت للإسرائيليين الذين كانوا يهدِّدون بصفِّ أولادها أمام جدار وإعدامهم. وبسبب عجزها عن القيام بأودهم اضطرت إلى وضع خمسة منهم في دور للأيتام. لكنَّها واظبت على زيارتهم بانتظام، ورفضت على الدوام التخلِّي عن حقِّ الوصاية عليهم. ومع أنها لم تستطع قط أن تقدِّم لأسرتها ملاذًا، إلا أنها استمرَّت في ممارسة تأثير معنوي لا يستهان به عليهم طوال تلك الأعوام. فقد لقَّنتْهم القيم المشتركة عند المسيحيين والكويكرز Quakers، كالخدمة والمحبة، معلِّمةً إياهم أن "لا يطلبوا الثأر أبدًا" وطالبةً منهم أن يعملوا كلَّ ما في وسعهم لكي "لا تعاني أمَّهاتٌ أخريات [مثلها]".

كان مبارك محظوظًا. فلقد وُضِعَ في كنف عائلة كيتي أنطون، حيث عاش حتى حصوله على البكالوريا. وفي أحد الأيام، سأل صديقٌ أمريكيٌّ شابٌّ، اتفق له أن يزور كيتي، عن وسيلة لمساعدة الفلسطينيين، فاقترحت عليه أن يجمع مالاً يساعد مبارك وشقيقه على الدراسة في مدرسة القديس جورج الخاصة في القدس. وافق الأمريكي، وتمكَّن الصبيان من الانتساب إلى واحدة من أهمِّ مدارس البلد.

عندئذٍ بدأ مبارك يهتم بالدين، وخصوصًا بالمسيحية. وقد قرَّر بعد الثانوية أن يصبح قسًّا، وحصل على منحة للدراسة في معهد لي Lee College في كليفلاند، تينيسي، التي وافاها في العام 1959. لكن عوض لم يكن مسرورًا في ذلك المعهد؛ إذ لم يرتح إلى الطريقة التي كان يعامَل بها السود في الجنوب، كما أنه لم يستسغْ المقاربة الإنجيلية للمدرسة. فعاد إلى بلده ليعمل في دار منونية[6] للأيتام الصبيان، حيث علَّم اللغة الإنكليزية والرياضيات والدين حتَّى العام 1969.

في العام 1970 عاد عوض إلى الولايات المتحدة، ليدرس هذه المرة في معهد بلافتون Bluffton College في أوهايو. في أثناء ذلك، وثَّق اهتمامه بعقائد المنونيين والكويكرز حول اللاعنف، وخصوصًا بـ"إعلان السلام"[7]، ولاسيما في وجوهها العملية التي طبَّقها في عمله مع الجانحين الشباب في بلافتون. في أثناء إعداده للماجستير في علم النفس في جامعة القديس فرنسيس في إنديانا، عمل عوض كمعالج للمجموعات ومعالج أسري للأطفال الجانحين. وفي وقت لاحق، في العام 1978، وضع برنامجًا لمساعدة ومساندة الجانحين الشباب في الأسر والمدارس.

قرَّر عوض، وقد تسلَّح بنجاحه مع الشباب، العودةَ إلى بلده، حاملاً إليه ما تعلَّمه، فافتتح في العام 1983 عيادةً علاجية للفلسطينيين في القدس. كان الشباب الفلسطينيون الذين يقاتلون ضد الاحتلال الإسرائيلي موضع افتخار عوض. ففي كتاب بعنوان أطفال الحجارة، كان نشره قبل بضع سنوات، أشاد بشجاعة الشبان الذين يرمون بالحجارة الجنودَ الإسرائيليين. وهو يشرح أن الحجارة هي عمومًا السلاح الوحيد المتاح للفلسطينيين، وأنها صارت رمزًا بنظر شعبهم. لكن مبارك عاد بعد سنوات ليبدي أسفه على أفكاره الأولى، ذلك أن "الحجارة تجعل الناس يهربون".

وسرعان ما لاحظ عوض أن الفلسطينيين يولون وضعهم السياسيَّ اهتمامًا أكبر منهم للوسائل العلاجية القادرة على مساعدتهم في حلِّ صعوباتهم. وفي مقال مطوَّل، ومُلهَم في الوقت نفسه، نُشِر فيما بعد في القدس، اقترح 120 طريقة لاعنفية لوضع نهاية للاحتلال الإسرائيلي. وقد شرح الأمر كما يلي: "علينا أن نتصرف بما يجعل الاحتلال مُكْلِفًا جدًّا لإسرائيل، وذلك على الأصعدة الاقتصادية والنفسية والأخلاقية"، مضيفًا: "يملك الفلسطينيون خيار أن يكونوا خاضعين للاحتلال أو لا." وهو يرى أن الفلسطينيين قد "تعوَّدوا على الاحتلال"، وهم يلقون على كاهل الإسرائيليين بجميع مشكلاتهم، من نقصان البُنى الصحية إلى جنوح الشباب. لذا دعا عوض الفلسطينيين إلى الأخذ بناصية أمرهم أيضًا، قائلاً لهم: "أنتم وحدكم قادرون على تقرير أمر مستقبلكم."

لقد تعلَّم عوض تقنيات اللاعنف إبان سنوات دراسته ورحلاته إلى الهند، حيث غاص في أفكار المهاتما غاندي. كان مارتن لوثر كنغ والحركة الأمريكية للدفاع عن الحقوق المدنية ينبوعين آخرين لإلهامه. وبعد وقت قصير من نشر مقاله، نظَّم عوض ورشة عمل لمدة ثلاثة أيام لمناقشة أفكاره، وقد أدهشه للغاية أن يشارك فيها مئاتٌ من الأشخاص، منهم مَن يؤيد صراحةً النزاعَ المسلَّح من أجل تحرير الشعب الفلسطيني.

اضطر مبارك عوض إلى العودة إلى أوهايو، حيث كان عملُه في انتظاره. بيد أن بذرةً كانت قد أُلقيَتْ في القدس؛ ولسوف تضرب هذه البذرة جذورًا. كان عوض يعرف أن الشوط القادم سيكون تأسيس مركز للدراسات حول اللاعنف في القدس، مع كونه غير مزوَّد بعدُ بأية إمكانات مادية لإنجاز مشروعه. بيد أن المقال الذي نشره، والذي كان قد حظي بالكثير من القرَّاء، وقع يومًا بين يدي هشام شرابي، الأستاذ الفلسطيني الأمريكي في جامعة جورج تاون. لقد استرجع شرابي كلَّ ذكريات تربيته الكويكرية في رام الله، شمال القدس، منبعثة فيه من جديد. وهكذا اتصل بعوض وقدَّم له دعمًا ماديًّا ليساعده على فتح مركزه للدراسات في القدس. وهكذا، مرةً أخرى، أتاح كرمُ شخص غريب لعوض أن يحقِّق أحلامه.

وهكذا عاد مبارك عوض في العام 1985 إلى القدس، حيث أسَّس "مركز الدراسات الفلسطيني للاعنف"، بهدف أن يستخلص من الأدب العربيِّ ومن النصوص الإسلامية كلَّ ما يمت بصلة إلى المصالحة والسلام والعدالة واللاعنف، وذلك لكي يفهم الفلسطينيون أفكاره انطلاقًا من إرثهم الثقافي الخاص. إذ لقد اقتنع بأن هذا العمل سيسمح للناس بأن يطوِّروا أفكارهم، وبأن "هذه الأفكار ستكون جميلةً بالضرورة".

لم يقم عوض بأكثر من تأسيس مركز للدراسات، لكن الإسرائيليين وجدوا الوسيلة المناسبة لعرقلة مشروعه. صار عرضةً للتوقيف المتكرِّر، في أغلب الأحيان من أجل مخالفات بسيطة (عدم تشغيل غمَّازتي سيارته أو مجرَّد التنزه في الطريق)، وعُذَِّب عدة مرات. "كلما كنتُ أزداد تنظيمًا، كان الإسرائيليون يزدادون ميلاً إلى الإحساس بالتهديد. أعتقد أنهم ما كانوا يريدون أن يصدِّق أحدٌ بأن فلسطينيًّا يهتم باللاعنف."

بعد دراستهم الاستراتيجيات اللاعنفية، ارتأى الفلسطينيون بأن الأوان قد آن للانتقال إلى العمل. ربما كان من قبيل الشطح أن تُنسَب الانتفاضة، أو حرب الحجارة، إلى عوض؛ لكن تأثيره في الانتفاضة، التي قامت في الثامن من كانون الأول 1978، بيِّن قطعًا. كانت حركة مقاومة مليون وثلاثمائة ألف فلسطينيٍّ يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحسب عوض، "لاعنفية بنسبة خمسة وثمانين في المائة"، وتنظِّمها وتوجِّهها، في معظمها، نساءٌ.

انخرط الفلسطينيون عن قناعة، كما علَّمهم مبارك عوض، في حملة عصيان مدني: رفضوا، على سبيل المثال، أن يدفعوا ضرائبهم أو أن يطلبوا التراخيص اللازمة للقيام بعملياتهم التجارية. وقد بقيت المدارس مغلقةً لبضعة شهور، بينما كان الأطفال يحضرون الدروس سرًّا، فيخاطر المعلِّمون بهذه الطريقة بتعريض أنفسهم للسجن عشر سنوات أو للتهجير أو لهدم منازلهم. رفع الفلسطينيون علَمَهم وكتبوا شعارات الحرية على جدران منازلهم، مقاطعين المنتجات الإسرائيلية وحارقين الدواليب للاحتجاج على الاحتلال. وكردِّ فعل، عمد الإسرائيليون إلى حملة اعتقالات واسعة وإلى الضرب المبرِّح وإلى التصفية الجسدية (قضى مئات الفلسطينيين نحبهم إبان هذه الانتفاضة). ولكن على الرغم من حظر التجوُّل المتكرِّر، فإن الشعلة التي أُضرِمَتْ في قلوب الفلسطينيين ظلَّت على اتِّقادها، وقد علموا أنهم، للمرَّة الأولى، كسبوا تعاطُف العالم.

يشرح مبارك عوض أنهم يريدون حلَّ "اثنان باثنين" (أي دولتين لشعبين)، كما تطرح منظمة التحرير الفلسطينية، حكومة الشعب الفلسطيني في المنفى آنذاك. لقد وُصِفَ هذا الموقف بأنه شديد الاعتدال في نظر الفصائل العربية الأشد تطرفًا، لكنَّه، بنظرهم، الأمل الواقعي الوحيد بأن يعودوا يومًا إلى بلادهم.

منذ إبعاده من إسرائيل في العام 1988، لم يوفِّر مبارك عوض جهدًا كي يلهم استمرارًا لاعنفيًّا للانتفاضة. تستشيره بانتظام حول القضية أعلى المستويات في الإدارة الأمريكية وفي منظمة التحرير، وهو واحدٌ من مؤسِّسي "اللاعنف الدولية" Nonviolence International، وهي منظَّمة بمقدورها تقديم المشورة للحكومات والمؤسِّسات التي تهتم بالعمل اللاعنفي. تملك المنظمة الرئيسية التي أسَّسها عوض، أي "المركز الفلسطيني للدراسات اللاعنفية"، مكتبين في واشنطن وفي القدس. أما هو فيعيش حاليًّا (مع زوجته الثانية) في ولاية ماريلاند في الولايات المتحدة.

كنتُ قد قابلت عوض عندما أتى ليلقي محاضرات في بركلي حول "الاستراتيجيات اللاعنفية في الانتفاضة الفلسطينية"؛ وقد ذهبت منتهزةً الفرصة لإجراء مقابلة معه في سان فرانسيسكو. وما أن انقضت دقائق قليلة على وجودنا معًا حتى تملَّكتْني القناعةُ في مقاربته اللاعنفية للمشكلات. تعطَّلتْ على نحو مفاجئ آلةُ التسجيل التي كنت أحملها عندما أردت تسجيل محادثتنا. وإذ رآني في ورطة، أراد أن يزجَّ بنفسه فيها معي، وبدأ يعالج بصبر الأزرار والأسلاك. وبعد عشرين دقيقة تبيَّن لنا أن علينا أن نحلَّ المشكلة باستعارة آلة تسجيل من البناء الذي كنَّا فيه، الأمر الذي أجبرنا على التنقُّل عدة مرات. ولم أشعر إبان هذا الوقت كلِّه بأيِّ نفاد صبر من جانبه؛ بل على العكس، أصبحتْ مشكلتي التقنية تخصُّه أيضًا. وعندما جلسنا لنبدأ الحوار لم أكن مرتبكة ولا قلقة من كوني لم أختبر الجهاز قبل استعماله، بل كنت أشعر بالأحرى بأني ومبارك خرجنا منتَصِرَيْن من هذا الامتحان، بفضل مثابرتنا.

كاثرين إنغرام

***

 

مقابلة مبارك عوض

سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، 7 نيسان 1989

 

كاثرين إنغرام: مبارك، هل لقناعاتك الروحية من تأثير على عملك؟

مبارك عوض: أعتقد أنني في مطلع حياتي لم أكن أفكِّر إلى هذا الحدِّ في النظر إلى العالم، بل بالأحرى إلى المقرَّبين مني، أي أسرتي، أشقائي وشقيقاتي ووالدتي. تلك كانت روحانيتي، ولم أكن أنظر فعليًّا أبعد من ذلك. لكني، عندما رأيت الكويكرز والمنونيين وإرساليات أخرى يأتون لمساعدة الفلسطينيين، قادني ذلك إلى طرح أسئلة من نحو: "من هم هؤلاء الكويكرز؟ من هم المنونيون؟ لماذا يهبُّون إلى مساعدتنا؟" كنت أريد أن أعرف فيما إذا كان ثمة سبب سياسي أو ديني من وراء ذلك كلِّه؛ ولقد اكتشفت أن جميع هؤلاء الناس كانوا يقدمون المساعدة لأن الناس كانوا يواجهون صعوبات وكانوا يحتاجون إلى المساعدة. وبدءًا من هنا، بدأت أهتم بالمنونيين وبالكويكرز.

كاثرين: لقد ألهمك ما كنتَ ترى، لكنَّ دوافعهم ألهمتْك أيضًا.

مبارك: قطعًا.

كاثرين: ما هي المعتقدات التي استفدتَها من تربيتك ككويكري أو كمسيحي والتي تساعدك على متابعة حركتك؟

مبارك: إن ما يؤثر فيَّ، كمسيحيٍّ، أكثر ما يؤثر، هو فكرة الغفران ومساعدة الآخرين. ولهذا السبب أعمل في الشأن الاجتماعي، كمستشار ومعالج نفسي. اتفق لي أن أنعم بمَلَكة مساعدة الآخرين وتعليمهم أن يساعدوا أنفسهم. إنه أمرٌ أعرف جيدًا كيف أقوم به.

الأمر الذي فهمتُه من الروحانية هو أن قبسًا من الله موجودٌ في كلِّ واحد منَّا. إنه مفهوم من المفاهيم الكويكرية التي أشعر بها بقوة. سابقًا كنت أفكِّر على هذا النحو: "كيف يمكن لقبس من الله أن يوجد في شخص لا أحبه، في شخص يفعل السوء، أو حتى فيَّ عندما أكون غاضبًا؟ أين الله عندما أكون في أمسِّ الحاجة إليه؟" لكني فهمت فيما بعد أن الله موجود في كلِّ واحد منَّا فعلاً. ولهذا السبب علينا أن نميِّز بين المرء وبين أعماله. ما من إنسان سيِّئ؛ ما من صبيٍّ شرير أو فتاة شريرة؛ وحدها أعمالهما يمكن لها أن تكون سيئة.

بعضهم يعاني من مشكلات أكثر من الآخرين؛ فلنعمل أيضًا على معالجة هذه المشكلات بدلاً من أن نقول للشخص: "أنت كاذب" أو "أنت سارق". بل لنقل له بالأحرى: "لديك مشكلة مع الأكاذيب" أو "لديك مشكلة مع السرقة".

كاثرين: لقد قال غاندي شيئًا قريبًا من هذا، استمدَّه من المسيحية: "علينا أن نكره الخطيئة، لا الخاطئ." غير أن هذا لا يعني أن فينا ميلاً إلى تشخيص personalize الخطيئة.

أود أن أتحدَّث عن الإسلام، ذلك أنني أعرف أنك قد درست الإسلام أيضًا، وأنك نشأت في جوار عدد كبير من المسلمين. كثير من الناس يرون أن الإسلام دين عنيف، يُكرِه الناسَ على اعتناقه قسرًا، ويقيم حدودًا قاسية على العُصاة، ولا يتسامح مع المعتقدات الأخرى. وكما تعلم قطعًا، فإن وسائل الإعلام سلبية نوعًا ما تجاه الإسلام.

مبارك: أعتقد أن ما يهدف إليه الإسلام، كما تهدف المسيحية واليهودية وسائر الأديان، هو مساعدة الناس على العيش معًا بسلام. يهتم الإسلام، على نحو خاص، بالعدالة الاجتماعية. على سبيل المثال، لا يفرِّق الإسلام، تقليديًّا، بين السود والبيض، بين الفقراء والأغنياء. عندما يذهب المسلمون للصلاة في مكَّة يرتدون جميعًا الزيَّ نفسه، ولا يستطيع أحدٌ أن يعرف ما إذا كان الشخص الذي يراه ميسورًا أم لا.

الاستنارة حاضرة في الإسلام. فالرسالة التي تلقَّاها محمد من الله هي أن يدعو الناس إلى التحابِّ والتفاهم. عندما ظهر الإسلام في العالم العربيِّ كان العرب يئدون البنات الوليدات لئلا يصيبهم عارٌ من جرائهن؛ وقد وضع الإسلام حدًّا لهذه الممارسة.

في أيامنا هذه فقط، لم نعد نرى غير الإسلام الذي يمثِّله الأصوليون والعنف. بيد أن هناك عنفًا في الأديان جميعًا، بما فيها المسيحية واليهودية. ولا نستطيع أن نقول إن الناس عنيفين لمجرِّد كونهم مسلمين أو مسيحيين. عندما ظهر الإسلام كان أشبه بالمسيحية في بداياتها. بيد أن المسيحية صارت مؤسَّسة، وبدأ المسيحيون يحملون لواء الصليب، واجتاح الصليبيون البلاد غير المسيحية كي يَهدوها إلى المسيحية. وهذا صحيحٌ فيما يتعلق بالإسلام، سواء بسواء. ومن المؤسف أن الإسلام والدين الإسلامي باتا في الغرب لا يُدرَسان حقَّ درسهما.

كاثرين: هل تعتقد أن الاستراتيجيات اللاعنفية يمكن لها أن تستغني عن وسائل الإعلام؟ فعندما وقعت مشكلة حاجز تيكوا، فإنكم بفضل الإعلام إنما استطعتم كَسْبَ القضية.[8] فيما يتعلق بالعمل اللاعنفي، يرغب الناس في وضع نهاية للظلم كلما أحسَّ المزيدُ منهم بأنهم معنيون أخلاقيًّا به. هل تعتقدون بأن ذلك ممكن من دون اللجوء إلى وسائل الإعلام؟

مبارك: وسائل الإعلام تساعدنا مساعدة عظيمة. ونحن نستدعيها عمليًّا على الدوام في تحركاتنا. في الوقت الحاضر، نملك فِرَقَ تلفزيون وكاميرات فيديو وآلات تسجيل صوتية. حَسْبُ مراسل إذاعة أن يكون حاضرًا في الحين، وبعد دقائق قليلة يعرف العالمُ كلُّه بما حدث. في حالتنا، كانت إمكانية اللجوء إلى وسائل الإعلام، والتعامل بشرف معها، والتأكُّد من كونها تتفهم الوضع جيدًا، سلاحًا ناجعًا جدًّا.

إن حركات المقاومة السلبية التي تلجأ إلى اللاعنف وإلى العصيان المدني تحتاج بالضرورة إلى وسائل الإعلام. فمن دونها ستضطر إلى أن تصوِّر نفسها بنفسها لكي يعرف الناس ما الذي حَدَثَ، في بلادهم وفي أنحاء العالم كافة.

في حالتنا، أظهر الإسرائيليون، حيال وسائل الإعلام، أنهم متحضِّرون وأنهم يؤمنون بالعدالة وبالإنصاف.

كاثرين: ما هو رأيك في المواقف التي لا تستفيد من تغطية إعلامية؟ يخطر ببالي، على سبيل المثال، سكَّانُ التيبت المحتل. إنهم يخوضون، منذ ما ينوف على أربعين عامًا، كفاحًا لاعنفيًّا من حيث الأساس، وهو كفاح قلما جرى الحديث عنه في نهاية الأمر.

مبارك: من المهم جدًّا لفت الأنظار إلى ذلك. فلقد تحدثنا إبان تاريخنا كلِّه عن العنف، وكان كفاحنا يُنعَتُ دومًا بالعنف. بيد أن أغلبية الذين وصفوا الحركة العنفية لكي يغيِّروا التاريخ كانوا، أغلب الظن، من الجيش، أو ربما مراسلين حربيين، وقلَّةٌ منهم كانوا لسان حال الكفاح اللاعنفي.

كاثرين: كتبتَ في كرَّاس تبسط فيه مبادئ المقاومة اللاعنفية: "إن اللاعنف، في هذه المرحلة التاريخية الخاصة، أقلَّه بالنسبة لمليون وثلاثمائة ألف فلسطيني خاضعين للاحتلال الإسرائيلي، هو المنهج الأكثر فاعليةً لإعاقة سياسة التهويد." الأمر الذي قد يعني أنك ترى إمكانية وجود بدائل للاعنف في حالات أخرى مختلفة. وقد قلت يومًا إنه يكفي أن يتظاهر عشرون شخصًا في القدس لكي يُنشَر الخبر في الـNew York Times، وذلك لمجرِّد كونها الأرض المقدسة. بيد أن المقاومة اللاعنفية غالبًا ما لا تعطي أية نتيجة مباشرة بالنسبة لجميع الذين يناضلون في العالم، وينتهون كشهداء مجهولين.

مبارك: عندما بدأت أتفكَّر جديًّا في حالتنا – حالة الفلسطينيين الذين يعيشون فيما نسمِّيه حاليًّا الضفة الغربية وقطاع غزة، أي فلسطين المحتلة – تحقَّقت من كوننا لا نملك سلاحًا ومن أننا لم نكن قادرين على الحصول عليه لمحاربة الإسرائيليين. كثيرون كانوا راغبين في القتال ضد الاحتلال، لكن قلة منهم تجيد استخدام السلاح أو حتى تجده. أما فيما يخص الفلسطينيين الذين يعيشون خارج الأراضي المحتلة، فعليهم أن يقوموا باختيارهم الخاص. إنهم قادرون على الحصول على السلاح بشكل نظامي تمامًا. في حين أن الكفاح اللاعنفي، بالنسبة لفلسطينيي الداخل، قد سمح لنا بإيقاف الاستيطان الإسرائيلي وبمنع الإسرائيليين من الاستيلاء على أراضينا. لقد نجحنا في كبح الاحتلال، لا على الصعيد الجغرافي فقط، بل كذلك على الصعيد البسيكولوجي، في الكفِّ بحقٍّ عن الاحتلال وعن الرضوخ له.

إن الانتصارات التي فزنا بها على هذا الصعيد – وأعتقد أن هذه هي حال النضال الفلسطيني فعلاً – لا بدَّ أن تساعد المعارك اللاعنفية الأخرى في العالم. وبالفحص عن الحالة الفلسطينية عن قُرب أكثر، سوف يرَوْن بأن الفلسطينيين، بعد أن لجئوا إلى الكفاح المسلَّح إبان أربعين عامًا، قد أدركوا، من ثمَّ، أن الحركة اللاعنفية يمكن لها أن تكون فعَّالة. وإنني لآمل أن ينجح الفلسطينيون لكي يستطيع الآخرون أن يتَّخذوهم قدوة وأن يقولوا فيما بينهم: "نحن أيضًا يمكن لنا أن نفلح." إن ذهنية الناس هي هي في كلِّ مكان. مادمت تريد القتال فأنت لا تريد أن تُقتَل. وإذا كنتَ لا تريد أن تُقتَل، يجب أن يكون شديد الوضوح بنظرك أنك لا تريد أن تقتُل. ذلك هو جمال اللاعنف.

كاثرين: قلتَ إن بعض زعماء العالم العربي يخشون الانتفاضة، وإنهم قد اتصلوا بك لكي يتحدثوا معك عن استراتيجيات العمل اللاعنفي. لماذا يخاف هؤلاء الزعماء – وهم الحلفاء التقليديون للفلسطينيين – من الانتفاضة؟

مبارك: قوة هذه الانتفاضة هي أنها لا تأتمر لزعامة رجل أو ملك يستطيع أن يقول لشعبه: "افعلوا هذا"، فيفعلونه. عندما يبدأ الناس بأخذ المبادرات بأنفسهم، ويتزايد عددهم أكثر فأكثر في فعل ذلك، فإن هذا يشكِّل خطرًا على السلطة. السلطة هنا ليست بيد حكومة، بل بيد الشعب. وعندما تكون السلطة للشعب فإنكِ لا تحتاجين إلى رجال شرطة في الشارع. إبان الأشهر الستة عشر التي دامتْها الانتفاضة، لم يكن هناك رجال شرطة ولم يكن هناك سارقون. لقد أخذ الناس أنفسهم على عاتقهم، وكنَّا بحق بغير حاجة إلى حكومة.

الأمر أشبه بكونك الملك، وبأن يقول لك الناس: "لسنا في حاجة إلى ملك." كذلك أن تكوني رئيسًا وأن يقولوا لك: "لسنا في حاجة إلى رئيس." عندما يقوم الشعب بما عليه أن يقوم به من تلقاء نفسه، تنتفي الحاجة تدريجيًّا لأن تطلب منه الحكومةُ ذلك.

إني مقتنع بأن الوضع يكون أفضل كلَّما قلَّلت الحكومة من التشريعات؛ فكلما كثُرت القوانين ساءت الأحوال. في العالم العربي تضبط الحكومات كلَّ شيء. وعندما قرَّر الفلسطينيون عصيان السلطة فإن البلدان العربية الأخرى خشيت أن تفهم الشعوب العربية في كلِّ بلد عربي، عبر الانتفاضة، أنها تملك الشجاعة والقوة والقدرة على أن تقول "لا" لأولئك الذين يقودوننا وأن ترفض طاعة أوامرهم. لو كنتِ ملكًا فإن سلطتكِ تُستمَدُّ من الشعب؛ ولكن إنْ لم يُعطِكِ الشعب هذه السلطة فإنك لن تكوني ملكًا. أنها ثورةٌ شديدة الأهمية.

كاثرين: يقول الناس إن السلام قد بدأ يلوح ممكنًا في العالم. هل تعتقد بأن فكرة اللاعنف هذه تربح الجولة؟ هل ثمة انتفاضات لاعنفية أخرى في العالم، برأيك؟ وإذا كانت الحال كذلك فإلامَ تعزو الأمر؟

مبارك: يمكن لنا على الدوام الاستسلام للظنون؛ لكني أقول إن هذا يعود جزئيًّا إلى تراجُع التوتر بين أمريكا الشمالية والاتحاد السوفييتي [نيسان 1979]. فمنذ أن انتهت الحرب الباردة بين القوتين العظميين صار بإمكانهما العمل بالتنسيق فيما بينهما دون أن تكونا في حاجة إلى استخدام البلدان الصغيرة لكي تتبادلا إيذاء بعضها بعضًا. هذا من جانب أول...

كاثرين: أعتقد أن الفضل في هذا يعود إلى غورباتشوف إلى حدٍّ كبير. ثمة طرفة تقول: "إن المشكلة الوحيدة هي أن الإدارة الأمريكية تجد مشقة كبيرة في أن تجيب بـ"نعم"!"

مبارك: عساهم ينتهون إلى التعوُّد على الأمر! والجانب الثاني هو أن نزاعات عديدة قد وضعت أوزارها حديثًا. انتهى النزاع العراقي–الإيراني، نالت ناميبيا استقلالها... أعتقد أن الناس قد بدأوا يأخذون بالحسبان أن بالإمكان على الدوام التوصُّل إلى حلول عن طريق المفاوضات وأن الحرب تؤدِّي إلى الكثير من الخسائر. فأيًّا كنتِ في بلدك، حتى لو كسبتِ الحرب، فبوجود كلِّ الأسلحة التي في حوزتنا اليوم، سوف تخسرين ثلث سكان بلدك. فبهذا المعنى، ليس هناك أبدًا من منتصر في أيِّ حرب.

يعي الناس، بالمثل، خطر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية، عالمين أن أعداءهم يستطيعون التزوُّد بها.

كاثرين: يُقال أحيانًا إن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية هي "قنبلة الفقراء النووية"، لأنها لا تكلِّف الكثير ومن السهل الحصول عليها...

مبارك: أجل. ولا نظنَّنَّ أن الناس لن يجرؤوا على استخدامها؛ فلسوف يفعلون. وبما أننا لا نستطيع حماية أنفسنا من كلِّ هذه الأسلحة فإن على الذين يناضلون من أجل حريتهم أن يلجؤوا بالضرورة إلى مناهج مغايرة – واللاعنف واحد منها.

كاثرين: يلقِّبك الناس بـ"غاندي فلسطين". ما هو موقفك من هذا؟

مبارك: يؤلمني هذا كثيرًا في الواقع... لأنني لست غاندي. ما من مجال ممكن للمقارنة. كانت فكرتي هي تشجيع اللاعنف وتعاليم غاندي، على أمل أن يُستأنَف عملي؛ ذلك أنني أعتقد أنه يجب انتظار عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أخرى حتى يصبح الفلسطينيون قادرين على قبول نوع من المقاومة اللاعنفية. ومن هنا الانزعاج الذي أصابني عندما أطلق عليَّ الصحفيون – وخصوصًا الفلسطينيون منهم – هذا اللقب. لقد كرَّس غاندي حياته كلَّها لنضاله؛ أما أنا فمازلت في البداية. لست غاندي؛ أنا مبارك. كان غاندي إنسانًا آخرًا؛ وكانت روحانيَّته مختلفة. لقد كان أكبر منِّي، وأنا لست ندًّا له.

كاثرين: هل تقبل أن تُعتبَر خليفته؟

مبارك: [ضاحكًا] نعم. إنني أسير في نفس الاتِّجاه، لكني لا أملك قامته الروحية.

لكني، كما تعلمين، أقوم بالأشياء على طريقتي. كان غاندي يرى الأمور بعينيِّ محامٍ، وكان على الدوام يسعى إلى الوصول إلى أهدافه، مع بقائه متقيدًا بالقانون. أما أنا فأعارض كلَّ نوع من أنواع التشريع. واقع الأمر أنني لا أبالي بالقوانين ولا بالضوابط، ولا أحترمها؛ وأقول للفلسطينيين ألا يحترموها. أما غاندي فكان يحترم القانون البريطاني.

كاثرين: إذا كان غاندي يرى الأمور من وجهة نظر قانونية، فهل تقول إن مقاربتك تقوم بالأكثر على علم النفس؟

مبارك: أجل، تمامًا. إنني أوفِّق بين تأهيلي كاختصاصي نفساني وبين حبِّي للعمل اللاعنفي، لكي أخرج بإيديولوجيا مختلفة. على سبيل المثال، عندما أقول للناس إننا نخضع للاحتلال لأننا اخترنا أن نخضع للاحتلال، فإن هذا يماثل في صعوبته أن أعلن لمعاوِد خاضع لمعالجة نفسية: "عليك أن تعي أن هذه المشكلات هي مشكلاتك أنت، وأنت وحدك القادر على حلِّها." ما أقوم به هو اقتراح إمكانات؛ وواحدة منها هو الكفاح المسلَّح. ولكن لننظر إلى الآخرين: هناك الكفاح اللاعنفي، وهناك غيره؛ وبعدئذٍ يمكن لكم الاختيار.

كاثرين: أنت تقدِّر أنه إذا قيل للناس إنهم يواجهون خطر دخول السجن فيجب أن يكون الداعي مستعدًّا لدخوله هو نفسه.

مبارك: نعم.

كاثرين: وأنا أعلم أنك قد قضيت أكثر من أربعين يومًا في السجون الإسرائيلية...

مبارك: كانت المرة الأخيرة أربعين يومًا. واقع الأمر أنني مرارًا جدًّا ما دخلت السجن.

أظن أن على المرء أن يكون اختبر ما يتكلَّم عنه. فلو كنتِ مدرِّسة، على سبيل المثال، فإنك بالتدريس تصبحين أستاذة جيدة، فتعرفين ما يعرِّضكِ له كلامُك.

عندئذٍ تروين خبرتكِ الخاصة: ماذا جرى لك في السجن، على سبيل المثال – ويمكن للناس بعدئذٍ أن يختاروا بأنفسهم. فما من حاجة لشخص ضعيف جدًّا أن يأتي للتظاهُر. ليس من ضرورة للتأثير على أيِّ شخص. عندما نقول: "فلنملأ السجون"، فإن من المهم أن نفهم ما يترتب على ذلك. أما إذا سبق لكِ أن دخلتِ السجن فإنكِ تستطيعين أن تتحدَّثي في الأمر عن معرفة، وتعرفين أنه أمرٌ يمكن أن يحدث مادمتِ قد خضتيه.

لقد ضُرِبتُ، وصُعِقتُ بالكهرباء، وعانيت من الغازات المسيلة للدموع – فأنا أعرف إذًا عما أتحدث.

كاثرين: قلت في محاضراتك إن "المرة الأولى هي الأسوأ"! فكيف استطعت، بعد معاناة كلِّ هذه الفظائع، أن تعود إلى السجن وأنت أقل خوفًا من المرة الأولى؟

مبارك: أجل، المرة الأولى هي الأسوأ، لأن الخوف لا ينجم عن القصاص الجسماني بقدر ما ينجم عن خوف نفسي – الخوف من المجهول، الخوف مما سيحدث لك. إنهم يأتون لاستجوابكِ ويهدِّدونكِ بالويل والثبور وبعظائم الأمور. أما بعد المرة الأولى، فأنت تعلمين ما الذي ستُقاسينه إبان ساعتين أو ثلاث ساعات، وهذا يمنحكِ بعض الثبات الوجداني. فتقولين لنفسك: "طيب، سوف يضربونني ضربًا مبرحًا." وساعة تعلمين أنك ستُضرَبين فإن جسمكِ سيفهم ذلك ربما، وجسمكِ وروحكِ سيتآزران.

إن ما يحاول الإسرائيليون، أو أية جماعة تريد تعذيبكِ أو إخافتكِ، أن يعملوه هو أن يفصلوكِ عن روحك. يجعلونكِ تنتظرين في قاعة مع موقوفين آخرين، ثم يأخذون واحدًا منهم ويضربونه في غرفة مجاورة، بينما تقولين في نفسك: "سأكون التالية." تبدئين بفهم أن كلَّ مستبدٍّ يستخدم الخوف لكي يحافظ على استبداده. وبدءًا من اللحظة التي تَعِينَ فيها ذلك، تهدأ نفسُك. عليك ألا تخافي من فكرة أنكِ ستُضرَبين. اضبطي نفسكِ وتأمَّلي في نفسكِ قائلةً لها: "طيب، سوف يفعلون هذا بي، وأنا أرثي لهم." قولي هذا جهارًا: "إنني أشفق عليكم. تستطيعون أن تضربوني أو أن تفعلوا ما شئتم، لكني لن أقول لكم أيَّ شيء، وسأرثي لحالكم، إذ عليكم أن تفعلوا ما أنتم فاعلون."

كاثرين: عندما أفكِّر بالإسرائيليين الذين يتصرفون على هذا النحو، بالنظر إلى كلِّ ما عانَوه في ألمانيا منذ وقت غير بعيد، لا أستطيع منع نفسي من التفكير في شخص عومِل بقسوة في طفولته، فعامَل أولاده بنفس القسوة عندما صار راشدًا.

مبارك: بالضبط.

كاثرين: لقد أعجبني كثيرًا ما قلتَ حول الفلسطينيين "المحظوظين"، على نحو ما، لأن خصومهم هم اليهود، لأن اليهود يملكون حسًّا ما بالطيبة التي يمكن التعويل عليها. كان يمكن، بالنظر إلى الفظائع التي عشتَها في السجون الإسرائيلية، أن تُتوقَّع منك نقمةٌ أكبر تجاه الإسرائيليين. أية صفات تخطر ببالك بشكل خاص عندما تقول إنهم خصومٌ "طيبون"؟

مبارك: قبل كلِّ شيء كونهم يهودًا. العدالة تشكِّل جزءًا من معتقداتهم. إنهم يقولون في صلواتهم: "أعطني، رباه، القوة على مساعدة قريبي، على إحقاق العدل، وعلى إعطاء الفقير." تلك هي اليهودية: الحضور من أجل القريب.

لقد ناضل اليهود أيضًا من أجل المساواة في الحقوق بين النساء والرجال وبين السود والبيض ومن أجل التحرر من العبودية ومن القمع في كلِّ مكان من العالم. ولم يكن ذلك على صعيد العمل فقط، بل على صعيد كتاباتهم أيضًا. إنهم يملكون أبطالاً في هذا الميدان. فما الذي يستطيع أن يجيب به الكتَّابُ اليهود الذين قالوا إن التحرر من العبودية كان أمرًا رائعًا عندما نسألهم: "أليس أمرًا رائعًا بالمثل تحريرُ الفلسطينيين؟" إنهم حسَّاسون تجاه هذا الموضوع.

كاثرين: قلت إن حماسة الانتفاضة كان مصدره كون الفلسطينيين باتوا أقل خوفًا. كيف حدث ذلك؟

مبارك: أعتقد أنه بدءًا من اللحظة التي يقرِّر فيها 1,3 مليون شخص أنهم يريدون أن يكونوا أحرارًا، عندما ترين شعبًا بكامله – أنت وأقاربك وجيرانك، جميع الذين تعرفينهم شخصيًّا، أصدقاءك وأبناء عمومتك – يقاومون ويتظاهرون في الطرقات، فإنك لن تشعري بعدُ أنك وحدك في نضالك. وحين لا تعودين تشعرين أنك وحدك، فإن هذه الوحدة تخلق نوعًا من الثقة في نفسك، بحيث إنك تجيزين لنفسكِ أن تقولي: "أنا لست خائفة." لهذا السبب لا يخاف الفلسطينيون، حتى مع علمهم أن الإسرائيليين مسلَّحون وأنه سيكون هناك قتلى.

سأروي لك حكاية: في أحد الأيام التقت زوجتي بامرأة كانت تعرفها وتعمل معها في "جمعية الأصدقاء" في رام الله. كانت هذه المرأة على وشك المشاركة في مظاهرة، فقالت لها زوجتي: "انتبهي لنفسك." فأجابت المرأة: "لا أبالي. فأنا أناضل من أجل الحرية. لم أعد خائفة. وإذا متُّ، فسأموت على الأقل في سبيل الحرية؛ وإذا عشت فسأعيش كي أكون حرة. وفي كلا الحالين أجاهد في سبيل حريتي."

يشكِّل الخوف، كما ترين، جزءًا من الاحتلال. الفلسطينيون اليوم لم يعودوا يخشون الإسرائيليين؛ وهنا تمامًا يكمن رهان عملية السلام. يتعذر السلام إذا كان الناس خائفين. يجب أن يتمَّ السلام بين شعبين قويين. أما وأن الفلسطينيين باتوا أقوياء، فقد بات الإسرائيليون يستطيعون عقد السلام معهم. إذا حاول الإسرائيليون قمع الانتفاضة فإن الفلسطينيين سينخرطون من جديد في المقاومة، ولن يكون هناك سلام.

كاثرين: لنتحدث، إذا طاب لك الأمر، عن منظمة التحرير وعن الميثاق الوطني الفلسطيني الشهير.[9] فمع أن بعض زعماء المنظمة باتوا يتحدثون الآن عن حلٍّ بدولتين، فقد قرأت في مكان ما أن اليهود إنما بسبب هذا الميثاق رفضوا التفاوُض في حلِّ "اثنان باثنين". فبعد عشرين عامًا من التكتيكات العنفية، باتت القضية الفلسطينية مرتبطة بالإرهاب. وحتى إذا بدأت منظمة التحرير بالتخلِّي عن استعمال العنف، مَن يستطيع الضمان بأنهم لن يعودوا إلى اللجوء إليه عندما يحصلون على ما يريدون؟

لقد تأهَّلتَ، منذ الطفولة، على مبادئ الحركة اللاعنفية. وتعليم اللاعنف ليس، كما تعلم، بالأمر السهل، وهو نادرًا ما يُعلَّم. من الصعب، والحال هذه، أن نتخيَّل أنه، بعد هذه السنوات كلِّها، لن تلجأ المنظمة فجأة إلى العنف عندما تصبح في موقع قوة. هل لديك أدنى ضمانة في هذا الصدد؟

مبارك: ليس هذا حتميًّا. أعتقد أن لجوء الفلسطينيين إلى اللاعنف كوسيلة للكفاح لا يجعلهم لاعنفيين، ولا يعني أنهم لن يعودوا للُّجوء إلى العنف فيما بعد. إنني من القائلين للفلسطينيين: "إن لم يُجْدِ اللاعنف، فإنكم تستطيعون في أيِّ وقت العودة إلى حمل السلاح. فلم، إذن، لا تجرِّبون اللاعنف؟" إنني آمل أنه، في حالة نجاح اللاعنف، فإن هذه الفكرة لن تصبح استراتيجية للفلسطينيين ضد الإسرائيليين فقط، بل إن تغييرًا في قلب الفلسطينيين أنفسهم سيحدث أيضًا، بحيث إن المعلِّم لن يضرب تلميذَه، والوالد ولدَه. ستكون الفكرة أن يشكِّل اللاعنف جزءًا لا يتجزَّأ من مجتمعنا، كالتزام يوميٍّ. وهذا سيستغرق وقتًا.

كاثرين: كيف ترى الأشياء؟ كيف نحض الناس على التصرف برفق حيال الآخرين؟

مبارك: أول الأشياء، في حالتنا، هو أن نرى أن اللاعنف فعَّال على المستوى السياسي؛ ثم أن نرى أنه ناجع على المستوى الشخصي أيضًا. بالنسبة لي، يسري الأمر على المستوى الشخصي؛ أما بالنسبة لأغلبية الفلسطينيين فإن الأمر يسري على المستوى السياسي. في الوقت الحاضر مازالوا ينظرون فيما إذا إن كان الأمر مُجديًا. أما إن لم يكن الأمر مجديًا، فسيكون ذلك إخفاقًا على المستويين الشخصي والسياسي على حدٍّ سواء. وسيقول الناس إذ ذاك: "ما جدوى ذلك؟"

لا أعتقد أن من السهل على الفلسطينيين أن يكونوا لاعنفيين، ولا أريد، في أية حال من الأحوال، أن يُنسَب إليَّ شرفُ إدخال اللاعنف إلى فلسطين. حقيقة الأمر أنني لم أفعل سوى تجميع بعض الأفكار ومخاطبة الفلسطينيين: "أصغوا، يا أصدقائي، لقد لجأ أجدادكم وآباؤكم وأمهاتكم والناس جميعًا، منذ القدم، إلى وسائل لاعنفية." لقد كانت هذه المناهج موجودةً أصلاً، والشيء الوحيد الذي فعلتُ هو أنني قلت إنها لاعنفية. لقد شرحت لهم أن اللاعنف ليس مصطلحًا سلبيًّا أو استسلاميًّا. كما أني لم أخترع اللاعنف. صدِّقيني إن قلت إن القرويين هم في الغالب لاعنفيون. لقد كانوا لاعنفيين طوال حياتهم. فأيُّ شيء غير ذلك يُتوقَّع من فلاح؟

كاثرين: يبدو أنه سيُنسَب إليك على الأقل شرفُ أنك ساعدت الانتفاضة على الانتظام على نحو لاعنفي.

مبارك: أجل، أعمل على ذلك. لقد سبق أن سألتِني عن رأيي في منظمة التحرير. أريد العودة إلى الموضوع لأن قلةً قليلة من الناس يفهمون ما هي حقًّا منظمة التحرير. منظمة التحرير هي حكومتنا الوحيدة؛ إنها حكومتنا في المنفى. والتهجُّم على منظمة التحرير يشبه تمامًا التهجُّم على الفلسطينيين. إذا رفض الإسرائيليون، على سبيل المثال، أن يحاوروا منظمة التحرير، فليس ذلك بسبب من المنظمة، بل لكونهم لا يريدون الاعتراف بأن للفلسطينيين قوميةً وأن قيادتهم هي منظمة التحرير.

في أعقاب حرب لبنان في العام 1982 أصبح كلُّ الناس تقريبًا، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، أعضاء في منظمة التحرير، وذلك لكي يدعموا المنظمة المسلحة في فترة الهزيمة تلك. بيد أن الناس حين يتحدثون عن منظمة التحرير، فإنهم لا يتحدثون عن النساء اللواتي في منظمة التحرير، ولا عن الناس الذين يعملون في المستشفيات، ولا عن المحامين والأطباء الذين يشكِّلون هم أيضًا جزءًا من المنظمة. منظمة التحرير ليست، بنظر الكثيرين من الناس، سوى زمرة عسكرية منخرطة في الكفاح المسلَّح.

كاثرين: طيب... في الولايات المتحدة تُعتبَر منظمة التحرير منظمة إرهابية.

مبارك: نعم، يعتقد الناس أن الفريق المنخرط في الكفاح المسلَّح يشكِّل مجمل منظمة التحرير. ولكن لنفترض أنه قد نُظِر إلى الفلسطينيين كمحاربين للشيوعية، فماذا كانوا سيُدعَون إذ ذاك؟ محاربين من أجل الحرية! أما وأنه قد اتفق لنا أن نقاتل الإسرائيليين، وأن الإسرائيليين حلفاء الولايات المتحدة، فنحن إرهابيون. يُقال لي أحيانًا: "منظمة التحرير وكر للإرهابيين، فكيف تستطيع أن تمحضهم تأييدك؟" من جهتي، لا أعتبر منظمة التحرير زمرةً من الإرهابيين. أعرف أن منظمة التحرير قد ارتكبت أعمالاً إرهابية – وهو أمر لا يمكن إنكاره – لكنك لا تستطيعين لهذا السبب أن تقولي إن كلَّ مولود فلسطينيٍّ جديد هو إرهابي!

كاثرين: هل أدنتَ على نحو صريح الأعمال الإرهابية التي تبنَّتْها منظمة التحرير، عندما كان هناك ضحايا مدنيون مثلاً؟

مبارك: لقد أدنتُها بالطبع. لكن هناك أمرًا آخر يجب أخذه بعين الاعتبار، أمرًا محزنًا جدًّا. في كلِّ نزاع، إذا كنتِ خصمي فسأقول إنك إرهابية، مجنونة، شخصٌ مصابٌ بلوثة. لماذا؟ لأني، إذا قتلتك، لن أشعر بأني سيئ حقًّا، لأني سأكون قد قتلت إرهابية، ولأن الإرهابي شيءٌ دون الكائن الإنساني.

كاثرين: لقد استخدم النازيون تقنيةً مشابهةً في غسل أدمغة جلاديهم لكي يعتبروا اليهود دون مستوى البشر.

مبارك: تمامًا. أما الآن فإن يهودًا هم الذين يقومون بالشيء نفسه مع الفلسطينيين! لقد قال شامير نفسه إننا لسنا سوى "دويبات تسعى على قائمتين"! ومنذئذٍ، لا تعود ثمة مشكلة في أن يدوس المرءُ عدوَّه ويسحقه كحشرة، ولا تشعرين بأيِّ إحساس بالذنب. ولهذا السبب فإن من الأفضل ألا يُعترَف بالعدوِّ؛ إذ من الأسهل على الدوام أن تقتلي الآخر إن كنتِ لم تنظري أبدًا في عينيه. إننا لا نكف اليوم، في فلسطين، عن التساؤل: "من هم اليهود؟" لقد أطلقنا عليهم شتى النعوت. لقد كانوا في نظرنا أناسًا أغنياء، لكنهم بلا أية قيمة. وهكذا بنينا نفسيَّتنا. إذا كنتِ تفكِّرين أن الآخر وسخ أو سيئ، فلا شيء أكثر بداهةً من أن تفكِّري بإزالة الأوساخ، بالتنظيف.

كاثرين: هذا مختلفٌ جدًّا عن الدالاي لاما، مثلاً، الذي يتكلَّم على الصينيين مسميًّا إياهم "أصدقائي". كيف ترى الإسرائيليين؟

مبارك: أنا ممَّن يذكِّرون الفلسطينيين بأنَّ الإسرائيليين بشر، وبأن علينا أن ننظر إلى أنفسنا أيضًا كبشر. كلما دمرتِ إنسانًا دمَّرتِ نفسك أيضًا.

ثمة بعض علامات أمل. في إطار برامجنا مع فلسطينيين وإسرائيليين، على سبيل المثال، وَجَبَ على كلِّ فريق أن يعمل مع الآخر. منذ وقت غير بعيد غرسنا زيتونات في قرية شمال القدس، وقد تطوع فريقٌ من الإسرائيليين لمساعدتنا. وبما أنهم كانوا سيأتون إلى هناك وقت الغداء، فقد طلبنا من الفلسطينيين أن يُعِدوا الطعام للجميع. وقد احتاج الفلسطينيون إلى بعض الوقت لكي يوافقوا. وفي المرة التالية سألناهم أن يتناولوا الطعام معًا، الأمر الذي تطلَّب المزيد من الإقناع. بعد ذلك، عندما طلبنا من فريق من الإسرائيليين ألا يجلبوا معهم طعامًا لأن الفلسطينيين سيهتمون للأمر وبأنهم سيتناولون الطعام معًا، قال بعض الإسرائيليين: "لا، سوف نجلب طعامنا الخاص. فنحن نخشى أن يحاول الفلسطينيون دسَّ السمِّ في طعامنا."

فحتى ضمن رهط صغير، يحاول فيه الناس مساعدةَ بعضهم بعضًا، ثمة الكثير من الحذر، والكثير من الخوف من الآخر. وإليك ما حدث عندما غرسنا الزيتون: جاء الجنود الإسرائيليون واقتلعوا الأشجار كلَّها! لكني مازلت أعتقد أن هذا المشروع كان نجاحًا على المستوى الإنساني، لأن إسرائيليين وفلسطينيين قد جلسوا معًا وتناولوا الطعام معًا في نهاية الأمر – حتى إن بعض الجنود الإسرائيليين تناولوا وجبات أعدَّها فلسطينيون.

لكنني لا أعتقد أننا قريبون بما يكفي من الإسرائيليين بحيث نقول لهم إنهم أصدقاؤنا. ما يزال هناك الكثير من الكراهية والكثير من الحزن، وما يزال هناك الكثير من الموتى. تذكَّري أنه حتى اليوم هناك أكثر من 500 قتيل و45000 جريح في هذه الانتفاضة – مشوَّهين، مضروبين، مصابين بالرصاص أو غيره. عندما ينظر هؤلاء الـ45000 شخص إلى الإسرائيليين اليوم فإنهم يفكرون: "أنتم فعلتم بي ذلك!" ولهذا السبب فإن استمرار الانتفاضة يقلِّل من قدرتنا على الاستمرار في النظر إلى الإسرائيليين كبشر. هذه هي الصعوبة، وهذا هو السبب أيضًا الذي يجعلني أفعل كلَّ ما في وسعي كي أقول للعالم بأنه يجب دعم عملية السلام.

كاثرين: برأيك، ماذا ستكون نتائج إخفاق الاستراتيجيات اللاعنفية؟

مبارك: إذا أخفقت هذه الانتفاضة ككفاح لاعنفي، إذ ذاك فإن الشخص الذي فقد أخًا أو أختًا أو قريبًا سيقول: "اسمعوا، لقد حاولت أن أتمالك نفسي بكلِّ ما في وسعي من انضباط. لكن صبري نفد الآن. ولسوف أحمل السلاح أو أتمنطق بعشر أو عشرين قنبلة، ثم أذهب إلى دار السينما وأدع الأمور تأخذ مجراها، وأريد بالتأكيد قتل إسرائيليَّيْن أو ثلاثة في طريقي."

إما أن تقع كارثة، وإما أن يحلَّ السلام! وأظن أن ثمة الآن تغييرًا في المجتمع الإسرائيلي، لدى الإسرائيليين أنفسهم. فما يحدث لنا حَدَثَ لهم. عندما نعلم أنهم انتظروا ما يقرب من الألفي سنة حتى تسنَّى لهم أن يحصلوا على قومية، وأنهم ينكرون علينا قوميتنا ويسلبوننا إياها، فإن هذا لمحزن لهم. على كلِّ إسرائيليٍّ أن يواجه هذا الأمر في نفسه.

جاءني ذات يوم باكيًا فتى فلسطيني، ابن حوالى ثلاثة عشر عامًا، كان يعيش في مخيَّم للاجئين، لأنه كان قد رمى أحد الجنود الإسرائيليين بالحجارة. ثلاث مرات متتالية رمى الجنديَّ نفسه بالحجارة، وتمكَّن الجندي من الإمساك به وضَرَبَه ضربًا أقسى في كلِّ مرة. وفي المرة الرابعة، عاد الصبي إلى رميه بالحجارة، وركض الجندي وراءه. وعندما أمسك به، ظن الصبي أنه سيضربه كالسابق؛ لكن الجندي، بدلاً من ذلك، أخذه بين ذراعيه. لقد جاء هذا الطفل ليقابلني وهو يبكي. كان غاضبًا لأنه لم يعد يفقه شيئًا. قال لي: "لقد ضمَّني بين ذراعيه!"

فقلت له: "لقد كان هذا الجندي الإسرائيلي إنسانًا."

***

بهدف إطلاق مسيرة سلام مرتبطة باعتراف دولة إسرائيل بوجود الشعب الفلسطيني وبحقوقه، نظَّم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون اتفاقيات واشنطن وجعل اسحق رابين وياسر عرفات يوقِّعان عليها في الثالث عشر من أيلول 1993. كان هذا الحدث، الذي أولتْه وسائلُ الإعلام عنايةً خاصة، يشكِّل عهد سلام جديد في العلاقات بين الشعبين. وهكذا أعيدت بعض الأراضي المحتلة – قطاع غزة ورام الله، التي صارت بذلك العاصمة الفلسطينية – إلى الفلسطينيين. وساد الظنُّ أن عملية السلام باتت دائمة الرسوخ، مع أن تقسيم القدس مازال يشكِّل العقبة الكأداء بين الفريقين. لكن اغتيال اسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني 1995 على يد متطرِّف يهودي كشف هشاشة هذه العملية وأوقف المفاوضات.

بعد هذا الاغتيال، جاءت الانتخابات إلى السلطة ببنيامين ناتانياهو – وهو المعارض التقليدي لإسحاق رابين – وهذا زاد من صلابة موقفه حيال الحكومة الفلسطينية ورفض أيَّ نقاش بخصوص تقسيم القدس، معرِّضًا على هذا النحو عملية السلام الجارية للخطر.

وتتوالى الاعتداءات وإجراءات القمع وأحداث الشغب بين الجماعات المختلفة في إسرائيل، كما وفي سوريا أيضًا. وتصرُّ الحكومة الإسرائيلية الحالية على مواقفها، على الرغم من محاولات التأثير الأمريكية والأوروبية. ويبدو أن عملية السلام تمر اليوم بفترة أزمة خانقة.

*** *** ***

ترجمة: أديب الخوري


horizontal rule

[1] "فلسطين" كلمة مشتقة من اليونانية تعني "سوريا الفلستيين" أو سوريا الجنوبية.

[2] تُشتق كلمة "إسرائيلي" من الكلمة العبرية عسرو–إيل التي تعني "واجد الله". فيما بعد، تصارع يعقوب صراعًا عجيبًا مع كائن سماويٍّ وسُمِّي بعده "إسرائيل".

[3] أصل كلمة "يهودي" Jew من الكلمة العبرية يهودي yehudi التي تعني "مواطن من مملكة يهوذا".

[4] ملاحظة لا بدَّ منها: إن هذا العرض الموجز ليس بالضرورة الواقع التاريخي الفعلي، غير المعروف حقيقةً. فهذه الرواية للتاريخ إنما تستند على كتاب التوراة الذي لا تؤيِّد معظمَ الحوادث التي يرويها أيةُ وثائق تاريخية أو آثارية على قدر كبير من الدلالة العلمية. (المترجم)

[5] يعتبر المستشرق والمفكِّر الفرنسي لويس ماسينيون أن هذه الرغبة، ولاسيما من جانب الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب، هي انتصارٌ لهتلر ولفكره العنصري، على الرغم من هزيمته عسكريًّا! (المترجم)

[6] نسبةً إلى Menno Simonsz، وهو مؤسِّس طائفة دينية معمدانية.

[7] يعود تاريخ النصِّ المركزي للكويكرز، وهو "إعلان السلام"، إلى العام 1660؛ ومنه هذا المقتطف: "إنَّا لنبحث عمَّا يحمل السلام والحبَّ والوحدة. إن رغبتنا هي أن نرى الآخرين يخطون في الاتجاه نفسه؛ ونحن نعارض كلَّ شكل من أشكال النزاع والحرب والشقاق."

[8] في كانون الثاني من العام 1986 أقام المستوطنون اليهود حاجزًا في منطقة تيكوا لكي يقتطعوا لأنفسهم بضعة هكتارات من الأرض الفلسطينية. ذهب مبارك عوض إلى المكان كي يتفاوض سلميًّا على إزالة الحاجز مع الجنود الإسرائيليين. وقد ظهر هؤلاء بدايةً وكأنهم مستعدون للإنصات، لكنهم في اليوم التالي أصمُّوا آذانهم. عندئذٍ أخطر مبارك عوض الصحافة؛ وبدءًا من اللحظة التي تحدثت فيها الصحفُ عن الموضوع أُرِغَم المستوطنون على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية.

[9] تبنَّى [المرحوم] ياسر عرفات، الزعيم الحالي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الميثاق الوطني الفلسطيني – وهو الوثيقة التأسيسية للمنظمة منذ بداياتها بقيادة أحمد الشقيري – في العام 1969. وتنصُّ هذه الوثيقة على أن "قيام إسرائيل باطل من أساسه" وأن "تدمير إسرائيل ليس مشروعًا وحسب، بل هو مفيد كذلك للعرب، للفلسطينيين، وللبشرية جمعاء".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود