الصفحة التالية french arabic الصفحة السابقة

الصينيون أيضًا بشرٌ

 

لقاء مع قداسة الدالاي لاما

 

كانت مقابلتي معه قد انتهتْ لتوِّها عندما أرسل قداسةُ الدالاي لاما أمينَ سرِّه، تِنْزِن غيشي، ليجلب قطعةً فضية تيبتية أراد أن يقدِّمها هديةً لي. وفي أثناء انتظارنا إيَّاه، وقد لبثنا وحدنا في قاعة استقبال المراجِعين في مقرِّه الخاص، نهض قداستُه بغتةً. كان مُنحنيَ المنكبين وقد عَقَدَ يديه خلف ظهره. أما أنا فكنت أقف قرب نافذةٍ نصف مفتوحة، تطلُّ على شجيرةٍ جهنمية مزهرة، لونُ زهورها الورديُّ صارخٌ تحت شمس آخر العصر. حينئذٍ قال لي قداستُه: "أظن أن حياة الدالاي لاما هذه هي الأصعب." وقبل أن أصحو من صدمة كلامه استدار نحوي، مواجِهًا النافذة الساطعة، وأردف مقهقهًا: "ما أزهى ألوان الحياة!"

***

يشغل التيبت هضبةً واسعة على أحد أعلى الارتفاعات على الكرة الأرضية. إنه يتسنَّم "سقف العالم"، تطوِّقه ذرى الهمالايا الجليلة. تُعرَفُ هذه المملكة الجبلية الغرائبية، التي تبلغ من العمر ما يزيد عن ألفين من السنين، بـ"بلاد الثلج" أيضًا. كانت سهولُها النائية تعجُّ فيما مضى بالقَطاس[1] والظباء وفهود الثلج والدببة والخيول البرية، حيث كان يعيش محاربون وقومٌ من الرُّحَّل يمارسون عبادة أحيائية[2]: البون. كانت مملكة التيبت، واحدة من أقوى الممالك الآسيوية آنذاك، تسيطر على النيبال والبهوتان وشمال بيرمانيا وتركستان، فضلاً عن التيبت نفسه وبعض أجزاء غرب الصين.

وفي القرن الخامس، برعاية الملك التيبتي الأكبر سونْغْتسِن غامْبو، أُعلنَتْ البوذية دينًا رسميًّا للدولة ووصلتْ حتى منغوليا. وتطلَّب الأمرُ قرنًا إضافيًّا، إلى حين وصول المعلِّم الهندي بَدْماشَمْبهَفا، حتى تنتشر البوذية بحق بين التيبتيين.

بدأت السلسلة غير المنقطعة من الدالاي لاماوات – وهم الزعماء الزمنيون والروحيون للتيبت – مع حياة غيدون دروب (1391-1475)، مع أنَّ لقب الدالاي لاما لم يُضْفَ إلا ابتداءً من الخلافة الثالثة.[3] ويُعترَف بكلِّ دالاي لاما تجسُّدًا جديدًا لسَلَفِه بدءًا من ثاني مَن أحرز اللقبَ منهم؛ والدالاي لاما هو، منذ قرون، الحَبْر الروحي والزمني للشعب التيبِتي.

في العام 1935، بعد سنتين من وفاة الدالاي لاما الثالث عشر، وُلِدَ تِنْزِن غِياتسو في قريةٍ صغيرة تُدعى تَكْتسِر من مقاطعة آمدو في التيبت.[4] وكان عمره سنتين عندما أتت تطلبه بعثةٌ من اللاماوات قادمةً من العاصمة لهاسَّا، توجِّهها تكهُّناتٌ إلهية ورؤًى نبوية. وقد أكَّدتْ الاختبارات المختلفة التي أخضعوا لها الطفل أنه فعلاً تجسُّد الدالاي لاما الأخير، فأُعلِنُ دالاي لاما رابع عشر للتيبت. ومن ناحيةٍ أخرى فهو يُعتبَرُ في نظر التيبتيين كانبثاقٍ لـشِنْرِزِغ، بودهيساتفا الرحمة.[5]

بعد عيد ميلاده الرابع عشر، غادر تِنْزِن غِياتسو قريته إلى لهاسَّا، حيث استقرَّ به المقام على عرش الأسد في قصر بوتالا، المقام الشتوي لأسلافه الثمانية الأخيرين. ترعرع هناك في الـبوتالا، المظلم والبارد، حيث كرَّس نفسه لدراساتٍ معمَّقة في الإلهيات وفي الفلسفة البوذيتين، وكان نادرًا ما يغادر أجنحته؛ فقد كان تحت تصرفه، لحسن الحظ، آلافٌ من الغرف، ذلك أنَّ الـبوتالا مدينة في حدِّ ذاتها، تشغل كامل قمة هضبةٍ كبيرة على امتداد ما يقارب أربعمائة مترٍ طولاً.

أما في الصيف فقد كان الدالاي لاما يذهب تحت الحراسة، مع عددٍ من أفراد أسرته، إلى قصر نوربولِنغكا – وهو دير منعزل يقع خارج لهاسَّا، محاطٌ بحديقةٍ رائعة مطوَّقة بسورٍ مرتفع؛ وهناك كان يقضي أوقاتًا في غاية السرور.

ورغم الجهود التي كانت تتطلَّبُها دراساتُه، والآمال التي كان يعقدها عليه ستة ملايين من التيبتيين، كان الدالاي لاما يكبر سعيدًا ويشعر أن التيبتيين سعيدين أيضًا؛ الأمر الذي جعله يكتب فيما بعد: "ربما كان في بساطة وفقر جبالنا آنذاك من سلام النفس أكثر مما هو موجودٌ اليوم في معظم مدن العالم."

كان الدالاي لاما الشاب شغوفًا بكلِّ ما هو ميكانيكي. وقد اتفق له لاحقًا أن يفكِّك بعض الأشياء، مثل ساعة يده وجهاز إسقاطٍ قديم للسينما، من أجل دراسة آلية عملها، قبل أن يعود إلى تركيبها. وعندما كان يصطاف في نوربولِنغكا كان يعشق أن يحرتق في مولِّدة كهرباء القصر التي كانت كثيرًا ما تتعطَّل، وكان يتوصَّل عمومًا إلى إصلاحها. وفي هذا المكان أيضًا، بعد سنوات على ذلك، واجَهَ أكبر المشكلات التي اعترضتْ طريقَه والتي امتحنتْ قدراتِه على تجاوز المصاعب.

في العام 1949 اجتاحت القوات الصينية التيبت، في عشرة أماكن منه، من أجل "تحرير" البلاد. حتى ذلك الوقت كان التيبت ما يزال منعزلاً سياسيًّا على نحوٍ طوعيٍّ، وذلك بتبنِّيه موقفًا لا يشجِّع الأجانب على المجيء والإقامة فيه. وهذا ما يفسِّر كون التيبتيين لم يجدوا حلفاء لمساعدتهم حين كانوا في حاجةٍ إلى حلفاء، ولم يستطيعوا القيام بشيءٍ من أجل إيقاف التدمير المتفاقم لديانتهم ولثقافتهم ولحريتهم تحت الاحتلال الصيني.

عند بدء الاجتياح أقنع المستشارون الدالاي لاما بتولِّي رئاسة الحكومة، مع أنَّ عمره ما كان يتجاوز السادسة عشرة، أي قبل سنتين مما جرت عليه العادة. في البداية حاول الدالاي لاما جاهدًا أن يتفاهم مع الصينيين من أجل الحفاظ على البقايا النادرة من نمط الحياة التيبتية. لكنَّه لم يعشْ إلا في سنِّ التاسعة عشر خبراتِه الأولى كزعيم دولة: عندما زار الصين، حيث التقى بـماو تسي تونغ في مناسباتٍ عدة، وعندما زار الهند حيث تحادَث مع البانديت نهرو ومع آخرين من تلاميذ غاندي.

في أثناء هذه الزيارة إلى الهند قرَّر الدالاي لاما أن يزور راجْغهات، مكان محرقة المهاتما غاندي. وهناك، خاشعًا أمام رماده، تساءل عن الحكمة التي كان سيسديها له المهاتما، وعلى حين غرَّة تملَّكه الشعور بأنه كان سينصح له طريقَ السلام. اتَّخذ الدالاي لاما إذًا القرار بأن لا يرتبط بأيٍّ شكلٍ من الأشكال بأعمالِ عنف. كان عمره واحدًا وعشرين عامًا، ولم ينكث بعهده مذ ذاك.

في أثناء ذلك كانت حياة التيبتيين في تدهورٍ. فللمرة الأولى في تاريخهم عانوا نقصًا في الغذاء وكابدوا اضطهادًا دينيًّا وأُخضِعوا للعمل القسريِّ (بما في ذلك الأطفال والشيوخ) والسجن السياسيِّ والتعذيب، وحتى للتعقيم القسري للنساء. وقد تمَّ إعدام آلاف التيبتيين.[6] أما الحكومة التيبتية فأمسى دورها صوريًّا تقريبًا ولم تعد تملك أية وسيلةٍ لممارسة سلطتها أو حماية شعبها.

في هذا السياق تلقَّى الدالاي لاما، المقيم في قصر نوربولِنغكا، في آذار من العام 1959 دعوةً من الصينيين لحضور عَرْضٍ في المنطقة العسكرية. وسرعان ما أيقظتْ هذه الدعوة الغامضة الشكَّ. ذلك أن لاماواتٍ كبارًا من المقاطعات الشرقية كانوا قد لبَّوْا دعواتٍ مشابهة من قِبَل الصينيين، وانقطعتْ أخبارُهم بعدئذٍ. وقد اشترط الصينيون على مرافقة الحرَّاس الخمسة والعشرين، التي عادةً ما تصطحب الدالاي لاما في تنقُّلاته، ألا ترافقه بعد نقطة معينة.

على الرغم من كلِّ هذه الإشارات، قدَّر الدالاي لاما أن من الأفضل أن يلبِّي الدعوة، مخافة أن يؤدِّي رفضُه إلى أعمال انتقامية ضدَّ الشعب، كما سبق أن حدث عندما لم يجده الصينيون متعاونًا بما يكفي. وفي اليوم المحدَّد، نهض قبل الفجر بعد ليلةٍ من السهاد. وفاجأه سماعُ أصوات صراخ. وحين أرسل مستشاريه لاستطلاع الأمر اكتشف أن ثلاثين ألف تيبتيٍّ قد طوَّقوا القصر من أجل حمايته ومنعه من تلبية دعوة الصينيين.

شَهِدَ الأسبوع التالي عودة التوتُّرات في المنطقة، مع وصول المزيد من الفِرَق الصينية المزوَّدة بالمدفعية الثقيلة. في الوقت نفسه، وبعد مراسلاتٍ ومحادثاتٍ مع الصينيين، بدأ المسؤولون التيبتيون يقبلون بما لم يتوقف الشعب التيبتي عن توجُّسه، ألا وهو أن الدالاي لاما سيُخطَف وأن القصر سيدمَّر. وبناءً على قناعتهم بأن حياة "حاميهم النفيس" في خطر، حضُّوه على الهرب من البلاد. أما هو، إذ كان يفكِّر في شعبه، لا في نفسه، فقد فهم أن نجاته جوهريةٌ في نظر التيبتيين، وأنهم، بدونه، يخاطرون بفقدان كلِّ أمل. وقد شرح ذلك فيما بعد: "كانوا مستيقنين من أن موت جسمي على أيدي الصينيين سيؤذن بنهاية حياة التيبت أيضًا."

عندما بدأت قذائف الجيش الصينيِّ تنهمر على النوربولِنغكا، ورأى الدالاي لاما أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا إضافيًّا بوجوده في التيبت، قرَّر الزعيم الروحي والزمني للشعب التيبتي أن يغادر بلاده. فتَحْتَ جناح الليل، متنكِّرًا في ثياب جنديٍّ، عَبَرَ، دون أن يعرفه أحد، حاجزَ حشد الألوف من الأتباع المخلصين الذين تابعوا تطويق القصر لتأمين الدفاع عنه.

بعد بضعة أسابيع، وصل الدالاي لاما وصحبُه (ومنهم أمُّه وشقيقته) إلى الهند. ومع معاناته من الزحار، ومع إنهاكه من جراء الرحلة الطويلة عبر الجبال، سرعان ما أحسَّ الدالاي لاما بالدفء أمام الاستقبال الذي لاقاه به حوالى مائة صحافيٍّ أجنبيٍّ ومئاتٍ من الأشخاص الآخرين الذين أتَوْا يهنِّئونه بسلامة الوصول. وللحال أيضًا أبرق له رئيس الوزراء نهرو، معلنًا عن استضافته. ومنذ ذلك الحين ظلَّ مقيمًا في الهند.

عرضتْ الحكومة الهندية فيما بعد على ضيوفها الجُدُد أن ينزلوا في ولاية هيمشال براديش، على سفوح الهمالايا. وعندما وصلوا إلى دهارَمْسَلا ودهارَمْسَلا العليا، وهي ثغرٌ متقدِّمٌ سابق للبريطانيين كان اسمه ماكليود غانج، وجدوا مدينةً مهجورةً. منذ ذلك الحين بذلتْ الجماعة التيبتية في المنفى كلَّ ما وسِعَها لإعادة الحياة إلى هذه المحطَّة الجبلية الرائعة. ومن بين التيبتيين الذين تركوا بلادهم، قاطعين الهضاب المغطَّاة بالثلوج من سقف العالم، مجازفين بأن يكونوا عرضةً للموت بردًا أو جوعًا، أو بأن يعتقلهم الصينيون ويُعذِّبوهم، استقرَّ العديدون منهم في محيط دهارَمْسَلا كي يكونوا أكثر قُربًا من قداسته.

تعجُّ المنطقة التي تسمَّى أحيانًا لهاسَّا الصغرى، كما لو كانت خلية نملٍ، بالنشاطات التيبتية. ففي العام 1960 تأسَّستْ فيها قريةٌ للأطفال التيبتيين؛ وهي تستقبل الأيتام وتعلِّمهم. نجد فيها كذلك جمعيةً للرقص والمسرح ومكتبةً ومركزًا للطبِّ وللتنجيم التيبتيين. وهي إلى ذلك مقرُّ الحكومة التيبتية في المنفى، أو الـكَشَغ. أما الـتِكْتشِنْ تشولِنْغ أو "مقام المَهايانا" فهو يضمُّ معبد نامغِيال، مدرسة الفلسفة البوذية، ومقرَّ الإقامة الخاصَّ بقداسة الدالاي لاما.

ونظرًا لطبيعته الانبساطية، عقد الدالاي لاما روابط صداقةٍ مع أجانب أكثر بكثير من أسلافه؛ وهو راضٍ جدًّا عن ذلك. إنه يرى أن تيبت الزمن السالف كان شديد العزلة وأن هذه العزلة قد لعبت دورًا كبيرًا في وضع يد الصينيين على بلاده. إن مناط مهمته الحالية هو الحفاظ على بلدٍ من اللاجئين وعلى الاستمرار في تجسيد أمل التيبت – وهي مسؤوليةٌ تتطلَّب مساندة المجتمع الدولي.

في الحادي والعشرين من أيلول من العام 1987، قدَّم الدالاي لاما خطَّةً للسلام في التيبت خماسية النقاط، وذلك خلال كلمةٍ له أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي؛ وقد بَسَطَها بعد بضعة أشهر في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ. ولعل هذه الخطَّة ذات النقاط الخمس من أجل السلام هي واحدة من الوثائق السياسية الأكثر أناقةً في التاريخ. إنها تخطِّط لتحويل التيبت إلى واحة سلامٍ وسط المنطقة المضطربة في الهمالايا، لاحترام حقوق الإنسان الأساسية والحريات الديموقراطية من أجل التيبتيين، ولحماية البيئة الطبيعية على الهضبة التيبتية بأسرها. وإذا كان الاقتراح قد قوبِل بالإيجاب في الغرب فإن الصين رفضت مجرَّد الحديث عنه. لقد أعلن المسؤولون الصينيون أنهم مستعدون لِلِقاء الدالاي لاما، أو ممثِّلين عنه، في المكان واليوم الذي يحدِّده، لكنَّهم رفضوا دعوته عندما عرض لقاءً في جنيف في كانون الثاني من العام 1989. وحتَّى تاريخ نشر هذا اللقاء لم تَجْرِ بعدُ أية مفاوضات.

زرتُ الهند في تشرين الثاني من العام 1988 من أجل لقاء الدالاي لاما. وبعد ليلةٍ في القطار، وصلتُ إلى بَتْهَنْكوت قادمةً من نيودلهي. وبَتْهَنْكوت مدينةٌ من مدن مقاطعة البنجاب يعيث فيها الإرهاب. أخذت من هناك سيارة أجرة استغرقتْ أربع ساعاتٍ للوصول إلى ماكليود غانج، فيما صرف السائق الوقت يروي لي قصصًا مروِّعة عن حوادث اختطافٍ واختفاء. إن الولاية حيث تقع دهارَمْسَلا لا تعرف نزاعًا سياسيًّا حقيقيًّا، بيد أنه لا بدَّ من قَطْع البنجاب بكامله من أجل بلوغها. ومن أجل العودة إلى نيودلهي لم أستطع، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، أخذ القطار لأن محطة بَتْهَنْكوت كانت قد قُصِفَتْ في الليلة السابقة. عندئذٍ فهمت حالة فقدان الأمان التي يعيش فيها التيبتيون حتى في الهند: إنهم ليسوا مجبَرين وحسب على العيش على مقربة من الخطر في بلدٍ ليس بلدهم، بل إنهم واعون، في كلِّ لحظة، للفظائع التي تُرتَكَب يوميًّا في التيبت ولمعاناة الذين ظلُّوا هناك.

التيبتيون، رغم كلِّ هذه الصعوبات، أشخاصٌ سعداء على نحوٍ غريب؛ والدالاي لاما نفسه شخصٌ استثنائيُّ البهجة. إنه ينهض كلَّ يومٍ في الساعة الرابعة فجرًا ويبدأ نهاره بصلاة، هي بمثابة النذر أن تكون كلُّ كلماته، كلُّ أفكاره، كلُّ مآتيه، من أجل خير الآخرين. إنه يعيش حياةً بسيطة ويرتدي ثوبًا بنيًّا مرقَّعًا. وهو يشرح الأمر على النحو التالي: "لو كان مخاطًا من قطعةٍ واحدة من قماشٍ جيِّد لكان بإمكانك أن تبيعه وأن تفيد من ثمنه؛ أما على هذه الحال فلا تستطيع." بعد الصلاة يتنزَّه على مقربة من مقرِّه لكي يتمتَّع بالفجر وبأغاني العصافير، قبل أن يتناول فطوره مستمعًا إلى الأخبار من إذاعة الـBBC الدولية. أما ما تبقَّى من النهار فمكرَّسٌ للتأمل وللدراسات الدينية، للنقاش مع وزراء حكومته في المنفى، وللمقابلات التي يمنحها لزائريه. وهو ينسحب عادةً في التاسعة مساءً؛ أما في الليالي المقمرة فهو يلبث أكثر من ذلك قليلاً، قائلاً في نفسه إن القمر يطلع أيضًا على شعبه في التيبت. "لا تمرُّ ساعةٌ لا أفكِّر فيها بمعاناة قومي"، كما يقول.

وصلتُ قبل موعدي مع الدالاي لاما، عالمةً أن عليَّ أن أمرَّ على تفتيش أمني، تفتيش مفصَّل تقوم به نساءٌ هندياتٍ وراء ستارة مغلقة. إن هذه الاحتياطات المتَّخذة، يرافقها المظهر الساهر للحرَّاس الهنود الذين يُلمَحون على السواء داخل الأبنية وخارجها، تجعلني أشعر بالأمان. فمع أن هناك آلاف الأشخاص الذين يتمنَّوْن للدالاي لاما مديدَ العمر كلَّ يوم فإن من الحَسَنِ العلمَ بأن الحكومة الهندية تؤدي أيضًا قسطها من أجل تأمين حمايته.

بانتظار دوري، رأيت مجموعةً صغيرة تخرج من مقابلةٍ مع قداسته؛ وقد ذكَّرني ذلك بآخر لقاءٍ كان لي معه. كان ذلك في بودْه غايا في الهند، قبل ستِّ سنواتٍ، من أجل مقابلةٍ صحافيةٍ أيضًا. وقد سبق لي أن شهدت على تحولاتٍ ملحوظة. يدخل الناس (هذه المرَّة كانوا مجموعةً من الطلاب الأوروبيين مع أستاذٍ كنديٍّ) عادةً إلى صالة الاستقبال لكي يخرجوا منها بعد دقائق كما لو أنهم قد تجرَّعوا إكسير الحبِّ السحريِّ. يعلو الانبهار الوجوهَ ويكاد يصعب التعرُّف على الأشخاص الجادِّين والمحافظين الذين كانوا دخلوا؛ إنهم يضحكون ويحيُّون بحرارةٍ الزائرةَ التي تنتظر دورها وحيدةً.

حان دوري. ينتظرني الدالاي لاما عند مدخل القاعة. يحيِّيني، يشدُّ على يدي ويدعوني للجلوس إلى جانبه كما لو كنَّا صديقين قديمين طال فراقهما. يعتقد التيبتيون في الواقع بأننا سبق لنا أن كنَّا كلَّ شيء لبعضنا بعضًا، لمرَّاتٍ لا عدَّ لها، أمَّهات وآباء وشقيقات وأشقاء وزوجات وأزواج، منذ أزمانٍ لا بدء لها.

أبدى الدالاي لاما، طوال الساعة والنصف التي استغرقَها حديثُنا، روحًا رفاقيةً لا محيد عنها، معدِّلاً وضع الميكروفون كلما نسيتُ توجيهه نحو المترجِم،[7] منفجرًا أحيانًا بضحكٍ مُعْدٍ، ومجيبًا بأفضل ما يستطيع على أسئلتي، حتى وإن كانت هذه التجربة جديدةً إلى حدٍّ ما بالنسبة إليه.

 

قال الدالاي لاما: "إذا لم نُقِمِ السلام في دخيلة نفسنا فلن يكون هناك سلامٌ في العالم." إن تِنْزِن غِياتسو، الدالاي لاما الرابع عشر، رجلُ سلامٍ في قلب معركة من أجل بلاده. إنه رجلٌ من عصرنا، مثقَّفٌ ومبتهج. وهو كثيرًا ما يردِّد: "ديني الحقيقي هو الرحمة." والذين يعرفونه يعلمون أنه يعيش ما يقول حقًّا.

مضى عامٌ الآن على هذا الحوار في دهارَمْسَلا. وفي هذا الصباح، الخامس من تشرين الأول 1989، بينما أستعدُّ للعودة إلى بيتي عقب حضوري لقاءً بين الدالاي لاما وبين علماء نفس وممثِّلين عن الروحانية الغربية في كاليفورنيا الجنوبية، أُحِطْنا علمًا بأن سفير النرويج قد أبلغ الدالاي لاما منذ قليل بمنحه جائزة نوبل للسلام.

كاثرين إنغرام

***

 

مقابلة مع قداسة الدالاي لاما

دهارَمْسَلا، الهند، تشرين الثاني 1988

 

كاثرين إنغرام: قداسة الدالاي لاما، يتمنِّى المزيد فالمزيد من الناس في الغرب أن يُشرِكوا ممارستَهم الروحية بالتزامٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ. هل تعتقدون بترابط هذين الجانبين؟

قداسة الدالاي لاما: أعتقد أن جوهر الممارسة الروحية هو موقفنا تجاه الآخرين. عندما يكون دافع المرء نقيًّا وصادقًا، يكون موقفُه من الآخرين موقفًا طيِّبًا، موسومًا بالرحمة وبالمحبة وبالاحترام. إن الممارسة تعطينا وعيًا واضحًا لوحدة البشر قاطبة، ولأهمية أن يفيد الآخرون من أعمالنا.

كاثرين: الشعب التيبتي في الهند شعبٌ من اللاجئين. لقد فقدوا الكثير. لكنَّنا نشعر مع ذلك، حين النظر إليهم والإصغاء لهم، بفرحٍ عميق فيهم وبغياب كلِّ مرارة. كيف تفسِّرون ذلك؟

الدالاي لاما: أقول، أولاً، إن المنقول التيبتيَّ يعلِّق أهميةً كبرى على الحياة الإنسانية. فأنتِ تعلمين أن الشعب التيبتي عمومًا يعتبر الحياة شيئًا مقدسًا جدًّا، شيئًا قدسيًّا ومهمًّا. فحتى عندما تُقتَلُ حشرةٌ صغيرة فإننا نشعر على الفور بشعورٍ من الرحمة. أستطيع القول إن التيبتيين كرماء في الجماعة. من الأكيد أن هناك بينهم، على الدوام، مَن يتنازعون ويصل بهم الأمر أحيانًا إلى حدِّ القتل. لكن هناك تناغمًا في المحصِّلة. ويعود هذا، بشكلٍ رئيس، إلى تعاليم بوذية مهايانا، التي تشدِّد على الرحمة والسَّماحة والمحبة.[8]

كاثرين: لقد تحدثتم للمرة الأولى عن التزامكم اللاعنفَ حين ذهابكم إلى راجْغهات، عند مزار غاندي. لكنَّني قرأت كذلك قصةً سَبَقَ أن رويتموها بخصوص أحد الـبودهيساتفاوات. فعندما كان يقطع نهرًا على متنِ قاربٍ، رأى هذا الـبودهيساتفا رجلاً موشِكًا على قتل مئات الناس. لذا، رحمةً بهؤلاء الناس، قَتَلَ الـبودهيساتفا الرجلَ الذي، لولا ذلك، لكان ارتكب مجزرةً بحقِّ المئات، آخذًا على عاتقه كَرْما[9] فعلة القتل.

الدالاي لاما: نعم، بالتأكيد.

كاثرين: هل تعتقدون بأن العنف يمكن أن يكون ضروريًّا أحيانًا؟

الدالاي لاما: فيما يخصُّ المسألة التيبتية اخترتُ طريق اللاعنف. فمن الواضح، في حالتنا، أن العنف ما كان ليكون مجديًا. أعتقد أن الأمر مستبعَد. أما في القصة التي ذكرتِها فإن هذا الرجل كان قد نمَّى في نفسه الـبودهيتشيتا، أي الإيثار – وكان قد أصبح بودهيساتفا حقيقيًّا. عندما يكون دافع الإيثار أكيدًا حقًّا، يمكن للمرء أن يتَّبع واثقًا طريقةً عنيفةً في الظاهر من أجل مساعدة الآخرين. أما أنا شخصيًّا فلم أنمِّ بما يكفي هذا النوع من الإيثار. لكنَّني بالتأكيد أجتهد في ذلك، ومع مرور الوقت أتقدَّم أكثر. بيد أني لا أستطيع لذلك القول بأني بودهيساتفا. لنقل بالأحرى أني مرشَّحٌ لإيفاء هذا النذر. ولكن، بما أني لا أملك، كما ترين، لا هذا التأكيد ولا هذه الثقة فإن الأمر رهن المجازفة. كلما كنَّا أكثر وثوقيةً كان اللاعنف التام أقلَّ خطرًا.

كاثرين: بمعنى أنه ما لم يكن المرء قد صار بودهيساتفا حقيقيًّا فإن الغياب الكلِّي للعنف يبقى الطريق الأفضل؟

الدالاي لاما: قطعًا. ما من شكٍّ في هذا الأمر. وقصة الـبودهيساتفا هذه إنما تتكلَّم على تصرُّف شخصٍ واحد. أما عندما تكون هناك جماعاتٌ بأسرها في نزاعٍ فإنَّ الأمر يتعلَّق بحياة آلاف الأشخاص. قد يكون عند شخصٍ أو آخر الإيثار الحقيقي للـبودهيساتفا، لكن الأمر لن يكون قطعًا كذلك بالنسبة للغالبية. وإذن فمكمن الخطر كلِّه أن يكون الغضب هو الدافع؛ وهذا أمرٌ شديد الخطورة، شديد المجازفة.

كاثرين: ماعدا مبادئ اللاعنف، ما هي أوْجُه نضال غاندي التي أثَّرتْ فيكم أكثر ما أثَّرتْ؟

الدالاي لاما: بساطته أوَّلاً، أسلوبه في الحياة؛ وكذلك مستوى التعلُّم الحديث الذي بلغ إليه، مع بقائه هنديًّا حقيقيًّا. فقد درس في الغرب، كونه كان مواطنًا في دولةٍ حديثة، لكنَّه بقي في شخصه هنديًّا متجذِّرًا في تراثه. وهذه هي الحالة المُثلى.

كاثرين: لقد عرف كيف يحافظ على هوِّيته الثقافية.

الدالاي لاما: أجل. لقد كان هنديًّا على كلِّ حال. لم يكن بإمكان أيِّ شخصٍ أن يغيِّر ذلك. أعتقد أنه أمرٌ حسنٌ أن يذهب هنديٌّ ليتعلَّم في الغرب، متطلِّعًا إلى تنمية الهند أو من أجل مستقبله الشخصيِّ. ولكن عندما يمارس غربيٌّ، على سبيل المثال، البوذية التيبتية يبدو أحيانًا وكأنَّ الشخص قد "تَتَيْبَتَ". وبالعكس، يحدث أحيانًا أن هنديًّا أو تيبتيًّا دَرَس في الغرب يصير هو نفسه نصف غربيٍّ. التعليم والتقنية هما من الوسائل. لكن المرء، إن كان هنديًّا، فلا شيء يستطيع تغيير ذلك. إذا أصبح شخصٌ تعلَّم في الغرب أو دَرَسَ البوذية التيبتية نصفَ متغرِّب أو نصف مُتَتَيْبِت فإن كلاً منهما يفقد، على نحوٍ ما، نصف هوِّيته. لكنَّه لو استطاع، من جهةٍ أخرى، أن ينمِّي جميع هذه الخصائص في نفسه – بالدراسة في الغرب مع تعلُّم وسائل تقنية أخرى – فإنه سيحافظ على هوِّيته الخاصة كهنديٍّ أو غربيٍّ، على ما ينبغي أن تكون عليه الحال. لقد كان غاندي مثالاً جيدًا على ذلك. لكنني لا أعرف لماذا كان يصطحب عنزةً على الدوام! [يضحك.]

فيما يخصُّ اللاعنف، عديدون هم المعلِّمون الروحيون الهنود الذين نادوا بالـأهِمشا، أي اللاعنف، كفلسفةٍ ومسيرةٍ روحية.[10] ولكن خلال القرن العشرين هذا، بيَّن لنا المهاتما غاندي أننا نستطيع أيضًا أن نطبِّق هذه الفلسفة النبيلة، الـأهِمشا، في السياسة الحديثة. إنه أمرٌ يستحق النظر.

كاثرين: لقد كان "اختبار الحقيقة" هذا طفرةً حقيقيةً إلى الأمام في الوعي السياسي.

الدالاي لاما: إن قيمة الحقيقة في المجتمع الإنسانيِّ، أو لنقل في الأمَّة الإنسانية، لتبدو شديدة الأهمية في نظري. أعتقد أن الكثير من الناس ما كانوا، في بداية هذا القرن [العشرين] وفي منتصفه، يكنُّون احترامًا لها. إذ يمكن للحقيقة أن تبدو للمرء ذات قيمة بخسة إن كان يملك السلطة والمال. أعتقد أننا نستطيع اليوم القول إن العقليات تغيَّرتْ. فحتى الأمم الأقوى بدأت تلحظ أنه يجب عدم إهمال القيم الإنسانية الأساسية – الإيمان الإنساني الجوهري.

إن مناطق بأكملها قد دبَّتْ فيها الفوضى كليًّا بسبب استخدام القوة العسكرية وسلطان السلاح: الاتحاد السوفييتي، الصين، بيرمانيا، والعديد من البلدان الشيوعية، وبلدانٌ أفريقية وأمريكية لاتينية. لكنك تعلمين، في نهاية الأمر، أن سلطان السلاح وسلطة إرادة البشر العاديين هي التي تغيِّر الأماكن. إنني لا أفتأ أكرِّر بأن هذا القرن العشرين – قرننا – مهمٌّ جدًّا من الناحية التاريخية بالنسبة لكوكب الأرض. ثمة حاليًّا تنافس كبير بين السلام العالمي والحرب العالمية، بين قوة الروح وقوة المادية، بين الديموقراطية والتوتاليتارية. والآن، في هذا القرن، فإن التفوُّق من نصيب قوة السلام. من الأكيد أن القوة المادية ما تزال قويةً جدًّا، لكن يبدو كما لو أن هناك سأمًا من المادية، كما لو أن هناك وعيًا أو شعورًا بنقصٍ ما.

كاثرين: لاسيَّما بالنسبة للذين عرفوا الازدهار المادي، في الغرب بالذات.

الدالاي لاما: هذا صحيح. ونحن نقترب من نهاية القرن ومن الدخول في القرن الحادي والعشرين، يبدو لي أن القيم الإنسانية وقيمة الحقيقة تعود إلى مركز اهتماماتنا. أعتقد أن كلَّ هذا يستقطب اليوم المزيد من الأهمية، المزيد من الوزن. وهذا يصحُّ أيضًا بخصوص التيبت. لقد وقع الاجتياح الصينيُّ منذ ما يقرب من أربعين عامًا، ونحن على عتبة عقدٍ جديد. إن الأعوام العشرين القادمة ستكون مصيرية إذن. إننا حاليًّا في العقد الرابع ولا نملك، لكي نتفاوض مع الصين، غير الإرادة الإنسانية: الحقيقة. رغم عمليات غسل الدماغ، والفظاعات المرتكَبة والدعايات المنظَّمة، تبقى الحقيقة هي الحقيقة. أما نحن فلا نملك لا المال ولا الدعاية؛ لدينا فقط أصواتنا الضعيفة. والحال فإن ثقة الناس في الأصوات القوية للصينيين تتناقص أكثر فأكثر لأنهم فقدوا مصداقيتهم. إن لأصواتنا الضعيفة حصَّةً أكبر من هذه الثقة.

كاثرين: قال مارتن لوثر كينغ: "ما من كذبةٍ تدوم إلى الأبد."

الدالاي لاما: أجل. ترين أن قصة هذا القرن تؤكِّد اللاعنف الذي تكلَّم عليه المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ. وحتى في وجه قوةٍ عظمى، تملك كلَّ هذه الأسلحة المريعة، يمكن لواقعية الحالة أن ترغم الأمَّة المعنية بأن تقبل باللاعنف. إنها عملية أبطأ أحيانًا، لكنها أكثر فاعليةً.

كاثرين: لقد ثمَّنتُ كثيرًا أن خطَّتكم للسلام خماسية النقاط تتضمَّن بندًا هامًّا يخصُّ البيئة.[11] هَبْ أننا توصَّلنا إلى عدم الانتحار الجماعي مع كلِّ الأسلحة النووية التي في حوزتنا، وأن الدول الكبرى لم تعد تتسلَّط على الدول الصغرى، ثمة حاليًّا عملية تدهور للبيئة على مستوى الأرض برمَّتها. أفكر خصوصًا في مسائل من قبيل مفعول الدفيئة (تسخين الأرض) وتلوُّث مواردنا الجوية والمائية والثقوب الكبيرة في طبقة الأوزون التي تسمح بمرور كمياتٍ من الإشعاعات الخطيرة على الإنسان. ومن ذلك كلِّه الزيادة المحتملة في عدد الإصابات بالسرطان، وخطر الإبادة، خلال وقتٍ قصير، لكلِّ عَلَقِ البحر، الأمر الذي سيدمِّر، في حال حدوثه، الحياة في المحيطات. هل تعتقدون أن الأرض ستنجو من هذه الأزمة البيئية؟ هل تعتقدون بأننا سننجو من كلِّ هذا؟

الدالاي لاما: من الصعب الحُكْم. لا أعرف. لكنَّ هناك أمرًا واضحًا في كلِّ الأحوال: الأرض هي بيتُنا، ولسنا نستطيع أن ننجو بدونها. هذا شبه أكيد. ولمَّا كنَّا أبناء هذه الأرض فإننا تحت رحمة الأرض–الأمُّ فيما يخصُّ البيئة والإيكولوجيا. وليس هذا من قبيل ما هو مقدَّس أو أخلاقي؛ إنها ببساطةٍ مسألة البقاء على قيد الحياة. أعتقد – أو آمُل على الأقل – بأن الوقت ربما ليس متأخِّرًا جدًّا بعدُ لوعي أهمية البيئة. لا بدَّ أن نتعلِّم في بعض الأحيان التنازلَ عن بعض عوامل الرفاهية من أجل الحصول على مقدار معقول من الرضى؛ وعلينا، من أجل ذلك، أن نعامل البيئة بمزيدٍ من الاحترام. أعتقد أن الوقت ليس متأخِّرًا بعدُ، لكنِّني لا أعرف. يخمِّن بعض العلماء أن الوضع الحاليَّ خطيرٌ جدًّا.

كاثرين: أعلم أن قداستكم تهتمون بالعلوم الحديثة، سواء تعلَّق الأمر بالبحث في العلوم العصبية أو بعلم النفس الجزيئي أو بالفيزياء، إلخ. وبفضل التقنيات الجينية اكتشف العلماء أنهم، عبر نقل بعض خلايا من حيوانٍ لآخر، يستطيعون اصطناع حيوانٍ جديدٍ كليًّا. وهم يُجرون تجاربَ أيضًا هي عبارة عن زرع نُسُجٍ مأخوذةٍ من جنين في أشخاصٍ مسنِّين بغية تدارُك أمراض الشيخوخة كمرض باركنسون ومرض ألتسهايمر. إنَّ الباحثين في علم النفس الجزيئي، أي في دراسة جزيئات المخ، يستخدمون العقاقير من أجل تغيير الذهن والسلوك تغييرًا جذريًّا. يحلم هؤلاء العلماء باليوم الذي يستطيعون فيه أن يعالجوا جميع الشذوذات باستخدام العقاقير أو بالتدخل المُوَرِّثي – كما لو أنَّ الحياة ليست أكثر من عَرَضٍ ميكانيكيٍّ. لا جرم أننا قِطَعٌ قابلةٌ للتغيير بالتبادل في نهاية الأمر – لكن الكيل طفح! أين جوهر الحياة إذن؟ ما هو المقدَّس في هذا كلِّه؟

الدالاي لاما: إذا كانت المعالجات الجينية والكيميائية تسمح بتحريض تغيرات في مزاج شخصٍ ما أو في أفكاره، كما تقولين، فأنا لا أعتقد أنَّ جوهره سوف يتبدَّل.

عندما نتحدَّث عن بشر يخطر في بالنا مستوًى معيَّن من الوعي. وسواء كانوا شبانًا أو شيبًا، رجالاً أو نساءً، متعلِّمين أم غير متعلِّمين، أسوياء أو غير أسوياء من وجهة النظر العقلية، فإنَّنا نسمِّي جميع هؤلاء كائناتٍ إنسانية. وحتى إذا كان الشخص مجنونًا تمامًا فإن جوهره يبقى هو هو. إن الهوية الإنسانية ثابتة. يدَّعي بعضهم اليوم أننا سنستطيع يومًا ما أن ننجز كمبيوترًا متطوِّرًا بما يكفي ليتمخَّض عن نوعٍ من الروح أو من الوعي. لكنَّك تعلمين، فيما يخصُّ بويضة الأمِّ ونطفة الأب، أنْ لا أحد يعتبر أحد هذين – البويضة أو النطفة – كائنًا إنسانيًّا حيًّا. ومع ذلك فهما يجتمعان وتعمل الكثير من الظروف كقاعدةٍ للوعي الإنسانيِّ. هذا، على كلِّ حالٍ، ما نعتقد. إننا نتحدث إذ ذاك عن كائن إنسانيِّ أو نقول إنه صُوِّر ككائنٍ إنسانيٍّ. وبالمثل، يمكن لمواد مختلفة أن يقترن بعضها ببعض كي تصل إلى مستوى يمكِّنها من العمل كقاعدةٍ للوعي؛ الأمر الذي يتيح للوعي أن يدخل وأن يشكِّل كائنًا حيًّا.

كاثرين: وهذا الكائن يبقى خاضعًا لقوانين الـكرما، و...

الدالاي لاما: نعم بالطبع؛ وههنا أمرٌ جديدٌ جدًّا. فلئن كان الكائن الإنساني يبدو لنا حاليًّا أمرًا طبيعيًّا تمامًا، تخيَّلي كيف يرى شخصٌ طاعنٌ في السنِّ، ممَّن كانوا يعيشون قبل عالمنا كما نعرفه اليوم، أبناءَ هذا العصر. أحسب أنه سيجدهم غريبين جدًّا. وهذا أمرٌ يصحُّ علينا. فلنقبل بأن أمرًا كانبثاق الوعي يتمُّ في كمبيوتر وبأن كائنًا حيًّا جديدًا قد خُلِقَ – هو أمرٌ سيكون مدهشًا للوهلة الأولى، لا بل شديد الغرابة؛ ولكن، مع الوقت، سنرى أنه أمرٌ طبيعي، كشكلٍ جديدٍ من الكائنات ذات النَّفْس.

كاثرين: الأمر الذي يؤول إلى قولنا بوجود قوة للحياة، وبأن هذه القوة يمكن أن تتحرَّض بأشكالٍ عديدة: سواء عبر لقاء بويضةٍ ونطفة طبيعيين أو عبر خَلْقٍ في المختبر.

الدالاي لاما: أجل، أحسب أنَّ هذا ممكن. نقول في البوذية إنَّ هنالك أربعة أنواعٍ من الولادة: الولادة العفوية، الولادة من الرَّحِم (وهي الولادة الطبيعية)، والولادة من البويضات، والولادة من الحرارة أو الرطوبة. والمسألة الدقيقة هي في معرفة فيما إذا كان الوعي هو الدافع إلى هذه الأفعال أو السيرورات.

إن الكمبيوتر، الذي كنَّا قد زوَّدناه بالتركيب الآليِّ وبالبرمجيات المناسبة، يستطيع أن يبدأ بالتصرف ككائنٍ حيٍّ تقريبًا. خذي نبتةً أو زهرة. فلو أعطيتِها بعض المواد الكيميائية فإنها ستَرتَكِسُ تجاه الضوء أو الظلام. إن سيرورة الجسم الإنساني لَمماثلة، بقدرٍ أو بآخر؛ ومع ذلك فإن الناس لا يعتبرون عمومًا أن للنباتات وعيًا. هناك حياة، لكنَّها ليست حياة ذات نَفْس. يبدأ الحدُّ الفاصل بدءًا من اللحظة التي يوجد فيها الوعي: مادام لا يوجد وعي فإننا لا نرى فيه كائنًا حيًّا. الآن، بإزاء كمبيوتر، من شأنه أن يستطيع ذات يوم أن يبدأ بالكلام وأن يقوم ببعض الأفعال المشابهة لنا نحن البشر، يجب أن نتساءل إن كانت هذه التصرفات التي يقوم بها هي وليدة ما نسمِّيه وعيًا ذهنيًّا، أو إذا كانت تُعزى فحسب إلى آلياتٍ ميكانيكية. وحالما يتم التأكُّد من وجود الوعي يمكننا اعتبار هذا المخلوق كائنًا حيًّا.

كاثرين: أعلم أن العقيدة التيبتية تملك فهمًا مفصَّلاً جدًّا لسيرورة الموت. أتساءل إن كنتم، قداستكم، قد تنوَّرتم شخصيًّا حول التعليم الذي ينقله كتاب الموتى التيبتي.

الدالاي لاما: أصْدُقُك القول إنه ليست لديَّ أية خبرة. اتفق لي ذات يوم أن وقعتُ في الماء في قصر نوربولِنغكا، ورأيت نجومًا في غضون بضعة لحظات. لكني لم أجد الوقت للتأمل في الموضوع فيما بعد. بعض الممارسين الذين يتأمَّلون في هذه الأحوال منذ عشرين عامًا يملكون خبراتٍ رائعة لهذه المستويات المختلفة من الوعي. في وسعهم حتى أن يتوقفوا عن التنفس لفترةٍ ليست بالقصيرة. إنه ليس بالأمر العفوي، بل هو ثمرة التأمل. إنهم، بهذه الرياضة، يحرِّضون عمدًا هذا المستوى من الوعي ويعيشون بالضبط ما هو موصوفٌ في النصوص.

كاثرين: بعد أيامٍ من إعلان خطَّتكم للسلام خماسية النقاط، قام الصينيون بردِّ فعلٍ سلبيٍّ، مقتصِّين من التيبتيين. فحتى عندما تدعون إلى السلام يمكن لهذا النوع من الأمور أن يحدث. هل يجعلكم هذا أكثر تردُّدًا في الإفصاح بشكلٍ علني؟ هل تخشون من انتقاماتٍ عندما تطلقون تصريحاتٍ يمكن أن يفهمها الصينيون على محمل التحدِّي لهم؟

الدالاي لاما: لقد أُعلِنَتْ خطَّة السلام خماسية النقاط، كما تعلمين، في تشرين الثاني من العام الماضي [1987] على ما أظن. لقد كان ردُّ فعل الصينيين سلبيًّا وقالوا إنني رجعي. بعد ذلك وقعتْ مظاهرات في التيبت وانتقامات جديدة. لقد كنَّا بالتأكيد مشغولي البال وقلقين جدًّا.

كما ترين، سواء وقعتْ اضطرابات ظاهرة أو غير ظاهرة، فإن الوضع في التيبت يبقى بالغ الخطورة. أعتقد أن الصينيين، على طريقتهم، أمَّة في غاية التحضُّر. وفي الوقت نفسه، نراهم لا يعرفون غير القوة. إنَّهم لا يفهمون الحقيقة. أعتقد أن الوضع لا بدَّ أن يُسوَّى مع الوقت. لقد كان هناك تغير إيجابي إبان السنوات التسع الأخيرة.

إن زبدة ما طرحتُه في ستراسبورغ (لقد بسطتُ خطَّة السلام خماسية النقاط أمام البرلمان الأوروبي) كان معروفًا في واقع الأمر لدى المسؤولين الصينيين، حتى قبل أن ألقي مداخلتي أمام أعضاء الكونغرس الأميركي؛ إذ كان وفدُنا قد شرح، في أكثر من مناسبة، الخطوط العريضة لهذه الخطَّة للحكومة الصينية. بيد أن الصينيين لم يأخذوا قط حالتنا بالحسبان؛ لا بل وصل بهم الأمر إلى حدِّ أن يقولوا لنا صراحة: "إنكم لا تقيمون في التيبت، ومادمتم باقين في الخارج فليس من حقِّكم تقديم أيِّ اقتراح."

الصينيون ثقيلو السمع كما ترَيْن: إنهم يصمُّون آذانهم عن سماعنا. إنه لَمِنَ المنطقي للغاية، بل من الحسِّ السليم، أن يتوجَّه إنسانٌ يملك صوتًا إنسانيًّا إلى إنسانٍ آخر ويخاطبه، يكلِّمه. ولكن إن لم يكن هناك مَن يصغي ففيمَ يفيد الكلام؟ أما إذا كان الآخر مستعدًّا للإصغاء فإن الرغبة في الشرح تكون أقوى. في الوقت الحاضر يتزايد أكثر فأكثر حول العالم عددُ العارفين بالمشكلة التيبتية. لكن آذان أصدقائنا الصينيين ليست بعدُ بمنتبهة بما يكفي، وبإمكاننا الاستمرار بالصراخ في وادٍ حتى يُبَحَّ صوتُنا. [يضحك] هذا هو السبب الذي جعلني أُطْلِق هذه العروض، ليس في بكين، بل أمام المجتمع الدولي. نستطيع القول اليوم إن موقف الصينيين نحونا، بسبب من الضغط العالمي، صار أكثر إيجابيةً، في غضون الشهور الاثني عشر الأخيرة، مما كان عليه إبان السنوات التسع الأخيرة.

كاثرين: لكن القمع يستمرُّ داخل التيبت.

الدالاي لاما: في الوقت الحاضر، نعم. فعلى المدى القصير، حدثتْ، منذ السنة الماضية، انتكاسات، وعاد الوضع أكثر جمودًا. لكنني أكثر سعادةً اليوم بمعرفة أن التيبتيين باتوا محضَّرين جيدًا لهذا الأمر. ذلك أنه، مع استخدام الصينيين للمنهج القاسي، فإن إصرار الشعب التيبتي قويٌّ جدًّا. قابلت بالأمس راهبًا شابًّا كان قد شارك في المظاهرة الأولى في تشرين الأول من العام الماضي [1987]، ونجا فارًّا. إنه أمرٌ جديرٌ بالإعجاب. إنني لمعجبٌ حقًّا بصمود كلِّ أولئك الذين يشاركون في حركات المقاومة هذه. وعندما سألته فيما إذا كان شعر بالكثير من الغضب تجاه الصينيين، أخذت الدموع تجري من مقلتيه، وأجابني بأن غضبًا هائلاً يستعر فيه ضدَّ الصينيين. منذ بضعة شهورٍ التقيت أيضًا بشبَّانٍ صغار، تتراوح أعمارهم بين العاشرة والثالثة عشر، كانوا قد أضرموا النار في سياراتٍ صينية وفروا هاربين. كان غضبهم متَّقدًا أيضًا. هذا محزنٌ جدًّا، محزنٌ جدًّا.

كاثرين: لكنَّه مفهوم؟ كان غاندي ومارتن لوثر كينغ يعلمان أن ما يقومان به قد يحرِّض عنفًا ضدَّهم أو ضدَّ أقربيهم، لكنَّهما فهما أن ذلك ضروري إن كانا يريدان جذب انتباه العالم لحالتهما. إن منهج اللاعنف يحرِّض العنف أحيانًا. من الحَسَنِ أن يُسمَع على لسانكم أن الناس الذين بقَوْا في التيبت يفهمون أنكم تقومون بما عليكم أن تقوموا به، مخاطِرين، في بعض الأحيان، بأن تجعلوا حياتهم أكثر قسوةً أيضًا.

الدالاي لاما: ما من خيار.

كاثرين: قداستكم، لو كان بإمكانكم أن تعودوا لعيش حياتكم منذ البداية، هل كنتم ستتصرفون على نحوٍ مختلف، هل كنتم ستتَّخذون قراراتٍ أخرى؟

الدالاي لاما: في الظروف نفسها، لا، ما كنت لأتصرَّف على نحوٍ مختلف. من الأكيد أن هناك نقاطًا تفصيلية: إننا نناقشها بين وقتٍ وآخر. كما ترين، في خلال السنين الأربعين الأخيرة، باستثناء أمور صغيرة، ليس هناك عمليًّا أيُّ عملٍ يمكنني أن أندم عليه اليوم.

كاثرين: لقد فقدتم أشياء كثيرة في هذه الحياة. فقدتم العديد من أقاربكم، وعليكم بالتأكيد أن تُواجِهوا فقدان وطنكم منذ أربعين عامًا إلا قليلاً. أين تجدون المكان للحداد في حياتكم؟ هل لكم أن تقولوا كلمةً من أجل كلِّ الذين يواجهون حدادًا – الأمر الذي سيحدث لنا جميعًا، عاجلاً أو آجلاً؟

الدالاي لاما: ثمة طريقتان لفقدان أحدٍ ما. تشكِّل إحداهما جزءًا من النظام الطبيعي للأمور. لقد فقدتُ والدتي، معلِّمين، شقيقًا – وهذا طبيعي. ومادام الأصدقاء القدماء لا يختفون فإننا لا نستطيع أن نستقبل الجُدُدَ منهم! [يضحك.] إن مؤمنًا بوذيًّا يقبل هذا النوع من الفقدان كشيءٍ طبيعي، لا كشيء خاص، لا كشيء خارج المألوف. إن حزن الفقدان ليس بشديدٍ إذن. من الأكيد أن هناك، إبان بضعة أيامٍ، شعورًا ملحًّا بأنك مشتاق إلى أحدهم، لكنَّ هذا عابر.

هناك فئة أخرى من الفِقدان: تلك التي تنجم عن مأساةٍ أو عن كارثة. لقد فقدنا بلادَنا، فقدنا عددًا من الأصدقاء المقرَّبين جدًّا – دفعةً واحدة ورغمًا عنَّا بالطبع. لكن المأساة بدأت في حالتنا في العام 1950، وهذا يساعدنا قليلاً أيضًا؛ لأننا انتهينا مع الوقت، بطريقةٍ من الطرق، إلى التعوُّد على الأمر. ومن قبل أن نصل إلى هذه الحالة بوقت طويل، كانت لدينا القناعة الحميمة بأن هذا النوع من الأشياء لا مفرَّ من أن يحدث.

كاثرين: كان سلفُكم، الدالاي لاما الثالث عشر، يعتقد ذلك أيضًا.

الدالاي لاما: آه، نعم. لكنْ ما مِن أحدٍ صدَّقَه. كان الناس مقتنعين أنه يريد أن يُرعِبَهم، فما أعاروه انتباهًا. ولكن عندما جاء الصينيون لـ"يحرِّروا" التيبت، على حدِّ زعمهم، بين العامين 1950-1951 وبدءًا من نهاية عام 1955 والعام الذي تلاه، وتضاعَف العنفُ في الجزء الشمالي الشرقي من التيبت، لم يعد هناك أيُّ شك. مع ذلك فعلنا كلَّ ما في وسِعَنا. شخصيًّا أفادني كثيرًا أن أعرف مسبقًا ما كان سيحدث.

كاثرين: هكذا كنتم متوقعين الأسوأ.

الدالاي لاما: نعم. لكن ذلك لم يَحُلْ بيني وبين الحزن. أكابد المزيد من الحزن أيضًا من جرَّاء معرفة أن الكثير من التيبتيين، رغم المصير الذي يعانون منه ورغم الهول المسيطر، يُبدون كلَّ هذه الثقة التي يضعونها فينا ويعقدون كلَّ هذا الأمل علينا. إن هذا ليحمِّلنا مسؤوليةً ثقيلة ويجعلني حزينًا في بعض الأحيان. ما أكبر هذه الثقة، هذا الرجاء، و ما أقل ما أستطيع القيام به هنا. ثمة الكثير من الحدود. نعمل كلَّ ما بمستطاعنا؛ وفي حدود الممكن، دوافعُنا واضحة. أما أن نبلغ إليها أو لا نبلغ فذلك شأن آخر. ما أسهل ما يسارع البوذيٍّ، كما تعلمين، إلى إلقاء اللائمة، في مواجهة النكبات، على الـكرما السابق. إنَّنا نفعل ما في وسعنا، بيد أنه بسببٍ من القوة الكارمية السابقة... [يضحك] ليس من المجدي أن نلوم الله؛ الأحرى بنا أن نلقي باللائمة على كرمانا نحن!

كاثرين: هل ثمة في محيطكم أشخاص تستطيعون أن تعتبروهم أصدقاء حقيقيين، أشخاص تستطيعون أن تكونوا معهم على سجيَّتكم؟

الدالاي لاما: نعم، بالتأكيد. واقع الأمر أنني أعتقد أن العالم قاطبة يشكِّل جزءًا من دائرة أصدقائي. إن موقفي هو التالي: عندما يكون أحدهم منفتحًا، مباشرًا، وصادقًا حقًّا، فإننا نجد بسهولةٍ كبيرة هذا الشعور بالحميمية. أما مع شخصٍ شديد التحفُّظ أو التكلُّف فإن الأمر أصعب. في الحالة العادية، أنا، كما ترين، شخصٌ شديد البساطة. أعتقد إذًا أنَّ هذا يساعد.

كاثرين: لو لم تكونوا في مكانتكم كزعيمٍ روحيٍّ وزمنيٍّ للتيبت، هل كنتم ستختارون أن تكونوا رجلاً ملتزمًا، أم كنتم ستفضِّلون عيش حياة الراهب في ديرٍ ما؟

الدالاي لاما: ما أفكِّر فيه اليوم هو أنني، لو لم أكن الدالاي لاما، لكنت وددتُ أن أجزيَ وقتًا في ديرٍ أو في مكانٍ للخلوة الروحية لكي أمارس التأمل العميق. في العشرين والثلاثين والأربعين من عمري كانت لديَّ رغبة عارمة في الرياضة الروحية. وهذه الأفكار إنَّما تأتي من الاحتكاك مع تعاليم البوذا أو من معارف المرء حول البوذية. أما لو كنت بقيت في مكاني، كابن لفلاح، فلا أعرف. عندما وُلِدتُ كان والدي قد قرَّر أنني سأدخل الدير كي أصبح راهبًا. لو كانت الظروف مختلفةً لكانت هناك حظوظٌ قوية كي أصير تقنيًّا أو شيئًا من هذا القبيل؛ إذ إنني كنت شديد الاهتمام بالميكانيكا.

كاثرين: من بين المشاكل الأخرى في العالم، ما هي التي كانت ستجتذبكم أكثر من غيرها؟

الدالاي لاما: إنني أفكِّر فيما أعيشه الآن، في مسؤوليتي كدالاي لاما – وهو العامل الأول بالنسبة لي. وشخصيَّتي هي العامل الآخر؛ وكما سبق أن قلت، إنني شديد الصراحة، بلا تكلُّف، وإن دوافعي لَصادقة. ويبدو أن الناس يَجْنون بعض سلام الذهن من هذا، أو فائدةً ما أخرى.

لكني لو لم أكن الدالاي لاما، لا أعلم. بحسب أسس الفلسفة البوذية في التواكل، قانون الإيجاد المشروط، فإنَّ الأمور، على حدِّ ما هي، تشكِّل الواقع. علينا إذن أن نُحسِنَ ما أمكن استخدامَ الحالة الواقعية وأن نختار أفضل السُّبُل الممكنة بين كلِّ السُّبُل الموجودة.

كاثرين: تحدثتم عن عودةٍ محتملة إلى التيبت. هل تعتقدون أنه ستُتاح لكم العودة إلى التيبت في حياتكم هذه؟

الدالاي لاما: أعتقد أنْ نعم. لكنه ليس بالسؤال الهام. ما هو أكثر أهمية هي الحرية. سواء كدالاي لاما أو كراهبٍ، تِنْزِن غِياتسو، أريد أن تكون لي حرية المساهمة بأفضل ما لديَّ لمساعدة التيبتيين وكلِّ الكائنات. ولهذا فإنَّني أبقى خارج التيبت مادمت أستطيع بذلك أن أكون أكثر فائدةً. لكنَّني لو كنت أستطيع أن أفعل ذلك من التيبت فسأعود إذ ذاك. إما في التيبت وإما في الصين. إن الصين بلاد جميلة جدًّا. والبوذية ليست، في جميع الأحوال، شيئًا أجنبيًّا أو طارئًا على الذهنية الصينية. إن الكثير من الصينيين هم بوذيون تقليديًّا وعندهم أماكن مقدسة وهياكل بوذية، على عكس الغرب، حيث المراكز البوذية جديدة وحيث الفلسفة البوذية حديثة العهد تمامًا. ليست الحال كذلك في ذهن الصينيين. ولهذا السبب فإني أعتقد أن الشعب الصيني، لو أتيح له أن يكون على احتكاكٍ مع البوذية، أن يدرسها وأن يمارسها، فإنني شبه واثق من أن الكثير من الصينيين الشباب ستجتذبهم هذه الفلسفة وأنهم سيَجْنَوْن منها خيرًا عميمًا. لو أن مثل هذه الفرصة يمكن أن تتاح فلسوف أكون بكلِّ تأكيدٍ مستعدًّا للمشاركة فيها. إنَّ الصينيين أيضًا بشر.

إن ما يُقلِقُني أكثر هو أن الأمور يمكن أن تأخذ منحًى معاكسًا. إن عودتي إلى التيبت أو إلى الصين لا تنفع في شيء إذا كان من شأن هذا أن يؤذي التيبتيين، أو إذا تعذَّر عليَّ أن أكون مفيدًا. والحال فإنَّ الأمر لا يتعلَّق بي حقًّا، بل بتغيُّر داخلي في الصين.

كاثرين: هل تعتقدون بأنَّه سيكون هناك تجسُّد جديدٌ للدالاي لاما؟

الدالاي لاما: من الصعب البتُّ في الأمر في الوقت الحاضر. إنَّ السنوات العشر أو العشرين القادمة ستكون تقريرية بالنسبة لهذا الأمر. أعتقد أنَّ التيبتيين ما يزالون يريدون الدالاي لاما. واقع الأمر أنَّ هذا الموضوع لا يخصُّني؛ بيد أن الشعب التيبتي، إن أراد أن يكون هناك دالاي لاما آخر، فسيكون. أما إذا تغيَّرتْ الظروف، ولم تهتم غالبية التيبتيين فعلاً بالدالاي لاما، فسأكون آخر دالاي لاما. ليس الأمر من اختصاصي. إنَّ التيبتيين الذين الآن في سنٍّ ما بين الخمس والعشر سنين في موقع المسؤولية، وسيكون من شأنهم بعد عشرين أو ثلاثين عامًا، حين أكون قد متُّ، أن يقرِّروا.

 

كاثرين: أتمنَّى لكم حياةً مديدة.

الدالاي لاما: بحسب أحلامي، لعلي سأعيش في حدود مائةٍ وعشرة أو مائةٍ وثلاث عشرة سنة على الأكثر. لكنَّني لا أظنُّ أنني سأعمِّر كلَّ هذه السنوات. ربَّما حتى التسعين، أو بين الثمانين والتسعين؟ بعد ذلك لن أكون نافعًا لشيء: لا أكثر من دالاي لاما عجوز زهيد القيمة.

كاثرين: مع كلِّ الاحترام الواجب عليَّ نحوكم، فإنِّني أخالف قداستكم...

***

في الوقت الذي كان فيه الدالاي لاما يتسلَّم جائزة نوبل للسلام، كان القانون العرفي، الذي أعقب انتفاضاتٍ عنيفة، قد طُبِّق في التيبت وبقي نافذًا حتى نهاية العام 1990. ومنذ ذلك الوقت لم تكف الحالة عن التفاقم بالنسبة للتيبتيين الذين لم يرغبوا، أو لم يستطيعوا الهرب باتِّجاه البلدان المجاورة. هدمٌ للأديرة، سياسة منظَّمة للقضاء على الثقافة والهوية التيبتيتين، زيجاتٌ قسرية بين صينيِّين وتيبتيين، أو تعقيم بالإكراه للَّواتي يرفضن مثل هذا الزواج، بينما استمرت الاعتقالات حتى العام 1997. من جهةٍ أخرى، صار التيبت مركز التجارب النووية للحكومة الصينية الشيوعية. وأخيرًا قامت هذه الحكومة، بعد أن خطفت التجسُّد الجديد للبَنْتشِن لاما، المتوفى في كانون الثاني من العام 1989، بتقديم طفلٍ صينيٍّ محلَّه على أنه البَنْتشِن لاما الحقيقي.

مستفيدين من الفرصة المتاحة لهم على نحوٍ استثنائيٍّ، بالحجِّ مرةً كلَّ عامين لعند الدالاي لاما، يقوم الكثير من التيبتيين بتهريب أولادهم إلى الهند، أو النيبال أو بهوتان، لتسليمه إلى قرى الأطفال التيبتية T.C.V، وهي مؤسَّسة مكلَّفة بتربية الأطفال في ظلِّ احترام لغتهم وثقافتهم الأصليتين. وتعيش هذه المؤسَّسة من المعونات الدولية، وخصوصًا من الكفلاء الأجانب الذين يبحثون على الدوام عن المساعدة الخارجية، ولاسيَّما في الولايات المتحدة وأوروبا.

يعيش الدالاي لاما في دهارَمْسَلا، عاصمة الحكومة التيبتية في المنفى، في شمال غرب الهند.إنه الزعيم الروحيُّ لدولةٍ دينية؛ بيد أنه كذلك زعيمُ دولةٍ ديموقراطيةٍ أسَّسها منذ العام 1960. وبعد مطالبته وقتًا طويلاً بتحرير التيبت، غيَّر الدالاي لاما، منذ العام 1995، من سياسته. إنه يُعلي اليوم من شأن الـ"طريق الوسط"، وهو حلُّ تسويةٍ يقوم على إعلان الحكم الذاتي للتيبت كولايةٍ خاصة من ولايات الصين. أوجَدَ هذا الموقفُ الجديد انشقاقًا في قلب الجماعة المهاجرة، حيث غالبية الـ125000 لاجئ لم تعد تتبع زعيمها الروحيِّ والزمنيِّ، أقلَّه فيما يخصُّ هذه النقطة، في حين أنَّ شبح المنفى النهائي يدفع فئةً من الشباب باتِّجاه يأسٍ صريح.

من جهةٍ أخرى، ونزولاً عند طلب فئةٍ من الجماعة في المنفى، أعلن الدالاي لاما استعداده لتأسيس دولةٍ علمانية، مع رئيسٍ ومجلسٍ ينتخبه ديموقراطيًّا مجموعُ الشعب التيبتي، فاصلاً بذلك بين الدين والدولة.

*** *** ***

ترجمة: أديب الخوري


horizontal rule

[1] ثور هيملاوي غزير الشعر. (المحرِّر)

[2] Animism عقيدة تجعل لكلِّ مادة، حيةً كانت أو غير حية، نوعًا من الوعي وتقول بأنَّ النفس هي مبدأ الفكر كما هي مبدأ الحياة العضوية في آن معًا. (المترجم)

[3] دالاي لاما لقب منغولي يعني "بحر الحكمة". وقد أطلقه للمرة الأولى، في القرن السادس عشر، الأميرُ المنغولي ألطان خان على الدالاي لاما الثالث.

[4] يحتفل التيبتيون بمولد الدالاي لاما في السادس من تموز، مع أنَّ هذا التاريخ قد لا يكون التاريخ الحقيقي لولادته.

[5] تعني كلمة بودهيساتفا بالسنسكريتية "كائن اليقظة". والـبودهيساتفا هو كائنٌ يضع اليقظة نصب عينيه عبر كمال الفضائل، بيد أنه يزهد طوعًا في التحرر الكلِّي مادامت جميع الكائنات لم تتحرَّر بعد.

[6] منذ بدايته حتى العام 1989، أزهق الاحتلال الصيني أرواح مليون ومائتي ألف من التيبتيين، أي نحو سدس السكان.

[7] تحدَّث الدالاي لاما معظم وقت المقابلة باللغة الإنكليزية، لكنه اعتمد على مترجمٍ في بعض المرَّات لإيضاح بعض النقاط.

[8] تعني كلمة مهايانا بالسنسكريتية حرفيًّا "المركبة الكبرى"؛ وهي تشير إلى إحدى كبريي المدرستين البوذيتين التي تطوَّرتْ اعتبارًا من القرن الأول الميلادي؛ فيها تشديد على نذور الـبودهيساتفا من أجل تحرير جميع الكائنات من الألم.

[9] كرما كلمة سنسكريتية تفيد معنى "الفعل"، وتشير، في الهندوسية والبوذية، إلى المصير الذي يقدِّره المرء على نفسه، سلبًا أو إيجابًا، من جراء طبيعة خواطره وأقواله وأفعاله، حاصدًا ثمارها، طلاحًا أو صلاحًا، في عمر أو في أعمار مقبلة. (المحرِّر)

[10] تعني كلمة أهِمشا في السنسكريتية "كفَّ الأذى" والـأهِمشا في اليوغا سوترا لبتنجَلي، المكتوبة منذ ألفي عام، هي واحدة من الممارسات الخمسة التي تشكِّل "النذر" الكبير للسلوك الأخلاقي.

[11] تتطلع النقطة الرابعة من خطة السلام للدالاي لاما إلى ترميم البيئة الطبيعية للتيبت وحمايتها، كما وإلى تخلِّي الصين عن كلِّ نشاطٍ نوويٍّ (تصنيع أسلحة وتخزين نفايات).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود