منقولات روحيّة 

آذار 2015

March 2015

 

 

في سياق تحليلنا لشخصية الإله التوراتي كشفنا عن الطابع المركب لشخصيته باعتبارها نتاجًا لتعددية الآلهة الكنعانية، وعن الانقسامات الداخلية في هذه الشخصية القلقة وميولها المتناقضة، وعن الطريقة التي عبَّرت بها عن كل جانب من جوانبها في علاقتها مع البشر. وقادنا التحليل إلى اكتشاف خمسة مستويات متراكبة في داخله أضفنا إليها في الدراسة السابقة مستوى يعود إلى أكثر أشكال الحياة الدينية للصحراوية بدائية، وهو الاعتقاد بالجن وقواها الغامضة. وفي الحقيقة فإن هذه المستويات جميعًا قد تراكبت فوق المستوى التحتي الأكثر قدمًا، والذي ينتمي إلى يهوه إله البراكين الذي جاءت به جماعة الخروج من الصحارى الجنوبية، حيث كان يُعبد من قبل الجماعات الرعوية ومن قبل سكان المحطات التجارية عند الواحات، الذين كانوا يكسبون عيشهم من خدمة القوافل التجارية الصاعدة من مصر ومن بلاد العرب. وباستخدام مصطلحات التحليل النفسي الفرويدي يمكن وصف هذا المستوى التحتي القديم بأنه "اللاشعور" أو "الخافية" التي تحتوي على كل ما هو سلبي ومكبوت، والتي قد تقتحم عناصرها ساحة "الشعور" أو "الواعية" وتتسبب في شتى أنواع الاضطرابات النفسية للإله التوراتي الذي لم ينجح بعد في لم شتات انقساماته الداخلية.

 

14- ماضي الإنسان ومستقبله

ما أن نفهم الحقيقة القائلة بأن الإنسان قد بلغ وضعه الحالي عبر سلسلة طويلة ومتنوعة من الحيوات، حتى يبرز تلقائيًا في أذهاننا سؤال عن مدى قدرتنا على امتلاك أية معلومات تخص ذلك التطور المبكر، والتي ستكون بالتأكيد مثيرة لاهتمامنا. ولحسن الحظ فإن مثل هذه المعلومات متوفرة، ليس فقط عن طريق الموروث الشفهي، بل من خلال وسيلة أخرى أكثر مصداقية بكثير؛ وهي التكهن النفسي. ولديَّ هنا مجال واسع للإسهاب حول عجائب هذه الطريقة، إلاَّ أن عليَّ القول ببساطة إن ثمة أدلة كثيرة تكشف عن عدم إمكانية حدوث أمرٍ دون أن يتم تسجيله على نحو دائم - وإن هناك نوعًا من الذاكرة في الطبيعة نستطيع أن نستعيد منها بدقة مطلقة شريطًا مُصوَّرًا حقيقيًا، كاملاً ومتقنًا، عن أي مشهد أو حدث جرى منذ نشأة العالم.

 

يغريني ترديد حكاية تلميذ كبير ذهب إلى الله طالبًا منه أن يعلمه الحقيقة. قال الإله "الفقير": "صديقي، اليوم حار جدًا، أرجوك، اذهب وأحضر لي كوب ماء". خرج التلميذ وطرق باب أول بيت عثر عليه في طريقه، فالتقى هناك فتاة جميلة فتحت له الباب. أُغرِمَ بها التلميذ، فتزوج الاثنان وأنجبا عدة أبناء. وذات يوم بدأ هطول الأمطار، وأمطر الجو من دون توقف، ففاضت الأنهار، وغُمِرَت الطرقات، وجُرِفَت البيوت بالمياه. تمسك التلميذ بامرأته، ووضع أبناءه على كتفيه، وعندما وجد نفسَه مجروفًا بالسيل، صاح: "يا سيد، أتوسل إليك، خلصني!" أجاب السيد: "ماذا عن كوب الماء الذي طلبتُه منك؟".

 

يُفتح الخطاب الأكبري على أنساقٍ فكرية إنسانية عاصرته أو سبقته دون أن يفقد إبداعيته وخصوصيته، ومن بين القضايا التي تبرز عبرها خصوصية تفكير الشيخ الأكبر مسألة الأنوثة والذكورة.

تحضر هذه المسألة في الفكر السابق عن ابن عربي دون الإعلان عنها لتتخذ مع صاحب الفتوحات طابعها المعرفيَّ بشكل صريح؛ فيخترق الزوج المفاهيميُّ - الأنوثة/الذكورة - الفكر الأكبري على المستوى الأنطولوجي والكسمولوجي والأنثروبولوجي والمعرفي واللغوي... ويحضر بشكل واسع وعميق إلى حد يمكن اعتبار هذا الخطاب هو خطاب أنوثة. المؤشر على صحة هذه الفرضية ما يرمز إليه ابن عربي في الصفحة الأولى من صفحات الفتوحات حينما يعرض لمناسبة كتابته لمؤلفه، وهي مشاهدته القلبية للنبي والصحابة والأنبياء محيطين بمجلسه، وحين يصل إلى ذكر عيسى يقول:

 

 

قال لي: فكر!

لماذا توقفت عن التفكير وعن صنع الحقائق وغرقت في بحر الأوهام التي تحكمها هواجسك المجنونة؟

لماذا تعلِّق على حائط محبتي كل أخطائك، وتدعوا العالمين لسبي ولعني والسخرية مني؟

لماذا توقفت عن صناعة المعرفة الحقة من أجل أن تسد فراغ نفسك بعالم حقيقي، وتعالج مجاهيلك بقدرة عقلك على السمو والتطور والنضوج؟

لماذا هجرت لحظتك الروحانية النظيفة عن اكتشاف تطور معناي في معناك؟

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني