السياسة الجنسِّية
هل يمكننا مقاربة العلاقة بين الجنسين من منظور سياسي؟ هذا يتوقف على
التعريف الشخصي لكلمة "سياسة". وأنا هنا لا أختصر المجال السياسي إلى
ذلك القطاع الضيق والحصري والمؤسساتي، أو إلى السياسة الرسمية التي
ينتهجها كل من الديمقراطيين أو الجمهوريين ممن تعبنا ومللنا منهم. لكن
ما أعنيه بالسياسة هو العلاقات المبنية على أساس السلطة، تلك المنظومة
القائمة على حكم مجموعة لمجموعة أخرى، أي أنَّ هناك مجموعة مسيطرة
وأخرى تابعة.
ربما حان الوقت المناسب لتطوير علم نفس وفلسفة أكثر اقناعًا، ندرس من
خلالهما العلاقات السلطوية وفق طريقة جديدة لم تقاربها السياسة
المؤسساتية أبدًا. وهو الوقت الملائم أيضًا لتقديم نظرية في السياسة
يتم فيها معالجة العلاقات السلطوية على أسس أقل رسمية في مقاربة
العلاقات الشخصية بين أفراد مجموعات معلومة ومتجانسة في العرق والطبقة
والجنس. فالنظم السياسية الرسمية لا تملك أي تصور عن مدى شمولية
واستمرارية حالة الاضطهاد التي تعيشها المجموعات.
يرتبط الآخر الهامشي ارتباطًا وثيقًا بعلاقة الغير ونظرة الآخر فهي
تراهن وتسائل مفاهيم الفردية والجسم الاجتماعي بالتناوب سواء تم ذلك
بالنفور منها أو الرفع من شأنها، و
تبرز ظاهرة الهامشية على أساس شكلين أساسيين، أولاً واقع الطبقات
الاجتماعية المغتربة منذ زمان بعيد عن المشاركة الواقعية في خيرات
وأنشطة المجتمع، إنها الهامشية الاجتماعية والاقتصادية التي تعود
جذورها إلى بنى الإنتاج والتنظيم الاقتصادي للمجتمع. والشكل الثاني
للهامشية يظهر من خلال رفض إرادي وجلي للاندماج في المجتمع الذي نلفظه:
إنها الهامشية الاجتماعية الثقافية.
يجود
فهمنا لذواتنا بفيض من الشكوك والهواجس والمدلولات والأحاسيس
المتناقضة، تجعلنا في شكٍّ مستمر من أمرنا ومن أمر علاقاتنا مع غيرنا
وكأن الوضوح أمر في غاية التعقيد عكس ما يختلج صدورنا ونحن نُعبِّر عن
أحاسيسنا وعواطفنا في لحظات البوح العاطفي. إنها علاقة الأنا بالذات
وهي علاقة الفهم والسلوك في استمرارية حتمية تقترب فيها هذه العناصر
أحيانًا وتبتعد في أحيان أخرى. حتى تعابيرنا وألفاظنا وتفاسيرنا عن
ماهية سلوكنا أو سلوك غيرنا يحكمها كثير من اللامعقول، هل نحكم على
ذواتنا وذوات غيرنا من خلال السلوك أم من خلال اللغة المتواصَلِ بها أم
من خلال الأحاسيس المعبَّرِ عنها في أوقات الفرح والحزن والحب
والكراهية والحنين والشوق؟
تَرَاكم
القتل في الذاكرة، ليس قتل الأفراد فقط على فجائعيته بل قتل ما يجعل
الفرد فردًا، إنسانًا ميَّزته الطبيعة بالعقل والنطق كما ميَّزت كل نوع
من مخلوقاتها بما يجعل هذا الكوكب درة قائمة على الجمال وفيه قبل أي
شيء آخر. لا يمكن وصف إيديولوجيات القتل بالحية رغم أنها تتسيد الحال؛
إنها نقيض الحي وإن كانت قائمة عليه وفيه، هي كذلك نقيض الموت - الموت
كوجه أولي للطبيعة يتشارك المكانة مع الحياة، رغم أنها [الإيديولوجيات]
تتماهى به كمعطى قسري في الشرط البشري لتبرير وجودها.
عام
مضى على رحيلك ونحن نتساءل هل من حكمة وراء هذا الرحيل المبكر؟ هل أن
هذا القدر قد أعتقك من رؤية ما سيحدث في هذا البلد الذي أحببتَ وبذلت
كل ما في طاقتك في سبيل أن تراه يتلمَّس طريقه وينفض عنه غبار سنوات من
الخوف والسبات.
ماذا كان شعورك وأنت صاحب الفكر والعقيدة التي تدعو إلى اللاعنف في
معالجة أصعب الأمور مما وصلنا إليه وما نعيشه من ثقافة العنف (الجسدي
والحسي واللفظي) وشلالات الدماء التي أصبحت زادنا اليومي ومحور حياتنا
وحياة أولادنا؟
أناس كثيرون هُجِّروا داخل البلد أو خارجها، أو هاجروا بملء إرادتهم
بحثًا عن الأمان والاستقرار بانتظار غد أفضل، ومنهم من بقي بإرادته أو
لأنه لا يملك السبيل للرحيل. لم يعد مفهوم الغربة مرتبطًا بالسفر وحسب،
إنما يكمن في ذلك الشعور بأنك أصبحت وحيدًا وأنت في بلدك، بفكرك ونظرتك
وفلسفتك في الحياة، ضمن منظومة لم تعد تملك مفاتيحها ولا تفهم آلية
عملها ولا كيف أوصلتنا إلى هذا الكمِّ من الحقد وقلب المفاهيم وحالات
الانفصام.
تتموضع
حياتنا الفردية في مناخٍ أخلاقي من الاستملاك الذاتي، وبالتالي من
إنكارٍ لكل آخرية جذرية تعود، على الرغم من ذلك، في شكل مصيرٍ فردي
معاكِس قوامُه أمراضنا العصابية واختلالاتنا النفسية المتنوعة. في
اللحظة التي تتجه فيها كل نتائج الإرادة والحرية والمسؤولية نحو
إشكالية عصية على الحل، وفي اللحظة التي يؤدي فيها تحرير الطاقات
والفضائل الأخلاقية والميول الجنسية والرغبات إلى نتائج معاكسة بيِّنة،
وبينما تباشر كل ثقافتنا، على تخوم الألفية الثالثة، مراجعةً مؤلمة
أمام احتمالية حلٍّ نهائي يأتي من العلم أو من التاريخ – في هذه اللحظة
من التناقض العنيف لسيرورة التحرر الحديثة، يجب بلا ريب الرجوع إلى
الأصول لنرى ما إذا كان هذا الدافع لا يتناقض مع شيءٍ ما أكثر قوة
وأكثر بربرية وأكثر بدائية.
توطئة
مذ ظهر "الوعي" لدى الإنسان في هذه الأرض، حتى وجدت أولى المسؤوليات
أمامه: فهم العالم الذي يحيط به. إيجاد تفسير لكل شيء في الكون. وقبل
أن يعرف المرء من هو ومن أين جاء، ما هو هذا العالم ولم نحن فيه، شعر
بالحاجة إلى معرفة الطريقة والأسلوب الأنسب للحياة في عالمه.
الثقافة، ما هي إلا واحدة من تلك الأساليب "المحكمة" التي تنوعت وتلونت
لفهم وممارسة الحياة الاجتماعية للعيش ضمن الجماعة في هذا العالم. لكن،
هل الثقافة قيمة بنيوية أصيلة في التكوين المعنوي البشري أم هي مجرد
أسلوب حياة يمثل هوية طارئة سرعان ما تزول بحكم تقدم الجنس البشري
بعمومه؟